60
ومن جهة أخرى فقد كانت الدراسات التاريخية التي قام بها للأناجيل في «البحث اللاهوتي السياسي» - كما سنرى فيما بعد - استباقا عبقريا للبحوث التاريخية المقارنة التي لم يبدأ ظهورها في هذا الميدان إلا منذ القرن التاسع عشر، ومن الممكن أن يعد بحق رائدا لعلم التحليل التاريخي للأناجيل، في عصر لم تكن مجرد فكرة التفسير التاريخي للظواهر الاجتماعية تخطر فيه على بال أحد - فما بالك إذا كانت تلك الظواهر ذات طابع ديني؟ •••
ولكن أعظم ما ساهم به اسپينوزا من أجل العلم هو، في رأينا، فلسفته النظرية ذاتها - تلك الفلسفة التي كانت تقوم في جميع نواحيها على المعقولية التامة، وتستبعد كل التفسيرات الغيبية، وتدعو بلا ملل إلى القضاء على آثار الجهالة والتخلف العقلي، وتجعل من الكون نظاما ضروريا واحدا قابلا للفهم. وعلى أساس هذه النظرية العلمية الدقيقة إلى الكون حاز اسپينوزا على إعجاب عدد ضخم من أكبر العلماء، ولا سيما أينشتين الذي كان يؤكد دائما إعجابه بنظرته الحتمية إلى الواقع وإخضاعه العالم لقوانين دقيقة، فضلا عن تحليله العلمي للسلوك البشري ذاته؛
61
ولذا فإن أفضل خاتمة لهذا الفصل، في رأينا، هي اقتباس بعض العبارات العميقة التي أبدى بها أينشتين تقديره الواضح لروح اسپينوزا العلمية: «رغم أن اسپينوزا عاش قبل عصرنا بثلاثمائة عام، فإن الموقف الروحي الذي كان عليه أن يتعامل معه يشبه الموقف الروحي الحالي إلى حد بعيد. ولم يكن مرد ذلك فقط إلى أنه كان مقتنعا كل الاقتناع بالترابط العلي لجميع الظواهر، في وقت لم تكن فيه الجهود التي بذلت لبلوغ معرفة بالعلاقة العلية للظواهر الطبيعية قد أحرزت فيه إلا نجاحا ضئيلا. ولقد امتد اقتناع اسپينوزا لا إلى الطبيعة الجامدة فحسب، بل إلى المشاعر والأفعال البشرية أيضا. ولم يكن لديه شك في أن فكرتنا القائلة إن لدينا إرادة حرة (أي مستقلة عن العلية) كانت خداعا ناتجا عن جهلنا بالأسباب المتحكمة فينا، ولقد وجد في دراسة هذه العلاقة العلية دواء شافيا من الخوف والحقد والمرارة، هو الدواء الوحيد الذي يمكن أن يلجأ إليه إنسان روحي بحق. وأثبت تبريره لهذا الاقتناع، لا بصياغته الواضحة الدقيقة لأفكاره فحسب، بل بسلوكه المثالي الرائع في حياته أيضا.»
62
الفصل الرابع
الله أو الطبيعة
(1) مقدمة (1-1) موقع الفكرة في فلسفة اسپينوزا
يبحث أول باب من الأبواب الخمسة في كتاب اسپينوزا الرئيسي، «الأخلاق»، موضوع «الله». وهو يؤكد في الباب الثاني، الذي يتحدث فيه عن طبيعة الذهن البشري، أنه يعالج هذا الموضوع الأخير من حيث علاقته بنظرته العامة إلى الماهية الإلهية. ومثل هذا التأكيد موجود ضمنا في كل الأبواب الأخرى للكتاب. وهكذا يبدو أن اسپينوزا يبدأ بأهم موضوع في نظره، وهو البحث في الماهية الإلهية، على أساس أن آراءه في هذا الموضوع هي التي ستحدد معالم الحلول التي يأتي بها لكل المشكلات الأخرى التي سيبحثها فيما بعد.
ناپیژندل شوی مخ