139

وهكذا لا يكاد المرء يجد مفرا من القول إن مذهب اسپينوزا الأخلاقي يتضمن نوعا من التمييز بين أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد. ولو تأملنا الأوصاف التي تحدث بها اسپينوزا عن أخلاق المذاهب اللاهوتية، بما فيها من مكافأة وثواب وعقاب ووعد ووعيد، وبما فيها من استغلال واضح لمشاعر الناس وتملق لانفعالاتهم، لوجدنا هذه الأوصاف تعبر، عنده، عن فكرة «أخلاق العبيد» بكل وضوح. وفي الوقت الذي نراه يدعو فيه عامة الناس إلى الأخذ بهذه الأخلاق؛ لأنها هي التي تصلح لهم وتكفل إرشادهم إلى الطريق السليم، نراه لا يكف عن أن يؤكد أنه وجد «الخلاص» بطريق آخر، ويضع لنفسه نوعا من «الأمر المطلق» الذي لا يمارس فيه الخير من أجل ما قد يجلبه من نتائج، بل لأن «مكافأة الفضيلة هي الفضيلة ذاتها». وهو يعترف بعجز العامة عن التفكير الكفيل بربط الانفعالات بالمجرى الضروري للطبيعة، فلتكن للعامة إذن أخلاقها الخاصة، التي لا يتخلص فيها الإنسان من الانفعال إلا بانفعال آخر أقوى منه. أما الخاصة، أو «السادة»، فوسيلتها إلى الفضيلة هي المعرفة، وسعادتها في ممارسة العقل، وخلاصها في الاعتراف بالضرورة،

43

وتلك بالطبع مرتبة لا يصل إليها إلا القليلون؛ إذ إن أرفع الأشياء - كما قال في العبارة التي ختم بها كتاب «الأخلاق» - هي أصعبها مثلما أنها أندرها.

وهكذا مضت بنا هذه المناقشة - ذات الطابع الديالكتيكي الواضح - لمشكلة السلبية والإيجابية عند اسپينوزا، وبالتالي لمشكلة الأرستقراطية والديمقراطية في هذه الأخلاق، من تأكيد إلى تأكيد مضاد على مستوى أرفع، وفي اعتقادنا أن الرأي السابق ليس هو - رغم المظاهر البادية - الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع. فما زال من الممكن القول إن المثل الأعلى الذي وضعه اسپينوزا للأخلاق، وهو سيادة العقل، ليس أرستقراطيا من جميع الأوجه، وبالتالي ليس غاية سلبية بالنسبة إلى الجزء الأكبر من البشر؛ ذلك لأن للعقل الرفيع هذه الميزة، وهي أنه إذا كان من الوجهة العملية لا يتوافر إلا للقليلين، فإنه من الوجهة النظرية يمكن أن يتوافر للجميع، بل إن المعرفة هي - نظريا - أقرب المثل العليا إلى متناول الجميع؛ فهي، كما قلنا، ليست كالمال ينقص كلما ازداد عدد المشاركين فيه، وإنما هي الغاية الوحيدة التي يمكن أن يشارك فيها الجميع على السواء، وتزداد آفاقها اتساعا كلما اتسع نطاق المشاركة فيها، وصحيح أن هذا من الوجهة العملية أمر غير متحقق؛ لأن المعرفة بالفعل لا تتوافر إلا للقلة النادرة، ولكن المثل الأعلى للمعرفة هو، من حيث المبدأ، أسهل المثل العليا منالا، مثلما أنه من الوجهة العملية أصعبها بلوغا، وعلى أساس هذه الطبيعة الخاصة لمثال المعرفة يمكننا أن نحل المشكلة بالجمع بين طرفيها في هذا المركب الأعلى.

الفصل السابع

الفلسفة السياسية

لا بد من الاعتراف، في بداية هذا الفصل القصير ، بأن البحث التفصيلي في النظريات السياسية، من حيث هو ينتمي إلى مجال العلوم السياسية، يخرج بنا عن النطاق الفلسفي البحت الذي حددناه لكتاب كهذا؛ ومن هنا فإنا سنقتصر في هذا الفصل على معالجة أعم النواحي في فلسفة اسپينوزا السياسية، وهي النواحي المتصلة بموقفه الفكري العام. أما البحث في تفصيلات مذهبه السياسي فهو بطبيعته خارج عن حدود هذا الكتاب. (1) أهمية الحياة الاجتماعية ووظيفة الدولة

يؤدي البحث في النظرية الأخلاقية عند اسپينوزا، كما رأينا عند نهاية الفصل السابق، إلى تأكيد أهمية الحياة الاجتماعية؛ فمذهبه الأخلاقي النظري ينتهي إلى تمجيد الحياة الاجتماعية من حيث إنها هي التي تحقق كمال الشخصية الأخلاقية الفردية، وتكفل الحرية الحقيقية للإنسان. وهو ينقلنا من مجال النظرية الأخلاقية إلى مجال الفلسفة السياسية - أثناء عرض نظريته في الانفعالات - فيقول أولا: «إن كل ما يساعد على حياة الإنسان الاجتماعية، أو يؤدي بالناس إلى أن يحيوا سويا في وئام، هو خير، بينما كل ما يؤدي إلى الشقاق في الدولة شر.»

1

ثم يربط بين حرية الإنسان وبين حياته المدنية فيقول: «إن من يسترشد بالعقل يكون أكثر تحررا في دولة يعيش فيها في ظل نظام عام من القانون، منه في عزلة يكون فيها مستقلا.»

ناپیژندل شوی مخ