إن هذا الاختراع العظيم الذي سمحت به تلك القريحة الوقادة لغاية حفظ الأسطول والجسر كان أما لأصول قنبلة اليوم وأصلا لفروع مدفعيتها الراقية.
وبينما كان الفاتح في هذه الحركات البحرية كانت قواه البرية قد قضت على أربعة أبراج من القلعة وجعلتها دكا وملأت نصف الخندق تقريبا، على أنها لم تنل وطرا من الصور لأنه كان منيعا جدا، ولم تكن القذائف لتبدد شمله، بل كانت تخترقه وتفتح فيه الثغور فقط، فأراد السلطان تعجيل الفتح، وصوب قوة مدافعه الصغيرة على حائط وسط بين طوب قابو وأدرنة قابو، وأخذت هاته المدافع تصب عليه القذائف بضعة أيام متتابعات حتى تضعضعت قواه وتداعت قوائمه، فأشار الفاتح حينئذ باستعمال المدافع الكبيرة، فلم تكد ترمي هذه بقذائفها إلا وأخذت تتساقط على الحائط كأنها قطع صخرية انفصلت عن مراكزها بفعل بركاني وقضت عليه القضاء الأخير، وكان يوما عصيبا صمت به الآذان من هزيم المدافع وانهيال البناء وتناثر الأحجار.
ولما توسم الفاتح النجاح بعد ذلك أرسل يطالب الإمبراطور بتسليم القلعة بدون حرب حفظا للدماء من الإهراق والنفوس من الإزهاق، فلم يجبه إلى طلبه السلمي، فاضطر غير باغ للمثابرة على الفتح، وما أفلح بيومه رغم ما أوتيه في أمسه، وكان يخشى من العدو أن يسد الثغرة التي فتحتها مدافعه، فداوم الحرب طول تلك الليلة الليلاء على نار المشاعل ونور الشموع التي ارتفعت على أسنة الرماح.
وكأن تلك الأضواء التي كانت ترسل خطوطها الشعاعية إلى الفضاء مظاهر زينة زاهرة لمهرجان الغد العظيم، ومقدمات نتائج باهرة لذلك الفتح المبين.
ولما بددت طلائع الصباح جيوش الظلام تأبط الفاتح سيفه وتوسط جنده كعادته، وأخذ يبث فيهم روح الحماس ويقوي نفوسهم بنثر النيران أمامهم والذهب عن أيمانهم وشمائلهم، وافتتح كتاب الهجوم بيده، ولم تدم هذه الصولة الأسدية إلا ساعات قلائل أتت الجنود العثمانية بخلالها من ضروب الشجاعة وصنوف الشهامة ما يدك الرواسي ويبهر العقول، وقد ملئت الخنادق بجثث القتلى منهم، حتى فتحت القلعة والجنود تمر على ربوات من الهامات.
أما غلطة التي كانت بيد الجنويين وسيلوري وبوغادوس الباقيتين للروم، فقد سلمها أهلوها ودخلوا بأمان السلطان على إثر الفتح.
وضعت الحرب أوزارها وقتل قسطنطين الملك مع من قتل، ودخل الفاتح القسطنطينية بمحفل حافل، وحل في القصر الملكي حيث أسكي سراي الآن، وكان على غاية من الضخامة والفخامة والرواء والبهاء، فلما رأى السلطان ما انتاب هذا القصر وساكنيه اعتبر بتصاريف الزمن وجري المقادير، ولم يتمالك نفسه عن البكاء، وأخذ يردد بيت شعر بالفارسية مضمونه: «إن البوم يتغنى اليوم على حصن أفراسياب، والعنكبوت ينسج الستائر لقصر قيصر.»
هذه رواية التاريخ عن الفاتح العظيم، وهي أعدل شاهد وأظهر برهان ينطقان بزهده وتقشفه عن الدنيا، وخشوعه وخضوعه إلى خالقه الكريم.
أقام الفاتح في إستانبول زهاء عشرين يوما قام فيها بتدابير سياسية عظيمة كهدم أسوار غلطة من جهة البر، وترميم حصون إستانبول، ونقل خمسة آلاف عائلة من ساحل البحر الأسود إلى المدينة ليزيد عمرانها وحضارتها. وما نسي واجب العدل والرحمة بإعلان الحرية المذهبية واحترام الطقوس الدينية باستبقاء بطركية الفنار، وفك عقال الأسرى من سراة البلاد، ودفع فكاكهم من بيت المال.
والغريب أن هاته الأعمال التي جاءت غرة في جبين المكارم وقرة لعيون الكماليات، لم ترض فريقا من عمال السلطان المتغاليين في تعصبهم والمفرطين بسياستهم، بل انتقدوها عليه زاعمين أنه لم يبق ثمة مانع من تخيير الروم بين السيف والإسلام، وأن من الخرق في الرأي ترك رجال الحكومة السابقة أحرارا؛ لأن ذلك يعقبه انتقاض عن أيدي هؤلاء المضلين.
ناپیژندل شوی مخ