178

وليس أدل على صعوبة تخلص شراح اسپينوزا من خطأ إقحام مذاهبهم الخاصة في شروحهم له، من أن كاسيرر نفسه - الذي نبه إلى هذه الصعوبة، وأخذ على عاتقه أن يفهم ألفاظ اسپينوزا كما فهمها هو ذاته، ويفسره من خلال عصره نفسه، لا من خلال ما أقحمته العصور التالية بطلانا في تفكيره - قد أدخل في تفسيره لاسپينوزا بعض العناصر الكانتية، فأكد أن نقطة بدايته الأساسية كانت هي قوى الروح التي تفهم العالم من ذاتها، لا من أي مصدر خارجي، وتستخلص من مبادئها الذاتية معرفة للعالم بطريقة ضرورية مطلقة.

4

وهكذا وقع هو ذاته في الخطأ الذي نبه إليه.

ولسنا نزعم أن هذا البحث قد تخلص تماما من عنصر «الإسقاط» الذاتي، ولكنا نستطيع أن نقول إن العامل الأساسي الذي تحكم في تفسيرنا الخاص لاسپينوزا هو الرغبة في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاتساق بين أفكار ذلك الفيلسوف الذي كان يزن كلماته بميزان دقيق، والذي كان يستحيل في رأينا، أن يكون قد وقع في التناقض الذي يعزوه إليه مفسروه عادة عندما يشرحون ألفاظه وتعبيراته ذات المظهر اللاهوتي بمعانيها الحرفية.

وفي سبيل تحقيق ذلك الاتساق تقدمنا بذلك الفرض الذي كان كثير من شراح اسپينوزا يرفضونه رفضا قاطعا، وكان غيرهم يقبلونه جزئيا ولا يطبقونه تطبيقا عاما، وهو أن اسپينوزا «تعمد» أن يضفي على معانيه الثورية مظهرا لاهوتيا أو وسيطيا يقلل من وقعها على نفوس المتعصبين، ولكنه في الوقت ذاته قدم إلى القارئ اليقظ كل الإرشادات الكفيلة بنقل معانيه الحقيقية إليه. وقد يرفض الكثيرون مثل هذا التفسير لأسباب أخلاقية - قدمنا الرد الكافي عليها في الموضع المناسب - ولكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن أفضل معيار للمفاضلة بين التفسيرات، في حالة فيلسوف تتضارب شروحه من النقيض إلى النقيض، هو معيار الاتساق، وأن فلسفة اسپينوزا لا تظهر متسقة من بدايتها إلى نهايتها إلا في ظل تفسير يفصل تماما بين مظهر ألفاظه ومعانيها الحقيقية، ويستعيض عن الرموز اللاهوتية، في منهجه الرياضي، بمعان تتمشى مع الروح العلمية التي كان اسپينوزا من أعظم، ومن أول، من تحدثوا باسمها وصدوا عنها هجمات التعصب والجهل. وفي رأينا أن هذا الدفاع عن الروح العلمية كان هو الخيط الجامع بين كل أطراف فلسفة اسپينوزا، وأن كل من جعلوه متهاونا، أو مترددا، أو متناقضا مع نفسه، في هذا الدفاع، قد أساءوا إليه، وأن هذه الإساءة كانت - لسوء الحظ - متعمدة في كثير من الأحيان، لتحقيق أغراض لا صلة لها بالبحث العلمي النزيه. ولو كان هذا البحث قد ساهم في كشف هذا التشويه - المقصود منه وغير المقصود - لكان قد حقق بذلك أغراضه كاملة.

أسماء المراجع المذكورة في البحث

(1) مؤلفات اسپينوزا (1)

The Chief Works of Spinoza (Elwes Translation). 2 vols, Dover Publications (New York 1951) .

وقد أشرنا إلى هذه الطبعة في صدد المؤلفات الآتية:

البحث اللاهوتي السياسي

ناپیژندل شوی مخ