فبضبطه جزر الأرخبيل حفظ ثغور بلاده، وبجهاده العنيف جعل البحر الأسود كبحيرة عثمانية، وبتحكيمه كل النقاط المهمة على حدود بلاده أمن الغوائل، وباتخاذه نقل رعاياه المختلفي المذاهب والمشارب من بلد إلى آخر عادة مفيدة وبدعة حسنة؛ ساوى بينهم من حيث العدد والحقوق ودرأ وقوع الانقسامات الداخلية والهجمات الخارجية؛ لأنه كان لديه في كل قطر ومصر قوة إسلامية كبيرة من أهليها شاكيي السلاح ومتأهبين لكل نازلة وكارثة.
والذي يقضي بالعجب العجاب أنه بالرغم عن نجاحه في فتوحاتها وحروبه الخطيرة لم يدر في خلده أن يتجاوز بدولته الحدود الضرورية لها، فإنه ضرب صفحا عن الاستيلاء على بلاد الفلاخ والبغدان والمجر في أوروبا، وطوى كشحا عن ضبط كردستان وأذربايجان في آسيا، وقد كن لا يقفن في وجهه برهة يسيرة من الزمن، واشتغل بفتح قلعة أشقودرة السنين الطوال وبذل في سبيلها كل مجهود وموجود؛ وذلك لأنه كان يرى أن أشقودرة تعوزه في حفظ كيان بلاده، وغيرها تضر بمصلحتها بالنسبة إلى حالة الدولة الحيوية وقواها الموجودة إذ ذاك.
ولم يقف الفاتح في ملكه عند حدود الماديات، بل اشتغل بالمعنويات أيضا، فقد دون القانون المحمدي وعين به وظائف رجال الحكومة من السلطان إلى أصغر جندي، وأفرد فيه فصولا خاصة في الإدارة والقضاء والسياسة والجندية، وبعد عرضه على كثير من العلماء الذين كانوا يؤمونه من مشارق الأرض ومغاربها وتأييده بما ينوف عن مائتي فتوى من كبارهم، وضعه موضع العمل واستعمل الشدة والمضاء في تنفيذ أحكامه.
ونظر إلى مستقبل الدولة التي بلغت في حاضرها من الإقبال والكماليات مبلغا عظيما، فجعل بلاده مباءة للعلم ومألفا للأفاضل، إلى حد أنه جمع كل ما عثر عليه من ذوي الباع الطويل والاطلاع الواسع في العلوم والمعرفة، وعقد بهم ديوانا دائميا يرجع إليه في حل المسائل العلمية والقضايا السياسية، ولبث هذا الحال جاريا إلى ما قبل عصر واحد، حيث تفرقت تلك الجامعة العظيمة أيدي سبأ بسبب ما اعتورها من الخلل.
وفرض في أمر التعليم طريقة الإحصاء، فحصر العلوم النقلية من فقه وحديث وغيرهما في مدارس، والفنون العقلية من طب وهندسة وسواهما في أخرى. وقد نبغ العارفون في عهده نبوغا عظيما؛ لأن قاعدة توزيع الأعمال أتت بفوائد جمة ونتائج مرضية، حتى إن أوروبا قلدت الفاتح بطريقته هذه قبل قرن من زماننا وجنت ثمارها الشهية.
ولو أن خلفاء الفاتح مشوا على طريقته وضربوا على قوالبه لكانت القسطنطينية اليوم محور العلوم وقطب دائرة التمدن العصري، أما الصناعة فكان لها منه أيضا حظ وافر ونصيب كبير. وكان يأتي بمهرة الصناع من البلاد المفتوحة إلى العاصمة؛ ليستخدمهم في المعامل التي أنشأها.
ولم يغرب عن فكره الوضاء التجارة، وكان جل ما رمت إليه مطامعه من توسيع نفوذ العاصمة هو فتح الأبواب العظيمة للتجارة وترويج أسواقها الكبيرة.
وللسبب ذاته تلقاه أجلى الجنويين عن شواطئ البحر الأسود؛ حتى يتمكن من استدرار تجارة آسيا بتمامها إلى العثمانيين، وتلفيه عقد مع البندقية اتفاقية المكوس «الجمارك» لقاء رسم طفيف، لكي يستورد متاعها بكثرة.
وهو أول من عاقد وعاهد الأوربيين ووضع أول حجر من أساس الصلات معهم بدليل هذه الاتفاقية، وأخرى عقدها مع ملك صقلية.
ويجدر بالقارئ الكريم أن يتفق معنا على أن الفاتح كان من الأعاظم الذين خدموا بلادهم وأوطانهم خدمات مبرورة ومشكورة، وتركوا في العالم أثرا لا يمحى واسما لا ينسى، بل يزيده مر الأيام جدة، كيف لا وقد كانت عنايته تعم الجزئيات والكليات وتشمل الحقير والجليل من الأمور، فلا يدع شيئا إلا ويتولاه بنفسه ويسلك به المحجة البيضاء، فقد كان قائدا مدربا وجنديا باسلا في آن واحد، فإذا حلت الكريهة تلقاه الرجل الذرب الذي يشق غياهب الأمور وينورها بباهر الحكمة وواسع الإدراك، وإذا تكونت الكائنة تراه البطل المغوار الذي يستهين الموت ويزدري بالنكبات، فإذا تقدم جيشه كان في مقدمته، وإذا تقهقر كان في مؤخرته، وكان عارفا بجنود جيشه فضلا عن قواده بالذات والصفات والمكانة الحربية، ومطلعا على دخائل الأمور ومكنونات الصدور، فيجزي المحسن ويجازي المسيء.
ناپیژندل شوی مخ