80
وفي أول قضية في النصف الأخير من كتاب الأخلاق - وهو النصف الذي ينتقل فيه إلى الكلام عن معاني الأزلية والحب الإلهي ... إلخ، والذي استهله بقوله: «لقد أتممت الآن الحديث عن كل ما يتعلق بهذه الحياة الحاضرة» - يقول اسپينوزا: «لا يستطيع الذهن أن يتخيل أي شيء، أو يتذكر ما مضى، إلا طالما ظل الجسم باقيا.»
81
ولهذا النص الأخير غرض مزدوج: (أ)
فهو أولا يود أن يؤكد بطلان المعنى الشائع للخلود، وهو الخلود الذي يجمع بين أمرين يستحيل في نظره الجمع بينهما: بقاء الروح بلا جسم، ثم دوامها إلى ما بعد الحياة الحاضرة، وتذكرها لأمور حدثت في هذه الحياة؛ ففي رأي اسپينوزا أن الكلام عن «عالم آخر»، يفترض أنه يلي هذا العالم زمنيا، وكذلك الكلام عن الخلود بمعنى البقاء في الزمان إلى أجل غير محدد، وأخيرا الكلام عن تذكر الروح لهذه الحياة الحاضرة في حياة مقبلة - هذا كله يفترض مقدما وجود جسم؛ إذ إن التذكر يستحيل بلا جسم، والبقاء الممتد في الزمان يفترض الجسم مقدما. وهو يشرح هذه الفكرة بمزيد من الوضوح في ملحوظة القضية 34 من هذا الباب فيقول: «إذن تأملنا الآراء الشائعة للناس، وجدناهم يشعرون فعلا بأزلية أذهانهم، غير أنهم يخلطون بين الأزلية وبين البقاء الزمني، ويعزونها إلى الخيال أو الذاكرة التي يعتقدون أنها تظل باقية بعد الموت»؛ وعلى ذلك فليست الأزلية عند اسپينوزا، كما أوضح «برنشڨك»، «شيئا يضاف إلى الفرد من الخارج، أو هبة يتلقاها ساعة الموت أو يوم الحساب بوصفها ثوابا على خير أداه من قبل، وإنما هي حقيقة باطنة في الوجود، ومتداخلة فيه، تتبدى في شعور حالي وتجربة عميقة.» (ب)
وعلى ذلك فإن اسپينوزا إذا كان قد أشار قبل ذلك إلى أنه قد أتم الحديث عن الحياة الحاضرة، فإنه لا يمكن أن يكون قد قصد من ذلك أن يتكلم عن حياة أخرى بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة. وهذا بالفعل ما يتعمد أن ينبهنا إليه في القضية السابقة؛ إذ يشير إلى استحالة هذا المعنى التقليدي، وبالتالي إلى أن الأزلية التي سيتحدث عنها، «والحياة الأخرى» كما يعنيها، هي حياة داخل هذه الحياة؛ أعني حياة الذهن الذي يدرك الماهيات الأزلية للأشياء من وراء وجودها الجزئي المتحدد.
وإن جميع القضايا التي تحدث فيها اسپينوزا عن فكرة الأزلية لتعبر عن أحد هذين الوجهين لرأيه في المشكلة؛ فهي إما تنتقد الرأي الشائع في الأزلية - أو على الأصح في الخلود - أو توضح المعنى الخاص الذي فهم به فكرة الأزلية، وتربط هذا المعنى بالأوجه الأخرى لفلسفته، ومن الملاحظ أن القضايا التي تعبر عن الوجه الأول - أي الوجه الناقد - ليست كلها متسلسلة، وإنما تتداخل مع القضايا المعبرة عن رأيه الخاص في الأزلية. وهذا التداخل يؤدي وظيفة هامة بالنسبة إلى منهج اسپينوزا في الكتابة: ذلك لأنه كلما مضى في تقديم رأيه الخاص في الأزلية، كان من الطبيعي أن يعود ذهن القارئ تدريجيا إلى المعاني التقليدية للفظ. وهكذا يحرص اسپينوزا على أن يأتي من آن لآخر بقضية ناقدة لهذه المعاني التقليدية كلما بدا أن ذهن القارئ معرض للرجوع إليها، حتى يذكره دواما بالمستوى الجديد الذي يتحدث منه.
وفي رأيي أن الترتيب الصحيح الذي ينبغي أن تؤخذ به القضايا المتعلقة بالأزلية، وهو ذلك الذي يبدأ فيه المرء من القضايا المتأخرة ليشرح من خلالها القضايا المتقدمة. ولنتأمل جيدا دلالة القضية الآتية: «من كان جسمه قادرا على أداء أكبر عدد من الأفعال، كان الجزء الأكبر من عقله متصفا بالأزلية.»
82
هذه القضية وردت بعد مجموعة كبيرة من القضايا التي تتصف في ظاهرها بطابع صوفي واضح. وأحسب أن القارئ ذا النزعة الصوفية يصاب بخيبة أمل كبيرة حين يجد اسپينوزا يربط - على نحو يبدو غير مفهوم - بين أزلية العقل وبين مقدرة الجسم، ويشعر بأن اسپينوزا بعد أن حلق به في آفاق التصوف العليا قد تخلى عنه فجأة وتركه يهوي، بكل تخبط واضطراب، إلى عالم الجسم ثانية! ومع ذلك، فلنذكر أن اسپينوزا قد ربط، في الباب الثاني من «الأخلاق»، بين مقدرة الذهن ومقدرة الجسم، وذهب إلى أن الذهن يكون أوسع قدرة كلما ازدادت قدرة الجسم الذي يرتبط به على تلقي المؤثرات من العالم المحيط به. ولما كانت أزلية الذهن - بمعناها الخاص عند اسپينوزا - تتوقف على مدى ما فيه من المعارف، وبالتالي على مدى كشفه للنظام الضروري للأشياء، فمن الطبيعي بعد هذا كله أن يكون الذهن أقرب إلى الأزلية كلما ازدادت قدرة الجسم الذي يرتبط به. وهكذا يبين لنا اسپينوزا أنه لم ينس، في هذا الجزء «الصوفي» الأخير، مذهبه المادي القوي الذي عرضه في الباب الثاني، ويكاد يرد بنفسه على من وصفوه بالتناقض وأكدوا أنه تخلى عن كل نزعاته السابقة عندما انحرف بمذهبه فجأة نحو «التصوف» في هذا الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق».
ناپیژندل شوی مخ