ما زلت أتذكر صوتها، نفس الصوت الذي سمعته منذ زمن بعيد في حفل أو اثنين؛ صوت واضح مفعم بالتحدي يبدو لي أنه يستعيد مستواه الطبيعي عند وصولها لمستوى معين من الغضب، صوت يبرع في قول: «يا إلهي ما ظن هؤلاء البلهاء بي!» هب أنها تعرفت على صوتي أو على وجهي؟ أنا لا أعتقد ذلك. لا أحسبها من النوعية التي تتذكر شخصا هامشيا في حياتها، ولطالما كانت هي في المركز، وليس لديها أي معلومات عني، أليس كذلك؟ لا أظنها تتوقع مجيئي هنا.
ومع ذلك فقد شعرت بأنني ملحوظة لها، كما شعرت بالذنب، وأني غريبة هنا؛ بيد أنني ظللت فترة طويلة أتجول في شتى أرجاء المكتبة دونما هدف واضح، ويا لها من مكتبة مخيفة! فهي زاخرة بكثير من الكتب. ويبدو أنني كنت دائمة التوقف أمام الكتب التي تخبر الناس بطرق مختلفة كيف يبلغون السعادة، أو السلام على أي حال. ليس لديك أدنى فكرة - حسنا ربما كانت لديك فكرة - حول عدد الكتب الموجودة هنا من هذه النوعية. وأنا لا أستهجن ذلك، بل أعتقد أنه ينبغي علي قراءتها كلها أو على الأقل قراءة بعض منها، ولكن كل ما يمكنني فعله هو التحديق بها في اندهاش. ثمة كتب أخرى عن السحر؛ فهناك مئات الكتب حول الساحرات والتعويذات والاستبصار والطقوس ومختلف أنواع الحيل والعجائب. كل تلك الكتب تبدو لي كتابا واحدا - كتب السعادة والسلام وكتب السحر والعجائب - فهي لا تبدو كتبا مختلفة على الإطلاق، وهذا هو السبب في عدم اقترابي منها؛ فهي متراصة معا في جميع أرجاء المكتبة كنهير رائع متنوع الألوان، أو نهر واسع، ولم يعد بمقدوري حقا فهم ما بداخلها تماما كما لا يمكنني التنفس تحت الماء.
دأبت على المجيء يوما بعد يوم. اشتريت بعض الكتب ذات الأغلفة الورقية، بعد أن أتصفحها، كما يظنون، لساعات. ذات مرة تطلعت في وجهي وابتسمت، لكنها ليست سوى تلك الابتسامة العابرة التي تبتسمها لعملائها، فيما أسترق السمع لها وهي تتحدث مع البائعات، وتضحك، وتصنع المقالب إضافة إلى جديتها أيضا وعدائيتها مع أحدهم على الهاتف، كذلك سمعتها وهي تطلب الشاي مع العسل، وتدعي الاستقامة ساخرة برفض الكعك. سمعتها وهي تستأسد على العملاء، بطريقة ساحرة أحيانا. يمكنني أن أتصور نفسي صديقتها التي تبوح لها بأسرارها. أشعر بالخجل من هذا الخيال، أشعر بالحسد في حضورها، وبأنني انتصرت عليها انتصارا عارضا، كما أشعر بهذا الفضول اليائس التافه. لكم أشعر بالخجل من كل هذا عندما أتذكره.
كنت آتي في المساء؛ حيث تظل المكتبة مفتوحة حتى التاسعة مساء، ولكنها لا تكون موجودة عادة. وذات مساء جئت فوجدتها هناك وحدها، لم يكن هناك غيرها. توجهت إلى الغرفة الخلفية وعادت حاملة شيئا، ثم قدمت نحوي مباشرة، قائلة: «أعتقد أنني أعرف من تكونين.»
نظرت في وجهي مباشرة، فكان عليها أن ترفع ذقنها إلى أعلى نظرا لأنها أقصر مني. «لقد لاحظنا جميعا كثرة ترددك على المكتبة. في البداية حسبتك سارقة، فنبهت الجميع على ضرورة الحذر منك ومراقبتك، ولكنك لست سارقة، أليس كذلك؟» «بلى.»
أعطتني ما في يدها، كيسا ورقيا بني اللون مليئا بالأوراق. «لقد مات.» قالتها وهي تبتسم لي كمعلمة تضبطك ترتكب خطأ بشعا في المدرسة، ثم أضافت مفسرة: «ولذلك لم تتلقي منه أخبارا مؤخرا. توفي في مارس إثر إصابته بأزمة قلبية وهو جالس إلى مكتبه بالمنزل، ووجدته حينما رجعت إلى المنزل في وقت العشاء.»
لم يمكني الرد عليها، ورأيت أنه لا ينبغي ذلك. «هل ينبغي أن أقول آسفة وأنا أطلعك على هذا الخبر؟ لست آسفة؛ فما تشعرين به لا يهمني في شيء، لا يهمني مطلقا، ولا أريد أن أراك هنا مجددا! إلى اللقاء!»
غادرت المكتبة دون أن أرد عليها بكلمة واحدة. وفي شقتي فتحت الكيس وأخرجت الرسائل. كانت رسائل خارج مظاريفها. هذا ما اعتقدت أنني سأراه، عرفت أنني سأجد رسائلي. لا أريد قراءتها، خشيت قراءتها، اعتقدت أنني سأنحيها جانبا، ولكنني لاحظت عندئذ أنه ليس خطي؛ فشرعت في قراءة الرسائل. تلك الرسائل لا تخصني، فأنا لم أكتبها. تصفحت كل واحدة منها بسرعة وأنا مرعوبة حتى وقعت عيني على التوقيع المذيلة به الرسائل: باتريشيا، بات، بي. فعاودت قراءتها بعناية رسالة تلو الأخرى:
حبيبي العزيز
لقد تركتني وأنا في قمة السعادة. ذهبت إلى المنتزه بصحبة سامانتا وكان يوما جميلا. أركبتها على الأرجوحة وراقبتها على المزلجة، وجال بخاطري أنني سأحب هذا المنتزه إلى الأبد؛ لأنني ذهبت هناك وأنا سعيدة وبعدما كنت معك.
ناپیژندل شوی مخ