الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
كلمة للمعرب
كلمة ثناء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
كلمة للمعرب
كلمة ثناء
سر الاعتراف
سر الاعتراف
تأليف
ألكسندر ديماس
ترجمة
صالح جودت
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين
حديث - ما هي الرواية؟ - في العرف قصة وضعية. - وكيف بالوضع تكاد تكتسي الخيالات ثوب الحقائق؟ - إذا حسن الوضع وطابقت الحوادث المعقول، وكان تعاقبها على ما سردت عليه النتيجة الطبيعية لما يحتمل وقوعه في ظروفها؛ التبست بالحقائق وأثرت في نفس القارئ تأثير الأمر الواقع؛ فتنفعل نفسه بعوامل العظة والاعتبار وتهتدي إلى الرشد بمثال محسوس. - إذا كان الغرض كما ذكرت، فلم لم يتوخ المؤلفون أخذ مادة قصصهم من حوادث الأيام فيكفون أنفسهم عناء التخيل والاختراع؟ - ذلك ما فعلوه ولو أنهم لم يشعروا به؛ فكل مؤلف لرواية جمع في الحقيقة خلاصة ما شاهده من مجريات الحوادث في قصة وضعية، فلا تكاد تقرأ حادثة في رواية إلا وتجد لها شبيها في حوادث الحياة الحقيقية؛ ولذلك تختلف درجة المؤلف باتساع معلوماته، ودقة ملاحظاته، وكثرة اختباره للأحوال المعاشية.
أما الرواية التي أقدمها لك الآن - أيها القارئ العزيز - فقد كفت مؤلفها عناء التخيل والاختراع، كما تقول؛ فلم يعان إلا استخراجها من بطون التواريخ، ووضعها في القالب الروائي الذي ستراه؛ ليحلو لك تناولها وتطيب تلاوتها، ولم يتكلف - رحمه الله - إضافة شيء أوحته إليه مخيلته الباهرة، بل اكتفى بسرد الحقائق كما هي، وأنعم بها وكفى في جعل العظة أبلغ، والمثال في النفس أوقع.
والرواية الحاضرة تمثل لك شهامة الحب في أجلى مظاهرها، وويلات العشاق وإلى أين تصل بهم، ودرجة اليأس وما تجر إليه، وعذاب الضمير وما يتبعه من نغص العيش وبغض الحياة، وفضيحة الأسرار وما يتوعدها من العقاب، وهي بين هذا وذاك تدلك على قدرة المرأة إذا أرادت، وتفانيها إذا أحبت، ويتخلل حوادثها بيان أخلاق وعادات ووقائع تاريخية جديرة بالتفات الأنظار، وفيها عظة واعتبار، فأتمنى أن تحل لديك - أيها القارئ العزيز - محل القبول، فتنال بذلك خير مأمول، والسلام.
المعرب
صالح جودت
الفصل الأول
الكنوت (وقد أصاب من دعاه القنوط) آلة من آلات التعذيب لدى الروسيين، وهو سوط تجمع فيه عدة سيور غليظة من جلد البقر، تجدل عند أصلها وتترك أطرافها منفصلة عن بعضها، وتجعل في كل طرف أسلاك مفتولة من الحديد، فحيثما وقعت على جسم المجرم سال الدم، فلا تتكرر عليه الضربات حتى يصير جسمه كأنه جرح واحد تنبثق منه الدماء، فتلبسه ثوبا أرجوانيا.
فلا بدع أن رأيت الناس في روسيا وقد اجتمعوا زرافات؛ ليشاهدوا توقيع العقاب بالكنوت على بعض المجرمين، فإنه من المشاهد الأهلية عندهم.
وفي عصاري يوم من أواسط أيام السنة الأولى من القرن التاسع عشر المنصرم، أي في أواخر حكم القيصر بول الأول إمبراطور الروسيا، ما كادت تقرع أجراس الكنائس ببطرسبرج مؤذنة بالساعة الرابعة من المساء حتى اجتمع لفيف من القوم على اختلاف طبقاتهم أمام قصر الجنرال الكونت شرميلوف حكمدار بعض مدن روسيا سابقا، وقد استوقفهم ما رأوه من المعدات لجلد بعض المغضوب عليهم من حاشية الجنرال بالكنوت، ولم يطل انتظار المتفرجين حتى خرج إلى صحن القصر شاب طويل القامة يبلغ الخامسة والعشرين من العمر، مرتد بكسوة ياور، وصدره مزين بالوسامات، فوقف على سلم في صدر المكان يوصل إلى مساكن الجنرال، ثم رفع عينيه إلى نافذة في القصر يرجو أن يرى من خلالها خيال من ينتظر رؤياه، فوجد أستارها مسبلة وأقفالها محكمة، فلما يئس من النظر التفت إلى رجل ذي لحية كثة سوداء واقف على مقربة منه بجوار المكان المعد لسكنى خدمة القصر، وأشار إليه بيده ففتح بابا قريبا منه، وللحال خرج المجرم المعد للعقاب يتبعه جلاده ويحيط بهما عبيد القصر، ويضطرون العبيد عادة لحضور الجلد إرهابا لهم واعتبارا، أما المجرم فكان حلاق الجنرال والجلاد سائق عربته المدعو إيفان (وهو خير من يقوم بمثل هذه المأمورية)، ولم تكن تلك المهنة التي اختص بها إيفان في القصر لتبغض إخوانه فيه؛ فإنهم كانوا يثقون بطيب قلبه وصفاء نيته، وأنه وإن كان مضطرا لاستعمال ذراعيه لإيذائهم بأمر مولاه، إلا أن قلبه يتألم مما تأتيه يداه، ولكن ماذا يسعه عمله؟ لا سيما أنه وباقي الخدم عبيد رق للجنرال يتصرف فيهم كما تشاء إرادته، وكان رأي الخدم العام مجمعا على أن يد إيفان أحن على أجسامهم في كل حال من كل يد سواها؛ لأنه كان يغالط أحيانا عدد الجلدات المحكوم عليهم بها، وإن رأى من المولى على مباشرة الضرب التفاتا وحرصا اجتهد في أن تصل أطراف الكنوت على اللوح الممدد عليه المجرم لأعلى جسمه فيخف بذلك ألم الضرب نوعا. ولقد نفعت إيفان رأفته برفاقه؛ فلما كان ينقلب به الحظ ويمدد يوما على لوح العذاب كان يجد من القائم مكانه بالضرب مراعاة ورأفة، فكانت هذه المعاملة سياجا للمحبة بين خدمة الجنرال وسائق عربته، ولا تتوطد دعائم هذه المحبة ويتم توثيق عراها بكل أنواع المجاملات إلا في الأوقات التي يكلف فيها إيفان بمباشرة مهنته وتنفيذ مهمته. ولكن لما كانت الجلدات الأولى - على كل حال - أشد الضرب إيلاما يغيب معها الرشد ويضل الفكر، كان المضروب لا يتحاشى نوعا من السباب يهديه إلى جلاده حتى إذا تم التعذيب وانصرف كل إلى شئونه، ثم أقبل الليل ومعه الراحة من الأعمال؛ يتبادل الضارب والمضروب كأسا من الخمر يصرفان في صرفها ضغينة النهار ويتناسيان بها سيئات الأقدار.
وكان المغضوب عليه هذه المرة حلاق الجنرال، وهو رجل من عبيده يبلغ الخامسة والثلاثين من العمر، ذو قامة تميل إلى الطول، ولحية شقراء تدل سحنته على أنه رومي الأصل، وتقرأ في عينيه صفات المكر والخديعة، ولو غشتهما مؤقتا علامة الخوف والاضطراب، فأتي به إلى مكان العذاب. فلما اقترب منه رفع عينيه إلى النافذة التي وجه إليها الضابط نظره أول مرة فوجدها مقفلة، ثم التفت إلى جمهور المتفرجين المزدحمين لدى باب القصر، ثم ارتد بصره خاسئا إلى لوح العذاب الممدد أمامه وتولته قشعريرة لما أصعد عليه، فلم يخف ما به على إيفان، حيث اقترب منه، وقال له بصوت ضعيف وهو ينزع عنه قميصه: تشجع يا جريجوار وكن رجلا.
فقال له الحلاق بصوت يذوب رجاء والتماسا: لا تنس ما وعدتني به أيها الصديق الحميم.
فأجابه: ليس في الضربات الأولى يا صاح، فإن ياور الجنرال لنا بالمرصاد، ولكن في الضربات الأخيرة سأبذل الجهد في مغالطة العدد فلا تخف ولا تحزن.
فقال له مكتئبا: ولكن انتبه خصوصا لأطراف الكنوت.
فأجابه: سأفعل ما بوسعي يا جريجوار، فكن مطمئنا.
فقال جريجوار: يا للأسف! لو كانت النافذة ...
ولم يكد يتم كلمته حتى صاح الضابط قائلا: هل تم الاستعداد؟
فأجابه إيفان: نعم يا مولاي، ونحن في انتظار أمر سعادتكم.
فصاح جريجوار مخاطبا الضابط بكل ألقاب التمجيد والتعظيم قائلا: أرجو مولاي الكولونل أن تتكرم مراحم سعادته بالتمهل قليلا، إني أرى نافذة سيدتي فاننكا تفتح.
فرفع الضابط بصره رغما عنه إلى النافذة التي وجهه إليها أولا، فوجدها كما رآها مقفلة محكمة، فالتفت إلى العبد وقال: لقد خدعت نفسك يا مسكين، وبالتالي فماذا تفيدك مولاتك الساعة؟
فقال المسكين: عفوا يا مولاي فإن حضرتكم ... سعادتكم تعلمون بأن ما أصابني كان بإيعاز من سعادتها، وأن سعادتكم ... بل سعادتها ربما تعفو عن ذنب خادم مسكين مثلي.
فصاح الضابط بصوت كالرعد قائلا: كفى، نفذ ما أمرت به يا إيفان.
فقال إيفان: حالا يا مولاي.
ثم التفت إلى جريجوار وقال: هيا أيها الصديق، فقد أزف الوقت.
فتنهد المسكين ورفع عينيه إلى النافذة، ولما وجدها على حالها اضطر مرغما أن يرقد على اللوح المشئوم، وحينذاك اقترب عبدان كان إيفان قد اتخذهما مساعدين له، فربطا يدي جريجوار من الرسغ إلى وتدين مثبتين على مسافة من اللوح، ورجليه إلى وتدين مثلهما من خلفه، ثم أدخلا رأسه في طوق من الخشب، ولما رأى الضابط أن لم يبق ثمة موجب للتأخير، وأن النافذة لم تزل مقفلة، أشار إلى رجاله قائلا: هيا.
فسأله إيفان صبرا حتى يفك عقدة طرأت في الكنوت مؤملا أن تنفتح في تلك الأثناء النافذة، ويأتي ملك الرحمة بالعفو والسماح، فانتظر الضابط ولبث إيفان يتظاهر بفك العقدة دقائق معدودات حتى ضجر المتفرجون ونبه ضجيجهم الضابط وكان مشغولا عن نفسه، فتنبه ونظر إلى النافذة ثم إلى إيفان، وصاح به بصوت آمر لا يود لأمره ردا ولا تأخيرا قائلا: أما انتهيت؟ نفذ الأمر بلا إبطاء.
فلم يسع الجلاد إلا أن يصدع بالأمر، فتهيأ للتنفيذ وتقهقر خطوتين إلى الوراء، ثم عاد إلى مكانه، وهب على أخمصيه رافعا الكنوت فوق رأسه - حيث أدارها في الفضاء مرارا - ثم نزل بها على جسم المجرم فجلده جلدة التفت بها الكنوت حول الجسم التفاف الأفعى، غير أن طرفها الحديدي لم يمسه، بل أصاب اللوح الخشبي، ومع ذلك صرخ الحلاق صراخا دوت له الآفاق، وقال إيفان: واحد.
وعند ذلك رفع الضابط رأسه إلى النافذة فوجدها لم تزل مقفلة، فأدار وجهه بسرعة نحو المضروب وكرر قول الجلاد: واحد.
ثم خلص الجلاد الكنوت عن جسم جريجوار؛ فظهر مكان وقعها منه خطوطا زرقاء كالنيلة، ثم هب إيفان على أخمصيه ثانيا، وجلده جلدة كالأولى متحاشيا أن تصل ألسنة الكنوت إلى جسم المضروب، فصرخ جريجوار ثانيا، وقال إيفان: اثنان.
وعند ذلك ظهر الدم وراء جلد المضروب، وفي الجلدة الثالثة ظهرت على البشرة بعض نقط منه، وفي الرابعة سال الدم، وفي الخامسة أطارت الكنوت جزءا من الدم فأصاب وجه الضابط، فاشتغل بمسحه بمنديل واغتنم إيفان فرصة انشغاله؛ فبدلا أن يقول في الجلدة التالية: ستة، قال: سبعة، ولم ينتبه إليه الضابط، وفي الجلدة التاسعة أوقف إيفان الضرب محتجا بوجوب تغيير الكنوت، ومؤملا أن تأتي الرحمة، ولما عاد إلى موقفه وابتدأ في الضرب عد الجلدة الحادية عشرة مكان العاشرة.
وفي ذلك الحين فتحت نافذة مقابلة للنافذة التي كانت محط الآمال، وظهر منها رجل يختلف سنه بين الخامسة والأربعين والخمسين مرتد بكسوة الجنرالية، وأشار إلى القوم قائلا: كفى، أحسنتم.
ثم قفل النافذة، وعند فتح النافذة كان الضابط قد أدار وجهه نحوها، والتزم الوقفة الحربية رافعا يده إلى رأسه؛ لأداء السلام العسكري، ولما قفلت النافذة؛ كرر قول الجنرال: كفى. فأوقف إيفان يده عن الضرب والتفت إلى جريجوار قائلا - وهو يطوي سيور الكنوت: اشكر يا جريجوار سعادة الجنرال، فإنه عفا عن جلدتين.
ثم مال إلى المضروب؛ ليفك قيوده، وهمس في أذنيه قائلا: ومع الجلدتين اللتين غالطتهم فيهما قد كفاك الله شر أربع جلدات.
ثم التفت إلى مساعديه قائلا: هلما وفكا قيود يده الأخرى ورجليه.
ولم يكن جريجوار في حالة تسمح له بالنطق فكيف بالشكران، فإنه أغمي عليه من ألم الضرب على رأفته، فأتى عبدان وحملاه على أذرعهما، وسارا به إلى بيت الخدم يتبعهما إيفان.
ولما وصلا إليه فتح المضروب عينيه، فلمح الضابط ينظر إليه متألما مما أصابه، فصاح به قائلا: سيدي فيدور، أرجو سعادتكم أن تنوبوا عني في شكر سعادة مولانا الجنرال، أما سيدتي فاننكا (وهنا انخفض صوته) فسأقدم لها شكري بنفسي.
فصاح به الضابط مغضبا، لما رآه كأنه يتهدد اسما عزيزا لديه: ماذا تصر بين أسنانك؟
فقال جريجوار: لا شيء يا مولاي لا شيء، غير أني أقول: إن جريجوار المسكين يشكر سعادتكم على الشرف الزائد الذي أوليتموه إياه بحضوركم ساعة جلده.
فقال الضابط وهو لا يصدق أن ذلك ما كان يتشدق به الحلاق: حسنا، اذهب واسترح في مكانك.
ثم التفت إلى إيفان قائلا: واسقه يا إيفان كأسا من الخمر، فربما ردت إليه صوابه وعلمته احترام أسياده.
فأشار إيفان بالطاعة، وتبع رفاقه حيث دخلوا، ثم قصد فيدور داخل القصر، وابتدأ الملأ من المتفرجين ينصرفون إلى حال سبيلهم يتذاكرون فيما شهدوه، معجبين بمكر إيفان وكرم الجنرال.
الفصل الثاني
أما وقد عرفنا القارئ العزيز ببعض أبطال روايتنا في الفصل السابق، فقد وجب علينا أن نزيده علما بهم وبمن لم يعلم عنهم شيئا للآن.
أما الجنرال الكونت شرميلوف، فقد كان حاكما لبعض مدن روسيا الشهيرة، ولبث في هذه الوظيفة إلى أن استقدمه القيصر بول الأول إليه بمدينة سان بطرسبرج وقربه منه وخصه برعايته، وكان الجنرال أرمل قد تركت له زوجته ابنة تدعى فاننكا، ورثت عن أمها مالها وجمالها وكبرياءها، وكانت تزعم الأم أنها من سلاسة بعض قواد التتر الشهيرين الذين غزوا الروسيا في القرن الثالث عشر تحت قيادة جنكيز خان، وقد خلفت البنت أمها في هذا الاعتقاد، وزادها تكبرا وإعجابا بنفسها وجودها في وسط رفيع، حيث كان أبوها من ذوي الحكم، ولم تجد حولها إلا كل مسرع في خدمتها وتنفيذ أوامرها، ولا يخفى تأثير مثل هذه التربية على نفس الإنسان، خصوصا إذا كانت النفس قد جبلت على الأنفة وحب التعالي، ولعدم تمكن والد فاننكا من مباشرة تهذيب ابنته عهد بتربيتها إلى معلمات إنكليزيات، فبدلا عن أن يدمثن أخلاقها ويلن عريكتها ساعدن طبيعتها الفطرية الميالة إلى العظمة والكبرياء على النمو، بفضل ما جبلن عليه من حب الذات المعروف في قومهن.
وقد كانت فاننكا ميالة بحكم الطبع إلى معرفة ما تمتاز به الأشراف من المعارف، وطرق المعاشرة العالية؛ فلم يغب عنها حفظ أنساب العائلات الشهيرة في قومها والألقاب الرسمية التي يمتاز بها كل شريف وعظيم، وهو علم ليس من السهل الإحاطة به في بلاد استبدادية مثل الروسيا، تكثر فيها المميزات ولا تحصى الألقاب والامتيازات، فلم تهمل فاننكا يوما أن تنادي شخصا بغير اللقب الممنوح له رسميا في الهيئة الاجتماعية الروسية، وكانت تحتقر كل من كانت ألقابه أقل من «السمو» و«السعادة»، أما الخدمة والعبيد فأظن أن القارئ لا يغيب عنه أنها كانت لا تشعر بأنهم من العالم في شيء، فغاية ما كانت تعتبرهم أنهم حيوانات بلحى (أغلب الروسيين لا يحلقون لحاهم)، بل هم أحط عندها من فرسها وكلبها العزيزين لديها. وقد كانت فاننكا - كباقي سيدات بلادها رفيعات المقام - متقنة لفن الموسيقى، وتتكلم أغلب لغات أوروبا الشهيرة كلغة أجدادها.
أما ملامح وجهها فكانت أبلغ ما يمثل عواطفها؛ فهي جميلة جمالا يخالطه هيبة وكبرياء، ذات عيون واسعة سوداء، وأنف مستقيم، وفم دقيق مرفوع الشفتين يمثل العظمة مجسمة، ولم تكن فاننكا في عين قريناتها والكبيرات عنها مقاما سوى فتاة عادية الجمال لا تختلف عنهن شيئا مذكورا، أما في عيون من دونها؛ فكانت كدمية من دمى آلهة اليونان القدماء، ترتد عنها الأبصار خاشعة، وهي في عظمتها لا تكاد توليهم منها التفاتة.
ولما بلغت فاننكا السابعة عشرة طلبت معلمتها الإنكليزية الاستقالة؛ لتأثير برد روسيا على صحتها، فمنحتها مزودة بالشكر والمنة، وبقيت فاننكا وحيدة ليس لها في العالم إلا حب والدها وحنوه الأعمى؛ إذ يراها خلاصة الكمال البشري خلقا وخلقا.
وفي ذات يوم ورد للجنرال شرميلوف كتاب من صديق له من الصبا يدعى الكونت روميلوف، كتبه إليه وهو على سرير وفاته، وكان ذلك الصديق قد اعتزل خدمة الحكومة إثر خلاف وقع بينه وبين بوتمكين رجل روسيا الشهير، ثم انقطع في منزله بعيدا عن بطرسبرج ومشاغبها بمئات من الفراسخ، حيث قضى بقية أيامه حزينا على حظه، وعلى الأخص لتركه ولده الوحيد فيدور في العالم بلا معين ولا نصير، فكتب وهو في مرضه الأخير إلى صديقه الجنرال شرميلوف يوصيه بابنه فيدور خيرا، ويرجوه باسم الصداقة القديمة العهد أن يسعى لدى القيصر لما له عنده من المكانة في تعيين ابنه ضابطا ببعض الفرق حفظا لمستقبله من الضياع، فأسرع الجنرال شرميلوف بإرسال جوابه إلى صديقه يبلغه فيه أنه مستعد لخدمته جهد طاقته، وأن ابنه سيجد منه أبا ثانيا حريصا على سعادته.
ولم يقدر لروميلوف أن يقرأ الجواب؛ إذ ودع العالم قبل وصوله، فاستلمه ابنه فيدور، ولما علم ما فيه قصد بطرسبرج يحمل نعي أبيه لصديقه، ويلتمس منه إنجاز وعده المبرور، وكان الكونت قبل وصول فيدور إلى المدينة قد سعى لدى القيصر، وتحصل له على رتبة ملازم ثان بفرقة سيمونوسكي، بحيث استلم فيدور مهام وظيفته في اليوم التالي لوصوله.
ولم يلبث فيدور في منزل الجنرال إلا ريثما قضى ليلته، وتأهب لمهمته الجديدة، ولكنه رأى فاننكا فحل حبها من قلبه محلا وجده خاليا فتمكن منه، وقد ساعد على تمكن هذا الحب من قلب الفتى ما حباه به الجنرال من المنن، ثم ما صادفه من هيبة الفتاة التي استقبلته عندما قدم لها استقبال ملكة لبعض رعاياها، ولم يكن الفتور الذي قابلته به إلا ليزيد في قدرها لديه، فكان أول وآخر تذكار بقي أثره في قلب فيدور من بطرسبرج صورة ملائكية أوحت إليه الحب من سماء الجمال، فصار من المؤمنين برسول الغرام، ومن أخلص الأنصار له والمجاهدين فيه.
أما فاننكا فلم تكد تشعر بوجود فيدور، وبالتالي فماذا يهمها من ملازم ثان في بعض الفرق لا اسم له يمجد كاسم أبيها، ولا مستقبل ينتظر فتنفتح له الآمال ولا ثروة تحل محل هذا وذاك؟ ففاننكا من سماء كبريائها كانت تؤمل إذا ألقت بنظرها إلى العالم أن تصير زوجة لأمير من أمراء المملكة يجعلها سيدة من سيدات روسيا، إن لم يتح لها حظها تحقيق أمل أسمى من ذلك نترك لقصص ألف ليلة وليلة وأمثالها عهدة وصفه وبيانه.
وبعد أن مضت على المقابلة الأولى بضعة أيام رجع فيدور من المعسكر؛ ليودع الجنرال قبل الرحيل إلى الحرب؛ لانضمام فرقته إلى الجيوش المسافرة إلى إيتاليا تحت إمرة سوفاروف القائد العام لجيوش الروسيا. وقد قال فيدور للجنرال ساعة وداعه: إنني راحل يا مولاي، فإما موت في سبيل الشرف، وإما بلوغ لأمل يجعلني جديرا بالعناية والحماية التي أوليتني إياهما.
ولما تمثل فيدور أمام فاننكا هذه المرة ساءلت نفسها عما إذا كان هذا الفتى هو الذي قدم لها من أيام ولم تمنن عليه بالتفاتة، أم هو غيره وقد تجلى أمامها الآن في ملبسه الحربي كأحد أبطال القدماء وقد أثر فيها جمال منظره وفصاحة لسانه، وقد كانت نتيجة إعجابها به هذه المرة أن تنازلت فقدمت له يدها للوداع لما دعاها والدها للسلام عليه، وكان ذلك فوق ما يؤمل فيدور، فجثا على ركبته خاشعا أمامها كخشوعه لملكة ذات ملك وتاج، وأخذ يدها بين يديه المرتجفتين فرفعها إلى شفتيه، ولم يكد يقبلها إلا لمسا، فأحست الفتاة بحر أنفاسه فاعتراها لقبلته هزة انتفض لها جسمها وخفق قلبها وتوردت وجنتاها، فلما أدركت حرج موقفها سحبت يدها من يدي الفتى فجأة؛ حتى خشي أن يكون وداعه قد جرح إحساسها، فلبث في مكانه صامتا وعيناه مرفوعتان إليها ترجوان العفو والسماح، فطمنت خاطره بابتسامة أحيت ميت آماله؛ فهب واقفا وقد استولى عليه فرح عظيم لا يدري من أين أتى وكيف أتى، إنما أدرك أمرا واحدا؛ وهو أنه سعيد ولو كان على وشك أن يفارق مالكة فؤاده.
وقد سافر فيدور وقلبه مملوء بالآمال، والأمل عماد الحياة، فكان يرى المستقبل على وعورة مسالكه غايته الغبطة والسعادة على أي حال، فإن قدر له أن يموت مات شريفا في ساحة القتال، ويكفيه وهو في آخر أنفاسه أن تفتكر به فاننكا وتترحم عليه، وإن قدر له أن يعيش نال درجات الفوز والنصر، فتتولاه السعادة برعايتها وأنعم بها من ولي كريم.
الفصل الثالث
في الزمن الذي وقعت فيه حوادث روايتنا كانت فرنسا ضامة لسلطتها ما وراء جبال الألب من البلاد السويسرية والإيتالية التي افتتحها نابليون بونابرت الشهير، وكانت جنودها موزعة على تلك البلاد؛ لحمايتها ورد المطامع عنها، ولما رأت بعض دول أوروبا اتساع سلطان فرنسا أرادت مناوأتها؛ فانضمت الروسيا - وهي حديثة العهد في مضمار السياسة - إلى النمسا، واتحدت الدولتان على مقاومة الجنود الفرنساوية ومناصبتها العداء، فجردت الروسيا جيشا عهدت بقيادته إلى الفلدماريشال سوفاروف الشهير (وكان فيدور من ضباط هذه التجريدة كما سبق التلميح في الفصل السابق) وأرسلته للحاق بجيش النمسا في ميدان الحرب، فسافر الجيش الروسي مخترقا الأراضي الألمانية فأشرف على إيتاليا بعد أن جاز جبال التيرول، ثم دخل مدينة فيرون في 14 أبريل سنة 1799، وحينذاك ضم سوفاروف جيشه إلى جيش الجنرال ميلاس النمساوي وتولى قيادة الجيشين.
وفي الغد اقترح عليه أحد القواد أن يرسل الطلائع لاستكشاف العدو، فنظر إليه سوفاروف متعجبا، وقال: إني لا أدري واسطة لاستكشاف العدو أبسط من أن أسير إليه توا وأهاجمه.
وتلك كانت خطة سوفاروف الحربية، وبها انتصر على الجيش التركي في واقعتي فولكشاني وإسماعيلوف، وبها افتتح بولونيا بعد تجريدة لبثت ثمانية أيام، وبها استولى على براجا في أقل من أربع ساعات، حتى أعجبت كاترينة قيصرة الروسيا بإقدامه؛ فأرسلت إليه تاجا من أغصان السنديان محلى بالأحجار الكريمة، تبلغ قيمته ستمائة ألف روبل روسية، وأهدته صولجان القيادة من الذهب الخالص مرصعا بالماس، وقلدته رتبة الفلدماريشالية العظمى (وهي رئاسة الجيوش العامة) ومنحته أن يسمي فرقة في الجيش باسمه إلى ما شاء الله، ولما رجع من الحرب أقطعته ضياعا واسعة بها ثمانية آلاف من العبيد لخدمة أرضها، ولم يكن سوفاروف مع كل ذلك ابن قائد أو أمير، بل كان أبوه ضابطا بسيطا في الجيش الروسي، ولم ينل ما نال إلا بجده واجتهاده، فما أجمله مثالا لمن يريد التشبه بأعاظم الرجال في جليل الأعمال! ولقد نظر فيدور لرئيسه الأعظم فوجده القدوة المثلى التي يجب عليه السير على خطتها، ومثال الغاية التي ترمي آماله إليها، فأصبح وأمسى لا يفكر إلا في أنه يبلغ يوما مبلغ ذلك القائد العظيم، وما ذلك على الراغب العامل بعزيز، فيكون من فيدور سوفاروف القرن التاسع عشر، وخير خلف لخير سلف.
وكان سوفاروف قوي العزيمة ثابت الرأي مقداما جسورا، فساعدته هذه الصفات على مطاردة جيوش الجمهورية الفرنساوية، وكانت تحت قيادة الجنرال شرر، وكان شرر هذا متزعزعا في الرأي لا يثبت على فكر، فكان من نصيبه التقهقر دائما أمام عدوه، لا سيما وأن جيشه لا يبلغ الثلاثين ألفا، على أن جيش الروسيا والنمسا كان ينوف عن مائة ألف مقاتل.
وقد بدأ سوفاروف العدو كعادته بضربة كادت تقضي عليه، فإنه حاصر مدينة برشيا في العشرين من أبريل، فحاولت المدينة الدفاع فلم تكن إلا نصف ساعة أمطرت فيها القنابل حتى قضي الأمر وافتتحت أبواب المدينة عنوة، ودخلتها فرقة من الجيش وفي مقدمتها أورطة فيدور، فطاردت حاميتها فلجأت الحامية - وكانوا ألفا ومائتي رجل - إلى قلعتها وامتنعوا فيها، ولكن لما رأى قائد الحامية - وكان فرنساويا يدعى بوكريه - أن العدو لا يكل عن متابعته وقد تسلق جدران القلعة وراءه؛ طلب الأمان وسلم السلاح فأخذ أسيرا هو ومن معه.
وبعد هذه النصرة عبر سوفاروف بجيشه نهر الأوليو، وقسم جنوده فرقا حاصرت المدائن، وتحصنت في المواقع الحربية المنيعة، فانتشر بذلك الجيش على خط طوله ثمانية عشر فرسخا من الأرض قد شغلها برجله وخيله.
أما شرر فقد عجز عن المقاومة أمام هذه القوى الهائلة، فركن إلى القهقرى، وهدم في طريقه كل الجسور التي كان أقامها على نهر الأدا؛ حتى لا يتحمل أعباء الدفاع عنها، ثم نقل معسكره العام إلى ميلانو، ولبث فيها ينتظر رد جواب أرسله إلى حكومة الديركتوار الفرنساوية يقدم فيه استعفاءه، ويطلب من يخلفه على الجيش، ولما طال عليه الانتظار، ورأى أن جيوش سوفاروف لا تزال تحث وراءه السير؛ خاف عاقبة الأمر، فعهد بقيادة الجيش إلى من توسم فيه الكفاءة من ضباطه، فكانت القيادة من نصيب مورو، ولما بلغ الأمر الجيش هلل له واستبشر، ولما تجلى عليه قائده الجديد هتفت الجنود صائحة: «ليعش مورو، ليعش مخلص جيش إيتاليا»، فأثر هذا الإخلاص وتلك الحمية في نفس مورو حتى ألهياه حينا عن خطر الموقف الذي أصبح فيه الجيش، وكان العدو قد حصره من الجناحين والأمام، ولا بد من مقاومته من جيش يبلغ عدد جيشه؛ لينتشر أمامه صفوفا موازية لصفوفه على مسافة عشرين فرسخا على الأقل، وجيش الفرنساويين دون ذلك بكثير.
فلم يجد مورو طريقة أسلم من مقاومة العدو بمنعه عن عبور نهر الأدا بأي واسطة كانت؛ حتى تصل إليه النجدة التي ينتظر ورودها، فقام يتولى الدفاع عن قنطرة كسانو، وهي المعبر الوحيد للنهر؛ فحصنها وأقام على رأسها الطوبجية، وعززها بالنقط الأمامية المحصنة.
وكان مورو بصيرا فلما رتب أمره كما ذكرنا؛ حفظ لنفسه خط الرجعى، ومهد لجيشه سبيل الوصول إلى جبال الأبنين أو شواطئ جنوة إن لحق به الانكسار.
ولم يكد يفرغ مورو من استعداداته الحربية حتى بلغه خبر دخول سوفاروف مدينة تريفليو وتسليم مدينة برغامة وقصرها، فأقام في مكانه ينتظر العدو حتى لاحت طلائعه في اليوم الخامس والعشرين من أبريل.
ولما وصل سوفاروف عسكر بجنوده على مرمى المدفع من النقط الأمامية الفرنساوية، وكانت جيوشه ضعف جيوش الفرنساويين.
وفي المساء أرسل فيدور خطابا إلى الجنرال شرميلوف يقول فيه: «صرنا أمام الفرنساويين وجها لوجه، وستكون غدا واقعة هائلة أتعشم ألا تغرب شمسها إلا وأنا ملازم أول أو صريع بين القتلى.»
وفي الغد سمع دوي المدافع من جناح الجيشين، حيث اشتبك بينهما القتال، ولكن دحر جناح الفرنساويين الأيمن، وصدت غارة الروسيين عن جناحه الأيسر، وأقبل الليل بظلامه؛ فاغتنم فرصته الروسيون فأصلحوا القنطرة التي كان هدمها الفرنساويون، وأقاموا أخرى على فرسخين منها، وقد تم إنشاء القنطرتين دون أن تشعر به النقط الفرنساوية.
وفي الساعة الرابعة من الصباح عبر النهر قسم عظيم من جيش سوفاروف، فباغت النقط الفرنساوية التي صادفها في طريقه، والسريات التي أتت لتعزز قلب الجيش الفرنساوي، واشتبك بين الفريقين قتال عنيف، أظهر فيه رجال بونابرت ما يشهد بشجاعتهم وشهامتهم، إلا أنهم اضطروا إلى التقهقر لكثرة عدد العدو، وبينما هم في حال من الضيق شديد إذ سمعوا أصواتا آتية من خلفهم، وكانت تلك نجدة أرسلها مورو لتدرك الفرق التي هاجمها الروسيون، فأتت والقوم في أشد الحاجة إليها.
ولما اعتزت جنود الفرنساويين بهذه النجدة هاجمت الأعداء واضطرتهم إلى التقهقر، ودام الفريقان في أخذ ورد، حتى وافت نجدة من النمساويين؛ فاضطر الفرنساويون إلى الانسحاب لقرية بوتزو، ولبثوا هناك ينتظرون قدوم العدو؛ فوافاهم بعد قليل، وانحصر القتال في بوتزو؛ فأخذت القرية واستردت ثلاث مرات متوالية، وفي الرابعة كل الفرنساويون لتكاثر العدو عليهم؛ فاضطروا أن يخلوها. وكان بين الفرنساويين قائد يدعى الجنرال بيكر لم تسمح له نفسه بالقهقرى؛ فلبث مع بعض رجاله يقاتل الأعداء؛ حتى خلت من حوله أعوانه صرعى، فاضطر أن يسلم نفسه أسيرا لبعض ضباط الروسيين. أما الفرنساويون المنهزمون من الفرق المباغتة، فقد فرقت بينهم فرسان النمساويين؛ فقصدت كل فرقة قرية تحصنت فيها.
وفي تلك الأثناء انحصر القتال أمام قنطرة كسانو؛ فهاجم ميلاس ومعه 20 ألف رجل الاستحكامات الأمامية للقنطرة، وما زال يهاجمها برجاله ويرد عنها ثلاث مرات فقد منه فيها ألف وخمسمائة مقاتل، وهو كل مرة تنجده فرقة من أتباعه؛ حتى اضطر الفرنساويون في المرة الرابعة أن ينحازوا إلى الاستحكامات الداخلية المقامة على رأس القنطرة نفسها، وكان مورو قائد الدفاع بذاته، فانتشب هناك قتال تشيب له الأطفال، فكانت القنابل تطيح الرءوس والموت يحصد النفوس، ولا زالت النجدات تتوالى على النمساويين، وقد اتخذوا من جثث رفاقهم سلما ارتقوا عليه ذروة الاستحكامات، حتى رأى مورو أن الدفاع لا يجديه نفعا، فأمر بالقهقرى، ولبث بنفسه فوق القنطرة؛ ليحفظ لجيشه سبيل المرور، وكانت معه فرقة من الفرسان لم يبق منها حوله بعد نصف ساعة سوى 120 نفرا، وكان فيمن قتل حوله ثلاثة من أركان حربه العظام، ولما تمكن الجيش من العبور بلا طارئ؛ تبعه مورو، وما كاد أن يصل الضفة الثانية من النهر حتى ظهر النمساويون في طرف القنطرة من الضفة الأولى وأسرعوا في لحاقه، ولكن لم تكن إلا طرفة عين حتى سمع الفريقان صوتا غلب دوي المدافع وشاهدا القنطرة قد انقضت بمن عليها من فرق النمساويين.
وفي ذلك الحين رأى مورو الفرق التي كانت بعيدة عنه قد آبت منكسرة تتبعها الأعداء، فضمها إليه وأدار وجهه للعدو يكافحه، وتمكن ميلاس في تلك الفترة من إعادة بناء القنطرة؛ فعبر عليها بجموعه؛ فانحصر مورو من جناحيه وأمامه بجيوش تعادل عدا ثلاثة أمثال جيوشه، ولما رأى ضباطه ذلك التمسوا منه أن يأمر بالقهقرى؛ لأن حفظ إيتاليا متعلق بسلامته، فقاوم أفكارهم مورو حينا من الزمن، وكان مدركا جسامة الخطر الذي وقع فيه وعظم الخسارة التي تنجم عن انهزامه، فرأى أن الموت خير له من البقاء بعد الهزيمة، وما زال يكافح ليحفظ لباقي جيشه خط الرجعى، حتى تساقطت من حوله رجاله صرعى في ميدان الوغى، ولبث القتال ثلاث ساعات أتت فيها مؤخرة الجيش الفرنساوي بالمدهشات، ولما رأى ميلاس أن معظم جيش العدو قد أفلت من يده، وأن رجاله قد ملت القتال أمر بالكف عن الحرب، وكانت الجيوش الفرنساوية قد تمت هزيمتها بعد أن فقد 2500 رجل و120 مدفعا.
وفي المساء دعا سوفاروف الجنرال بيكر الأسير إلى تناول الطعام معه وسأله عمن أسره، فأجاب أنه ضابط حديث السن من الفرقة الأولى التي دخلت بوتزو، فتحرى القائد العام عن ذلك الضابط فعلم أنه فيدور روميلوف، حيث كان قادما ليقدم لرئيسه سيف الجنرال المأسور، فدعاه سوفاروف إلى الطعام معه وأسيره، وفي الغد كتب فيدور إلى الجنرال شرميلوف يقول: «لقد قمت بوعدي، وصرت ملازما أول، وقد التمس لي الفلدماريشال سوفاروف من جلالة القيصر رتبة سان فلاديمير.»
وفي اليوم الثامن والعشرين من أبريل دخل سوفاروف مدينة ميلانو بعد أن انسحب منها مورو إلى ما وراء نهر التيزان، ثم لصق سوفاروف على جدران المدينة الخطبة الآتية ترجمة نصها:
قد أقبل جيش الإمبراطور الرسولي والقدسي إلى هنا، وما غرضه من الحرب إلا تأييد سلطة الدين ورؤسائه في إيتاليا، ورد حكومتها القديمة إليها.
فاتحدوا معنا - أيها الشعوب - باسم الرب والدين؛ لأننا حضرنا بجيش من ميلانو وجيش من بليزنسه لخلاصكم.
وقد وقعت بعد ذلك جملة وقائع كان سوفاروف فيها المنتصر، ولكنها أضعفت جيوشه وأنهكت قواها، وبينما القائد الروسي مستعد لمتابعة السير حسب الأوامر التي لديه إذ وافاه خطاب من المجلس الأعلى بفينا يقول: إن الدول المتحالفة قررت الإغارة على أرض فرنسا، ورسمت لكل قائد خطة سيره، وهي تأمر سوفاروف أن يقصد فرنسا عن طريق سويسرا. وكان مع سوفاروف 30 ألف مقاتل روسي؛ فانضم إليه 30 ألفا أخرى من الجيش الاحتياطي تحت قيادة كوساكوف، ونحو 30 ألفا من النمساويين تحت قيادة الجنرال هوتز، ونحو 6 آلاف من مهاجري الفرنساويين الثائرين على حكومتهم تحت قيادة البرنس ده كوندي، فبلغ جيش سوفاروف بذلك نحو خمسة وتسعين ألف مقاتل.
وقد أصيب فيدور بجرح في إحدى الوقائع، فأنعم عليه جزاء شجاعته بوسام آخر، ورقي إلى رتبة يوزباشي، فعجل السرور شفاءه حتى تمكن من اللحاق بالجيش في 13 سبتمبر لما تحرك قاصدا جبال سويسرا.
الفصل الرابع
كان جيش الروسيين ومحالفيهم بخير ما دام في سهول إيتاليا الجميلة تحت ظل سمائها الصافية الزمردية، فلما تركت الجنود تلك السهول الخصيبة والبلاد الرحيبة، وأمت الجبال والمضايق فتجلت أمامها القمم الشامخة متوجة بالثلوج الأبدية، خمدت حميتها وضعفت عزيمتها واستولى على أفئدتها الخوف من مستقبل مملوء بالمخاطر والوحشة، فتآمرت الجنود فيما بينها على العصيان، ولم تمض برهة حتى أجمعت الصفوف على القهقرى، ووقفت طليعة الجيش مصرحة بأنها لا تقوى على المسير، ولا تتقدم خطوة إلى الأمام، وكان فيدور قائد سرية في الطليعة؛ فبذل جهده في نصحها والتماس ردها إلى الطاعة، وسار في مقدمتها؛ ليشجعها على المسير، فألقى جنوده أسلحتهم على الأرض ورقدوا بجانبها. وفي تلك الساعة طرقت المسامع غوغاء مقبلة من مؤخر الجيش، وإذا هي أصوات الجنود موجهة بالتضجر والتأفف إلى الجنرال سوفاروف، وقد تقدم بنفسه ليرى أسباب الخلاف، فلما وصل إلى الطليعة ارتفع ضجيج الجنود، وانقلب تأففهم صخبا وسبابا، فقام فيهم سوفاروف خطيبا، وحاول استمالتهم إليه بقوة بيانه التي طالما أتت بالمدهشات إبان المعارك، فتغلبت أصوات الجنود على صوته وارتفع من جميع أركان الجيش صوت يقول: «القهقرى، القهقرى.» فأحضر سوفاروف لديه من رآهم أشد تمردا في الجنود، وأمر بضربهم على مشهد من الجيش، فلم تكبح تلك الوسيلة جماح الثائرين وارتفع الضجيج، فرأى سوفاروف أنه إن لم يلجأ إلى واسطة قوية المفعول تنصره على جنوده؛ ذهبت آماله أدراج الرياح وآب بالخسران بعد أن كاد يطرق باب النجاح، فتقدم نحو فيدور وأمره بصوت رهيب قائلا: أيها اليوزباشي، دع هؤلاء الجبناء جانبا، وخذ ثمانية من صف الضباط واصنع هنا حفرة في الأرض.
فنظر فيدور إلى الجنرال مندهشا كأنه يسأله سبب هذا الأمر الغريب، فقال له سوفاروف: افعل ما أمرتك به.
فلم يسع فيدور إلا الطاعة، وابتدأ صف الضباط الثمانية في العمل، فلم تمض عشر دقائق حتى تم إعداد الحفرة، وقد بلغ العجب من الجيش أقصاه، واجتمعت الجنود نصف دائرة حول القائد العام منتشرة على سفوح الجبال ومنحدراتها؛ لترى خاتمة هذا الفصل العجيب، وعندئذ ترجل سوفاروف عن جواده وأمسك بحسامه فقصمه وألقاه في الحفرة، ثم مزق الرمانات عن أكتافه فألقاها مع حسامه، ثم انتزع وساماته عن صدره فأردفها بها، ولما تجرد كذلك عن شاراته وملابسه نزل إلى الحفرة فتمدد فيها، وصاح بأعلى صوته قائلا: أهيلوا علي التراب ... واتركوا هنا قائدكم، فلستم بأبنائي ولست بأبيكم، ولخير لي أن أموت.
فدوت هذه الكلمات في الفضاء، ورددها الصدى بين الجبال، ولم تبق أذن في الجيش لم تسمعها، فاندفعت فرسان الروسيين نحو الحفرة والدموع ملء محاجرهم، فرفعوا قائدهم على أذرعهم يلتمسون عفوه ورضاه، ويطلبون منه أن يقودهم إلى العدو أيا كان وأنى كان، فصاح بهم سوفاروف قائلا: الحمد لله، الآن عرفت أبنائي، فهيا بنا نحو العدو، هيا بنا نحو العدو.
فقابلت الجنود كلماته هذه المرة بالتهليل والهتاف، وبينما هو يضع ثيابه إذ اقترب منه المتمردون الذين أمر بضربهم أقبلوا يزحفون على الأرض ليقبلوا قدميه، ويسألوه العفو والسماح فصفح عنهم.
ولما أتم سوفاروف وضع ملابسه وتقلد ثانيا وساماته وشاراته اعتلى صهوة جواده. وسار يتبعه الجيش وقد آلت الجنود على نفسها أن تكافح حتى تموت دون أن تترك أباها المحبوب.
الفصل الخامس
تقدم سوفاروف وجيوشه غازيا مدينة إيرولو، وكأن السعد الذي كان ملازما له في سهول إيتاليا رأى الطريق شاقة عليه ففارقه على جبال سويسرا؛ إذ لبث 3 آلاف من فرسان الروسيين يقاومون 600 من الفرنساويين تحت أسوار المدينة المذكورة، فلم يتمكنوا من الظهور عليهم وهاجمهم الليل على غير طائل، ولما أشرق الصباح سير سوفاروف جموعه كلها لاستخلاص المدينة من قبضة هؤلاء الأبطال، ولكن قاومته عناصر الطبيعة فاسود وجه السماء وأرسلت إليه الرياح مطرا من البرد رفيعا كالحصى يدمي الوجوه، فاغتنم الفرنساويون الفرصة فأخلوا المدينة أمام هذه القوى العديدة، وذهبوا ليلجئوا إلى مكان حصين، فاحتلوا أعالي هضبات الفركة وجرسمال، وتم بذلك الانسحاب استيلاء الروسيين على جبل سان جوتار.
وقد علم سوفاروف أن المكان ليس بأمين؛ فلا يكاد يبرحه حتى يحتله أعداؤه، ولكنه رجل تعود الإقدام، والإقدام يستلزم التقدم، فترك - غير مبال - جبل سان جوتار وسار فافتتح أندرمات، واخترق مضيق الأوري، حتى إذا وصل إلى مضايق «كبري الشيطان» وجد عندها ألفا وخمسمائة من الفرنساويين تحت قيادة لكورب تعترض المجاز، فاشتبك القتال بين الفريقين، ولحصانة مركز الفرنساويين تمكنوا وهم ألف وخمسمائة من صد الروسيين وهم ثلاثون ألفا ثلاثة أيام متواليات، فزمجر سوفاروف وأرعد، وسخط على الأيام ورماها بنقض الزمام، وفي اليوم الرابع من هذا الموقف الحرج أتاه نبأ زاد الطين بلة؛ إذ علم أن أحد قواده - وهو الجنرال كورساكوف، وكان أرسله أمامه ليلحقه بعد قليل - قد هزمته جيوش موليتور الفرنساوي، فاضطر سوفاروف أن يغير خطته ويسرع لنجدة كورساكوف، فأرسل إليه كتابا يقول فيه:
أنا طائر لإصلاح غلطاتك، فاثبت مكانك وقاوم مقاومة الجبال التي لا تتزعزع، وإن رأسك رهين كل خطوة ترجعها إلى الوراء.
ثم أرسل إلى باقي قواده المتفرقين يأمرهم بأن يوافوه في وادي جلاريس، حيث عزم على حصر موليتور فيه بين نارين.
وكان سوفاروف مطمئنا لتلك الخطة واضعا فيها كل آماله وعلى يقين من نجاحها، فلما وصل إلى هضبات كلون تال المشرفة على وادي جلاريس أنفذ رسولا إلى موليتور يدعوه للتسليم، قائلا له أن لا سبيل إلى الدفاع، وقد أحدقت به الجيوش من كل جانب، فأرسل إليه موليتور يخبره أن قواده أخلفوا الميعاد، ولن يوافوه في الملتقى المعهود؛ لأنه حطم جيوشهم الأول بعد الآخر، ويزيده علما بأن رفيقه مسينا الفرنساوي آت عما قريب عن طريق موتو فيصبح (أي سوفاروف) في الموقف الذي ظن أن يجده فيه بين نارين كما يقول، فهو ينصحه الآن بوجوب التسليم.
ولما بلغ سوفاروف هذا الجواب اعترته الدهشة، وأدرك خطارة الموقف الذي أصبح فيه محصورا في تلك المضائق والهضبات، فاندفع على موليتور مهاجما، فقابله هذا بثبات عجيب، ولبث طول يومه حافظا مركزه بألف ومائتين من الفرنساويين ضد 15 أو 18 ألفا من الروسيين. ولما أقبل الليل ترك موليتور هضبات الكلون تال، وذهب ليحمي قنطرتي نوفلس وموليس، فتبعه سوفاروف، حتى إذا بلغت جيوشه سهول جلاريس علم ما لحق بقواده من الدمار، وتأكد صدق نبوة موليتور، وأيقن أنه سيصبح عما قريب في الموقف الذي كان يؤمل أن يسوق موليتور إليه، فلم يبق لسوفاروف أمل إلا في الخلاص؛ فأسرع بجنوده يجتاز المفاوز والمضايق تاركا جرحاه وجزءا من بطارياته. فلما رآه الفرنساويون يلتمس سبيل النجاة أسرعوا في اللحاق به؛ فاشتبكت بين الفريقين عدة وقائع طورا في الأخوار والمضايق، وطورا على الهضبات وفوق القمم الشامخات، فكان منظرا رهيبا، ويوما عصيبا، ثلاثة جيوش مختلفة الأجناس - من فرنساويين وروسيين ونمساويين - تجتاز طرقا لم تسلكها الغزلان لوعورتها، ولم تطأها قدم إنسان لوحشتها، تؤم مجاوز السحاب ومساكن النسور، كأنها تستشهد السماء على ما يأتيه ابن آدم من فظائع الأمور، حتى أزعجت الطيور في مكامنها وأقلعت الوحوش في مساكنها، وبدلت برد الثلوج نارا، وصبغت مياه السيول احمرارا، وأرسلت من قمم هذه الجبال الشامخة جثث القتلى إلى جوف الأخوار والوديان، وحصد الموت النفوس، واستولى سلطانه في تلك الأصقاع القفرة التي لم تألفها الحياة، حتى شبعت النسور والعقبان من لحم الإنسان، ولم تزل سكان البلاد المجاورة تروي فيما ترويه من خرافاتها أن الطيور، لكثرة الغنيمة ووفرة الفريسة، كانت تعاف الجثث فلا تحمل إلى صغارها إلا عيون القتلى غذاء وقوتا.
ولما اجتاز سوفاروف هذه الجبال، وجمع حوله جنوده وقواده على مقربة من لندو، أحصى ما بقي من جيشه فإذا به ثلاثون ألفا من المائة ألف التي سلمه القيصر قيادتها، فكأن به قد خسر من جنوده ضعف جيوش الفرنساويين الذين كادوا له هذا الكيد وأبلوا فيه هذا البلاء، فعظم عليه الأمر ونسب ما أصابه من الفشل إلى النمساويين الذين تحت إمرته، وصمم على ألا يأتي عملا حتى تأتيه أوامر القيصر، فكتب إليه يبلغه حال الجيش، ويعلمه بخيانة الجيوش المتحدة، فأتاه جواب القيصر يأمره أن يسلك بجنوده طريق الروسيا، وأن يسبقها هو إلى سان بطرسبرج، حيث أعد لاستقباله احتفال فخيم، وهيئ قصر قيصري لنزوله به، ويبلغه أن سيرفع له تمثال في أحد ميادين سان بطرسبرج العمومية تذكارا لأعماله الجليلة.
وشاع خبر الإياب إلى الأوطان بين الجنود الروسية، فأبرقت أسرتها بشرا ورقصت قلوبها فرحا، وكان أجزلها بلا شك قلب فيدور ، كيف لا وقد آن له أن يلتقي بمالكة فؤاده فاننكا التي لأجلها خاض معامع الحروب، واستقبل كرات المدافع دافعا نفسه أيان وجد خطرا؛ طمعا في الشهرة وإحرازا للمجد، فكم شهدت له سهول إيتاليا من آيات في الشجاعة بينات، وحفظت له جبال سويسرا دلائل في الإقدام مدهشات، حتى اكتسب محبة سوفاروف واحترامه، وهو رجل لا تخطب مودته بالمهر القليل، وأصبح جديرا مع هذه المكانة برعاية الجنرال شرميلوف، وبمحبة ابنته أيضا إن أسعده الدهر.
لنرجع إلى سوفاروف، فإنه ما كاد يصل إلى ريجا من أعمال روسيا حتى أتاه كتاب من مشير القيصر الخصوصي يبلغه فيه عن لسان القيصر أنه علم أن الجنود مالت إلى الثورة في بحر هذه التجريدة، وأنه (أي سوفاروف) بدلا عن أن يؤدبها على العصيان صفح عنها وتجاوز عن زلاتها، وفي ذلك مخالفة لأقدس القوانين العسكرية، فالقيصر يمنعه ما وعده به من المنح والامتيازات ويحرم عليه أن يتمثل لديه.
وكان القيصر بول الأول هوائيا لا يستقر على رأي، فلم يدر سوفاروف ما الموجب لهذه النقمة بعد هذه النعمة، وزادت جراحه وتضاعفت آلامه وتكدر عليه صفو أيامه بعد أن كادت تنقشع غياهب أكداره، فجمع ضباط جيشه وقواده حوله في ساحة مدينة ريجا، وقام يودعهم باكيا كأب يودع أولاده وقد قدر عليه أن يفارقهم إلى الأبد، فودعته الجنود باكية، فعانق سوفاروف القواد العظام، وصافح باقي الضباط، وودع الجيش وداعه الأخير، ثم صعد في عربته قاصدا العاصمة واصلا سير الليل بالنهار لسرعة الوصول إليها، فدخلها متخفيا بعد أن كان من نصيبه أن يدخلها ظافرا منصورا، وقصد أحد أخطاطها القصية، حيث أم منزلا لإحدى بنات أخيه، فانزوى فيه، ولم يمض على وصوله خمسة عشر يوما حتى أسلم الروح منصدع الفؤاد، وكانت تلك خاتمة هذا الرجل العظيم، وهي أشبه بخاتمة كل من عمل على خدمة بلاده، سنة الدهر في عظمائه، فيا لعبر الدهر وعظات الزمان.
الفصل السادس
آب فيدور إلى بطرسبرج كما آب إليها سوفاروف لم تسبقه بشائر القدوم، ولا استعد لاستقباله صديق، آب ولا أب ينتظر ساعة قدومه، ولا أم حنون تفتح له أحضانها، لكنه امتاز عن سوفاروف إذ آب والأمل ملء قلبه، والحياة باسمة له، والشباب يشجعه، والهوى يدفعه، فلما دخل المدينة ركب عربة، وقصد توا قصر الجنرال شرميلوف، وما كاد يصل إليه حتى قذف بنفسه من العربة، فاجتاز صحن الدار، ورقي درج السلم مثنى وثلاث ورباع، ولما أبصر به حاشية الجنرال ذهلوا لهذه المفاجأة، أما هو فسألهم: أين الجنرال؟ فأشاروا إلى غرفة الطعام حيث الجنرال يتناول الغذاء مع ابنته.
وحينذاك وقف فيدور باهتا فاقد الحركة والإرادة، وأحس كأن ركبتيه قد خانتاه؛ فاستند إلى الحائط؛ كي لا يسقط من الانفعال، ولعمري فالموقف رهيب والساعة هائلة، إذ آن لفيدور أن يرى فاننكا، فتلك التي لم تبرح صورتها لحظة من ذهنه، إذ كانت تتمثل له في معترك الحروب باسمة الثغر؛ فيظن لمعان الأسنة من ضياء تبسمها، فيخوض المعامع بجأش ثابت وجنان قوي تلك التي انحصرت آماله فيها، وشيدت دعائم سعادته على التقرب منها، فظل لا يفكر إلا فيها، ويترقب الساعة التي تجمعه بها، تلك الحبيبة العزيزة صارت على بعض خطى منك يا فيدور، وما هو إلا اجتياز الباب حتى تمتع طرفك في محاسنها، وتروي صدى قلبك المشتاق من رؤيتها، فما بالك أصبحت موثقا لا تقوى على حركة، أفتقدم على المدافع وهي مسددة أفواهها نحو صدرك، وتستقبل كراتها وقنابلها بقلب لا يهاب الموت، وتعجز الآن عن مقابلة فتاة لم تكد تنفتح أمامها أبواب الشباب، ويبتسم لها ربيع الحياة، ويك، أي سلطان قهر إرادتك؟ وأي طلسم أبطل فعل عزيمتك؟
لسلطانك - أيها الحب - تنحني رءوس الجبابرة، وتنصدع قلوب الأبطال، وتلك هي قدرتك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
لبث فيدور باهتا، وأنظاره متجهة نحو باب الغرفة التي فيها فاتنة فؤاده، وبينما هو كذلك إذ فتح باب الغرفة فجأة وظهرت منه فاننكا، كأنها خرجت تستخبر عما سمعته من الغوغاء، فلما أبصرت بالفتى صاحت، والتفتت نحو والدها قائلة: أبي هذا فيدور!
ومن سمع لهجتها الممزوجة بالفرح عندما ألقت هذه الكلمات ؛ لا يرتاب برهة في العاطفة التي بعثت إليها، وما كادت كلماتها تطرق آذان الجنرال حتى اندفع خارج الغرفة صائحا: فيدور، فيدور.
ومد يديه نحو الشاب، وكان فيدور على وشك أن يركع لدى فاننكا، فلما رأى الجنرال مادا إليه يديه، قدم واجب الشكر والاحترام على واجب الحب والغرام، فارتمى في أحضان الجنرال، حيث ضمه هذا إلى صدره بشوق وحنان، ثم التفت فيدور نحو فاننكا وجثا على إحدى ركبتيه أمامها كما جثا ساعة أن ودعها، لكن الفتاة عملت على إخفاء عواطفها حفظا لكرامة كبريائها، فاختفى الاحمرار الذي ورد وجنتيها حينا، ورجعت إلى ما كانت عليه من الثبات والسكينة كأنها صنم يمثل الكبر أفرغته يد الطبيعة، وأتمت إتقانه التربية، ثم مدت يدها إلى فيدور فقبلها، ولكنه شعر بها باردة كالجليد ترتعش بين يديه، فخفق قلبه بقوة وكاد يغمى عليه.
أما الجنرال فالتفت إلى ابنته قائلا: أي فاننكا، ما هذا الفتور الذي تقابلين به صديقا مخلصا، سبب لنا بعده من الآلام قدر ما جلب لنا قربه من السرور؟! هيا يا ولدي فيدور وقبل ابنتي.
فهب فيدور واقفا وعيناه ناظرتان إلى فاننكا ترجوان تحقيق أمنية حبيبها بإطاعة أمر أبيها، ولكنه لبث ساكتا هائبا منتظرا منها إشارة تشجعه على أن يصدع بالأمر.
فنظرت إليه فاننكا باسمة، وقالت وهي تجتهد في كتم الاضطراب الذي تولاها: ألم تسمع ما قال أبي؟
فأدنى فيدور شفتيه من خد فاننكا، وكانت يدها لم تزل في يده، فشعر كأن تلك اليد قد ضغطت على يده ضغطا خارجا عن إرادتها، دفعها إليه عامل نفساني خفي، فكاد أن يصيح فيدور من الفرح، لولا أن اندهش لما رأى وجه فاننكا باهتا، وشفتيها قد ابيضتا من الانفعال.
ولم تكن المائدة قد رفعت، فأجلس الجنرال فيدور معه عليها وجلست فاننكا مكانها، ولما كان مجلسها بعكس الضوء لم يتمكن الجنرال من رؤية آثار الانفعال البادية على وجهها، وبالتالي فلم يكن مرتابا فيها على الإطلاق؛ لجمودها وكتم عواطفها كما شاهدنا.
وانقضت فترة الغذاء في ذكر التجريدة العجيبة التي ابتدأت تحت شمس إيتاليا المحرقة، وانتهت فوق ثلوج سويسرا الدائمة، ولما كانت الجرائد في بطرسبرج لا تنشر إلا ما تسمح إرادة القيصر بنشره، فقد علم القوم ما أوتيه سوفاروف من النجاح، ولم يعلموا ما أصابه من الفشل، فروى فيدور للجنرال أخبار التجريدة بحرية ضمير وصدق رواية معددا مآثر الجيش فيها، ومبينا مواقع الخطأ منها.
وقد أصغى الجنرال لقصة فيدور حتى أتمها، ولم يذكر الفتى عن نفسه مأثرة تواضعا منه، على أن الوسامات المزينة لصدره كانت شاهدة بجليل أعماله.
وفي الغد زار الجنرال شرميلوف الفلدماريشال سوفاروف في منزله، فعلم منه ما أتاه فيدور من الأعمال والمآثر، فلما اجتمع به في المنزل وقد انعقد سمط العائلة، أخذ الجنرال يعدد مناقبه ويشكر همته وشجاعته، ووعده - مكافأة على حسن خدمته في الجيش - أن يسعى لدى القيصر حتى يصرح له باتخاذه ضمن أركان حربه، فلما سمع فيدور هذا الوعد كاد يطير من الفرح، ولكي يبرهن له الجنرال أنه واثق من نجاح مسعاه لدى القيصر أمر بأن يخصص لفيدور في الحال مكان في القصر لإقامته، وفي الغد أجيب الجنرال إلى طلبه، وصار فيدور ضمن أركان حربه، فلا تسل عما شمل الفتى من السرور، وقد تحققت جل أمانيه، حيث أسعده الدهر بأن يظله وفاننكا منزل واحد، فيراها كل حين، ويتمكن من الجلوس معها مرتين في اليوم على مائدة الطعام، فظن الفتى حينذاك أنه أسعد البشر، وأن هذه السعادة تكفيه، وفيها تنحصر كل آماله.
أما فاننكا فإنها من حين أن شاهدت فيدور وقد تمثل أمامها يودعها قبل السفر أحست بميل إليه، لا سيما وقد تأكدت صدق حبه لها، وما زال ذلك الميل يزيد بابتعاده عنها، حتى رجع فيدور حائزا لدرجات الرقي وعلامات الشرف، فسرت ليس فقط بقدومه؛ إنما على الأخص برقيه إذ اجتاز جزءا من الطريق الذي يوصله إليها، ويجعله جديرا باتخاذها زوجة له، فخفضت من كبريائها، ورأت أن لفيدور مكانا في قلبها كاد يشغله كله، ولكن تغلبت طبيعتها على عواطفها، فكتمت حبها في صدرها، وكان بودها أن تفتح له يوما ما أسرار فؤادها وتبوح له بهواها، إنما صممت على أن تكتم ما بها فلا يلحظ فيدور منها أقل إشارة تدل على حبها له حتى يأتي اليوم الذي ترى فيه الساعة قد حانت للاعتراف له بالهوى.
الفصل السابع
ودام الحال على ما وصفنا أشهرا معدودات كان يظنها في البدء فيدور منتهى السعادة، فما لبث أن رآها منتهى العذاب، ولطالما تمنى قبلها أن يجمعه الدهر بمالكة فؤاده، فلما تحققت أمانيه وأصبح قريبا منها يراها كل آن، وتلتقي عيناه بعينيها ويستنشق عبير طيبها، يلازمها إن خرجت ويرافقها أنى سارت، رأى نفسه مضطرا أن يكتم عواطفه ويخفي هواه، فلا تظهر منه إشارة ما تفضح أسرار غرامه، ولعمري إنه لعذاب تعجز عن احتماله طبيعة البشر، وأي نفس تقوى على هذا الجهاد؟ وقد لاحظت فاننكا أن فيدور لا يستطيع كتم هواه طويلا، وخشيت أن يفيض به الوجد يوما فينفضح سره على غير ما تهوى، أو يقتله الكتمان كما يمزق بخار الماء - إذا اشتدت به الحرارة - جدران الإناء الذي يحتويه، ولو كانت من حديد أو فولاذ، فعزمت على مفاتحته في الأمر.
وذات يوم رأت فاننكا نفسها منفردة مع فيدور، فشاهدت محاولة الفتى عبثا كتمان ما به، ومجاهدته نفسه على غير طائل، فتمثلت أمامه ونظرت إليه مثبتة عينيها في عينيه قائلة: أتحبني يا فيدور؟
فاختلج على الفتى، وتلعثم لسانه؛ فضم يديه إلى صدره وتمتم قائلا: العفو ... العفو ... يا مولاتي.
فقالت له: علام تطلب العفو يا فيدور؟ أليس حبك طاهرا؟
فأجابها: آه يا مولاتي، إن حبي طاهر، وعلى قدر طهارته يأسي عظيم.
فقالت له: ومم اليأس يا صاحبي؟ أليس أبي يحبك كولده؟
فصاح فيدور قائلا: ماذا تقولين يا مولاتي؟ وهل إذا رضي والدك تتنازلين ...؟
فقاطعته قائلة: ألست شريفا أصلا ونفسا يا فيدور؟ فماذا أروم فوق ذلك؟ أتظن أن فقرك يحول بيننا؟ كلا؛ فإن ثروتي تكفينا نحن الاثنين.
فقال لها فيدور: إذن، إذن، فمولاتي تتكرم بإعارتي جانب اهتمامها.
فأجابته: على الأقل أفضلك على كل من رأيت.
فمد الفتى يده شاكرا، وقال: فاننكا.
كأنه يرجوها أن تسمح له بتقبيل يديها، فابتعدت الفتاة بحركة كبرياء ألزمت الفتى مكانه، فتمتم معتذرا: عفوك يا مولاتي، إني رهين إشارتك فأمري بما تشائين، فلا إرادة لي أمام إرادتك، وإنني أخشى أن تمس عواطفي شريف إحساساتك، فأرشديني أأتمر بما ترشدين.
فأجابته: إن ما أنصحك به يا فيدور هو أن تبدأ بالتوجه إلى أبي وتخطبني منه.
قال: إذن، فتسمحين لي أن أسعى ذلك المسعى؟
أجابته: نعم، ولكن على شرط.
قال: ما هو؟
قالت: ألا يعلم والدي مهما كانت إجابته أنك توجهت لخطبتي منه بناء على رغبتي، وألا يعلم أحد أنك تتبع ما ألقيه إليك من التعليمات، أو يبلغن أحد ما دار بيننا الآن، ثم ألا تطلب مني مهما كان الحال أن أمدك بغير صلواتي وابتهالي إلى الله أن ييسر لنا الأمور.
فأجابها فيدور: لك ما تشائين، وإني حريص على ما تأمرين؛ فإنك منحتني فوق ما كنت آمله، ولكن إن رفض والدك طلبي، أفلست تشاركينني في أحزاني وتشاطرينني في مصابي؟
فقالت فاننكا: بكل جوارحي، ولكن أتعشم ألا يتم إلا كل خير، فاجعل الأمل رائدك والشجاعة دليلك، وإذا عزمت فتوكل على الله.
وخرجت فاننكا؛ لتخفي ما ألم بها بعد أن تركت فيدور منفعلا من أثر هذه المحادثة أكثر من انفعالها، يكاد لا يملك نفسه من الاضطراب.
الفصل الثامن
التمس فيدور في نفس اليوم الذي مرت بنا حوادثه مقابلة الجنرال، فلما تمثل لديه استقبله الجنرال كعادته بثغر باسم ووجه بشوش، فعظم الأمل في قلب الفتى وتشجع على بسط آماله، فما كاد يصل إلى المقصود من حديثه حتى تقطب وجه الجنرال، فلم يكترث فيدور بذلك التغير، واستمر في سرد قصته، فانفرجت أسرة الجنرال لما تلا عليه فيدور حديث غرامه، وأيد له صدق محبته لابنته، وأخبره بأن ما أتاه من جليل الأعمال التي استوجب عليها ثناءه وإكرامه كان مدفوعا عليها بحب الفتاة، وقد أتاها طمعا في التوصل إليها والتقرب منها، وعند ذلك مد الجنرال يده مصافحا لفيدور، وقال له وقد بلغ التأثر منه أقصاه: ولدي، أشكر عواطفك، وآسف لعدم إمكاني إنالتك متمناك، فإن ابنتي قد خطبها جلالة القيصر مدة سفرك بالحرب لابن مشيره الخاص، فلم يسعني إلا إجابة طلب جلالته، ولم أكن عالما حينئذ بذلك الحب الذي وعيته في صدرك وذهبت كاتما سره معك، ولم أشاهد له أثرا لدى ابنتي طول مدة غيابك، ولقد طلبت من جلالة القيصر أن يتكرم بإبقاء ابنتي معي حتى تبلغ الثامنة عشرة من عمرها؛ لصعوبة فراقها على قلبي، فسمح لي جلالته بهذه المنة، ولم يبق لفاننكا إلا خمسة أشهر تمضيها في القصر، ثم تزف إلى خطيبها، ولم أفاتحها للآن بشأن هذه الخطبة منتظرا حلول فرصة مناسبة أكلمها فيها.
فلما سمع فيدور هذه الكلمات التي رشقت فؤاده بسهام اليأس، أظلمت الدنيا في عينيه، والتزم الصمت، وبم عساه يجيب وقد صارت الكلمة الآن للقيصر؟ وكلمة القيصر في الروسيا أمر، وأمر القيصر لا ينقض ولا يرد، بل لا يخطر على قلب بشر في تلك البلاد تصور معارضته، فلازم فيدور السكوت، ولكن ارتسمت على وجهه صورة اليأس والقنوط والكآبة بأجلى مظهر؛ حتى أشفق الجنرال نفسه على حالته ورق لبلواه، فمد له ذراعيه، فما كان من الفتى إلا أنه ألقى بنفسه في أحضان الجنرال، واستخرط في البكاء والشهيق، وعندئذ سأله الجنرال عن ابنته، وهل هي تشاطره الحب وتعلم بما يسعى إليه؟ فأجابه الفتى - حافظا لعهده مع فاننكا - بأنها لا تعلم شيئا من هواه، ولا مما يسعى وراءه، وأنه أتى من نفسه يخطبها من أبيها، فارتاح ضمير الجنرال نوعا وهدأ باله؛ لأنه كان يخشى أن يكون بابنته من الهوى ما بفيدور؛ فتكون البلوى بلوتين ويعظم الخطب بشقاء الاثنين.
ولما حانت ساعة العشاء نزلت فاننكا لغرفة المائدة، فوجدت أباها منفردا إذ إن فيدور لم يستطع أن يحضر الطعام أو يقابل الجنرال وابنته مع ما هو فيه من اليأس، فقصد ضواحي المدينة؛ ليفرج عن صدره، ولبثت فاننكا وأبوها طول المائدة ساكتين صامتين، أما فاننكا فكانت كاتمة اضطرابها مالكة عواطفها، فلم يظهر على وجهها ما يوجب الارتياب، أما الجنرال فكان حزينا مكتئبا كثير التأمل والتفكر.
ووافت ساعة تناول شاي المساء، فاستعدت فاننكا للذهاب إلى المكان المعد لذلك، وإذا بخادم قد أقبل يحمل إليها الشاي في غرفتها قائلا إن مولاه الجنرال يشعر بتعب خفيف يمنعه من تناول الشاي كالعادة، فاضطر أن يلازم غرفته، فسألت فاننكا عما به، ولما علمت أنه عارض بسيط اطمأنت وكلفت الخادم أن يبلغ تحيتها لوالدها، ويسأله عما إذا كان في حاجة إلى خدمة تقوم بأدائها، فأرسل الجنرال يشكرها قائلا إنه لا يحتاج إلا إلى راحة وانفراد؛ وعلى ذلك دخلت فاننكا غرفتها وانسحب الخادم، ولم تكد تخلو بنفسها حتى استدعت إليها وصيفتها أنوشكا، وكانت أختها في الرضاع ومستودع ثقتها، فكلفتها أن تراقب رجوع فيدور، وتخبرها بمجيئه حال دخوله القصر.
وفي الساعة الحادية عشرة مساء أقبل فيدور في عربة إلى القصر، فصعد إلى غرفته مثقلا بالهموم، وانطرح على مقعد خائرا واستسلم لتيار الأفكار، ولما انتصف الليل سمع قرعا خفيفا على باب غرفته؛ فقام منذهلا وفتح الباب وإذا به يرى أنوشكا، فدعته هذه أن يتبعها في الحال إلى غرفة سيدتها، فتعجب فيدور لهذه الرسالة التي لم يكن في انتظارها، لكنه أطاع وتبع الوصيفة.
ولما وصل إلى غرفة فاننكا وجد الفتاة جالسة في ثوب ناصع البياض، وهي باهتة اللون غارقة في بحار التأمل، فوقف فيدور على الباب منذهلا لمرآها على تلك الحال، وقد تصورت له كدمية من الرخام معدة لبعض القبور، أما فاننكا فرفعت رأسها إليه، وقالت له بصوت جلي خال عن كل اضطراب: تقدم.
فاقترب منها وقد جذبه صوتها كما يجذب الحديد المغناطيس، فأغلقت أنوشكا الأبواب، ثم سألته فاننكا قائلة: ماذا كان جواب أبي؟
فقص عليها فيدور ما دار بينه وبين أبيها، وهي صاغية تسمع وبصرها ثابت لنقطة في الفضاء لا يتحول عنها، ولا يقرأ في عينيها أو وجهها ما يدل على ما يتنازعها من العوامل، عدا أن شفتيها القرمزيتين صارتا في لون الثوب الذي توشحت به، أما فيدور فكان بعكسها لا يكاد يستقر من الانفعال وقد تولته حمى كادت تفقده صوابه، ولما أتم قصته سألته فاننكا بكل سكون وثبات قائلة: والآن، علام عزمت؟
فأجابها: تسألينني علام عزمت يا فاننكا؟ فماذا تريدين أن أفعل؟ لقد لقيت من الجنرال مدة إقامتي عنده كل إكرام وحفاوة، فهل يسعني أن أخونه بمقاومة إرادته؟ كلا، لم يبق لي إلا أن أرحل عن بطرسبرج؛ فأقصد أول ساحة للحرب تقابلني فأقاتل فيها حتى أقتل والسلام.
فقالت له فاننكا: إنك لمجنون.
وقد قالت له هاتين الكلمتين وقد ارتسم على شفتيها ابتسام يدل على استحقارها ذلك اليأس منه، وتيقنت أنها انتصرت عليه بقوة سلطانها وثباتها.
فأجابها الفتى قائلا: إذن فأرشديني يا مولاتي وأمري بما تشائين، ألست عبدك المخلص المطيع؟
فقالت له فاننكا: يجب عليك ألا تبرح القصر.
قال: كيف أبقى؟
قالت: نعم، يجب أن تبقى، فإن اليأس والانكسار شيمة النساء والصبية الصغار، أما الرجل فإن أراد أن يكون جديرا بهذا الاسم وجب عليه الثبات والمقاومة.
قال فيدور: المقاومة؟ أقاوم من؟ أقاوم والدك؟ كلا ...
فقاطعت عليه الفتاة قائلة: من يقول لك قاوم والدي؟ إنما يجب عليك مقاومة الحوادث؛ فإن عامة الناس يستسلمون لتيارها، أما الرجل الكامل فلا يندفع في ذلك التيار، بل يوجهه كيفما تقتضي أهواؤه، فعليك أن تتظاهر أمام والدي بمقاومة نفسك ومجاهدة هواك، حتى يتيقن أنك تغلبت عليهما، أما أنا فيظنني والدي جاهلة ما حصل فهو لا يرتاب بي ولا يشك في على الإطلاق، وسأسأله تأجيل الزواج سنتين، وأنا واثقة أنه يجيبني إلى طلبي، فمن يدري ما تعده الأقدار في هاتين السنتين، فربما مات القيصر أو مات من خطبوني له، أو - لا سمح الله - مات والدي؛ إذ كل حي عرضة للموت ...
فقال لها فيدور: ولكن إن ألحوا عليك ...؟
فقاطعت عليه فاننكا، وقد احمرت وجنتاها حينا، ثم اختفى الاحمرار بغتة، فقالت: إن ألحوا علي! ومن يلح علي، أوالدي؟ كلا، فإنه يحبني ولا يرفض لي طلبا، أما القيصر فله من مشاغله العائلية ما يلهيه عن أن يكدر صفو العائلات، وعلى أي حال فقد أعددت وسيلة نهائية إن أخفقت كل الوسائل، فنهر النيفا على بعد خطى من القصر، ومياهه لا يدرك لها قرار ...
وقد كان في لهجة فاننكا ما يدل على ثبات العزيمة وقوة التصميم، حتى ذعر الفتى من كلماتها، فلم يسعه إلا أن يصرخ منكرا عليها ما تنويه، إلا أن ثباتها وقوة جنانها أعلماه صعوبة ما يحاوله من إمكان ردها إلى رشدها؛ إذ رآها صلبة المراس كالقضبان تكسر ولا تعصر، لكنه من وجهة أخرى شعر بفرح داخلي أنعش فؤاده الذابل من الأسى كما ينعش قطر الندى أزهار الصباح؛ لأنه تيقن من كلمات الفتاة أنها تحبه محبة صادقة مخلصة تحاول إخفاءها عنه وعن الناس حفظا لكرامة نفس نشأت على العظمة وربيت في مهد الكبرياء.
الفصل التاسع
مضى على ما تقدم من الحوادث بضعة أيام كان بعدها ما شهدناه في الفصل الأول من توقيع العقاب بالكنوت على جريجوار خادم وحلاق الجنرال لذنب أتاه أسخط عليه مولاته فاننكا، فاضطرت أن تشتكيه إلى أبيها، حيث كلف فيدور بمباشرة التأديب كما ذكر في الفصل المذكور.
وقد باشر فيدور مهمته، وسمع ما فاه به الخادم من كلمات الوعيد، إلا أنه لم يهتم بها، ولما حمل الخادم إلى غرفته قام إيفان بتضميد الجراح التي صنعتها يداه، فصار طبيبا بعد أن كان جلادا، ولزم جريجوار الفراش ثلاثة أيام نقه بعدها من الجراح وباشر أعماله، وقد تناسى القوم الحادثة، أما جريجوار فإنه أسرها في نفسه، ولو كان روسيا لطوى عنها كشحا لتعود أبناء الموسكوف على مثل ما أصابه، أما هو فقد عرفناه رومي الجنس، أي من قوم عرفوا بالبطش والإقدام والخديعة وحب الانتقام.
وكان جريجوار عبدا للجنرال قد عهد إليه بوظيفة الحلاقة، فقربته من مولاه وخصته بما امتاز به عن باقي الخدم من مقابلته الجنرال ومحادثته بلا حجاب ولا تكلف.
وذات يوم أراد الجنرال أن يستعد للذهاب إلى استعراض حربي، فاستدعى إليه الحلاق لتزيينه، وأثناء ذلك دار بينهما الحديث على فيدور، فغالى جريجوار في مدحه ووصف خلاله حتى تعجب الجنرال لتذكره أن فيدور كان المكلف بمباشرة عقاب الخادم، فأراد أن يسبر غور أفكاره فسأله قائلا: أراك جعلت فيدور مثالا للكمالات، فهلا تجد فيه عيبا أو نقيصة بجانب كل هذه الفضائل؟
قال الخادم: مولاي، لولا أن قليلا من الكبرياء يشمخ بأنف سيدي فيدور لكان أكمل الناس بلا مراء.
فصاح الجنرال متعجبا قائلا: الكبرياء! لعمري إن أبعد الصفات عن فيدور تلك الصفة.
فأجابه جيريجوار: عفوا يا مولاي، إنما أردت أن أقول الطمع.
فقال الجنرال: الطمع! ما عهدت فيدور إلا قنوعا متواضعا؛ فقد ارتضى بإقامته في قصري، وتحت إمرتي على أن لديه من شواهد أعماله الجليلة التي أتاها في التجريدة الأخيرة ما يؤهله إلى مركز سام في البلاط القيصري.
فأجاب الخادم باسما: الطمع يا مولاي على أنواع؛ فمن الناس من يطمح إلى مركز سام، ومنهم من يطمح إلى مصاهرة الأسرات الكبيرة، فالأولون يعتمدون على أنفسهم للوصول إلى الغاية التي يرمون إليها، أما الآخرون فيضعون آمالهم في الزوجة التي يسعون في خطبتها؛ ليتخذوها سلما لبلوغ الشرف والثروة، وهؤلاء يرفعون عيونهم عادة إلى أرفع مما يجب أن ترفع.
فلحظ الجنرال أن وراء هذه الكلمات غرضا يرمي إليه الخادم، فسأله قائلا: وما تعني بقولك هذا؟
قال الخادم: إنني أروم تنبيه مولاي إلى أن النعمة قد تدفع المنعم عليه إلى نسيان درجته لفرط طيبة المنعم، فيمنيه الطمع بنوال غاية أسمى مما نال، على أنه قد يكون في درجة أسمى مما يستحق.
فصاح الجنرال قائلا: التفت يا جريجوار إلى ما تقول، واعلم أنك قد اندفعت في طريق كثير العقبات، فأنا لا أعتبر ما تقول إلا تهمة ترمي بها أخص أتباعي يجب عليك إثباتها بالبراهين البينات.
فأجابه الخادم غير متردد قائلا: طريق الحق يا مولاي لا تعترضه عقبات، وما علمت شخصا جعل الصدق رائده آب بندامة أو أخفق مسعاه، ومع ذلك فما قلت قولا إلا وفي وسعي إثباته بالبينات.
فصاح به الجنرال قائلا: إذن فما زلت تقول: إن فيدور يحب ابنتي فاننكا؟
فأجابه جريجوار بتلك المراوغة التي امتازت بها أبناء جلدته قائلا : عفوا يا مولاي، فإنني لم أقل ذلك، إنما مولاي يقول، على أنني لم أذكر اسم مولاتي فاننكا على الإطلاق.
قال الجنرال: لكن هذا نفس ما تقصده من قولك، أليس كذلك؟ تكلم بحرية كعادتك، ولا تخف شيئا مما وسعه علمك.
أجاب الخادم: لقد صدق مولاي، وأفصح بالإيضاح عما أشرت إليه بالتلميح.
قال الجنرال مستفهما: إذن فابنتي تشاطر فيدور الحب؟
أجابه جريجوار: لا أعلم يا مولاي، إنما أخشى عليها غائلة الأمر، كما أخشى وقعه على سعادتك.
فسأله الجنرال: وما يحدو بك إلى الخوف؟
قال: أولا، إن سيدي فيدور لا يعدم فرصة يتقرب فيها من مولاتي فاننكا ويحادثها.
قال الجنرال: ذلك أنهما في منزل واحد، فهل تريد أن يتجنبها كلما رآها؟
أجاب الخادم: وأيضا إذا آبت مولاتي إلى القصر في ساعة متأخرة من الليل راجعة من وليمة أو مأدبة، كان فيدور دائما مسرعا لملاقاتها، فيمد إليها يده يعاونها على النزول من العربة.
فقال الجنرال، وقد ظن أن تلك البراهين الواهية آخر ما في جعبة، الخادم: إن كان فيدور ساهرا ساعة مجيئها، فذلك لا يمنع أن يكون في انتظاري كما تقضي عليه الواجبات؛ لأنه ربما تكون لدي أوامر خطيرة يجب عليه تنفيذها، فهو مضطر إلى انتظاري حتى أعود في أية ساعة من ساعات الليل أو النهار.
قال الخادم: وكذلك لا يمضي يوم لا يدخل فيه فيدور إلى غرفة مولاتي فاننكا مع أنه لم تجر العادة أن يمنح فتى في سنه مثل هذا الامتياز، خصوصا في منزل مثل منزل سعادتك؟
قال الجنرال: وما في ذلك من بأس؛ لأني أنا الذي أرسله إليها في أغلب الأوقات.
أجاب الخادم: نعم بالنهار ولكن ... بالليل!
فصرخ الجنرال منكرا: بالليل؟!
وهب واقفا وقد بهت لونه واضطرب دمه، حتى اضطره الانفعال إلى أن يستند إلى مائدة على مقربة منه.
فأجاب الخادم بهدوء وسكون قائلا: نعم بالليل يا مولاي، وحيث إن سعادتك قلت في البدء: إني اندفعت في طريق كثير العقبات، فلسوف أجتهد في الخلاص منه ولو كان جزائي الجلد بمثل ما ألزمني الفراش أياما في الأسبوع الماضي، إذ يصعب على نفسي أن أرى سيدا مثل سعادتك طيب السريرة يخدعه قوم لا خلاق لهم، هم غرس فضله وكرمه.
فقال له الجنرال: انتبه لما تقول أيها العبد؛ لأني أدري بك وبالقوم الألى أنت منهم، وحاذر أن يكون باعث اتهامك حب انتقامك مما أصابك من العقاب، فلعمري إن لم تؤيد أقوالك بالبراهين الدامغة؛ ليكونن جزاؤك جزاء من سعى بالفتنة والنميمة يقصد إلقاء الاضطراب في المنازل ومس كرامة العائلات.
فأجاب الخادم: أنا راض بما يقضي به مولاي.
فسأله الجنرال: تقول إنك رأيت فيدور دخل عند فاننكا ليلا؟
أجاب الخادم: كلا يا مولاي، لم أره داخلا، إنما رأيته خارجا من عندها.
قال الجنرال: ومتى ذلك؟
أجاب الخادم: منذ ربع ساعة، عندما كنت آتيا نحو سعادتك.
فقال الجنرال: كذبت أيها الخائن.
وهم أن يلطمه، فابتعد العبد إلى الخلف قائلا: صبرا يا مولاي، فإني لا أفتري فيما أقول، ومع ذلك فلسعادتك الحق في عقابي بما تشاء إن كذبت براهيني.
قال الجنرال: وما هي براهينك؟
أجابه: لقد قدمتها لسعادتك.
فقال الجنرال: وهل تظن أني أصدق ما تقول؟
أجاب الخادم: كلا، ولكن أتعشم أن مولاي يتحقق بعينه صدق كلامي.
قال الجنرال: وكيف ذلك؟
أجابه الخادم: عندما يدخل سيدي فيدور عند مولاتي فاننكا بعد منتصف الليل أحضر لأخطر مولاي، فيتبين صدق قولي من مينه، إنما ليعلم مولاي أني على الحالين مغبون.
فقال الجنرال: وكيف ذلك؟
أجاب الخادم: نعم، لأني إن خابت براهيني يكون جزائي العذاب الأليم، ولكن إن صحت فما يكون جزائي؟
فقال الجنرال بلا تردد: ألف روبل ذهبية وإعتاقك من الرق.
قال جريجوار بهدو، وهو يضع الأمواس في مائدة التزيين: وأنا راض بهذا الاتفاق، وأتعشم أن يقدر مولاي صدق إخلاصي قبل مضي ثمانية أيام من الساعة التي نحن فيها.
وعلى ذلك خرج جريجوار تاركا الجنرال مختبطا حائرا خاشيا شر خطر بدأ يتمثل له ويتهدد ركن سعادته.
ومن ذلك الحين أخذ الجنرال شرميلوف يراقب حركات فيدور وفاننكا بدقة واستيقاظ، فلم يجد من أحد الطرفين ما يؤيد صحة مخاوفه، بل رأى فاننكا على الأخص أكثر فتورا وجمودا من ذي قبل لا تنم ظواهرها على ما يوجب أقل ريبة فيها.
الفصل العاشر
مضت الأيام الثمانية التي ضربها جريجوار للجنرال، وفي ليلة اليوم التاسع نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل سمع الجنرال قرعا على باب غرفته، فقام ليرى الطارق، وإذا به جريجوار فسأله عما به، فقال: لو كلف مولاي نفسه التوجه إلى غرفة ابنته؛ لوجد عندها سيدي فيدور.
فبهت الجنرال، ولكنه تشجع وارتدى ملابسه، وتبع الخادم دون أن ينبس ببنت شفة، ولما وصل إلى غرفة فاننكا أشار للخادم بالانسحاب؛ فانزوى هذا في أحد أركان الدهليز المظلمة، ثم قرع الجنرال الباب أول مرة وأنصت فوجد الغرفة ساكنة ساكتة، فقال في نفسه: السكوت لا يدل على شيء؛ إذ ربما تكون فاننكا راقدة.
ثم قرع الباب ثانية، فسمع صوت ابنته تقول بهدو وسكون تامين: من الطارق؟
فأجابها الجنرال بصوت خافت يكاد يخنقه التأثير: أنا أبوك يا فاننكا.
فقالت الفتاة مخاطبة أختها في الرضاع الراقدة في الغرفة المجاورة لها: أنوشكا، افتحي الباب لأبي.
ثم قالت مخاطبة أباها: عفوا يا أبي، فأنوشكا تضع ملابسها، وستكون بعد لحظة تحت أمرك.
فانتظر الجنرال صابرا، وقد كادت تتبدد وساوسه؛ لأنه لم يلاحظ في صوت ابنته ما يدعو إلى الريب فتمنى لو كذبت أقوال جريجوار.
وبعد برهة فتح الباب ودخل الجنرال، فأجال نظره فيما حوله فلم يجد غريبا بالغرفة، بل وجد فاننكا راقدة على سريرها باهتة نوعا ولكنها هادئة، فاستقبلته باسمة الثغر وقالت له بصوت يكاد يسيل رقة وعذوبة: أي فرصة سعيدة شرفتني بمجيئك يا والدي في هذه الساعة المتقدمة من الليل؟
قال الجنرال: لقد لاح لي أن أكلمك في شأن خطير، وكان قد استولى علي الأرق، فافتكرت أنك لا تؤاخذينني على إقلاق راحتك لو أتيت إليك في مثل هذه الساعة.
قالت الفتاة: مرحبا بك يا والدي في أية ساعة أتيت من ساعات الليل أو النهار، فقل ما ترى، إني مصغية لما تقول .
فسرح الجنرال نظره ثانية حوله، فلم يجد ما يبعث إلى الظن بوجود شخص مختف بالغرفة التي هو فيها، فعزم على تفتيش غرفة الوصيفة، ثم التفت إلى ابنته قائلا: نعم يجب أن تصغي لما أقول، إنما أظن أننا لسنا وحدنا، ومن الواجب ألا يسمع غريب ما يدور بيننا.
قالت فاننكا: لكن أنوشكا أختي في الرضاع، وليست غريبة منا.
قال الجنرال: لا يعنيني.
ثم تناول شمعة، وقصد غرفة الوصيفة فقال: اخرجي يا أنوشكا، وقفي بالدهليز وراقبي ألا ينصت أحد لما نقول.
فخرجت الوصيفة، وسرح الجنرال نظره في غرفتها، فوجدها خالية إلا منه وابنته، فخرج ثانيا بعد أن التفت مرة أخرى وراءه، ولما صار في غرفة فاننكا جلس بجانب سريرها، ثم مد يده إليها فمدت يدها إليه بلا تردد، فقال لها: إني أريد محادثتك في أمر خطير.
قالت: وما هو يا أبتي؟
قال: لقد كدت أن تبلغي الثامنة عشرة، وهو السن الذي تتزوج فيه عادة بنات الأشراف من الروسيين.
ثم سكت الجنرال برهة؛ ليرى تأثير كلامه في نفس ابنته، فوجدها ساكنة مطمئنة لم يظهر عليها أقل تأثير، فاستمر في حديثه قائلا: ولذا فقد خطبت مني منذ عام لمن وافقت على قرانك به.
فسألته الفتاة بفتور قائلة: وهل يتكرم والدي بإعلامي لمن خطبت؟
قال: نعم، لابن المشير الحالي لجلالة القيصر، فما رأيك؟
قالت فاننكا: إنه شاب شريف مهذب كما أسمع، ولا يمكنني أن أحكم إلا بما سمعت، أليس هو ذاك الذي تعين منذ ثلاثة أشهر بحامية موسكو؟
أجابها الجنرال: نعم هو، ولكنه سيحضر قبل مضي ثلاثة أشهر.
فسكتت فاننكا، فسألها الجنرال قائلا: وهل لديك ملحوظات تريدين إبداءها؟
أجابته: كلا يا والدي، إنما أطلب منك منة واحدة.
قال: وما هي؟
قالت: أن تتكرم بتأجيل زواجي حتى أبلغ العشرين.
سألها: ولم؟
أجابته: ذلك نذر نذرته.
قال لها: ولكن إذا كانت الظروف تقتضي عدم الوفاء بذلك النذر، وتضطرنا إلى التعجيل بالزفاف فما العمل؟
فسألته قائلة: وما هي تلك الظروف؟
أجابها مثبتا نظره فيها: أن فيدور يحبك .
قالت الفتاة بفتور تام: أعلم ذلك.
فصاح الجنرال مندهشا: تعلمين ذلك!
أجابت: نعم، فقد اعترف لي به.
سألها: ومتى؟
قالت: الليلة.
قال: الليلة! وبماذا أجبته؟
قالت: نصحته بالنزوح عن القصر.
سألها: وهل رضي؟
أجابته: نعم يا والدي.
فقال لها: ومتى يسافر؟
قالت: لقد سافر.
قال الجنرال: ولكنه تركني الساعة العاشرة.
قالت: وتركني في منتصف الليل.
فتنفس الجنرال ملء رئتيه كمن انزاح عنه هم ثقيل، والتفت إلى ابنته قائلا: بورك فيك من ولد مطيع، وإني منحتك يا فاننكا ما تطلبين وسيؤجل زفافك إلى تمام العشرين، لكن تذكري يا ابنتي أن الأمر أمر القيصر فلا قبل لنا بمخالفته.
فأجابته الفتاة: أشكرك يا والدي على جميع مكارمك، وستجدني طوع أمرك إن شاء الله.
قال الجنرال: حسنا يا ابنتي، حسنا.
وسكت قليلا مطرقا برأسه، ثم رفعها إلى ابنته قائلا: إذن ففيدور المسكين قص عليك الأمر كله.
أجابته: نعم يا والدي.
قال: وأعلمك أيضا أنه قصدني أولا لخطبتك مني.
أجابته: نعم يا والدي.
قال: وهل رضي مع ذلك أن ينزح عن القصر؟ يا له من فتى شريف النفس كريم السجايا! فلأمدنه برعايتي أيا كان، وأواليه البر ما عشت، ولولا أن سبق الوعد مني لارتضيته زوجا لك، وما أظنك كنت رافضة بعلا مثله.
فسألته الفتاة قائلة: وهلا يمكنك التخلص من هذا الوعد؟
أجابها: استحال الأمر يا ابنتي، فقد صدر مني لجلالة القيصر نفسه.
قالت: فاننكا: فلتتم إذن مشيئة الله.
فضمها الجنرال إلى صدره قائلا: هكذا تكون ابنتي بارك الله فيها، فأستودعك الله الآن يا فاننكا، وإني لم أسألك إن كنت تشاطرين فيدور الحب أم لا؛ لأن كلا منكما قام بالواجب عليه، وما كان لي أن أرجو أكثر مما فعلتما.
وعلى ذلك قام الجنرال قاصدا الخروج فوجد أنوشكا بالدهليز، فأشار إليها بالدخول إلى مكانها، واستمر في طريقه حتى وصل باب غرفته، فوجد لديه جريجوار بالانتظار فبادره الخادم مستفهما: ماذا تبين لسعادتك؟
فأجابه الجنرال: إنك مخطئ ومصيب، ففيدور يحب ابنتي، ولكن يظهر أن ابنتي لا تهواه، وحقيقة دخل فيدور غرفتها قبل منتصف الليل، ولكنه خرج منها على ألا يعود، ومع ذلك فلست بمخلف وعدي معك، فاحضر إلي في الصباح لأنقدك الألف روبل وأمنحك الحرية.
فنكس جريجوار رأسه، وانصرف مطرقا مفكرا بين مصدق ومكذب، لا يدري كيف يؤول غياب فيدور في تلك الساعة، وقد رآه بعيني رأسه قاصدا غرفة الفتاة ولم يخرج منها، لكنه تسلى بما ينتظره في الصباح، فأشرقت جبهته وأبرقت أسرته، فقصد فراشه يحلم بالروبل الذهبية وإطلاق الحرية.
الفصل الحادي عشر
ما كاد الجنرال يبرح غرفة ابنته حتى أسرعت أنوشكا، فأغلقت الباب غلقا محكما، ووقفت وراءه فاننكا مصغية لوقع أقدام أبيها حتى ابتعدت في ظلمات الدهليز، وعند ذلك اندفعت إلى الغرفة المجاورة لغرفتها وتبعتها وصيفتها وأخذت الفتاتان تزيحان صررا من الملابس كانت ملقاة فوق صندوق ذي لولب؛ ليخفيه عن الأنظار، ثم ضغطت أنوشكا على زر الصندوق فرفعت فاننكا غطاءه، وما كاد ينفتح الصندوق حتى صرخت الفتاتان معا منزعجتين لما رأتا: إذ صار الصندوق قبرا، وأصبح فيدور فيه جثة بلا روح.
ولقد ظنت الفتاتان طويلا أن ما به إغماء، فحاولتا إنعاشه برش الماء على وجهه وإعطائه المنبهات، ولكن ذهبت أتعابهما أدراج الرياح؛ فإن المسكين كان اختنق لقلة الهواء، حيث طالت محادثة الجنرال مع ابنته أكثر من نصف ساعة، حاول فيدور فيها التخلص من سجنه، فلم يستطع لتعسر فتح الصندوق من الداخل.
أصبح الموقف حرجا: فتاتان وجثة لا تدريان معها ما تفعلان، فكانت أنوشكا تتصور طريق سيبريا ممدودا أمامها للمنفى الأبدي، أما فاننكا - والحق يقال - فكانت لا ترى ولا تفكر إلا في فيدور، وقد بلغ اليأس من الفتاتين المدى.
وبعد برهة من السكوت التفتت أنوشكا لسيدتها قائلة: مولاتي، لا يجدينا الحزن واليأس شيئا، فلا بد من التدبر في طريقة تخلصنا مما نحن فيه.
فأجابتها فاننكا: تخلصنا ربما، ولكن هذا المسكين؟!
قالت الوصيفة: لا شك يا مولاتي أن حزنك عليه عظيم، ولكن تدبري الأمر، فمرهون عليه شرفك وشرف أبيك وأسرتك.
فأجابتها فاننكا: لا يهمني الشرف بعد موت الحبيب، فلأبكينه ما حييت ولا يتعزى قلبي لفقده أبدا.
قالت أنوشكا: مولاتي، ليست الساعة لبكاء ما فات، وإنما لتدبر ما هو آت.
قالت فاننكا: إذن فما نعمل؟
أجابتها الوصيفة: أظن أن مولاتي تعرف أخي إيفان السائق.
قالت: نعم أعرفه.
قالت أنوشكا: يجب أن نستدعيه إلينا، ونقص عليه الخبر، فهو يدبر لنا طريق الخلاص.
فصاحت فاننكا قائلة: ويك! أنأتمن على سرنا عبدا لا يلبث أن يفشيه في ساعة من ساعات سكره، كلا ثم كلا.
قالت أنوشكا: حقيقة إن أخي يشرب الخمر مثل باقي رفاقه، ولكن لا أظن أن يبلغ به الأمر إلى أن يفشي مثل هذا السر، ومع ذلك فإذا وقع الإنسان بين خطرين اختار أخفهما ضررا، وبقاء هذه الجثة هنا يجر علينا ويلات غير منتظرة، وينتهك شرف مولاتي.
أجابتها فاننكا: صدقت، فاذهبي واستدعي أخاك.
فقالت أنوشكا وقد أزاحت بيدها أستار النافذة: قد أوشك الصبح أن يلوح، ولا تساعدنا الفرصة على إتمام ما نريد، فلنؤجل الأمر إلى الليل، وبينما تكون مولاتي بالمرقص الذي سيقام الليلة الآتية في بلاط القيصر أتمم أنا وإيفان اللازم.
فأطرقت فاننكا برأسها ثم قالت: نعم، يجب علي أن أذهب الليلة إلى المرقص، أواه، ما أقسى واجبات الحياة! ومع ذلك فأنا مضطرة إلى الذهاب خشية أن تتنبه لغيابي الظنون.
وعند ذلك اتجهت أنوشكا نحو الجثة، وقالت لمولاتها: ساعديني يا مولاتي على حمله، فلست أقوى وحدي.
فبهتت فاننكا وعلاها الاصفرار، ولكنها تشجعت، فأعانت وصيفتها على حمل جثة حبيبها، ووضعها في الصندوق، ثم أغلقت أنوشكا الصندوق، ووضعت مفتاحه في نطاقها وألقت الفتاتان صرر الملابس فوقه كما كانت إخفاء له عن الأنظار.
الفصل الثاني عشر
أشرق الصباح، واستيقظت الطبيعة وهي في جلالها وعظمتها لاهية عما يدور في هذا الكون من الحوادث والوقائع، وكذلك الأيام تدور بالناس فتتقلب الدول ويتغير وجه الأرض، ولا يختلف سير الليل والنهار ...
ولما رقت الشمس قبة الأفق نزلت فاننكا؛ لتناول طعام الإفطار، وقد مضى الليل دون أن يطرق جفنها المنام، وكان لونها باهتا ووجهها شاحبا كأنها صنم من الرخام، فظن والدها أن ما بها تأثير إقلاقها في الليلة الماضية فلم يسألها عن تغيرها، وقد أحسنت فاننكا بقولها لأبيها إن فيدور سافر؛ فلذا لم يسأل الجنرال عنه، بل بلغ حاشيته أنه أرسله في مأمورية.
ولازمت فاننكا غرفتها طول النهار، ولما أمسى المساء استعدت للذهاب إلى المرقص، وقامت لتتزين بحليها وحللها، وما أصعبها زينة وما أقسى! واضطرت فاننكا إلى الذهاب للمرقص لأمرين؛ الأول: خوفها من أن ينزعج والدها إذا تظاهرت بالمرض رجاء البقاء في القصر؛ فيبقى الجنرال معها ويستحيل مع بقائه نقل جثة فيدور. والثاني: خشيتها مقابلة إيفان في غرفتها وهو مطلع على دخيلة أمرها، ففضلت الذهاب إلى المرقص مرغمة وتزينت أجمل زينة.
ولما أتمت زينتها أمرت أنوشكا فأغلقت الأبواب، ثم اتجهت فاننكا قاصدة غرفة الوصيفة عازمة أن تودع حبيبها الوداع الأخير، فدخلت الغرفة وهي مزينة كعروس أعدت للزفاف، ولكنها سارت بخطى مضطربة ووجه شاحب وهي في ثوبها الأبيض كأنها شبح خارج من بعض القبور، ولما بلغت الصندوق رفعت غطاءه أنوشكا فركعت بجواره فاننكا، ومدت يدها دون أن تسقط من عينيها دمعة أو يصدر من صدرها تنهد لفرط الحزن واليأس، فانتزعت من إصبع الفتى خاتما وضعته في إصبعها بين خاتمين ثمينين، ثم انحنت على الصندوق فقبلت فيدور في جبينه القبلة الأولى والأخيرة، ثم قالت: الوداع يا خطيبي!
وفي تلك الساعة سمع وقع أقدام متجهة نحو الغرفة، فأقفلت أنوشكا الصندوق، وقصدت فاننكا الباب بنفسها ففتحته فوجدت خادما من أبيها يسألها: هل أتمت زينتها؟ فسارت فاننكا وراء الخادم وهو ينير أمامها الطريق قاصدة أباها تاركة لأختها في الرضاع إتمام المهمة التي عهدت بها إليها.
ونظرت أنوشكا العربة المقلة لسيدتها وأبيها خارجة من القصر، فانتظرت برهة ثم قصدت أخاها إيفان السائق الذي مر بنا حديثه في بدء الرواية، فوجدته يتعاطى الراح مع جريجوار، وجريجوار فرحان جذل بما ناله من الجنرال، وكان الخادمان في بدء الشرب ولم تلعب الخمرة منهما بالرءوس بعد، فدعت أنوشكا أخاها وقصدت به غرفة مولاتها، وهناك قصت عليه الأمر وأعلمته ما تنتظره منه من المساعدة، وأبلغته ما وعدته به سيدتها فاننكا من الخير والبر الكثير جزاء خدمته وكتمانه. فأقسم إيفان بالأيمان المغلظات ليخلصن لسيدته الخدمة، ويكتمن السر ما عاش، فدخلت به أنوشكا عندئذ إلى غرفتها، ورفعت غطاء الصندوق، فلما رأى العبد جثة فيدور بهت ووقف منذهلا حائرا، ولكن خطر بباله ما وعدته به فاننكا عن لسان أخته فتشجع وتحمس، ثم سأل أخته أن تنتظره قليلا، وبدلا عن أن يعود إلى جريجوار ومجلسه ذهب فجهز مركبة من مركبات النقل، ووضع بها فأسا وحملها تبنا، وقصد بها بابا صغيرا في أحد جوانب القصر، ثم صعد إلى أنوشكا بعد أن تأكد خلو المكان من الرقيب، فحمل جثة فيدور إلى المركبة ودفنها في التبن، وسار في ظلام الليل مخترقا شوارع سان بطرسبرج المقفرة حتى وصل إلى نهر النيفا، وهناك وقف بعربته في ظل كنيسة القديسة مجدلينة وستره الظلام، فتناول الفأس وقصد النهر وكان الوقت شتاء، وقد غشي الماء طبقة من الجليد، ففتح إيفان فرجة في الجليد، ثم رجع إلى العربة فأخذ ما على فيدور من دراهم، وقصد بجثته الفرجة فألقاها حيث حملتها مياه النيفا نحو خليج فينلندة سائرة بها في طريقه الأبدية ...
وبعد برهة رجع إيفان إلى القصر، وأخذت الفرجة تضيق بفعل البرودة؛ حتى التحم الجليد وعاد ظهره مستويا كما كان، يكاد سناؤه يضيء ظلمة الدجى.
الفصل الثالث عشر
عادت فاننكا مع أبيها في منتصف الليل، فوجدت أنوشكا تنتظرها بردهة القصر؛ لتنزع عنها رداءها، فسألتها فاننكا بنظرة عما تم، فمالت إليها الوصيفة وقالت لها همسا: انتهى كل شيء يا مولاتي.
فتنفست فاننكا كمن أزيح عن صدره حمل ثقيل، ولقد عرفنا الفتاة قوية العزيمة قهارة لعواطفها، لكن لعمري قد جعل لشجاعة الإنسان وصبره حد لا يتعدياه مهما بلغ الإنسان من القوة والعزم؛ فلذا لم تتمالك فاننكا أن تحضر العشاء مع والدها، فاعتذرت له محتجة بإتعاب المرقص، وقصدت غرفتها فانتزعت الزهور عن رأسها والحلي عن صدرها، فرمت بها بعيدة عنها وقطعت المشد عن خصرها وقد كاد يخنقها، ثم استلقت على فراشها حيث استخرطت في البكاء والشهيق بحرقة وولوع، فحمدت أنوشكا ربها إذ فرج عن صدر مولاتها بالبكاء؛ لأنها كانت تخشى عليها غائلة الجمود.
ولما أخذت فاننكا حظها من البكاء قامت تصلي، ولبثت ساعة من الزمن جاثية أمام مصلاها حتى اضطرتها خادمتها الأمينة إلى أن تلتمس لنفسها الراحة، فقامت ورقدت في سريرها، وجلست وصيفتها بجانب السرير، ومضى الليل كله دون أن يزور جفن الفتاتين الكرى، ولما أشرق الصباح سري عن فاننكا بعض انقباضها لفرط ما بكت، ثم عهدت إلى أنوشكا أن تبلغ إيفان شكرها، وتقول له إنها تخشى إن هي أعطته مكافأة على خدمته مبلغا عظيما من المال مرة واحدة أن تحرك عليه الظنون، وتبلغه أنها مستعدة لإعطائه كل ما يريده من الدراهم وقت حاجته إليه.
أما جريجوار فلما نال من سيده الجنرال ما وعده به، اعتزل الخدمة واتخذ خارج المدينة حانة دعاها «الحانة الحمراء»، ولكثرة معارفه بين خدمة وعبيد البيوت الشهيرة ببطرسبرج قصد حانته جمهور عظيم منهم، فأقبلت عليه الدنيا وصار لحانته شهرة بين الناس.
واتخذ الجنرال شرميلوف حلاقا آخر، وعادت الأحوال في قصر الجنرال إلى ما كانت عليه لولا غياب فيدور.
الفصل الرابع عشر
مضى شهران على ما مر بنا من الحوادث، وسرها مكتوم عمن في القصر أجمع، وذات يوم استدعى الجنرال شرميلوف ابنته إليه، فأوجست خيفة لهذه الدعوة، وكانت منذ الليلة المشئومة تترقب شرا من أبسط الأمور، إلا أنها جمعت قواها واتجهت نحو مكتب أبيها فوجدته منفردا ووجهه متهلل بالبشر والسرور، فاطمأنت واقتربت منه فقبلها في جبينها قبلته الأبوية المعتادة، وأشار لها بالجلوس فجلست، ثم مد إليها يده بخطاب مفتوح، فأخذته متعجبة، وأجالت نظرها في صفحاته وإذا به يتضمن موت خطيبها ابن المشير، حيث قتل في براز مع بعض أعدائه.
وأخذ الجنرال يتتبع تأثير هذا الخبر على نفس ابنته، ولم تكن فاننكا مع شجاعتها وقوة عزيمتها لتتمكن من إخفاء عواطفها في مثل هذه الحالة، وأي قلم يتمكن من وصف ما خالجها إذ ذاك من عوامل الأسف والندامة وعذاب الضمير، لا سيما وقد أصبحت خالصة من وعود أبيها ولها حرية الاقتران بمن تشاء.
وقد عزى الجنرال ما لمحه من اضطراب ابنته إلى حبها لفيدور، ذلك الحب الذي تجتهد أن تخفيه عن الناس، ولا تكاد تنم به ظواهرها، فتبسم وقال لها مطمئنا: هيا يا ابنتي، وقري عينا فقد تمهدت الأمور.
فأجابته فاننكا: وكيف ذلك يا أبتي؟
قال: ألم يبتعد عنا فيدور بسبب حبه لك؟
أجابته: نعم.
قال الجنرال: إذن فمتيسر له العود الآن.
فصمتت فاننكا وارتجفت شفتاها، وبعد برهة من السكوت قالت: العود ...
أجابها الجنرال مبتسما: نعم العود؛ لأن بعده عنا يؤلمنا، فاجتهدي يا فاننكا في معرفة مقره وعلي إتمام الباقي.
قالت الفتاة بصوت يكاد يقطعه اليأس: ما من أحد يعلم مقر فيدور، نعم، ما من أحد إلا الله.
فصاح بها الجنرال قائلا: ماذا تقولين؟ ألم يراسلك إذن أو يحطك علما على الأقل بمكانه منذ سفره؟
فهزت الفتاة رأسها علامة السلب، وقد حال حزنها وضيق صدرها دون الكلام، فانقبض الجنرال لذلك وسألها قائلا: وهل تخشين أن يكون أصابه حادث؟
أجابته فاننكا وقد بلغ منها الحزن مبلغا عظيما: إنني أخشى ألا يعود لي صفو ولا راحة في هذه الحياة الدنيا.
وسكتت برهة، ثم قالت: اسمح لي يا أبتي بالانسحاب، فإنني خجلة مما تفوهت به.
فقبل الجنرال ابنته، وقد ظن أنها تأثرت من اعترافها بحب فيدور، وسمح لها بالذهاب ولم يفقد الأمل من لقاء فيدور رغما عن انقلاب هيئة فاننكا.
وفي اليوم نفسه توجه الجنرال، فقابل القيصر وبلغه قصة فيدور وابنته واستأذنه في الجمع بينهما لوفاة الخطيب الأول، فأذن به ثم أعلمه الجنرال خبر اختفاء فيدور، والتمس منه أن يأمر بالبحث عنه، وكان لشرميلوف معزة لدى القيصر؛ فاستحضر القيصر في الحال مدير الضابطة، وكلفه بالبحث الدقيق في جميع أرجاء المملكة عن الفتى الغائب.
وانقضت ستة أسابيع أفرغ فيها الجنرال والشرطة جهدهما ولم يقفا لفيدور على أثر.
أما فاننكا فزاد عليها الحزن واليأس من يوم تلاوة الخطاب، فاعتزلت في غرفتها مستسلمة لهمومها ، وكلما حاول الجنرال تطمين خاطرها ازدادت كآبة وانسحبت من مجلسه؛ حتى ظن أن ذكر فيدور يهيج أشجانها، فلم يكلمها بخصوصه بعد، وكان فيدور محبوبا من حاشية القصر أجمع عدا جريجوار الخائن، فلما علم الخدم أنه لم يرسل في مأمورية - كما قال سيدهم - بل اختفى بغتة، ولم يوقف له على أثر، اغتموا لهذا الخبر، وصار ذكر فيدور وغيابه موضوع حديثهم في مجالسهم يتساءلون كل يوم عن نتيجة الأبحاث عنه، ويسألون الله أن يرده لهم سالما؛ لكرم أخلاقه وحسن معاملته.
الفصل الخامس عشر
بلغ جريجوار في «حانته الحمراء» خبر اختفاء فيدور، فاندهش وزاد به العجب، لا سيما وقد ترك الفتى في غرفة مولاته ولم يغب إلا ريثما أخطر الجنرال، ثم استلفت نظره بعد ذلك أمور خال أن لها علاقة بذلك السر الغريب، منها توسع إيفان في الصرف والبذخ بما لا يعهد في عبد مثله، وسكوت إيفان التام كلما جرى ذكر فيدور حتى إذا سئل عما يعلمه أو يظنه في المسألة هز رأسه وقال: «لنتكلم في موضوع آخر»، فتضاربت ظنون جريجوار. وفي هذه الأثناء أقبل عيد الملوك وهو يوم مشهود ببطرسبرج تقام فيه الاحتفالات، وتبارك مياه النهر، فاغتنم إيفان فرصة العيد فقصد «الحانة الحمراء» وكان لدى جريجوار جمع غفير، فاستقبل إيفان بالترحيب لا سيما وقد علم القوم أنه لا يأتي عادة إلا ممتلئ الجيوب.
ودام القوم في شرب ولهو يتنقلون من حديث إلى حديث، حتى وقع الكلام على الاسترقاق، فأخذوا يغبطون جريجوار على ما ناله من الحرية والخلاص من العبودية، ويتمنى كل منهم أن يصير إلى ما صار إليه صاحب الحان، فالتفت إليهم إيفان قائلا: كم من عبد تغبطه أسياده على ما هو فيه من راحة البال، حتى ليكاد يفضل الأسر على الحرية.
فقال جريجوار، وقد لمح من وراء هذه العبارة ما أعاد إليه الظنون: وما دليلك على ما تقول؟
ثم سكب للسائق قدحا مفعما من الخمر وقدمه إليه، فقال إيفان، وقد رقصت برأسه بنت الحان: نعم، لا يكاد السيد منهم يولد حتى تأسره المدرسة، ثم إن هو شب اضطر للبحث عن وظيفة، فإن كانت في العسكرية صار مستعبدا لرئيسه، عديم التصرف في أقل حركاته، ولو بلغ مهما بلغ من الرقي، وإن كانت الملكية أصبح منغصا بمتاعب الحياة؛ فاليوم زوجة تناوئه ودهر يحاربه، وغدا أولاد لا يدري كيف يربيهم، فإن كان فقيرا قضى حياته في تعب وجهاد، وإن كان غنيا خشي شر اللصوص الذين لمثله بالمرصاد، فهل تلك حياة أيها الإخوان؟! أما العبد فلا يهتم لمعاش؛ يطعمه أسياده ويسقونه، فلو عري يكسونه، أو مرض يداوونه، وحينما يشب يزوجونه طمعا في نسله من الأولاد، وهو مع راحة باله من هموم حياته، حري بأن يكون أسعد من أسياده.
قال جريجوار: ولكنك مع ذلك لست حرا.
أجابه إيفان: وماذا تعني بالحرية؟
قال: أن تتوجه أنى تشاء متى تشاء.
أجابه السائق: إني إذن حر؛ لأني مطلق التصرف أفعل ما أريد.
قال جريجوار: لو فرضنا أنك حر في التصرف، فإنك تبقى طول دهرك فقيرا محروما.
أجابه السائق، وهو بين كل جملة وأخرى يرفع لشفتيه قدحا من الخمر: كذبت، فلن تنقصني الدراهم ما دامت سيدتي فاننكا الكريمة في الحياة.
قال جريجوار: لقد عرفتها كريمة بالجلدات لا بالدراهم.
فقال خادمان من قصر شرميلوف كانا جالسين مع المتحاورين: حقيقة إن لإيفان مقاما مخصوصا بين خدمة القصر، حتى إن مولاتنا لا تعامله إلا معاملة الأسياد.
فقهقه جريجوار، ورفع قدحه ساخرا قائلا: في محبة السيد إيفان.
فتأثر إيفان من ذلك التهكم، وقال: نعم، إن لي مقام الأسياد، وذلك لأن أسيادي تخشاني وتطيعني إذا ما أمرت.
فتنبه جريجوار لمعنى هذه الجملة، وصار يسكب لإيفان الخمر كأسا بعد كأس، ثم قال له: إن كان لكلامك صحة، فأقم عليه إن شئت البرهان.
قال إيفان: لك ذلك، فاصرف من في الحان.
فقام جريجوار ونبه الحاضرين إلى قرب انتصاف الليل، ودعاهم للانسحاب طبقا لأوامر الشرطة، ولما خلا بإيفان ولم يبق في الحانة إلا الخادمان الآخران قال له: هات برهانك.
قال إيفان: ما قولك إذا دعوت مولاتي فاننكا إلى الحضور لهنا، ولبت دعوتي وشربت كأسا في نخبنا؟
فصاح جريجوار: إنك لمجنون.
قال إيفان: والجنون فنون، فهل تراهن على ما أقول؟
قال جريجوار: لك ما تريد. ثم أضاف هازئا: وإن تيسر لك الأمر فلا تنس أن تأمر مولاتك يا سيدي إيفان بإحضار زجاجة من الخمر معها؛ فخمور القصر أجود من خمور الحان.
أجابه إيفان: ولكن لنتراهن أولا، فإن تم لي الأمر أشرب وأسكر عاما في حانك بلا مقابل، وإن لم يتم أعطك مائتي روبل.
قال صاحب الحان: لك ذلك.
واتفق الصاحبان، ثم افترقا مستشهدين الخادمين على ما اتفقا.
الفصل السادس عشر
غاب إيفان نصف ساعة ثم عاد، فسأله جريجوار: ما وراءك يا إيفان؟
قال: مولاتي تتبعني.
وللحال سمع صوت فاننكا تقول لوصيفتها: ادخلي يا أنوشكا، واسألي جريجوار هل لديه أحد من خدامنا؟
فبهت الحاضرون لما تبينوا الصوت، ونظروا إلى بعضهم مندهشين بين مصدقين ومكذبين، أما إيفان فاضطجع على مقعد معجبا بنصرته، مداعبا بيده شعر لحيته.
وفتحت أنوشكا باب الحان، فرأى الجالسون الجو ملبدا بالغيوم، والجليد يتساقط كالقطن المنفوش، ثم التفتت الوصيفة لسيدتها قائلة: ليس هنا يا مولاتي إلا أخي وصاحب الحان، وإسكندر ودانيال والخادمان.
فدخلت فاننكا وبيدها زجاجة من الخمر، والتفتت إلى الحضور قائلة: بلغني - أيها الخلان - أنكم تشربون نخبي؛ فأحببت أن آتي بنفسي لأشرب نخبكم أيضا، فدونكم هذه قنينة من نبيذ فرنسا العتيق، فمدوا إلي الكئوس؛ لأسقيكم من هذا الرحيق.
فمد الحاضرون كئوسهم متعجبين هائبين، ومد من بينهم إيفان كأسه بكبر ووقاحة، فصبت فاننكا الخمر حتى أفعمت الكئوس، ولما رأت تردد الخدم في شربها هيبة وحياء شجعتهم قائلة: في صحتي أيها الأحباب.
فرفع الخدام الكئوس بحماس، وقد اطمأنوا لرقة صوتها وملاطفتها فصاحوا: في صحة مولاتنا الكريمة.
وشربوا الأقداح، فملأتها لهم فاننكا ثانية، ثم وضعت أمامهم الزجاجة قائلة: دونكم - أيها الإخوان - فاشربوا ما في هذه القنينة، ودعوني ووصيفتي نتدفأ بجانب الموقد.
فأراد جريجوار أن يقدم للفتاتين المقاعد، فلم يستطع بل سقط؛ إما لتأثر الخمر أو لتأثير ما مزج بالخمر ، فتمتم معتذرا، فأجابته فاننكا: لا بأس عليك، ابق مكانك، واشربوا أيها الإخوان ولا تهتموا بنا.
واغتنم الحضور الأمر فأفرغوا الكئوس، وهم كلما تقدموا في الشرب ثقلت منهم الرءوس، فيسقطون لا يعون على شيء، فهبت فاننكا وقد صاروا جميعا طريحي الأرض، فقالت لوصيفتها: لقد أثر فيهم الأفيون.
فقالت الوصيفة: ولكن ما غرض مولاتي من ذلك؟
قالت فاننكا: سترين عما قليل.
ثم قامت فجمعت ما في الحان من حطب وأخشاب، فجعلته أكواما في أركان المكان، وأخذت قطعة مشتعلة من الموقد؛ فاضطرمت النار في الأحطاب، ثم جذبت وصيفتها إلى الخارج، فصاحت بها الوصيفة قائلة: ويلاه! ماذا تصنعين يا مولاتي؟
قالت: أدفن السر تحت الرماد.
قالت الوصيفة: ولكن أخي ...
فقاطعتها سيدتها قائلة: أخوك خائن أفشى السر، فخير له أن يموت قبل أن نذهب ضحية خيانته.
فأخذت أنوشكا في البكاء والنحيب، فقالت لها فاننكا باسمة: إن عز عليك أخوك فما عليك إلا اللحاق به.
قالت الوصيفة منزعجة، وقد لعبت النار بجدران الحان: مولاتي، النار، النار.
قالت: دعيها تلتهم الفجرة الأشرار.
ثم جذبتها إليها الفتاة بعيدا عن الحان، فجلستا على الجليد، وأعين فاننكا تتأمل منظر النار وقد علا لهيبها في ظلام الليل؛ لتطمئن من تدمير الحان بمن فيها، أما أنوشكا فاندفعت تصلي طالبة لأخيها الغفران، قبل أن يتمثل أمام الملك الديان.
ولم يطل أمد الحريق؛ لأن الحانة كانت من خشب وطيب كأغلب مساكن القرويين من الروسيين، ولما انقض سقف الحانة على من فيها، وأمنت فاننكا شر نجاتهم، اطمأنت فتركت مكانها عائدة إلى قصر أبيها تتبعها وصيفتها، حيث دخلتا القصر دون أن يشعر بخروجهما ودخولهما إنسان.
الفصل السابع عشر
أصبح القوم في بطرسبرج ولا حديث لهم إلا حريق «الحانة الحمراء»، وقد استخرج من تحت الرماد أربع جثث عرفت من بينها جثة صاحب الحان، أما الجثث الثلاث الأخرى فعلم فيما بعد أنها جثث ثلاثة من خدام قصر شرميلوف؛ لأنهم خرجوا قاصدين الحانة ولم يعودوا منها، وبقي سر الحريق مكتوما، وقد تضاربت فيه الظنون، خصوصا وأن موقع الحانة كان منفصلا عن المدينة، وكانت الطريق قفرة في ليلة الحريق والزوابع عاصفة، وهكذا أمنت فاننكا شر ما فعلت لموت سرها بموت من أذاعوه، ولكن أخلف الخوف عذاب الضمير وكانت الفتاة نقية، فثقلت عليها جريمتها التي ساقتها إليها الظروف القاسية، فلم يطب لها عيش، ولم تهنأ لها حياة وصارت تتصور أمامها الحوادث التي مرت بها فتكدر عليها أيامها.
ومن مبادئ النصرانية أن الخطية تخف بالاعتراف بها للرئيس الديني المكلف بقبول الاعتراف، وأن كل خطية لم يعترف بها لا تقبل عنها التوبة إلى الأبد، وحكمة الاعتراف الإقرار بالذنب مع الندامة إذلالا للنفس وردعا لها.
ورأت فاننكا أن تعترف بخطاياها، فقصدت أحد البوبات الأتقياء (والبوب: الرئيس الديني عند الروسيين)، فقصت عليه أمرها والتمست منه المغفرة، فأطرق الكاهن برهة مندهشا لفظاعة ما أتته الفتاة، ثم رفع رأسه إليها رافضا ما طلبته من المغفرة، فكادت تصعق فاننكا لهذا الرفض؛ لأنه يحرمها من تناول القربان في الكنيسة ويقصيها عن المائدة المقدسة (وهي المائدة التي يجهز عليها القربان)، ولا يقصى عنها إلا كل من أتى خطية لم يسمع بمثلها أو جناية بقي خبرها مكتوما، فارتمت الفتاة على أقدام الكاهن تطلب منه الرحمة بها والشفقة عليها؛ لئلا يستجلب هذا الرفض تحويل الأنظار إليها وهتك سترها، فأطرق الكاهن برهة، ثم سمح لها بحضور الكنيسة مثل رفيقاتها والاقتراب من المائدة المقدسة، لكن دون أن تتناول شيئا من القربان.
وعلى ذلك ترك البوب كرسي الاعتراف، وسار قاصدا منزله مضطرب الفكر والحواس، وبقيت فاننكا في الكنيسة وقد دخل الليل فأثر عليها خلو المكان وهيبته وظلام الليل، مع ما هي فيه من الحزن واليأس، فازدادت كآبتها وقامت قاصدة القصر مثقلة بالهموم.
ودخل البوب منزله، فوجد زوجته إليصابات في انتظاره، وقد أرقدت ابنتهما أرينا في الغرفة المجاورة لغرفتهما، ولما شاهدت إليصابات انقلاب سحنة زوجها انزعجت، وسألته عما به فطيب خاطرها، وكانت المرأة ثرثارة فألحت عليه؛ لتعلم سبب اضطرابه، لا سيما وأنها علمت بالأمس أن أمها مريضة، فخشيت أن يكون بلغه عنها خبر يسوء وقعه، فأجهشت للبكاء ، وقالت: لقد ماتت أمي.
فحاول الكاهن عبثا أن يطمنها، وأقسم لها أن منشأ اضطرابه غير ما تظن، لكنها لم تقتنع واندفعت في البكاء، فاضطر أن يقول لها إن سبب ذلك الاضطراب سماعه اعترافا في الكنيسة بجريمة لم يسبق لها نظير، فصاحت به المرأة قائلة: مين وخداع، إنما أنت تحاول إخفاء الحقيقة.
وللحال تولتها نوبة عصبية شديدة، فلم يجد الكاهن بدا من أن يقص عليها ما سمعه في الكنيسة مفصلا؛ ليذهب عنها روعها، فاستحلفها كتمان الأمر، وهكذا خان «سر الاعتراف» وفرط في أول وأقدس الواجبات الدينية التي فرضتها عليه وظيفته.
وكانت ابنتهما الصغيرة أرينا قد استيقظت على صوت المحاورة والبكاء، فهبت من فراشها، وبعثها حب الاطلاع إلى الإصغاء على باب الغرفة، فسمعت كل ما دار بين أمها وأبيها.
وأقبل يوم تناول القربان، فامتلأت الكنيسة بجماهير المصلين، وكانت فاننكا في مقدمة الصفوف جاثية أمام الهيكل ومعها أبوها وأركان حربه، ووراء الجميع خدمة القصر، وكانت أرينا وأمها من الحاضرين، فاشتاقت البنت أن تتبين وجه تلك التي سمعت والدها يقص عنها أفظع الأعمال، فتركت أمها تصلي واقتربت من الهيكل؛ لتشاهد فاننكا، ولكنها صادفت خدمة الجنرال فمنعوها من التقدم، لكنها قاومتهم راغبة المرور بين صفوفهم، فدفعها بعضهم بقوة؛ فسقطت وأصابت رأسها سلم الهيكل فانجرحت، وقامت الابنة تولول وتصيح ودمها يسير، وأخذت في سب الخادم الذي دفعها قائلة: إنك أحقر من أن تتجرأ على مثلي، أفمعجب أنت بلحيتك؟ أم مفتخر بتبعيتك لتلك السيدة التي أحرقت الحانة الحمراء؟
وكان السكوت شاملا والقوم في انتظار الصلاة، فوقعت هذه الكلمات كالرعد، وسمعها كل من في الكنيسة، وفي الحال تبعها صوت مزعج صادر من جهة الهيكل، وكانت تلك فاننكا قد أغمي عليها.
الفصل الثامن عشر
وفي الغد تمثل الجنرال شرميلوف بين أيدي القيصر بول الأول، فأبلغه قصة فاننكا كما روتها له الفتاة؛ لأنها لم تستطع أن تكتم ما بها طويلا؛ فأعلمت أباها في الليلة التي تلت حادثة الكنيسة بأمرها جميعه، ولم تخف عنه شيئا.
ولبث القيصر برهة مفكرا فيما ألقي على مسامعه من الحوادث، ثم هب عن مقعده وقصد مكتبة فتناول قرطاسا كتب فيه القرار الآتي:
لقد هتك البوب حرمة ما كانت لتهتك، حيث خان سر الاعتراف، فينفى إلى سيبريا وتلحقه امرأته؛ لأنها شاركته في الجريمة، حيث لم تحترم سرا من أسرار وظيفته فاضطرته إلى إفشائه، وتلحق بهما ابنتهما الصغيرة.
وتنفى أنوشكا الوصيفة إلى سيبريا أيضا، حيث لم تخطر سيدها بسيرة ابنته.
وإني حافظ كل اعتباري للجنرال، بل أتأسف وأشاطره الحزن على ما أصابه.
أما فاننكا فلا أدري عقوبة أقضي بها عليها، ولا أراها إلا ابنة قائد شهم كرس حياته في خدمة وطنه، هذا وإن الظروف الغريبة التي اكتشفت فيها الجناية تجعل المتهمة بعيدة عن طائلة غضبي، فأكل إليها عقاب نفسها بنفسها، فإن أصاب ظني فيما توسمته في طباعها وبقي لديها من الإحساس ما تدرك به خطارة حالها؛ فسيدلها قلبها وضميرها على الطريق الواجب عليها اتباعه.
ولما أتم القيصر كتابة القرار، قدم القرطاس مفتوحا للجنرال شرميلوف، وكلفه أن يحمله إلى الكونت بهلن حاكم المدينة.
وفي الغد نفذت أوامر القيصر، أما فاننكا فقصدت ديرا انزوت فيها، ولم يمض العام حتى قضت حزنا وأسفا.
وحصلت بعد ذلك واقعة أوسترلتز الشهيرة فقضى الجنرال شرميلوف في ساحة القتال، سبحان من لا يزول، وإليه المرجع والمآل. (تمت)
كلمة للمعرب
علم القراء الكرام من مقدمة هذه الرواية أن وقائعها حقيقية، وأزيد الآن بأن القرار الذي أصدره القيصر قد أوردت هنا ترجمته الحرفية بلا تصرف، مأخوذة عن أوثق المصادر التاريخية، وكفى به شاهدا بصحة الحوادث التي تقدمته.
وأغتنم هذه الفرصة لأقدم لحضرات الأدباء الأفاضل قراء مسامرات الشعب واجب الشكر على حسن قبولهم لروايتي الأولى «ملك الظرفاء»، وعلى ما أتحفوني به من عبارات التشجيع والثناء، وآمل أن يلاقوا في روايتي الثانية ما يقوي عزمي على خدمتهم وخدمة الآداب.
المعرب
صالح جودت
كلمة ثناء
إن كان التعاضد على خدمة الآداب فرضا واجبا؛ فشكر القائمين به فرض أوجب، ولقد لاقيت من حضرات القراء الأفاضل تشجيعا وإقبالا على «مسامرات الشعب » جعلا لي الأمل الفسيح في حسن مستقبلها، فأرى من واجباتي المقدسة أن أشكرهم على حسن استقبالهم لهذه المجموعة، كما أني أغتنم الفرصة لتقديم واجب الشكر أيضا لحضرات أرباب الصحافة المصرية، الذين تكرموا بتقريظ هذه الروايات، وأفسحوا مجالا في صحفهم لنقدها، فالله أسأل - بفضل هذه الهمة والغيرة - أن يوفقنا جميعا إلى بلوغ الغاية المتمناة من خدمة الوطن والأمة، آمين.
خليل صادق
صاحب مسامرات الشعب
ناپیژندل شوی مخ