والفكرة التي يرتكز عليها برييه، في رأيه هذا، هي تلك التي يعبر عنها نص اقتبسناه من قبل، فرق فيه اسپينوزا بين الأجسام من حيث هي جزئية قابلة للانقسام لها أبعاد وأشكال محدودة، وبين فكرة الامتداد من حيث هي تعبر عن صفة لا متناهية ولا منقسمة . وبعبارة أخرى فالامتداد في هذه الحالة يغدو شيئا مغايرا «للأجسام الممتدة». وهذا كله صحيح، ولكن هل معناه أن الامتداد يغدو، كما يزعم برييه، «مبدأ للمعقولية»؟ وماذا يكون الفرق بينه وبين الفكر عندئذ؟ إن كل أصالة اسپينوزا إنما ترجع إلى خروجه على ثنائية ديكارت، عن طريق تأكيد هوية ما تنطبق عليه صفة الفكر مع ما تنطبق عليه صفة الامتداد (لا القول بجوهرين منفصلين والبحث عن وسيلة للجمع بينهما، كما فعل ديكارت ). وهو لا يسعى مطلقا إلى رد الامتداد إلى الفكر؛ لأنه لا الامتداد ولا الفكر، في رأيه، ذو كيان مستقل، أو ينطبق وحده على كيان مستقل، وإنما هما طريقتان للنظر إلى نفس الأشياء، كل منهما متسقة مع ذاتها تماما، وتؤدي إلى نفس ما تؤدي إليه الأخرى، ولكن تبعا لمجالها الخاص، فمشكلة «الرد» ليست قائمة هنا على الإطلاق، ولو كانت في ذهن اسپينوزا أية فكرة عن رد الامتداد إلى الفكر أو تقريبه منه - كما فعل ديكارت - لتغير الطابع العام لفلسفته بأسرها تغيرا تاما، ولفقدت أصالتها التي تميزها تماما عن الفلسفات السابقة، وضمنها فلسفة ديكارت ذاتها. وإذن فالامتداد الذي ينسبه اسپينوزا إلى الله هو حقا مغاير للامتداد المنسوب إلى الأشياء الجزئية، ولكنه ليس «مبدأ للمعقولية» وإنما هو صفة الامتداد، بمعناها المطلق، كما يتصف بها النظام الكلي للأشياء.
وينظر «ولفسون» إلى المسألة من زاوية أخرى، فيرى أن القول بالامتداد صفة لله كان نتيجة فرضها على اسپينوزا إخفاق الحلول التي تقول بصدور المادة عن إله لا مادي، ويشرح ذلك بقوله: «إن اسپينوزا ... لم يصل إلى رأيه هذا عن طريق مجرد الأخذ بأقوال الرواقيين أو «برونو» أو «مور
More »، وإنما اضطر إلى ذلك ... نتيجة لمنطق الموقف، ولاختباره النقدي الدقيق لمختلف الحلول التي أتى بها مفكرو العصور الوسطى لمشكلة ظهور المادة من إله لا مادي، فحين وجد أن جميع الحلول التي اقترحت لهذه الصعوبة عن طريق نظرية الصدور
emanation
غير مقبولة، ورفض أن يأخذ بنظرية الخلق من العدم أو نظرية قدم المادة الأزلية وبقائها مع الله منذ الأزل، اضطر إلى الانتهاء إلى أن الله ليس لا ماديا.
26
وهكذا يبدو، من قول ولفسون، كما لو كان اسپينوزا مصرا، من جهة، على القول بإله، ومن جهة أخرى على القول بعالم مادي، ثم يحاول تفسير العلاقة بينهما، فلا يقتنع بالتفسيرات المبنية على أساس لا مادية الله، «فيضطر» إلى القول بماديته، ويرغمه على ذلك «منطق الموقف». والأمر الذي لا يحسب له ولفسون، في هذا النص، أي حساب، هو أن اسپينوزا كان «من البداية » لا يؤمن بإله لا مادي، ولا يريد فصل الله عن العالم أو الطبيعة، وبالتالي كان يريد القضاء تماما على كل المعاني المألوفة في العصور الوسطى لفكرة الله، ولكنه بدلا من أن يعلن ذاك صراحة، استبقى اللفظ وجعل المادية من صفاته، وتلك لا تعدو أن تكون طريقة أخرى للوصول إلى الهدف نفسه. وبعبارة أخرى: ففكرة المادية عند اسپينوزا تعبير عن موقفه العقلي «الأصيل»، وليست مجرد نتيجة أرغمه على الأخذ بها تناقض الخصوم.
وأخيرا، فهناك دليل آخر له في رأينا أهمية كبيرة في إثبات التفسير الذي نقول به، أعني تفسير فكرة مادية الله بأنها تعبير واضح عن المعنى الحقيقي لفكرة الله عند اسپينوزا، وهو معنى «النظام الكلي للأشياء» فحسب، ذلك الدليل مستمد من حملة اسپينوزا العنيفة على كل نظرة إلى الألوهية تكون «تشبيهية بالإنسان»، وهي الحملة التي تحدثنا عنها من قبل في صدد الكلام عن موقع القيم في الكون، وسوف نتناولها بعد قليل بمزيد من البحث في صدد الكلام عن الأوصاف التي ينفيها اسپينوزا عن فكرة الله؛ ذلك لأننا إذا احتفظنا بأي ظل من المفهوم المألوف لفكرة الله، وهو مفهوم «مشخص» بطبيعته، ثم أضفنا إلى ذلك المفهوم صفة المادية، فعندئذ يكون اسپينوزا قد وقع في أسوأ أنواع التشبيه بالإنسان إذ يكون قد تصور إلها مشخصا وماديا في آن واحد، وبذلك يكون قد وقع في أخطاء أسوأ كثيرا من تلك التي أخذها على خصومه من لاهوتيي العصور الوسطى؛ أعني أخطاء الرجوع إلى آلهة العقائد البدائية والأساطير!
وإذن فأي تفسير يظل فيه أي عنصر من المفهوم التقليدي ينبغي أن يرفض على التو طالما أن فكرة المادية قد أدخلت. وبعبارة أخرى: فإما أن نقول إن اسپينوزا كان يعني، من فكرة مادية الله، كون المادة وجها من أوجه النظام الكلي للأشياء؛ أي الطبيعة في مجموعها، أو أن نسلم بأن اسپينوزا وقع، منذ اللحظة الأولى لتفلسفه، في خطأ أسوأ من ذلك الذي كرس حياته كلها لمحاربته؛ وعلى ذلك فإذا قال شراح اسپينوزا إنه تأثر في فكرة مادية الله، بالعقيدة اليهودية التي كانت تضفي على الله صبغة مادية في كثير من الأحيان،
27
ناپیژندل شوی مخ