الست الطاهرة
بابا وماما
القزم
يا عم يحيى
عبد الحق أفندي
القلم
يونس في بطن الحوت
فيدو
في الغابة السوداء
أسوار المدينة
ناپیژندل شوی مخ
زمارة، توت
قيصر
مذكرات يمليخا
الراهب
عزاء
شجرة عيد الميلاد
الصراط
الرجل الذي يعتذر دائما
الست الطاهرة
بابا وماما
ناپیژندل شوی مخ
القزم
يا عم يحيى
عبد الحق أفندي
القلم
يونس في بطن الحوت
فيدو
في الغابة السوداء
أسوار المدينة
زمارة، توت
قيصر
ناپیژندل شوی مخ
مذكرات يمليخا
الراهب
عزاء
شجرة عيد الميلاد
الصراط
الرجل الذي يعتذر دائما
الست الطاهرة
الست الطاهرة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
ناپیژندل شوی مخ
الست الطاهرة
نحن في عز المولد. صياح الميكروفونات والناس والعربات وحلقات الذكر يصم الآذان. القزم عتريس يدخل في باب الجامع في طريقه إلى المقام. الشحاذون يبتسمون. الزوار يتلفتون إليه ويبتسمون. السقاءون الواقفون في الممر الطويل كتماثيل من الخشب ينظرون إليه بعيونهم الحزينة الجامدة ويبتسمون. عتريس يدخل المقام وينحشر وسط الزحام. وسط الأجساد والأيدي المتشابكة تتلمس يداه الصغيرتان موضعا على الشباك. يريح وجهه المكرمش العجوز عليه. تتمتم شفتاه. يعلو صوته. لكن أصوات الدعاء والتكبير والتلاوة أعلى منه. الزوار يلمحونه ويعجبون. كم يكون عجبهم لو عرفوا أن الست أيضا تكلمه، تكلمه وحده دون غيره؟ - من ينادي علي؟ - يا ست! نظرة! يا ست! - عتريس يا ست، القزم عتريس. - أنت جئت يا عتريس؟ - جئت يا ست. أبوس الأيادي. أركع عند رجليك. أشم رائحتك الطاهرة. - الغيبة طالت يا عتريس. - دخت يا ست. تهت في بلاد الله شرقت وغربت. لا شغلة ولا مشغلة. - والسيرك يا عتريس؟ - قفلوه في وجهي. قالوا لي عجزت ولا بقى فيك حيل؛ من يوم ما وقعت يا ست. - وقعت؟ - من على ظهر الحصان. كنت أنادي على عادتي بعزم ما في، وأقول نفسك معي يا ست. قلت أعمل حركة من حركاتي المشهورة وأضحك الناس. وقعت على الأرض رأسي تحت ورجلي فوق. الناس ضحكت لغاية ما شبعت، لكن رجلي انكسرت، ظهري انشرخ. - وبعدها يا عتريس؟ - أخذوني على المستشفى. وضعوا رجلي وظهري في الجبس سبعين يوما وحياتك يا ست. سبعين يوما وحق مقامك الطاهر. - وبعد ما خرجت من المستشفى؟ - سألت عليهم. قالوا لي في مولد الست. يا ناس أرجع لشغلي. لأ يا عتريس. يهديكم يرضيكم. أنت عجزت يا عتريس. طيب جربوني. عمرنا ما شفنا البهلوان على عكاز. نفسي أضحك الناس. ستضحك علينا يا عتريس. يا ناس ترموني رمي الكلاب؟ رزقك على الله يا عتريس. صرخت بعزم ما في: يا طاهرة! سقت عليك النبي يا حبيبة. - وسمعتك يا عتريس. - عارف يا ست، لكن العمل؟ - العمل عمل الله يا عتريس. - كلمة منك تفتح الأبواب. دعوة منك تحنن القلوب. لأجل الحبيب الشفيع تشفعي لي يا حبيبة. - عند من يا عتريس؟ - عند أصحاب الأكشاك يا ست. ألعابهم كثيرة. صحيح انكسرت وما عاد في حيل، لكن أقدر أضحك الناس. أحكي لهم حكايتي. أحلف لهم إني يا ما أضحكت ناس وأبكيت ناس. - رح يا عتريس، ربنا يفتح لك الأبواب.
في اليوم التالي عاد القزم عتريس إلى المقام. الشحاذون على باب الجامع رأوه وابتسموا. الزوار لمحوه يتدحرج في الممر الطويل، ولولا قداسة المكان لضحكوا. السقاءون الواقفون كتماثيل من خشب نظروا إليه بعيونهم الجامدة الحزينة وابتسموا. تزاحم عتريس وانحشر بين الناس. تحسس الشباك وشم العطر وراح في الجلالة وقال: يا ست! - قل يا عتريس! - رحت لهم يا ست. فت عليهم واحدا واحدا. - من يا عتريس؟ - كلهم يا ست؛ الساحر الأسود، شيطان الموت، الغول العظيم، الحاوي العجيب، حتى الأراجوز فت عليه. - ومن هو الأراجوز يا عتريس؟ - رجل صغير يعلقونه من شعره بسلك، ويحركون رجليه ويديه بسلوك. طول النهار يشتم ويلعن ويسب. - ابعد عنه يا عتريس. - هو الذي أبعدني يا ست. - والباقون؟ - قلت لهم أشتغل معكم. قالوا لي راحت عليك يا عتريس. يا ناس ولو نمرة واحدة. ما عاد فيك حيل يا عتريس. يا عالم ولو تقعدوني على المسرح والناس مصيرها تضحك. الناس غيرها أيام زمان يا عتريس. طيب أقف على رأسي، مرة واحدة يا عالم. تقع تموت يا عتريس، ونروح في داهية معك. - معهم حق يا عتريس. - تقولين معهم حق يا ست ؟ - شعرك ابيض. قلبك تعب يا عتريس. - القلب لا يتعب من ذكرك يا ست. طيب تصدقي بالحبيب؟ - عليه أفضل الصلاة والسلام. - لو تسمحي لي يا ست؟ - ماذا تريد يا عتريس؟ - أقف على رأسي مرة واحدة قدامك؛ أثبت لك أن عتريس هو عتريس؛ بهلوان زمانه، ووحيد عصره وأوانه. - هنا في المقام؟ يا للعيب يا عتريس! - من نفسي يا ست. مرة واحدة يا حبيبة. مرة واحدة لأجل الحبيب. - عيب يا عتريس!
دمدم الصوت المنبعث عن المقام، زام في أذنه كالريح، غامت الدنيا في عينيه، امتدت يد فوقعت يده عن الشباك الطاهر في عنف، زعق صاحبها الذي بدت رأسه كأنها القبة: اسع وصل على النبي! انتبه عتريس إلى العملاق الواقف إلى جانبه وخاف أن يدوسه، يخنقه، يرميه من الباب. صرخ: والعمل يا ست؟ جاءه الصوت العميق الهادئ كأن حمامة توشوشه: اسع وصل على النبي يا عتريس. - الأبواب كلها اتقفلت في وجهي يا ست. - إلا بابي يا عتريس. إلا بابي. - يرضيك عتريس يصبح شحاذا يا ست؟ - الأرزاق على الله يا عتريس.
يومها وقف القزم عتريس على باب الست، طول النهار وقف على باب الحبيبة بنت الحبيب؛ يصعب على واحد ويضحك عليه عشرون. الستات تشير عليه وتقول: شوفوا خلقة ربنا! والأطفال تصرخ وتقول: شوفوا الرجل المسخوط. والمشايخ يستعيذون بالله ويقولون: امش من هنا ورزقك على الله. والشحاذون يطردونه ويقولون: ما بقي غير البهلوان يقف قدام صاحبة المقام. عتريس صعبت عليه نفسه، غضب ودخل المقام ورفع يديه وقال: نفسك معي يا ست. نفسي ضاق يا بنت بنت الحبيب. - رجعت يا عتريس؟ - الشحاذة للشحاذين يا ست، وأنا طول عمري فنان. - ما معنى فنان يا عتريس؟ - أمثل، أضحك الناس، أدهن وجهي بودرة، أقف على رأسي. انظري.
وأحس عتريس أن الشباب عاد إليه. وبحركة مفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة؛ رأسه تحت ورجلاه في السماء. وبحركة مفاجئة أيضا هاج الناس، ورفع المشايخ وجوههم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام، فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون! وحق مقام الست الطاهرة لأشدك على القسم!
في الزنزانة المعتمة، على البرش الخشن، نام عتريس وهو يفكر فيما جرى له، ويتذكر حياته القصيرة قصر جسمه. وبالليل طلعت له الست الطاهرة؛ وجهها مضيء كالبدر، جبهتها صافية كاللبن الحليب، ثوبها أبيض في أبيض كالملاك. - عملتها يا عتريس؟ - أمر الله يا ست. - وفي المقام! - معذور وحياتك. - الدنيا واسعة يا عتريس. - الدنيا ضاقت في وجهي يا ست، ما بقي قدامي إلا بابك. - وتتشقلب في المقام يا عتريس؟ - كان نفسي ألعب مرة قدامك، مرة واحدة قبل ما أموت. يمكن نفوز منها نظرة، نظرة واحدة قبل ما أموت. - هجموا عليك كلهم؟ - كلهم يا ست؛ المشايخ والعساكر، الشحاذون والسقاءون، والأفندية والفلاحون. - ورموك في الزنزانة؟ - على البرش الخشن، في العتمة والرطوبة، وسط الفيران والبراغيث. - تعبان يا عتريس؟ - كل واحد ونصيبه يا ست. - زعلان مني يا عتريس؟ - كلك نظر يا أم العواجز. - ألا تريد أن تسامحني؟ - فتح القزم عتريس عينيه قبل أن يغلقهما إلى الأبد، تنهد بصعوبة وقال: لا يا ست. أبدا أبدا.
1964م
بابا وماما
تروح الأيام وتأتي الأيام وزينب تعمل في بيت الحاج محمود. من ثلاث سنين، عندما جاءت بها أمها من العزبة، كانت كالبلية الصغيرة، لولا أنها كانت تنط وتجري، وتعرف الكلام أيضا، لقالوا إنها لم تفطم بعد؛ كتلة من اللحم، في خرق مهملة، تحتاج لمن يرضعها ويطعمها ويسقيها. ومن عنده طول البال؟ قالت الحاجة بسيمة - التي زارت سيدنا النبي ووضعت يدها على شباكه - بعد أن خرجت من الصلاة: باسم الله ما شاء الله. يا شيخة، البنت صغيرة. قالت أمها بعد أن لطعت يد الحاجة: خادمتك يا ست الحاجة. قالت الحاجة وهي تلمس رأس البنت وتكاد تقبلها لولا رائحة التراب والعفونة التي تطالعها منها: والنبي إنها محتاجة لمن يخدمها. قالت أمها: ما هي بنتك وخادمتك يا حاجة، تتربى في عزكم أنت وسيدي الحاج، ربنا يخليكم لنا، بطن وانزاحت عنا يا حاجة، والنبي ما هي راجعة ولا آخذها من عندكم إلا وهي عروسة. الحاجة ضربت كفا بكف وضحكت: اللهم صل عليك يا نبي. طيب يا ستي، رزقنا ورزقها على الله. روحي أنت بالسلامة.
ناپیژندل شوی مخ
وتروح أمها بالسلامة، بعد أن تتغدى وتأخذ ما فيه القسمة، وترفع كفيها بالدعاء أن يعمر الله البيت ويطيل في عمر الحاج، ولا يحرمها منه أبدا.
تروح الأيام وتأتي الأيام وتأخذ زينب على البيت وأهله. سميرة بنت الحاجة، التي تكبرها بعام واحد، تصبح صاحبتها الروح بالروح؛ إن لعبت أمام البيت لعبت معها، إن ذهبت للسوق رجلها على رجلها، إن جلست تقرأ الحواديت وتجمع وتطرح في البيض والملاليم جلست بوزها في بوزها. وسميرة تموت فيها ولا تتصور الحياة بدونها. صحيح أنها تنام على السرير وزينب على الأرض، ربما أيضا من غير غطاء، وصحيح أنها تأكل مع أمها وأبيها على السفرة، بينما تلقط لقمة من هنا ولقمة من هناك، وياما باتت من غير عشاء لأنهم نسوها، أو لأن النوم كبس عليها، لكن ماذا يهم كل هذا؟ ماذا يهم أن تمشي حافية طول النهار، أن تدوخ كالنحلة بين المطبخ والسفرة وعشة الفراخ على السطوح ودكان البقال والجزار في السوق، ما دامت تستطيع في النهاية أن تلعب مع سميرة، وتسمع ما حدث للخروف المسكين مع الذئب الطماع، وتطمئن على أن الشاطر حسن قد تزوج ست الحسن والجمال، والعصفور ضحك على ذقن الثعلب المكار؟
الحاجة لا تمل من سيرتها أمام الستات. شوفوا والنبي؛ البنت أخذت علينا خلاص، نسيت أمها، وأبوها كأن عمرها ما شافته. أي والله يا علية هانم ويا ست زينات. البنت فاكرة إني أمها! - يا زينب. - نعم يا ماما. - هاتي لي أشرب. - حاضر يا ماما. - يا بنت عيب قدام الضيوف. - أقول إيه يا ماما؟ - عيب تقولي لي يا ماما. - أقول إيه يا ماما. - قولي يا ستي. - حاضر يا ستي ماما.
الله يخيبك يا زينب، كسفتيني أمام الضيوف. والنبي إن دمها شربات. يلا يا حاجة. كلنا أولاد آدم وحواء. وسيدنا النبي - اللهم صل وبارك عليه - وصى على اليتيم والغريب. أبوها موجود وأمها؟ على كل حال بنتكم، لأجل خاطر سميرة، وربنا يخليكم وتتربى في عزكم. والحاج أيضا فرحان بها، في كل مجلس سيرتها على لسانه. البعيد والقريب في البلد عرفوها؛ الباشا والبيه، الدكتور ومأمور المركز سمعوا عنها، حتى أصحاب الدكاكين والعيال التي تلعب في الشارع كلما رأوها قالوا لها: سلمي يا زينب على بابا الحاج، قولي يا زينب لبابا الحاج، نادي يا زينب على بابا الحاج. - يا بنت يا زينب! - نعم يا بابا. - قولي لستك تعمل شاي. - حاضر يا بابا. - يا بنت يا زينب. - نعم يا بابا. - هاتي لي علبة الدخان. - حاضر يا بابا. - بو يلهفك! يا بنت قولي يا سيدي. - أقول يا سيدي بابا؟
تروح الأيام وتأتي الأيام والبنت لا تتعلم. كلمة بابا وماما على لسانها، الكلام معها لا ينفع، السياسة لا تنفع، الضرب لا ينفع. لو كانت الحكاية على قد البيت كانت هانت، لكن البيت لا يخلو من الضيوف، والضيوف لا يخلون من الأغراب، والأغراب لسانهم طويل. وأين يا حاج تداري وجهك من الكسوف؟ وماذا تفعلين يا حاجة في زعل الحاج، والحاج لا يقدر على زعله أحد؟
الحكاية زادت عن الحد، وفي يوم من ذات الأيام والضيوف معزومون عنده - تجار من آخر الدنيا؛ شيخ البلد وحكيم الصحة - هاج الحاج وطلعت عفاريته. جرى على المطبخ وزعق: يا شيخة شوفي لك طريقة. - خير إن شاء الله يا حاج. - البنت خرجت دماغي قدام الناس. بابا بابا. - غلب حماري معها يا حاج. - ابعتي لأمها تأخذها. اضربيها. شوفي لك أي طريقة. - حاضر يا حاج.
وكما تأتي القطط على السيرة جاءت أمها من نفسها. لطعت يد الحاجة وحمدت ربنا على سلامتها هي والحاج وقالت: أنا جئت آخذ البنت.
قالت الحاجة: والنبي فيك الخير، كنت ناوية أبعت لك.
قالت المرأة: أبوها طلب يشوفها؛ أصله بعيد عنك.
قالت الحاجة: ربنا معه يا نبوية؛ يشفيه ويشفي جميع المسلمين.
ناپیژندل شوی مخ
تنهدت المرأة: حكم ربنا. الرجل بقى في ربع حاله.
قالت الحاجة: ربنا معه يا نبوية؛ يشفيه ويشفي جميع المسلمين!
بكت المرأة وقالت: ما عاد إلا منه، من ثلاثة أيام وهو يطالع في الروح. الحاجة نادت على زينب. قالت لها سلمي على أمك. البنت وقفت قدامها لا عرفت سلام ولا كلام. يا بنت سلمي على أمك. أمي يا ماما؟! - خليها عندكم يومين يا نبوية. - بس أبوها يشوفها وترجع على طول يا حاجة. - خليها لغاية ما تعلميها. - أعلمها بعدك يا حاجة؟ - ولو تميز أمها وأبوها، بدل ما طول النهار يا بابا ويا ماما. - بابا وماما في عينيك قليلة الحياء. قدامي يا بنت!
البنت راحت مع أمها على العزبة. مشت في الوحل، وأكلت العيش والملح، وعاشت في وسط البهائم والفلاحين. وفي أول ليلة باتت مع أبيها على السرير؛ السرير الأسود أبو عمدان. وأبوها طول الليل يقول آه يا جنبي، آه يا ظهري، آه يا غلبك يا محمد. وفي عز الليل تقوم مفزوعة من النوم وتنادي عليه وتسقيه. حاضر يا آبه، أنا جنبك يا آبه، عاوز حاجة يا آبه. ولما طلع السر الإلهي، والشيخ علي لتم عينيه، وشاله في الطشت وغسله مع بقية الناس؛ عرفت أنه أبوها. ولما صوتت أمها وعددت عليه، والرجال جاءوا وشالوا النعش على أكتافهم؛ صرخت مع أمها وقالت هاتولي أبويه؛ عرفت أكثر وأكثر. ولما جاءت النسوان وطبطبوا على ظهرها، وقالوا لها البركة فيك، وربنا قادر على كل شيء؛ عرفت أنها محتاجة لأمها وأمها محتاجة إليها.
وتمر الأيام والمأتم ينفض، وهذا حال الدنيا، وتعود زينب مع أمها إلى بيت الحاج. طول السكة وأمها توصيها، طول السكة وهي تهز رأسها وتضغط على يد أمها. ياما تعبت من الشيل والحط والخبيز والعجين. ياما انجرحت وتشققت وشفت المر. - سميرة تقولي لها يا ست سميرة. - لكنني سألعب معها يا أمي، أليس كذلك؟ - الحاجة إذا نادت عليك في حاجة أو محتاجة تقولي لها يا ستي الحاجة. والحاج ربنا يرزقه بطول العمر ولا يحرمنا منه تكوني تحت يديه ورجليه. نعم يا سيدي الحاج، حاضر يا سيدي الحاج.
فتحت لهما الحاجة الباب، فظهر وجهها الهادئ المستدير يتلفع في شال أبيض نقي. الله يسلم عمرك يا ستي الحاجة. زينب تقدمت هي الأخرى وباست يد الحاجة، ورفعتها على جبينها كما فعلت أمها، وخفضت عينيها إلى الأرض، وعندما رن في أذنيها صوت سميرة تنادي عليها وكانت تلعب على السلالم الرخامية، تهلل وجهها عن ابتسامة واسعة، وجرت نحوها في سرعة الريح وهي تهتف: حاضر يا ستي.
القزم
زينب لا تحول عينيها عنه منذ وضعوه في حجرة الصالون. كلما حانت لها فرصة تسللت على أطراف قدميها الحافيتين، والنوم يكبس عليها، ودماغها يلف من التعب ويدور، وجسدها الصغير ينتفض من الخوف. فتوارب الباب، وتتطلع فيه بعينيها المملوءتين بالدهشة، وينفتح فمها من نفسه حتى يظهر ضبها، وتكاد تموت على نفسها من الضحك، لولا أنها تضع يديها على فمها؛ خشية أن يسمعها سيدها الذي يعلو شخيره، أو تقلق ستها ذات الوجه الكشر، أو تفزع سيدها كمال وستها سميرة فتصبح ليتلها أسود من وجهها.
كان يقف هناك فوق المائدة الرخامية التي تتوسط الحجرة، على يمينه مطفأة سجائر من البرونز الذي انطفأت لمعته، وعن شماله تمثال صغير لنفرتيتي، انكسر أنفها، وتلطخ وجهها الأبيض النحيل ورقبتها الطويلة المسحوبة ببقع حمراء غامقة، كأنها جربانة لا تتوقف عن الهرش فيهما. هناك يقف منفوش الصدر، ممدود الذراعين إلى الأمام، رأسه الصغير يملؤه شعر أسود مجعد يسقط على أذنيه المدفوستين في جانبي وجهه، وأنفه ضئيلة مدببة ومشدودة إلى أعلى، ولسانه الأحمر الصغير طالع من فمه الضيق المستهتر، وفي عينيه نظرة ولد عفريت يحب أن يعبث بخلق الله، وعلى جانبي فمه وفوق جبينه تجعدات شيخ عجوز طيب مسامح. أما وجاهته فهي الأخرى تغيظ وتجنن، وكأنه نسي تماما أنه قزم مفعوص لا هنا ولا هناك، فلبس سترة زاهية مخططة بخطوط حمراء، تحتها قميص أبيض منقوش وضع في رقبته كرافتة طويلة على آخر مودة، مع أنه على بعضه لا يزيد طوله عن عقلة الإصبع، وسروالا أسود فخما كالذي يلبسه السفرجية أو الدبلوماسيون العظام، حتى حذاؤه - وهو لا يزيد عن حجم الحمصة - لامع ومحبوك ومربوط بعناية.
كان يوما له العجب عندما أخرجته ستها سميرة من حقيبتها وقالت: هدية من المدرسة يا ماما. كانت جاءت إلى البلد لتمضي الإجازة في الريف، وكان مدفوسا بين الكتب والبيجامات والفانلات، راضيا بحاله وكافيا خيره شره. ولم يكد يخرج من الحقيبة وتراه أمها حتى صاحت وهي تحمله على يدها وتتجه إلى حجرة زوجها: شف يا عبد العال، عامل رجل بحق وحقيق. لأ والمصيبة له نفس يطلع لسانه! يا أخي جاءتك مصيبة، كفاية إنك لابس كرافتة وردنجوت وعامل في نفسك ما لا يعمل! وانتقل القزم من يد إلى يد؛ كل واحد يأخذه على راحته، ويضربه بالقلم، ويحاول أن يشد لسانه وهو يقف أمام الجميع منفوش الصدر، مزهوا بنفسه ولا أبطال المصارعة، مخرجا طرف لسانه الأحمر المدبب لكل من يضحك عليه، فاتحا عينيه المستديرتين كفقاعتين لامعتين تفيضان بالنجوى والحنان والسخرية والطيبة.
ناپیژندل شوی مخ
وقد حاولت زينب أن تمد يدها إليه لتلمسه، ولكن ستها نهرتها بتكشيرتها الخالدة، وسيدها جاء بنفسه ليرى الهيصة، واختطفه من أيديهم ووضعه على راحة يده التي راح يبعدها ويقربها من عينيه، ويعقد حاجبيه ويزوم قائلا: حتى أنت يا قزم! حتى أنت يا قزم! حتى أنت لك نفس تعمل ناصح؟
وبعد أن حبسوه في الصالون كادوا أن ينسوه، إلا إذا حضر ضيف وانتبه إليه، ومد يديه يتناوله ويضحك عليه. كانوا يحكون له أن سميرة أخذته هدية من المدرسة الإفرنجية، وكان أحدهم يتطوع فيضربه بالقلم على وجهه أو قفاه فيجد أنه ما يزال ينفش صدره، ويخرج لسانه، ويمد ذراعيه، فيزداد ضحكه عليه.
أما زينب فلا تنساه في اليقظة أو المنام، طول النهار طالعة نازلة على السلالم حتى ينقطع نفسها، طول النهار تلف وتدور كالنحلة في البيت الواسع. تكنس وتمسح، وتغسل الأطباق، وتنفض السجاجيد، وتقشر البصل والثوم، وتمسح حذاء البيه والست الكبيرة، وتعلف البط والفراخ، وتحضر العيش واللبن من السوق، طول النهار عمال على بطال، تجري وتخدم على الأكل، وتنظف الترابيزة، وتحضر الفرشة، وتونس العيال. زينب هاتي، زينب خذي، زينب سوي، زينب روحي السوق، زينب لمي الغسيل، زينب يا مقصوفة الرقبة، زينب يا أم عقل وسخ. وعندما ينام الجميع، وتسمع شخير البيه الكبير، ويتوقف لسان ستها الذي يشبه الكرباج عن العمل، تتسلل على أطراف قدميها الحافيتين وتفتح باب الصالون، وتدخل وفي يدها الوناسة لتراه هناك، إلى جانب المطفأة وتمثال نفرتيتي الجربان، يمد لها طرف لسانه، ويفرد لها يديه، ويموت على نفسه من الضحك حتى يكاد أنفه الصغير ينفجر ويطير في السماء.
في ليلة قالت لها ستها: ادخلي مع ستك سميرة لحد ما تنام. ولكن ستها سميرة لم يجئ لها نوم. كانت معفرتة وشيطانة تضحك وترقص على السرير، وتريد لو تستطيع أن تنط من الشباك وتلعب طول الليل. قالت لزينب: احكي لي حدوتة يا زينب. قالت زينب التي كانت تقعد على الأرض أمام السرير: وأنا أعرف حواديت يا ستي؟! احكي لي أنت حكاية القزم القاعد يضحك على الناس وعلى نفسه.
قالت سميرة: طيب عارفة يعني إيه قزم؟
قالت زينب بعد فترة صمت: أبدا يا ستي.
ضحكت سميرة وهللت وقالت: يعني زيك تمام. قزم يعني رجل صغير، قد عقلة الصباع.
سألتها زينب: والقزم يطلع لسانه ويبرق عينيه؟
قالت سميرة: أصله نازل ضحك على الناس، إنما قلبه طيب.
قالت زينب مستفهمة: قلبه طيب؟
ناپیژندل شوی مخ
فردت سميرة: يعني شاف نفسه في المرآة ضحك على نفسه.
شاف الناس ضحك أكثر صعبوا عليه راح يساعدهم.
سألت زينب: يساعدهم في إيه؟
قالت سميرة: يعني يعمل شغلهم بعد ما يناموا. أصل الحكاية إنه في يوم راح بيت واحد جزمجي، كان رجل فقير وغلبان هو وامرأته وعياله، ولا عنده جلد يعمل به الجزم ولا حاجة؛ قام القزم صعب عليه أنه فقير، راح اشترى له جلد من معه، وقعد على الكرسي وقعد طول الليل يشتغل لغاية ما عمل الجزمة بتاعة الرجل الجزمجي. الرجل باع الجزمة لواحد زبون واشترى جلد يعمل به جزمة ثانية. قطعه بالليل لأجل يعمل منه جزمة تاني يوم، وتركه على الترابيزة ودخل نام، جاء القزم وقعد يشتغل طول الليل. الصبح صحا الجزمجي من النوم لقى الجزمة جاهزة على الترابيزة، فرح خالص وباع الجزمة واشترى جلد يعمل به جزمتين، وقطعه وتركه على الترابيزة والصبح لقى الجزمتين جاهزتين. قال لامرأته لازم ملاك من السماء عرف أننا فقراء وطيبين جاء يساعدنا، لازم نصحى الليلة ونشوف من هو. وضع الجلد على الترابيزة بعد ما قطعه ووضبه وقعد هو وامرأته سهرانين علشان يشوفوا الملاك الطيب من غير ما يشوفهم. في عز الليل دخل القزم على أطراف أصابعه وقعد على الكرسي، وراح يخبط بالشاكوش ويدق المسامير لغاية ما عمل الجزمة وقام روح. الجزمجي قال لامرأته: شوفي القزم الغلبان؛ عريان وما عليه هدوم، لازم نفصل له بدلة لأنه ساعدنا وخلى الزبائن تكتر عندنا. ثاني ليلة جاء القزم لقى بدلة وكرافتة وجزمة صغيرة على قد رجليه على الترابيزة، لبسهم وقعد يتنطط ويرقص ويغني، ومن يومها وهو فرحان، وكل ما يلقى واحد مسكين يساعده.
قالت زينب: ويساعدني يا ستي؟
قالت سميرة وهي تتثاءب: طبعا، ويتزوجك كمان.
وتسللت زينب إلى الصالون وجلست تنتظره. كانت رأسها تلف وتدور كالنحلة، وجسمها مفككا من التعب والجري والطلوع والنزول طول النهار، وعندما دقت الساعة المعلقة على الحائط في الصالة كل دقاتها وجدته يفتح عليها باب الصالون ويدخل، كأنه نزل من السماء أو طلع من بطن الأرض. اقترب منها وهمس في أذنها: زينب، زينب، أنا جئت.
قالت: حضرتك القزم؟ قال وهو يضحك ويخرج لها لسانه: أي خدمة؟ قالت: عندي العجين اعجنه، والغسيل اغسله، والفرش وضبه، واكنس وامسح ونظف وهات الحاجة من السوق. فوجدته يجري كالبلية إلى المطبخ وهات يا شغل. الأطباق في دقيقة كانت نظيفة كالفل، الحوض أبيض من المرآة، الغسيل غسله وراح نشره في البلكونة، الدقيق وضعه في حلة، ورش عليه ماء وهات يا شغل. بعد ما انعجن العجين راح يجري على الفرن، شمر هدومه وحماه وراح يلقمه رغيفا برغيف. بعدما انتهى من العجين والخبيز راح يمسح ويكنس وينفض التراب ويحضر الإفطار ويصحي العيال، وكل ما ينتهي من حاجة يفرك يديه ويرقص ويغني ويطلع لسانه، وبعدما الشقة أصبحت تشف وترف مثل العروسة هزها وقال: زينب، بنت يا زينب!
قالت : من ؟ من؟
قال: أنا القزم، جئت أساعدك، أصلك صعبت علي.
ناپیژندل شوی مخ
قالت وهي تغالب النوم: من؟
قال: أنا القزم.
قالت زينب: ماذا تريد مني؟
قال القزم: جئت أساعدك.
قالت زينب: تساعدني؟ لماذا تساعدني؟
قال القزم وهو يطرق برأسه خجلا وتكاد الدمعة تفر من عينيه: أصلك صعبت علي.
قالت زينب وهي تتفرس فيه: يقولوا عنك إنك دائما عريان، إنما أنت لابس.
قال وهو يداري كسوفه: أصل قلت لنفسي عيب تروح عريان للعروسة.
قالت زينب: عروسة؟ من؟
قال القزم وهو يؤكد بيده ويخبط على الترابيزة بكل يديه: قلت لك إنت طبعا.
ناپیژندل شوی مخ
قالت تعانده: لأ؛ ستي تعرف، ثم إني ...
قال القزم بعصبية: ثم إنك إيه؟
قالت زينب: هنا يعني، لا أم ولا أب وغريبة هنا.
قال القزم: لاتخافي، أنا معك.
قالت وهي تعود إلى التفرج عليه: قلت لك لأ يعني لأ.
غضب القزم، ولكنه كتم غضبه وعاد يقول لها: نتزوج يا زينب وأعمل لك كل شيء.
قالت زينب: لأ، خائفة من ستي.
عاد القزم يلح: نتزوج في الحلال يا زينب.
فردت قائلة وهي تحكم الغطاء على نفسها: لأ، لأ، لأ!
فغضب القزم. اختفت ملامح الضحك والفرفشة من على وجهه، عقد حاجبيه ومد بوزه شبرين، ورآها تمد يدها فتحكم اللحاف على نفسها، فتقدم ونزع اللحاف من عليها، ثم صفعها على وجهها صفعة صرخت معها، وحين فتحت عينيها المحمرتين رأت ستها محنية الظهر فوقها ويدها الخشنة علمت على صدغها وصياحها يفزعها من سابع نومة: قومي يا بنت قامت قيامتك! يعني تنامي للظهر؟
ناپیژندل شوی مخ
1964م
يا عم يحيى
كانت زوجتي قد أوت إلى الفراش وتركت باب حجرة النوم مواربا. وكنت أسمع أنفاسها تتردد وأنا جالس في الصالة أتصفح جريدة، وأنتظر حتى تسقط من يدي كما هي عادتي كل ليلة فأعرف أن موعد نومي قد جاء، أنهض لأغلق النافذة وأندس في الفراش. ولم أكن مستغرقا في الجريدة التي كنت أبحث فيها عبثا عن شيء يسليني حين سمعت الصوت. انشق فجأة في سكون الليل كالسكين اللامعة فانتفضت وطار النوم من عيني: يا عم يحيى! يا عم يحيى!
نفس الصوت الذي أسمعه منذ ليلتين، مبحوح ومرتعش ومفاجئ وملسوع، يتلوى ويستنجد ويبكي ويستغيث، كأنه جرح غائر مشقوق في مكان مظلم عميق، جرح أصبح له لسان ينزف بالعويل والصراخ كما لو كانت آلاف السياط تنهش جسد صاحبه، آلاف الأيدي والأقدام تضربه وتلكمه وتركله، وآلاف الطيور والوحوش تمزق لحمه وتلغ في دمه، وتحاول أن تبتلع صراخه فيفلت منها ليسترحم الخليقة كلها. - يا عم يحيى! يا عم يحيى!
لم يكن صوتا؛ فالصوت الإنساني مهما ارتفعت درجته نحس نحوه بنوع من الألفة. إنه لا يفاجئنا، ولا يروعنا ولا يذهلنا كما فعل. كان حشرجة مخلوق تنهار السماء فوقه، يرتج الزلزال تحت قدميه، يحز السيف على رقبته، يمر جسده على كل آلات التعذيب التي عرفتها العصور المظلمة، يسحق تحت طاحونة ثقيلة جبارة.
سقطت الجريدة من يدي ولكن النوم طار من عيني إلى الأبد. وقفت في الصالة ودقات قلبي ترتفع وترتفع. خيل إلي أن أفضل وسيلة للهروب من هذا الصوت أن أخلع ملابسي وأخرج عاريا من البيت، وأجري في الشوارع وأنا أضع يدي على أذني. كان يأتي في البداية منخفضا ممدودا، مميز الحروف، ممطوطا في نهاية كل كلمة. إن الياء في يحيى تمتد كاليد المستعطفة الذليلة الباكية، تعاتب وتشكو وتنتظر. إنه صوت طيب، مستغيث ولكنه لا يزال يرجو، ينادي ولكنه يتوقع أن يسمع من يرد عليه، يتوسل ويبكي ولكنه ينتظر ولم ييأس بعد. ثم يزداد حدة، وتسرع مقاطعه فتصطدم ببعضها كعربات القطار، وترتفع درجته وتزداد نحولا وتوترا وسخطا وعصبية فتأكل الحروف بعضها، وتقفز قفزة واحدة وراء كل دلالة بشرية لتصبح صيحة حادة جارحة مبتورة كسيف يغمد في الصدر ثم يستل فجأة، ومع كل صيحة تزداد الضربات على باب العمارة التي أسكن فيها، وتصبح الضربات هي نفسها صيحات ملهوفة ملسوعة مستغيثة، والصيحات ضربات ثقيلة وخائفة ومدوية ترج الأبواب والشبابيك.
منذ ليلتين وأنا أسمع هذا الصوت يحشرج وسط الظلام والسكون، والضربات تهز باب العمارة كأن صاحبها يدق على باب مقبرة ليوقظ أصحابها. كان في الليلتين السابقتين ينطلق فجأة ليستمر لحظات ثم يختفي فجأة كما جاء. لا نكاد نفيق من الذهول حتى يذهب. لا بد أن السكان قد ظنوا مثلي أنه أحد أقارب البواب، جاء متأخرا في عز الليل فأراد أن يوقظه من نومه الثقيل، أو كأن صاحبه يعاني من مغص هائل أو يطلب نجدة عاجلة، فأفاقوا لحظة من نومهم ثم نسوا الحكاية، أو لا بد أنهم - حين تكرر هذا الصوت في الليلة التالية - قد عزوه إلى كابوس ثقيل كتم أنفاسهم بعد أكلة دسمة، كابوس ضخم أسود كثيف الشعر اشتركوا فيه جميعا، وحين صحوا منه كان الصوت قد راح لحاله، ولكنه حين تكرر هذه الليلة على هذه الصورة الذبيحة كحشرجة مقتول، الملهوفة كأجراس عربات الحريق أو الإسعاف، الصارخة كبكاء شحاذ تنهشه وحوش الجوع، المستنجدة كصياح مجرم توشك أيدي العساكر أن تقبض عليه؛ لعله حين تكرر هذه الليلة على هذه الصورة بدأ ينبهنا إلى أنه لا بد برغم وحشيته وغربته عن عالم الأرض أن يكون مع ذلك صوتا إنسانيا؛ صوت بشر مثلنا من واجبنا على كل حال أن نرى ماذا يريد صاحبه ولماذا يعكر نومنا.
كنت لا أزال أقف في الصالة حين سمعت جاري الأستاذ عادل همام يفتح باب شرفته في غضب هائل وهو يسب ويلعن ويبرطم، وأسرعت أغلق باب غرفة النوم على زوجتي حتى لا تفزع من نومها، وفتحت أنا أيضا شباك حجرة الصالون المطلة على الشارع العمومي. كان الصوت لا يزال يرن في الآذان وعلى الأسفلت كأنه أوان نحاسية ترتطم، وتظل الموجات المنبعثة منها تتسع وتتسع صاخبة مدوية خرساء. وسمعت جاري الأستاذ عادل همام - الذي كان يبدو في روبه الأحمر وشعره المنفوش وجسده المكور كأنه بصلة إفرنجية - يشخط قائلا في صوت كالرعد: يا جدع انت! يا جدع انت! دوشتنا الله يدوشك!
ولم يكف الصوت عن رنينه الجارح المعتم الرتيب، بل ارتفع وعلت درجته وزاد إلحاحه، كأن سياطا نارية تهلبه وتغذيه بعذاب جديد: يا عم يحيى! يا عم يحيى! يا عم يحيى ! والياء الأخيرة طويلة طويلة تنتهي مقطوعة كأنها تقف في الحلق، ثم تبدأ «يا عم يحيى» من جديد أقرب إلى النشيج اليائس اليتيم المهجور. وزعق جاري، بعد أن سمع صوت نوافذ أخرى تفتح في العمارة، وأنوارا توقد، وهمسات تعلو وتتساءل وتتشابك: عم يحيى من؟ عم يحيى من يا جدع انت!
ويظهر أن صاحب الصوت سمع جاري أو تنبه إلى أنه يقصده بالسؤال، فأوقف ضرباته الهائلة على البوابة وإن لم يوقف نداءه المتكرر المستغيث: عم يحيى يا بواب! يا عم يحيى يا بواب!
ناپیژندل شوی مخ
فزار جاري - ويظهر أنه تلفت حوله ورفع رأسه، فلمح الجيران ينظرون من الشبابيك، وشعر أنه موكل عنهم في إخماد هذا الصوت: البواب اسمه سالم، ليس هنا أحد اسمه يحيى، ثم إن البواب مسافر عند أهله في الصعيد.
ورفع رأسه من جديد إلى الأدوار العليا وكأنه يتأكد بنفسه أنه ليس هناك بالفعل أحد من سكان العمارة بهذا الاسم. وسمع الصوت من جديد يتأوه ويئن في استسلام وضراعة، وكأن صاحبه - الذي بدا الآن واضحا أمام الباب بجلبابه الأبيض الطويل وقامته النحيلة ورأسه الصغيرة - يسترحم اليد التي تطعنه الطعنة الأخيرة: اصح يا عم يحيى يا بواب! أنا سايق عليك النبي تصحى يا عم يحيى. وصاح الأستاذ عادل بعد أن لاحظ وجودي في النافذة في صوت أقل حدة وأقرب إلى الإقناع منه إلى الغضب: يا أخي قلت لك البواب اسمه عم سالم. الله! كل ليلة تطير النوم من دماغنا؟ كل ليلة هوسة وزعيق وخبط على الأبواب؟
فاقترب الرجل ناحيته، ورفع رأسه التي كانت الآن تحت شرفته تماما، وقال في صوت كأنه دموع تسقط من الحنجرة: والنبي تنادي لي على عم يحيى يا سعادة البيه. الله يخليك نادي لي على عم يحيى!
فسأل الأستاذ عادل وهو يستند بكلتا يديه على سور الشرفة ويمد رأسه ليتحقق من صاحب الصوت الذي يخاطبه: عم يحيى من يا جدع انت؟
فأجاب صاحب الصوت: عم يحيى يا سعادة البيه. عم يحيى الرجل الطيب. سعادتك لا تعرفه؟
فصرخ الأستاذ عادل نافد الصبر : لا أعرفه ولا عمري شفته!
فعاد الصوت كأنه يجفف دموعه ويقول متعجبا: عم يحيى يا ناس! من لا يعرفه يا عالم؟
فصاح الأستاذ عادل وقد رأى أن المناقشة طالت أكثر مما ينبغي: قلت لك لا أعرفه ولا عمري شفته. يا الله روح نام وخلي الناس في حالها.
فقال الرجل في هدوء لا يخلو من العتاب: أروح يا سعادة البيه، الله يسامحك! أروح من غير عم يحيى! يعني يرضيك والنبي؟ بذمتك يرضيك؟
أحسست أنني لا بد أن أساهم بشيء في الموضوع، فسعلت أولا ثم قلت لجاري: يظهر إنه مجنون يا عادل بك. فقال الأستاذ عادل وكأنه يحييني: معك حق يا أستاذ سامي، الظاهر إنه مجنون. ومن بختنا إن جنانه لا يظهر إلا نصف الليل. (ثم موجها الكلام إلى الرجل) اسمع يا جدع، إذا لم تمش ناديت على العسكري!
ناپیژندل شوی مخ
فقال الرجل وهو يداري وجهه بذراعه في حركة أقرب إلى السخرية منها إلى الخوف: العسكري؟! ويرضيك البهدلة يا بيه؟ طيب والله وحياة سعادتك إنه رجل طيب، رجل طيب ابن ناس طيبين، رجل لا يستحق إلا كل خير. العسكري مرة واحدة؟ طيب والله أنا حفيت لأجل ألاقيه؛ خبطت على الأبواب، ناديت في عز الليل، جعت وعطشت وشفت المر، تركت أهلي وطلقت امرأتي لأجل خاطره، ومستعد أبيع هدومي بس ألاقيه.
فقال الأستاذ عادل وقد لاحظ أن المناقشة قد طالت، وأن معظم الشبابيك قد أغلقها أصحابها، ومعظم الأنوار قد انطفأت، قال وقد ظهر في صوته أنه بدأ يهتم بمعرفة الجواب: طيب لماذا تريده، عم يحيى بتاعك؟ فقال الرجل: لماذا أريده؟ طيب اسأل الدنيا عليه. عم يحيى يا بيه رجل طيب، رجل صحيح وربنا ساترها معه.
قال الأستاذ عادل وقد بدأ يلاحظ أن الرجل يهذي، وأن من المخجل له أن يستمر في الاستماع إليه: طيب يعني ضاقت الدنيا في وجهك؟ يعني لا تبحث عنه إلا في شارعنا؟ وعلى باب عمارتنا؟ قال الرجل في استسلام: وحياتك عندي يا بيه أنا دخت عليه. من الشرق للغرب ومن الغرب للشرق قلبت الدنيا عليه. خبطت على الأبواب طردوني، ناديت ما أحد رد علي، قلت لهم عم يحيى قالوا لي مات من زمان. قلت يا ناس عم يحيى؟ هو عم يحيى طول عمره رجل طيب ويحب المعروف ولازم ألاقيه. صرخت ضربوني. جريت جروا ورائي. سقت عليهم النبي ما حد حن علي. بست رجلهم قلعوني هدومي وألبسوني القميص. هربت منهم وقلت مصيري ألاقيه. عم يحيى موجود وربنا موجود. قلت يا ولد إن ما لاقيته في السكك والحواري يمكن تلاقيه عند العمارات والشوارع النظيفة، ربنا كريم ولازم ...
التفت الأستاذ عادل إلي وقال: الرجل يخرف. أحسن طريقة ندخل ننام، تصبح على خير يا أستاذ سامي. قلت تصبح على خير، وأغلقت ورائي شباك النافذة وتهيأت للنوم. ولم تمض لحظة حتى عاد الصوت من جديد، متوسلا في هذه المرة ومبحوحا، باكيا أكثر منه مستغيثا، يائسا أكثر منه ملحا أو عنيدا. وتوالت الضربات الثقيلة ترج البيت كأنها تهز شجرة قديمة من جذورها: يا عم يحيى! حرام عليك يا عم يحيى! أنا في عرضك يا عم يحيى!
وفتح شباب الشرفة المجاورة فجأة فارتطم بالجدران في غضب وجنون. وسمعت صوت الأستاذ عادل الجهوري يزعق ويسب ويلعن الدنيا ومن فيها: يا شاويش! يا شاويش!
وفتحت أنا أيضا نافذتي ووقفت أنظر ما يحدث. وما هي إلا لحظات حتى لمحنا الشرطي يتدحرج على أرض الشارع؛ تلمع أزرار سترته على ضوء المصابيح الخافتة على الجانبين، ويختلط كعب حذائه بزعيق الأستاذ عادل بالصرخات الممدودة التائهة بالضربات التي تنهال على البوابة الحديدية بوحشة الليل وعتمة الظلام وأصوات الزجاج والنوافذ التي تفتح واحدة بعد الأخرى، بنداءات الغضب والاستفسار والسخرية التي تنبعث منها في نفس واحد. وأقبل الشرطي فأمسك بالرجل من رقبته، ولم يكن في حاجة إلى أن يسأل؛ فالجريمة واضحة، وإزعاج الناس في عز الليل لا يحتاج إلى دليل. قال الأستاذ عادل: يا شاويش! أنا عادل همام القاضي، وزميلي الأستاذ سامي عبد المولى مدرس ثانوي، هذه ثالث ليلة يزعجنا فيها. ناقص يوقع العمارة على رءوسنا . الأولاد فزعت من النوم، سمعنا الخبط قلنا القيامة قامت. أرجوك يا شاويش تعمل اللازم.
قال الشاويش وهو يحيينا في تكاسل: حاضر يا سعادة البيه إنت وهو. على القسم قدامي يا بوز القرد، أي خدمة يا بهوات، والله يا بيه من ليلتين سحبته بنفسي على القسم. الشاويش النوبتجي قعد يسأله طول الليل. خطرف ولخبط، باس تراب الأرض وقال بس كله ولا الحبس يا سعادة الشاويش، كله ولا سراية المجاذيب؛ صعب علينا رميناه في الشارع وقلنا رزقه على الله. هو حر مع عم يحيى بتاعه. رجعت للنكد يا بوز القرد؟!
قال الأستاذ عادل في لهجة قاطعة: المهم تعمل اللازم يا شاويش! ثم وهو ما يزال يوجه كلامه إلى الشاويش: تصبح على خير يا أستاذ سامي!
صفع باب الشرفة وراءه، وبقيت أنظر إلى الشاويش الذي أمسكت يده برقبة الرجل وراح يدفعه أمامه ويتثاءب بصوت عال. واضطر أن يوسع من خطواته ليلحق بالرجل الذي كان يهبع أمامه كالجمل المسرع في طريقه إلى السلخانة. ولم تمض لحظات حتى اختفى شبحهما في الظلام.
1964م
ناپیژندل شوی مخ
عبد الحق أفندي
الساعة الثامنة «عبد الحق أفندي» الموظف بقلم الحسابات بمصلحة «...» كالثور الهائج، ضرب بقبضة يده على أول مكتب صادفه وهو يزأر كأنه سبع أفلت لساعته من القفص. أنا لن أحتمل هذا، لن أحتمل، أيجرؤ أن يقول إنني أحمق، وإني كلب، وإنني أخرف أيضا؟ ويقولها في وجهي؟ لست أنا الذي يقال له هذا الكلام، لست أنا. وأخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا، وجسده كله ينتفض، ولكن الغرفة لم تتسع لصولاته؛ فقد كانت مزدحمة بالمكاتب تماما؛ لذلك فقد وقف في وسط الغرفة وأخذ يخطب بصوت عال وهو يدق صدره بيده: لقد قال لي إنني أحمق، ورفع صوته في وجهي أيضا. تجرأ علي أمام الموظفين، وأين؟ في مقر عملي، ولكنني سأنتقم - نعم سأنتقم. سأقول له يا سيدي لقد أخطأت، إنك لم تعرف من أين تؤكل الكتف.
ويبدو أن هذا التعبير قد راقه، فأخذ يكرره مرارا، وهو ما يزال يدق صدره بقبضة يديه، ووجهه متشنج بالغضب.
كان منصور أفندي السيد جالسا أمام مكتبه، وكان يراجع دفتر المهايا. ويظهر أنه لم يسمع الصوت الهادر في الغرفة؛ إذ لم يرفع رأسه الأشيب عن الملف العريض. أما زميلاه محمود أفندي البنهاوي وعبد الرحيم أفندي عبد اللطيف فقد كان أحدهما يشرب قهوة الصباح ويعزم على جاره بسيجارة، ويلح عليه قائلا: جرب السجائر العربي؛ إنها لا تتعب الصدر.
وعاد صوت عبد الحق أفندي يدوي من جديد، ويلطم الملفات الرابضة فوق المكاتب، وعاصفة من الغبار المتراكم فوقها: إنها لمهزلة مضحكة، بل ومأساة أيضا، أن تهدر كرامة الناس هكذا، ويهان الرجال على هذا الوجه البشع.
لقد شاب شعري يا إخواني، شاب شعري، وكلت عيناي من النظر في الملفات، ثم يكون جزائي جزاء سنمار. ورأى أن العبارة الأخيرة عبارة أدبية صحيحة، فأخذ يعيدها قبل أن يستطرد، لا يا سيدي، إنني سألعنك في وجهك، سأقول لك إنك تسبني بغير وجه حق، لن أخاف شيئا، نعم، لن أخاف!
الساعة الثامنة والربع.
اقترب عبد الحق أفندي من مكتب منصور أفندي السيد ووجهه الأحمر يلتهب بالغيظ، وعيناه تنذران بالشر المحقق، وانحنى عليه وهو يقول: هل رأيت يا منصور أفندي، هل رأيت الناس تشتم وتضيع كرامتها على آخر العمر؟ ولم يرد منصور أفندي فعاد يصرخ: ولكني سأنتقم، سأنتقم.
فسأله منصور أفندي ولم يرفع وجهه عن الملف العريض. - ماذا ستفعل يا عبد الحق أفندي؟ - ماذا أفعل؟ وهل هذا سؤال؟ وماذا يفعل رجل شريف يرى شرفه في الوحل؟ قل لي بالله عليك ماذا يفعل؟
قال منصور أفندي وهو يرفع رأسه ويحك ذقنه بيديه مفكرا: يا عبد الخالق أفندي. - هيه؟ قالها عبد الحق أفندي وقد فرغ صبره. - هل تسمع نصيحتي؟ - بالطبع، إنك زميلي من عشرين سنة. - هذه الثورة لا لزوم لها. - لا لزوم لها؟! إنكم ستتفرجون عليه، سترون كيف يعتذر إلي أمامكم جميعا. - يا عبد الحق أفندي. - هيه؟
ناپیژندل شوی مخ
قالها في هدوء وهو في شوق إلى ما يقوله الرجل الحكيم. - شوف يا عبد الحق، أنا شخصيا لا أحدث نفسي يوما بأن أرفع وجهي في وجه رئيسي. يجب أن يعرف كل إنسان حده؛ هذا رئيس، وهذا مرءوس. لقد علمني أبي - ألف رحمة عليه - وهو الذي أمضى في خدمة الحكومة أربعين عاما - كيف أعامل علية القوم. أتدري ماذا كان يقول لي؟ - ماذا كان يقول؟ - يا منصور يا ابني لا تنظر إلى فوق. انظر إلى من هم دونك دائما. هذه مواعظ القدماء يا منصور أفندي. - كذب. كذب.
وهاج عبد الحق أفندي، وأخذ يذرع الغرفة الضيقة مرة أخرى وهو يتميز من الغضب. - هل نحن عبيد؟ لا. وإذا كان الإنسان قد اختار أن يكون عبدا فإن له الحق في أن يطلب الحرية يوما. أليس له الحق في ذلك؟ أليس له الحق يا عبد الرحيم أفندي؟ ولم يرد عبد الرحيم أفندي، فعاد يقول: أقول إن الإنسان إذا ما وضع في السجن فله الحق في أن يفكر في الحرية. - لا. كان هذا هو صوت محمود أفندي البنهاوي. إذا وجد الجميع أنفسهم في السجن فليس لكلمة الحرية معنى. فزأر عبد الحق أفندي: لا، لا. إنني لا أتفق معك. الحرية لا يعرفها إلا المساجين. أليس كذلك يا محمود؟ - هيه. سبعة وخمسين وخمسة. هيه. ماذا تقول؟ - أقول إن الناس لم يولدوا عبيدا. - هيه. اثنان وسبعين وسبعة. هل قلت إن الناس عبيد؟ - قلت وسأقول دائما إنهم ليسوا عبيدا، إنهم ولدوا أحرارا، ألم يقل ذلك عمر بن الخطاب؟
فأجابه محمود أفندي البنهاوي الذي كان قد فرغ من شرب قهوته: بل نابليون.
وزعق عبد الحق أفندي كأنه بطل محارب يبارز خصما عنيدا، ويجرد سيفه ليطعنه في صدره. - غدا سترون أنني رجل حر. هل قلت غدا؟ الآن سترون كل شيء، وسيصير هذا العجوز المتعجرف مسخة للجميع! الآن سترون!
الساعة الثامنة والنصف.
اقترب عبد الحق أفندي من مكتب محمود أفندي البنهاوي، وشد كرسيا جلس عليه وهو يمسح العرق المتصبب من وجهه. لقد ضبط أعصابه عن ذي قبل، ويستطيع الآن أن يزن الأمر في تعقل. - لقد قال لي أنت أحمق. هل أنا أحمق؟ وهل توظف الحكومة الحمقى في دواوينها؟
قلب محمود أفندي غلاف الملف الذي كتب عليه بالثلث بخط أسود كبير: «أذونات الصرف.» وما لبث أن قال: السن له حكمه. أريد أن أراجع ملف المهايا فأخطئ وأراجع الأذونات.
وعاد عبد الحق أفندي يقول: قل يا محمود أفندي، قل لي بالحق. نعم، إني أحب أن أقف إلى جانب الحقيقة ولو شنقوني.
فوضع محمود أفندي يده على خده وأنصت إليه قائلا: هل يمكن أن ينجو الإنسان من الخطأ؟ أليست العصمة لله وحده؟ وللأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - خطأ بسيط في المراجعة يستحق أن يهان من أجله رجل طويل عريض مثلي؟ - وهل أهانك حقا؟! - سبحان الله! ألم يقل لي إنني أحمق، وإنني كلب أيضا؟! - لم أسمع شيئا من هذا؟ - تسمع؟ ألم يصرخ في وجهي أمامكم جميعا؟ - يا عبد الحق أفندي، عندك كم ولد؟ - عندي كم ولد؟ ستة. - في سبيل لقمة العيش، أحتمل، يا ما تحملنا. - أنا أدافع عن شرفي، عن كرامتي. أنا رجل شاب شعره في الديوان. قل لي بالله، أليس لي الحق أيضا في أن أدافع عن شرفي؟ - يجب أن تدافع عن رزق أولادك أولا. خمسة وستين وسبعة. وبدأ يراجع نهرا طويلا من الأرقام.
الساعة التاسعة إلا ربعا.
ناپیژندل شوی مخ
اقترب عبد الحق أفندي من مكتب عبد الرحيم أفندي عبد اللطيف. كان هو الوحيد في المكتب الذي يمكن أن يأخذ ويعطي في الكلام معه؛ فقد كان ما يزال شابا، برغم أنه قضى عشر سنوات في الدرجة التاسعة قبل أن يشمله الإنصاف، ثم إنه يتميز بالحكمة والتعقل بالرغم من أنه - وقد تخطى الأربعين - ما يزال أعزب، وأنه ينفق ماهيته على نفسه، ولا يحرمها من المتع المحرمة على رفاقه من الموظفين.
قال عبد الحق أفندي وهو يسحب الكرسي إلى جانبه: أنت رجل عاقل يا عبد الرحيم أفندي، ومن صواب الرأي أن آخذ رأيك. - فيم؟ - ولكن في هذه القضية، ألم يصرخ في وجهي؟ ألم يقل لي إنني أحمق، وإنني كلب؟ ألم يقل لي اغرب عن وجهي، وعلى مشهد منكم؟ ألم يفعل هذا كله؟ - أنت الملوم يا عبد الحق أفندي . - يا ناس! إذا كنت مخطئا فدلوني على الصواب. إذا كنت ... - هل يثور العبد على السلطان؟ متى كان هذا يا صاحبي؟ أفعل مثلما فعلت؟ - ماذا فعلت يا عبد الرحيم أفندي؟ - إذا قال رئيسي هذا هو الشرق قلت له نعم يا سيدي، هذا هو الشرق. وإذا تردد قليلا وفكر ثم قال: لا، بل هو الغرب. أجبته قائلا: نعم، هو الغرب يا سيدي. اللباقة، اللباقة يا عبد الحق أفندي هي التي تنقص الموظفين في بلادنا. - وماذا نفعل إذا كان الله قد خلقنا كذلك؟ - أعترف بأن جو بلادنا هو المسئول عن هذا. الحرارة هي التي تشد الأعصاب، فينطق الإنسان بما لا يعرف كما نطقت أنت.
وانكب عبد الرحيم أفندي على عمله، وأمر الساعي أن يدير المروحة، ونهض عبد الحق أفندي من مكانه، وكأن الشيطان قد لبس جسده الناحل من جديد؛ فقد هاج مرة أخرى وأخذ يصيح بصوت كان أهدأ من المرة الأولى بلا مراء: ولكن يجب أن أنتقم، يجب أن أثور لشرفي. هذه سخرية والله. كيف تمنعونني من أن أثور لكرامتي؟ مرة واحدة، مرة واحدة يا ناس. كيف تمنعوني مرة واحدة بعد أربعين سنة؟
ونظر إلى ساعة الحائط. كانت تعلن التاسعة تماما، واتجه عبد الحق أفندي إلى مكتبه.
دخل رئيس قلم الحسابات الساعة التاسعة وخمس دقائق. لم يحي أحدا بتحية الصباح، وإنما قصد مكتبه مباشرة، فجلس على كرسيه المريح وأخذ يدور فيه حول نفسه؛ فقد كان الكرسي مجهزا بحيث يزيد في راحة الجالس عليه، ويتيح له أن يلف حول نفسه كما يشاء، وأخذ يدور بعينيه الواسعتين بين رءوس الموظفين، وأشعل سيجارا طويلا - كان يفضله على السجائر، ويبرز ذلك دائما بقوله إن العامة تشرب السجائر، والإفرنج وحدهم الذين يدخنون السجائر - وكانت عيناه الواسعتان تلتمعان خلف سحب الدخان المتصاعدة من فمه. وتنحنح ثم نادى على عبد الرحيم أفندي.
كان عبد الحق أفندي في هذه اللحظة يفكر في الانتقام، ويعيد في ذهنه الكلمات التي سيرددها على مسمع من الجميع، ولكن لم تهرب منه الكلمات ؟ لم يحاول أن يقبض عليها فتفلت منه كالأرانب المذعورة التي تعدو في الظلام. وشعر بقلبه يغوص في قدميه، ثم شعر به يدق دقات عنيفة كأنه قد صعد إلى مكانه مرة ثانية، واندفع يريد أن يقفز من حلقه. ونادى رئيس القلم على محمود أفندي، وعبد الخالق أفندي يراجع الكلمات التي سيقذف بها - في شجاعة وبلا أدنى خوف - في وجه رئيس الحسابات المتعجرف، وناجى نفسه قائلا: لعنة الله على رئيس قلم الحسابات، وعلى جميع رؤساء أقلام الحسابات، في حكومات العالم كله، وفي حكومة فرنسا - لم فرنسا؟ - وهربت الكلمات منه مرة أخرى. رآها وهي تهرب منه، وأخذ يلاحقها وهو يلهث. كانت كالشهب الضائعة في سديم من الضباب. - يا عبد الحق أفندي.
ووجد نفسه يهب مذعورا من مكانه. - هات دفتر الخصومات معك.
ولكنه كان قد غادر مكتبه إلى مكتب الرئيس. - أين دفتر الخصومات؟
إذن فقد نسيته يا عبد الحق، لعنة الله على النسيان! في مثل هذه الأحوال يجوز لك أن تنسى؟
وعاد مسرعا فالتقط الدفتر من مكانه ووضعه أمام رئيس قلم الحسابات، بدا له في هذه اللحظة كأن الموظفين جميعا يتغامزون ويهزون رءوسهم ويشيرون إليه فالتفت وراءه. وكم كانت سعادته حين وجدهم جميعا غارقين في دفاترهم. وحين فرغ الرئيس من مراجعة دفتر الخصومات تناوله عبد الحق أفندي وأسرع به إلى مكتب، يلوذ به كأنه مأواه. - لا تنس الإذن الإضافي يا عبد الحق أفندي.
ناپیژندل شوی مخ
ينسى؟ وهل هذا معقول؟
عكف عبد الحق أفندي على الدفتر الكبير، وحدثته نفسه - ونفس الإنسان تحدثه بالسوء دائما - بأن يرفع رأسه ليرى زملاءه.
وجمع شجاعته كلها ليدير عينيه بينهم. كانت رءوسهم محنية على الدفاتر تفحصها فحصا دقيقا.
وانحنى رأس عبد الحق أفندي.
1953م
القلم
ضربوني يا سعادة البيه. والله يا سعادة البيه ضربوني. أولاد الحرام اتلموا علي. هجموا علي في عز الليل. كنت في حالي لا بي ولا علي، نزلوا علي ضرب. بهدلوني. نعم؟ أحكي الحكاية لسعادتك؟ من الأول؟ الله يعمر بيتك ويوقف لك أولاد الحلال. ينصرك على الظالم ويرزقك برزق عيالك. نعم يا سيدنا الأفندي؟ من هم؟ ناس ظلمة بعيد عنك، اتلموا علي وضربوني، هجموا علي من الباب للطاق، قلم وراء قلم، آه وحياتك عندي، نزل يرف على صدغي. لا عمري شفتهم ولا كلمت أحدا منهم. آي والله يا سعادة البيه، لا مؤاخذة؟ أقول الحكاية من الأول؟ أدخل في الموضوع على طول؟ حاضر يا سعادة البيه، على عيني وراسي. ربنا يعمر بيتك ويوقف لك أولاد الحلال. قلت لسعادتك إنهم ضربوني. هم من؟ ناس أولاد حرام بعيد عنك. أقول الأول أنا من؟ اسمي وبلدتي وصنعتي؟ أمرك يا سعادة البيه. والأمر كله لله. اسمي عبد الموجود، عبد الموجود من؟ محسوبك عبد الموجود بن عبد الموجود، آي والله وحياة مقامك عندي. لا مؤاخذة من الصعيد الجواني. البلد؟ مركز جرجا يا سعادة البيه. رجل على قد حالي، يوم هنا ويوم هناك وكلها أرض الله. يوم فلاح ويوم بياع فجل ويوم شيال على ظهري. ويوم أشتغل وعشرة من غير شغل. وكلها لقمة عيش والرزق كله بالله. تركت الولية والعيال في البلد وقلت أسعى على باب الله؛ أصل لقمة العيش تحب الشقا، إنما الأرزاق كلها ولا يخفى على سعادتك على الله. أدخل في الموضوع؟ ما هي الحكاية ... حاضر يا سعادة البيه. ما أنا قلت لسعادتك إنهم ضربوني، آي والله هجموا علي وضربوني. أولاد الحرام اتلموا علي وبهدلوني. كنت في حالي لا بي ولا علي، في عز الليل والدنيا ساكتة والناس نايمة في بيوتها، وأنا ماشي في حالي لا أكلم أحدا ولا أبص لأحد. بصيت لاقيتهم من بعيد، جماعة بهوات محترمين، كانوا مفرفشين ومبسوطين وضحكهم يصحي النائمين. قلت يا عبد الموجود لازم راجعين من السيما. الله يلعن أبو السيما وسنينها؛ من يوم ما دخلت البر والناس بقى حالها غير الحال. تعلموا السهر وطلع من قلوبهم الإيمان. أنا قلت في سري ما لك يا ولد وما لهم، شبان وربنا يمتعهم بشبابهم. ربنا قادر على كل شيء، ومصيره يصلح حالهم ويهدي قلوب المسلمين. قربوا مني قلت ابعد أنت عنهم . فاتوا من جنبي قلت اللهم فوت الليلة على خير. تغامزوا وتلامزوا قلت اللهم أخزيك يا شيطان. فرقعوا بالضحك والقهقهة قلت جمد قلبك يا عبد الموجود، أنت في حالك وهم في حالهم وكل واحد وله طريق. وقفوا ورائي قلت في عقل بالي مصير كل حي يروح في طريقه. سمعت واحد منهم ينادي علي: أنت يا رجل يا فلاح! أقول الحق قلبي سقط في رجلي. بصيت ورائي وأنا أرتعش، جمدت قلبي وقلت نعم يا سيدنا الأفندي؟ نادى علي وقال: تعال هنا! قلت وأنا ركبي تنتفض: أيها خدمة يا سيدنا الأفندي؟ وقفت قدامه في أمان الله لقيت القلم على صدغي قلت آه! تقول ترماي وصدمني؟ آي وحق من أحياني. جئت أتكلم كان القلم الثاني حصله. تقول كرباج ولسعني، سكينة وانغرزت في عيني؟ سعادتك تضحك، آي والله يا حضرة البيه. يمكن صحيح حاجة تضحك لكن أنا لقيتني من غير مؤاخذة دخت ودماغي لفت وعيني زغللت ما عرفت رأسي من رجلي. الأفندية ضحكوا وهللوا واتلموا علي. واحد يشد هدومي والثاني يلطعني على قفاي والثالث يناولني بالشلوت، حتى دقني شدوها وضحكوا عليها. وأنا ولا يخفى على سعادتك - رجل كبارة وصاحب عيال، آي والله صاحب عيال، يمكن قدهم أو أكبر منهم. صحيح لا عمري لبست بدلة ولا دخل في مدارس، لكن رجل كبير ومخلف عيال. يا ناس عيب! يا ناس أنا رجل كبير، رجل على باب الله صحيح إنما رجل كبير. هو الغلبان كفر يا ناس؟ يا أفندية حرام عليكم، الدنيا ليل والناس نايمة في بيوتها. يا ناس بلا ضرب وبلا إهانة، يعني ما لقيتم غيري تضحكوا عليه. آه! آه! الأقلام دوختني. الشلاليت هزت ظهري. شلوت من اليمين وقلم من الشمال. رفسة في البطن وهبدة على الدماغ. قل وقعت على الأرض، تقول لا مؤاخذة عجل وكترت عليه السكاكين؟ عددهم كم؟ والله ما أعرف يا سعادة البيه، قل ستة قل سبعة، يمكن أكثر يمكن أقل، ربنا وحده يعلم، كل واحد منهم مثل الحصان؛ صحة وشباب وأبهة، ناس محترمين أولاد ناس محترمين صحيح . استفرسوا في وعملوني مسختهم. نعم؟ السبب في ضربهم لي؟ بس لو كنت أعرف، لو كان أحد دلني عليه؟ القصد وقعت، جاءت وقعتي بعيد عنك سوداء. الأفندية بعد ما ضحكوا وانبسطوا راحوا لحالهم. تمددت على الأرض والدم يشر مني، من عيني أو من رأسي ربنا وحده أعلم. بحر وغرقت فيه ولا من سمع ولا من دري. الشارع اسكت هس، لا فيه كبير ولا صغير. حتى العسكري ناديت عليه ما حد رد علي. تهت وغبت عن الدنيا وما فيها لا حد سأل عني ولا حد رأف بحالي، قل ساعة قل اثنين رجعت لعقلي لقيت الفجر شقشق والديوك صيحت والطير على الشجر وحد الخلاق. قلت يا ولد تروح لمن وتشتكي لمن وأنت هنا غريب يا ولداه، لا أحد يعرفك ولا أحد عمره يسأل فيك. الناس صحت وقامت تسعى على رزقها، والطير صحا وقام يجري على قوته، والترماي مشى في الشوارع. أنا قلت يا ولد تروح القصر الحكما يربطوا لك دماغك. قل جئت على نفسي رحت على هناك قطعت التذكرة ودخلت. الحكيم كان رجل طيب مثل سعادتك، ربط لي عيني ودماغي وسألني عن اللي حصل، قلت له ربنا يجازي أولاد الحرام؛ ضربوني وبهدلوني وضحكوا علي حتى القلم ما زال معلم على صدغي. ضحك الله يعمر بيته وسألني: تعرفهم؟ قلت له والله ولا عمري شفتهم يا سعادة البيه، ولا حتى كان بيني وبينهم تار. نادى على العسكري قال خذه على البيه المدير الكبير واعمل له اللازم. قل رماني في الشارع جئت على هنا لقيتني في مكان ما وقعت. مثل ما قلت لسعادتك كده. حكيت لك على الحكاية. ربنا ينجيك من أولاد الحرام. حاجة ثانية؟ لا والله يا سعادة البيه، لا أتهم أحد؟ أولاد الحرام طبعا وسعادتك سيد العارفين، ربنا مصيره ينتقم منهم.
أقول لسعادتكم على اسمهم؟ وأنا أعرف أحدا منهم يا سعادة البيه؟ أولاد حرام منهم لله يخلص منهم. تشطروا على رجل في حاله. كتموا عليه نفسه. ضربوه وبهدلوه، حتى القلم معلم على صدغي. آي والله! شفت سعادتك؟ لا تقول إني كذاب لا سمح الله وحياة مقامك عندي يا سعادة البيه. تقول ولا بصبوص نار؟ تقول كرباج لسعني ولا فاس قسم وجهي نصفين؟ خلاص؟ سعادتك تقول أروح للقسم؟ أقدم بلاغ فيهم؟ نعم؟ وسعادة الشاويش يبعته لسعادة القاضي؟! قاضي من؟ تقول يقيدوه ضد مجهول؟ طيب شفت حضرتك الرباط على عيني ودماغي. يعني يرضيك يضربوني ويتقيد ضد مجهول؟ بقى القلم معلم على صدغي ويقيدوه ضد مجهول؟
يونس في بطن الحوت
لم أكن أعلم أنها ستكون ليلة سوداء، ولا كنت أتصور أنني سأحمل في آخرها إلى المستشفى كما يحمل النعش على الأعناق.
ناپیژندل شوی مخ
فبعد أن أعطيتهم المعلومات اللازمة عني، وقيدوا اسمي ورقم بطاقتي على استمارة في حجم الكف، قادوني إلى حجرة في الدور العلوي، في نهاية ممر مظلم. قالوا لي ليس عندنا غيرها، وسيشاركك فيها محمود بك، عندما يأتي متأخرا كعادته بعد سهرة طويلة في الكازينو. ولم يكن يهمني أن أعرف شيئا عن محمود بك، فلم أسألهم عنه، بل دخلت إلى الغرفة وأقفلت بابها ورائي. كنت متعبا من السفر في أوتوبيس البراري، محملا برائحة العرق والتراب والزحام، وكان كل همي أن أستسلم للنوم في أسرع وقت، وألقيت نظرة سريعة على الحجرة، ولم يكن بها أكثر من دولاب خشبي صغير وسرير مستطيل بدا لي لكآبته كأنه تابوت، فوقه ملاءة بيضاء عليها بقع غامقة، ولحاف حال لونه وبدت آثار العرق على أطرافه المتسخة. وألقيت بنفسي على الكرسي الوحيد الموضوع إلى جانب السرير، فخلعت ملابسي وألقيتها كيفما اتفق، وأخرجت بيجامتي وأسرعت أرتديها قبل أن يكبس علي النوم.
كانت متاعب اليوم قد ازدحمت علي فلم تبق في قدرة على التفكير فيها. لقد طردني أبي من البيت في أول النهار. صرخ في وجهي بأعلى صوته: رح في ستين داهية وإياك أن تعتب الباب وإلا قطعت رجلك. وحين حاولت أن أرد عليه بصق في وجهي وصفعني. كان لا بد أن أغادر البيت وأن أغور من وجهه كما قال. ولم يكن هناك فائدة من محاولة الصلح معه أو استعطافه بعد أن أهانني أمام الناس أكثر من مرة. وبكت أمي وهي تراني أعد حقيبتي وقالت: أبوك يا ابني على كل حال. رح بس يده ومصيره يرضى عنك. وصرخت فيها وقلت إن العيشة معه أصبحت تكفر وإن بلاد الله واسعة. وقلت إنني سأعرفه شغله وآخذ حقي منه، وإن شاء الله سأحجر عليه وأدخله المورستان. وأعطتني أمي جنيها وضعته في جيبي مع الجنيهين اللذين كانا معي، ورزعت الباب خلفي وأنا أسمعها تدعو لي بأن يصلح الله حالي ويخزي الشيطان عني.
كان لا بد من وضع حد لتصرفات أبي التي زادت عن كل حد. لقد نسينا أنا وأمي وأخوتي الصغار، وكلهم في المدارس ويستحقون التربية، ولم يعد يسأل عنا بقرش واحد، وليته تركنا في حالنا ندبر معاشنا بأيدينا؛ فدكان البقالة الذي نعيش منه يكفينا ويستر علينا، ولكنه لطخ اسمنا بالوحل، حتى صار الناس كلهم في بلدنا يرددون فضائحه، ويأكلون وجوهنا بتظاهرهم بالعطف علينا. لم يكتف بأن يهجر البيت ليعيش مع هانم الغازية - وبعض الألسنة تقول إنها كانت خادمة في بيت العمدة الذي لا يغيب عن مجلسه - بعد أن شاخ وزاد على الستين، بل كان يأتي غاضبا إلى الدكان كل يوم والثاني ويفرغ الدرج مما فيه، ويحاسبني أيضا ويتهمني بالسرقة والإهمال وتطفيش الزبائن. وقد صبرت وشلت الحمل حتى تعبت وصعبت علي نفسي من الذل والنكد والإهانة والشتائم بسبب وبغير سبب. وكان لا بد من أن أفكر في حل يضمن لنا لقمة العيش، ويريحنا من غارات أبي علينا ويسترنا من فضائحه. فقررت أن أسافر إلى المركز وأسأل عن رجل أصله من بلدنا اسمه حسان يشتغل وكيل محام هناك، وأعرف منه إن كان من الممكن أن أرفع دعوى الحجر على أبي. وهكذا سافرت في ذلك اليوم ووصلت متعبا في المساء إلى الفندق الرخيص الذي دلوني على تلك الحجرة فيه.
وفتحت عيني فجأة على أثر إحساس بأنفاس حارة تصدم وجهي. وكان أول ما وقعت عليه وجها أحمر منتفخا لم أتبين من ملامحه في أول الأمر شيئا، واعتدلت في الفراش محاولا أن أعتذر عن وجودي في الحجرة، وأن أشرح للرجل الذي كان منهمكا في خلع ملابسه أنه لم يكن لي يد في مشاركته في الحجرة في تلك الليلة. وجاءني صوت عميق خشن يقول: مساء الخير. فرددت السلام مرتبكا، ورفعت يدي إلى رأسي فأصلحت شعري، واعتدلت في جلستي على الفراش. - كنت تشخر شخيرا عاليا. يظهر إنك تعبان.
نظرت إليه ولاحظت وجهه الضخم ورأسه الصلعاء والشعر الكثيف على صدره، وقلت: من السفر فقط، أرجو ألا أقلقك الليلة. - أبدا أبدا؛ أنا دائما نومي ثقيل.
ثم بعد لحظة وهو يرتدي جاكتة البيجامة. - غريب؟ - نعم؛ جئت أستشير وكيل محام من بلدنا في مسألة، وربما دعوى في المحكمة. - في المحكمة؟ إذن فسوف تنظر أمامي.
اعتدلت أكثر في الفراش وسألت: حضرتك؟
فقاطعني قائلا: نعم، قاض في المحكمة الجزئية، أحضر إلى هنا يومين في الأسبوع وأرجع لمصر بعد الظهر.
وازداد انتباهي فأردت أن أنتهز الفرصة وأستشيره في حكايتي. ورحت أشرح له قصتي مع أبي وهو يستمع في هدوء، وحين انتهيت من سردها عليه سألني وهو يبتسم: ما اسمك؟
ومع أن السؤال بدا لي خارجا عن الموضوع فقد أجبت: يونس، يونس عبد العظيم.
ناپیژندل شوی مخ
فأطرق برأسه حتى كادت تلامس الشعر الأسود الكثيف في صدره، وقال: يونس هيه، ماذا تريد؟
أفلت مني الرد الطائش كأنني أصرخ في حلم، فهتفت: أريد العدالة!
زاد من تقطيب وجهه ومسح ذقنه بكفه قبل أن يقول: يونس، ويبحث عن العدالة؛ نفس الحكاية القديمة!
لم أفهم شيئا، فقلت: هل ترى سعادتك فائدة في الدعوى؟
فوقف وأخذ يتمشى في الحجرة التي بدت ضيقة وهو يذرعها بخطواته الواسعة المتأنية، ثم وقف فجأة وأشار إلي بيده الضخمة: هل تعرف ماذا جرى له؟
سألت في حيرة: لمن يا سعادة البيه؟
فقال في عصبية: ليونس طبعا. قلت لك ليونس!
قلت وقد ازدادت حيرتي: وأين جرى له هذا؟
قال كأنه لم يسمعني: في جوف الحوت طبعا!
ولم أفهم عن أي شيء يتكلم فرأيت من الخير أن أسكت. وزادت مخاوفي وأنا أراه يقترب من السرير ويشخط في كأنه يوقظ ميتا: عار عليك ألا تعرف!
ناپیژندل شوی مخ