148

Bayle » في قاموسه المشهور - توجه إلى جميع الثائرين على تقاليد الكنيسة، ولكن نطاقها قد اتسع في القرن الثامن عشر حتى أصبحت تنسب إلى كل معارض للنظم القائمة، وحتى اضطر مشاهير المفكرين في الجيل التالي إلى التبرؤ من اسپينوزا وتفنيده علنا، بسبب دون سبب؛ استرضاء للسلطات القائمة، ولا شك أن هذا التاريخ المعروف للاسپينوزية يجعلنا نرفض تماما كل تفسير لها بأنها كانت مهادنة للسلطات الحاكمة، بما لها من مصالح تجارية، ولا سيما إذا جاء هذا التفسير من مفكر ينتمي إلى مذهب صادف أصحابه ظروفا تماثل إلى حد بعيد ما مر باسپينوزا من الظروف.

الفصل الثامن

اسپينوزا واليهودية

(1) الآراء المختلفة في مصادر تفكير اسپينوزا

ينبغي أن نشير منذ البداية إلى أن المنهج الذي اتبعناه في تفسير فلسفة اسپينوزا يؤدي إلى نظرة جديدة كل الجدة إلى مشكلة المؤثرات المختلفة في فلسفته؛ فهذا المنهج مبني على محاولة إيجاد تفسير متسق لهذه الفلسفة، وهي محاولة لا نحجم فيها عن الغرض الذي خشي الكثيرون أن يقولوا به - وإن يكن البعض قد لمحوا إليه - وهو أن اسپينوزا كان يتعمد استخدام لغة لاهوتية مدرسية ليخفي معانيه الثورية التي تقف مع المجال اللاهوتي والمدرسي على طرفي نقيض. وقد مضينا في تطبيق هذا الفرض من البداية إلى النهاية، وأدى هذا التطبيق إلى اختفاء التناقض الصارخ الذي نسب إلى اسپينوزا في كثير من الأحيان، وإلى ظهور فلسفته في صورة مذهب فكري محكم يؤمن كل الإيمان بالعلم ويستبعد تماما كل عنصر غائي أو فوق الطبيعي ، حتى في الحالات التي يبدو فيها موغلا في الصوفية، ومن المؤكد أن النتائج الناجحة التي يؤدي إليها تطبيق الفرض هي وحدها دليل قوي على سلامة الفرض ذاته، فضلا عما يستند إليه الفرض أيضا من أدلة مباشرة مستمدة من كتابات اسپينوزا وظروف حياته وعصره. ولا بد في بحث مبني على الفرض القائل إن الشكل الظاهري لكثير من كتابات اسپينوزا لا يعبر عن معانيها الحقيقية، من أن تتخذ مشكلة المؤثرات التي يرد إليها تفكيره دلالة جديدة كل الجدة؛ ذلك لأن الطريقة المتبعة في رد تفكير اسپينوزا إلى مذاهب معينة سابقة عليه، هي الكشف عن أوجه شبه بين قضايا معينة لديه، وبين قضايا أخرى في هذه المذاهب، أو بين ترتيب العرض عنده وترتيبه في كتابات أصحاب هذه المذاهب (وهذا هو ما فعله ولفسون بتفصيل مرهق في كتابه «فلسفة اسپينوزا»)، ولكن هذا التقريب يتعلق، كما هو واضح، ب «الشكل الظاهري» لكتابات اسپينوزا. وقد كان اسپينوزا يستخدم بالفعل في كتاباته ألفاظ المدرسيين وتعبيرات العصور الوسطى وقضايا الفلاسفة اليهود القدماء والعبارات اللاهوتية المألوفة، ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون متعلقا بالوجه الظاهري لكتاباته. أما المعاني الحقيقية لهذه الكتابات فكانت تدور في مجال مختلف تماما، مجال جديد كل الجدة بالنسبة إلى كل ما عرف في هذه التيارات التي يفترض أنه تأثر بها.

ونستطيع أن نقول إن اسپينوزا قد «تعمد» هذا التأثر الشكلي الظاهري، ويبدو في رأينا أنه عندما أراد أن يدون أفكاره العلمية التي تعد ثورية حقا بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه، قد تساءل: كيف أعبر عن هذه الأفكار الجريئة بأقل الأساليب استفزازا لأصحاب النزعات التقليدية ولرجال الدين؟ وكان الجواب الواضح هو أن أفضل الوسائل هي اتباع نفس الأسلوب الذي اعتاد هؤلاء أن يكتبوا به. وهكذا كان لا بد له من بذل مجهود مضاعف؛ أي أن يكتب بأسلوب ظاهره لاهوتي، ويحتفظ في نطاق هذا الأسلوب ذاته بكل المعاني الانقلابية التي تضمنتها فلسفته الخاصة. وهذا يفسر لنا الجهد المضني الذي بذله في صياغة كتاب «الأخلاق» وترتيب قضاياه واحدة بعد الأخرى على النحو الذي يفي بهذين الغرضين معا؛ وعلى هذا الأساس فإن الجهود التي يبذلها معظم شراح اسپينوزا في سبيل تتبع الأصول التي استمدت منها فلسفته ما هي إلا جهود تتعلق ب «شكل» كتاباته فحسب. وكل ما يحرزونه في هذا الصدد من نجاح لا يدل على براعة على الإطلاق؛ إذ إنه قد «تعمد» أن يقرب كتاباته من كتابات الآخرين بقدر استطاعته، في الوقت الذي كان يعلم فيه أن هدفه مختلف تماما عن كل ما قالوا به. وإذن فلا بد، تبعا لتفسيرنا هذا، من أن تتضاءل إلى حد بعيد أهمية مشكلة المؤثرات في تفكيره.

وقد أرجع بعض الشراح فلسفة اسپينوزا إلى ديكارت، ورأوا أن موقع اسپينوزا في عالم الفكر هو موقع فيلسوف ينتمي إلى المدرسة الديكارتية أو إلى الفترة الديكارتية في تاريخ الفلسفة. وهذا الرأي يرجع، على الأرجح، إلى هيجل، الذي قال في مستهل بحث له عن اسپينوزا إنه «قد سار بالمبدأ الديكارتي حتى آخر نتائجه المنطقية.»

1

ومع ذلك فقد بينا من قبل أن قضاء اسپينوزا التام على ثنائية المادة والروح، وإنكاره بالتالي ثنائية الله والطبيعة، واستبعاده كل نوع من الغائية (التي استبقى ديكارت عناصر منها في فلسفته النظرية، وإن يكن قد استبعدها بدروه في نظرياته العلمية الميكانيكية)، فضلا عن تحديد موقفه من السلطة الدينية تحديدا أوضح وأجرأ كثيرا من ديكارت - كل ذلك يجعل من المحال أن يكون تأثير ديكارت هو التأثير الحاسم لديه، وإن كان من المستحيل في ذلك العصر، بطبيعة الحال، أن يتجاهل أي مفكر شخصية ديكارت الضخمة في عالم الفلسفة. وهكذا رأينا هيجل نفسه يضيف إلى تأثير ديكارت مؤثرات أخرى شرقية، هي المؤثرات اليهودية. ولقد سبق أن اقتبسنا رأي «لاشيزري

Lachièze-Rey » الذي انتهى من دراسته المقارنة إلى القول بضآلة أهمية المؤثرات الديكارتية في فلسفة اسپينوزا. ونضيف إلى ذلك، في هذا المجال، قول «هفدنج»: «إن اسپينوزا لم يكن ديكارتيا على الإطلاق، ولكنه تعلم الكثير من ديكارت، وانتفع من كثير من أفكاره، كما استخدم مصطلحه الفلسفي إلى حد معين.»

ناپیژندل شوی مخ