[المقدمة]
مقدّمة [التحقيق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. وبعد فهذا كتاب «الصناعتين» نقدمه لقراء العربية بعد أن نفدت طبعاته، وتناولته أيدى الوراقين بالعبث والتصحيف.
ومؤلفه هو أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكرى، ولد فى عسكر مكرم (من كور الأهواز) وإليها نسبته، وانتقل إلى بغداد والبصرة، وخلّف كثيرا من الكتب، منها:
جمهرة الأمثال، والصناعتين، وديوان المعانى، والمصون فى الأدب، والأوائل، وغيرها مما يدل على إطلاع واسع، وذهن ناقد.
ويرى ياقوت أنه توفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
أما كتابه الذى نقدم له «الصناعتين: الكتابة والشعر»، فقد استعان فى تأليفه بجل ما كتب سابقوه ممن عالجوا مثل موضوعه.
ونذكر من هؤلاء ابن سلام، وكتابه طبقات الشعراء، والجاحظ، وكتابه البيان والتبيين، وابن قتيبة، وكتابه نقد الشعر، وابن المعتز، وكتابه البديع، وقدامة، وكتابه نقد الشعر، والآمدى، وكتابه الموازنة، والقاضى الجرجانى وكتابه الوساطة بين المتنبى وخصومه.
وقد استطاع أبو هلال أن يعرض لنا زبدة هذه الكتب فى كتابه حتى إنه ليجعلنا نكاد نستغنى عنها جميعا.
وقد اعتمدنا فى تحقيق هذا الكتاب على النسخ الآتية:
١- نسخة طبعت فى الآستانة سنة ١٣٢٠ هـ. بتصحيح السيد محمد أمين الخانكى، وهى التى رمزنا إليها بالحرف (ط) . ٢- نسخة مخطوطة كاملة بدار الكتب المصرية رقم ٦٠٢ بلاغة، بخط محمد فضل الله الطيب، كتبت سنة ١٠٩١ هـ. وهى التى رمزنا إليها بالحرف (ا) .
٣- نسخة مخطوطة من الجزء الأول بدار الكتب المصرية رقم ٢٤٧ أدب تيمور، كتبت فى سنة ١١٦٢ هـ. بخط السيد محمد بن السيد مصطفى الراعى، وتنتهى بالجزء الأول من الباب السابع، وهى التى رمزنا إليها بالحرف (ب) .
هذا إلى كثير من كتب الأدب، والنقد، واللغة، ودواوين الشعر، مما أشرنا إليه فى آخر الكتاب.
وقد وضعنا له الفهارس الآتية:
(١) فهرس الموضوعات؛ وقد فصلنا فيه المسائل تفصيلا واضحا.
(٢) فهرس الأعلام.
(٣) فهرس الشعر؛ وقد رتبناه على حسب القوافى، ووضعنا أمام كل قافية قائلها.
ونرجو أن نكون قد يسرنا الانتفاع بالكتاب إذ أخرجناه فى صورة أقرب إلى الكمال.
على محمد البجاوى محمد أبو الفضل ابراهيم
[مقدمة التأليف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولىّ كلّ نعمة، وصلواته على نبيّه الهادى من كلّ ضلالة، وعلى آله المنتجبين «١» الأخيار، وعترته المصطفين الأبرار.
[فضل علم البلاغة]
[قال أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل ﵀ لبعض إخوانه: اعلم- علّمك الله الخير، ودلّك عليه، وقيّضه لك، وجعلك من أهله] «٢» أنّ أحقّ العلوم بالتعلّم، وأولاها بالتحفّظ- بعد المعرفة بالله جلّ ثناؤه- علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذى به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى، الناطق بالحقّ، الهادى إلى سبيل الرّشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحّة النبوة، التى رفعت أعلام الحقّ، وأقامت منار الدّين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حجب الشكّ بيقينها.
وقد علمنا أنّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصّه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف؛ وضمنّه من الحلاوة، وجلّله من رونق الطّلاوة، مع سهولة كلمه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التى عجز الخلق عنها، وتحيّرت عقولهم فيها.
وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايته، فى حسنه وبراعته، وسلاسته ونصاعته «٣»، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه. وقبيح لعمرى بالفقيه المؤتمّ به؛ والقارى المهتدى بهديه، والمتكلّم المشار إليه فى حسن مناظرته، وتمام آلته فى مجادلته، وشدّة شكيمته فى حجاجه «٤»؛ وبالعربىّ الصّليب «٥»
1 / 1
والقرشى الصريح «١» ألّا يعرف إعجاز كتاب الله تعالى إلّا من الجهة التى يعرفه منها الزّنجى «٢» والنّبطى «٣»، أو أن يستدلّ عليه بما استدلّ به الجاهل الغبىّ.
فينبغى من هذه الجهة أن يقدّم اقتباس هذا العلم على سائر العلوم بعد توحيد الله تعالى ومعرفة عدله والتصديق بوعده ووعيده على ما ذكرنا؛ إذ كانت المعرفة بصحة النبوة تتلو المعرفة بالله جل اسمه.
ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة، ومناقب معروفة؛ منها أنّ صاحب العربية إذا أخلّ بطلبه، وفرّط فى التماسه، ففاتته فضيلته، وعلقت به رذيلة فوته، عفّى على جميع محاسنه، وعمّى «٤» سائر فضائله؛ لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيّد، وآخر ردى؛ ولفظ حسن، وآخر قبيح؛ وشعر نادر، وآخر بارد، بان جهله، وظهر نقصه.
وهو أيضا إذا أراد أن يصنع قصيدة، أو ينشىء رسالة- وقد فاته هذا العلم- مزج الصّفو بالكدر، وخلط الغرر بالعرر «٥»، واستعمل الوحشى العكر؛ فجعل نفسه مهزأة «٦» للجاهل، وعبرة للعاقل؛ كما فعل ابن جحدر فى قوله:
حلفت بما أرقلت حوله ... همرجلة خلقها شيظم «٧»
وما شبرقت من تنوفيّة ... بها من وحى الجنّ زيريم «٨»
وأنشده ابن الأعرابى، فقال: إن كنت كاذبا فالله حسيبك.
وكما ترجم بعضهم كتابه إلى بعض الرؤساء: مكركسة تربوتا ومحبوسة بسرّيتا «٩»؛
1 / 2
فدلّ على سخافة عقله، واستحكام جهله؛ وضرّه الغريب الذى أتقنه ولم ينفعه، وحطّه ولم يرفعه، لمّا فاته هذا العلم، وتخلّف عن هذا الفن.
وإذا أراد أيضا تصنيف كلام منثور، أو تأليف شعر منظوم، وتخطّى هذا العلم ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه؛ فأخذ الردىء المرذول، وترك الجيد المقبول، فدلّ على قصور فهمه، وتأخّر معرفته وعلمه.
وقد قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله؛ كما أنّ شعره قطعة من علمه.
وما أكثر من وقع من علماء العربية فى هذه الرذيلة! منهم الأصمعى فى اختياره قصيدة المرقش «١»:
هل بالدّيار أن تجيب صمم ... لو أنّ حيّا ناطقا كلّم «٢»
ولا أعرف على أىّ وجه صرف اختياره إليها، وما هى بمستقيمة الوزن، ولا مونقة «٣» الروىّ، ولا سلسلة اللفظ، ولا جيّدة السّبك، ولا متلائمة النسج.
وكان المفضّل يختار من الشعر ما يقلّ تداول الرواة له، ويكثر الغريب فيه؛ وهذا خطأ من الاختيار؛ لأنّ الغريب لم يكثر فى كلام إلّا أفسده، وفيه دلالة الاستكراه والتكلّف.
وقال بعض الأوائل: تلخيص المعانى رفق، والتشادق «٤» من غير أهله بغض، والنظر فى وجوه الناس عىّ، ومسّ اللّحية هلل «٥»، والاستعانة بالغريب عجز، والخروج عمّا بنى عليه الكلام إسهاب. وكان كثير من علماء العربية يقولون:
ما سمعنا بأحسن ولا أفصح من قول ذى الرّمة «٦»:
1 / 3
رمتنى مىّ بالهوى رمى ممضع ... من الوحش لوط لم تعقه الأوانس»
بعينين نجلاوين لم يجر فيهما ... ضمان وجيد حلّى الدّرّ شامس «٢»
وهذا- كما ترى- كلام فجّ غليظ، ووخم ثقيل، لاحظّ له من الاختيار.
وحكى العتبى عن الأصمعى أنه كان يستحسن قول الشاعر:
ولو أرسلت من حب ... ك مهبوتا من الصين «٣»
لو افيتك قبل الصب ... ح أو حين تصلين
وهما على ما تراهما من دناءة اللفظ وخساسته، وخلوقة المعرض وقباحته.
وذكر العتبى أيضا أن قول جرير «٤»:
إنّ العيون الّتى فى طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّب حتى لا حراك «٥» به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا
وقوله «٦»:
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا «٧»
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا «٨»
من الشعر الذى يستحسن لجودة لفظه، وليس له كبير معنى. وأنا لا أعلم معنى أجود ولا أحسن من معنى هذا الشعر.
فلما رأيت تخليط هؤلاء الأعلام فيما راموه من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم من الفضل، ومكانه من الشرف والنّبل، ووجدت الحاجة إليه ماسة، والكتب المصنّفة فيه قليلة، وكان أكبرها وأشهرها كتاب «البيان والتبيين»
1 / 4
لأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وهو لعمرى كثير الفوائد، جمّ المنافع؛ لما اشتمل عليه من الفصول الشريفة، والفقر اللطيفة، والخطب الرائعة، والأخبار البارعة، وما حواه من أسماء الخطباء والبلغاء، وما نبّه عليه من مقاديرهم فى البلاغة والخطابة؛ وغير ذلك من فنونه المختارة، ونعوته المستحسنة، إلا أنّ الإبانة عن حدود البلاغة، وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة فى تضاعيفه، ومنتشرة فى أثنائه؛ فهى ضالّة بين الأمثلة، لا توجد إلا بالتأمل الطويل، والتصفّح الكثير؛
[تقسيم الكتاب وأبوابه]
فرأيت أن أعمل كتابى هذا مشتملا على جميع ما يحتاج إليه فى صنعة الكلام: نثره ونظمه، ويستعمل فى محلوله ومعقوده، من غير تقصير وإخلال، وإسهاب وإهذار. وأجعله عشرة أبواب مشتملة على ثلاثة وخمسين فصلا:
الباب الأول: فى الإبانة عن موضوع البلاغة فى أصل اللغة وما يجرى معه من تصرف لفظها وذكر حدودها وشرح وجوهها وضرب الأمثلة فى كل نوع منها وتفسير ما جاء عن العلماء فيها، ثلاثة فصول.
الباب الثانى: فى تمييز الكلام جيده من رديه ومحموده من مذمومه فصلان.
الباب الثالث: فى معرفة صنعة الكلام، فصلان.
الباب الرابع: فى البيان عن حسن السبك وجودة الرصف «١»، فصل واحد.
الباب الخامس: فى ذكر الإيجاز والإطناب، فصلان.
الباب السادس: فى حسن الأخذ وقبحه وجودته ورداءته، فصلان.
الباب السابع: القول فى التشبيه، فصلان.
الباب الثامن: فى ذكر السجع والازدواج، فصلان.
الباب التاسع: فى شرح البديع والإبانة عن وجوهه وحصر أبوابه وفنونه، خمسة وثلاثون فصلا.
الباب العاشر: فى ذكر مقاطع الكلام ومباديه والقول فى الإساءة فى ذلك والإحسان فيه، ثلاثة فصول.
وأرجو أن يعين الله على المراد من ذلك والمقصود فيما نحونا إليه ويقرنه بالتوفيق ويشفعه بالتسديد؛ إنه سميع مجيب.
1 / 5
الباب الأول [عن موضوع البلاغة في أصل اللغة وما يجري معه من تصرف لفظها وذكر حدودها وشرح وجوهها]
الفصل الأوّل فى الإبانة عن موضوع البلاغة فى اللّغة، وما يجرى معه من تصرّف لفظها، والقول فى الفصاحة، وما يتشعّب منه
البلاغة
البلاغة من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها وبلّغتها غيرى. ومبلغ الشىء:
منتهاه. والمبالغة فى الشىء: الانتهاء إلى غايته. فسمّيت البلاغة بلاغة لأنها تنهى المعنى إلى قلب السامع فيفهمه. وسمّيت البلغة بلغة لأنك تتبلّغ بها، فتنتهى بك إلى ما فوقها، وهى البلاغ أيضا. ويقال: الدنيا بلاغ؛ لأنها تؤدّيك إلى الآخرة.
والبلاغ أيضا: التبليغ، فى قول الله ﷿: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
أى تبليغ.
ويقال: بلغ الرجل بلاغة؛ إذا صار بليغا. كما يقال نبل نبالة؛ إذا صار نبيلا.
وكلام بليغ وبلغ (بالفتح) «١»، كما يقال: وجيز ووجز «٢»، ورجل بلغ (بالكسر):
يبلغ ما يريد. وفى مثل لهم «أحمق بلغ» . ويقال: أبلغت فى الكلام إذا أتيت بالبلاغة فيه. كما تقول: أبرحت إذا أتيت بالبرحاء وهو الأمر الجسيم. والبلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكلّم.
فلهذا لا يجوز أن يسمّى الله جلّ وعزّ بأنه بليغ؛ إذ لا يجوز أن يوصف بصفة كان موضوعها الكلام. وتسميتنا المتكلم بأنه بليغ توسّع. وحقيقته أنّ كلامه بليغ، كما تقول: فلان رجل محكم، وتعنى أن أفعاله محكمة. قال الله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ
. فجعل البلاغة من صفة الحكمة، ولم يجعلها من صفة الحكيم، إلّا أن كثرة
1 / 6
الاستعمال جعلت تسمية المتكلّم بأنه بليغ كالحقيقة، كما أنها جعلت تسمية المزادة راوية كالحقيقة، وكان الراوية حامل المزادة وهو البعير وما يجرى مجراه.
ولهذا سمّى حامل الشعر راوية، وكما صار تسمية البغىّ المكتسبة بالفجور القحبة حقيقة، وإنما القحاب السّعال. وكانوا إذا أرادوا الكناية عن زنت وتكسّبت بالفجور قالوا: قحبت، أى سعلت.
ومن ذلك النّجو؛ لأنّ الرجل كان إذا أراد قضاء الحاجة استتر بنجوة، والنجوة:
الارتفاع من الأرض؛ فسمّى ذلك الشىء نجوا مجازا، ثم كثر استعمالهم له فصار كالحقيقة وصرّفوه، فقالوا: ذهب ينجو، كما يقال: ذهب يتغوّط، إذا صار إلى الغائط، وهو البطن من الأرض لقضاء الحاجة، وسمّوا الشىء الغائط، وصار كالحقيقة حين كثر استعمالهم له. وقالوا، إذا غسل ذلك الموضع من النجو: يستتجى، ومثل هذا كثير ليس هذا موضع استيعابه.
الفصاحة
فأما الفصاحة فقد قال قوم: إنها من قولهم: أفصح فلان عما فى نفسه إذا أظهره، والشاهد على أنها هى الإظهار قول العرب: أفصح الصبح إذا أضاء.
وأفصح اللبن إذا انجلت عنه رغوته فظهر. وفصح أيضا. وأفصح الأعجمىّ إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين؛ وفصح اللحان إذا عبّر عما فى نفسه وأظهره على جهة الصواب دون الخطأ.
وإذا كان الأمر على هذا فالفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له.
[الفرق بين الفصاحة والبلاغة]
وقال بعض علمائنا: الفصاحة تمام آلة البيان؛ فلهذا لا يجوز أن يسمّى الله تعالى فصيحا؛ إذ كانت الفصاحة تتضمّن معنى الآلة ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة؛ ويوصف كلامه بالفصاحة؛ لما يتضمّن من تمام البيان.
والدليل على ذلك أن الألثغ والتمتام لا يسميّان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة
1 / 7
الحروف. وقيل زياد الأعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف، وكان يعبّر عن الحمار بالهمار، فهو أعجم، وشعره فصيح لتمام بيانه.
فعلى هذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين؛ وذلك أنّ الفصاحة تمام آلة البيان فهى مقصورة على اللفظ؛ لأن الآلة تتعلّق باللفظ دون المعنى؛ والبلاغة إنما هى إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى.
ومن الدليل على أنّ الفصاحة تتضمّن اللفظ، والبلاغة تتناول المعنى أنّ الببّغاء يسمى فصيحا، ولا يسمى بليغا، إذ هو مقيم الحروف وليس له قصد إلى المعنى الذى يؤدّيه.
وقد يجوز مع هذا أن يسمّى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيّد السبك، غير مستكره فجّ، ولا متكلّف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شىء، لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.
وشهدت قوما يذهبون إلى أنّ الكلام لا يسمّى فصيحا حتى يجمع مع هذه النعوت فخامة وشدة جزالة، فيكون مثل قول النبى ﷺ «ألا إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق، فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . ومثل كلام الحسين بن على رضى الله عنهما: إن الناس عبيد الأموال، والدين لغو على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معايشهم فإذا محصوا بالابتلاء قلّ الديانون. ومثل المنظوم قول الشاعر:
ترى غابة الخطىّ فوق رءوسهم ... كما أشرفت فوق الصّوار قرونها «١»
قالوا: وإذا كان الكلام يجمع نعوت الجودة، ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمّى بليغا ولم يسمّ فصيحا؛ كقول بعضهم- وقد سئل عن حاله عند الوفاة
1 / 8
فقال: ما حال من يريد سفرا بعيدا بلا زاد، ويقدم على ملك عادل بغير حجّة، ويسكن قبرا موحشا بلا أنيس.
وقول آخر لأخ له: مددت إلى المودّة يدا فشكرناك، وشفعت ذلك بشىء من الجفاء فعذرناك، والرجوع إلى محمود الود أولى بك من المقام على مكروه الصّدّ.
وأنشدنا أبو أحمد «١» عن أبى بكر الصولى لإبراهيم بن العباس «٢»:
تمرّ الصّبا صفحا بساكنة الغضا «٣» ... ويصدع قلبى أن يهبّ هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنّما ... هوى كلّ نفس حيث حلّ حبيبها
فالبيت الأول فصيح وبليغ، والبيت الثانى بليغ وليس بفصيح.
واستدلوا على صحّة هذا المذهب بقول العاص بن عدى: الشجاعة قلب ركين، والفصاحة لسان رزين. واللسان هاهنا: الكلام، والرّزين الذى فيه فخامة وجزالة.
مذهب الكتاب
وليس الغرض فى هذا الكتاب سلوك مذهب المتكلّمين، وإنما قصدت فيه مقصد صنّاع الكلام من الشعراء والكتاب؛ فلهذا لم أطل الكلام فى هذا الفصل.
1 / 9
الفصل الثّانى فى الإبانة عن حدّ البلاغة
فنقول: البلاغة كلّ ما تبلّغ به المعنى قلب السامع فتمكّنه فى نفسه كتمكّنه فى نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن.
وإنما جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطا فى البلاغة؛ لأنّ الكلام إذا كانت عبارته رثّة ومعرضه خلقا لم يسمّ بليغا، وإن كان مفهوم المعنى، مكشوف المغزى.
ألا ترى إلى معنى الكاتب الذى كتب إلى بعض معامليه: قد تأخّر الأمر فيما وعدت حمله ضحوة النهار، والقوم غير مقيمين، وليس لهم صبرى، وهم فى الخروج آنفا؛ فإن رأيت فى إزاحة العلّة مع الجهبذ «١» فعلت إن شاء الله. فمعناه مفهوم ومغزاه معلوم، وليس كلامه ببليغ.
فهذا يدلّ على أنّ من شرط البلاغة أن يكون المعنى مفهوما واللفظ مقبولا على ما قدمناه.
ومن قال: إن البلاغة إنما هى إنهام المعنى فقط، فقد جعل الفصاحة، واللّكنة، والخطأ، والصواب، والإغلاق، والإبانة سواء.
وأيضا فلو كان الكلام الواضح السهل، والقريب السّلس الحلو بليغا، وما خالفه من الكلام المستبهم المستغلق والمتكلّف المتعقد أيضا بليغا لكان كلّ ذلك محمودا وممدوحا مقبولا، لأنّ البلاغة اسم يمدح به الكلام.
فلمّا رأينا أحدهما مستحسنا، والآخر مستهجنا علمنا أنّ الذى يستحسن البليغ، والذى يستهجن ليس ببليغ.
1 / 10
وقال العتّابى: كلّ من أفهمك حاجته فهو بليغ. وإنما عنى: إن أفهمك حاجته بالألفاظ الحسنة، والعبارة النيّرة فهو بليغ.
ولو حملنا هذا الكلام على ظاهره للزم أن يكون الألكن بليغا؛ لأنه يفهمنا حاجته؛ بل ويلزم أن يكون كلّ الناس بلغاء حتى الأطفال، لأنّ كلّ أحد لا يعدم أن يدلّ على غرضه بعجمته أو لكنته أو إيمائه أو إشارته؛ بل لزم أن يكون السّنّور بليغا؛ لأنّا نستدلّ بضغائه «١» على كثير من إرادته. وهذا ظاهر الإحالة.
ونحن نفهم رطانة السّوقى «٢» . وجمجمة «٣» الأعجمى للعادة التى جرت لنا فى سماعها. لا لأنّ تلك بلاغة؛ ألا ترى أنّ الأعرابى إن سمع ذلك لم يفهمه؛ إذ لا عادة له بسماعه.
وأراد رجل أن يسأل بعض الأعراب عن أهله فقال: كيف أهلك؟ بالكسر.
فقال له الأعرابى: صلبا؛ إذ لم يشكّ أنه إنما يسأله عن السبب الذى يهلك به.
وقال الوليد بن عبد الملك لأعرابى شكا إليه ختنا «٤» له، فقال: من ختنك؟ ففتح النون. فقال: معذر «٥» فى الحى؛ إذ لم يشكّ فى أنه إنما يسأله عن خاتنه.
وقال رجل لأعرابى: ألقى عليك بيتا. فقال: ألق على نفسك. وسمع أعرابىّ قصيدة أبى تمام «٦»:
طلل الجميع لقد عفوت حميدا «٧»
فقال: إنّ فى هذه القصيدة أشياء أفهمها، وأشياء لا أفهمها؛ فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. ونحن نفهم
1 / 11
معانى هذه القصيدة بأسرها؛ لعادتنا بسماع مثلها، لا لأنّا أعرف بالكلام من الأعراب.
ومما يؤيّد ما قلنا من أنّ البلاغة إنما هى إيضاح المعنى وتحسين اللفظ قول بعض الحكماء: البلاغة تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. إلى غير ذلك مما سنذكره ونفسّره فى هذا الباب إن شاء الله.
وقال محمد بن الحنفية رضى الله عنه: البلاغة قول تضطرّ العقول إلى فهمه بأسهل العبارة؛ فقوله: «تضطر العقول إلى فهمه» عبارة عن إيضاح المعنى، وقوله: «بأسهل العبارة» تنبيه على تسهيل اللفظ وترك تنقيحه. ومثل ذلك من النثر قول بعضهم لأخ له:
ابتدأتنى بلطف من غير خبرة، ثم اعقبتنى جفا من غير هفوة، فأطمعنى أوّلك فى إخائك، وأيأسنى آخرك من وفائك؛ فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأى فى أمرك عن عزيمة الشكّ فى حالك؛ فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف.
وقول الآخر: لم يدع انقباضك عن الوفاء، وانجذابك مع سوء الرأى فى ملاحظة الهجر، والاستمرار على العذر، محرّكا من القلب عليك، ولا خاطرا يومى إلى حسن الظنّ بك. هيهات انقضت مدّة الانخداع لك حين أخلفت عدة الأمانى فيك، وما وجدنا ساترا من تأنيب النّصحاء فى الميل إليك، والتوفّر عليك؛ إلا الإقرار بطاعة الهوى، والاعتراف بسوء الاختيار.
وكتب بعض الكتّاب إلى أخ له: تأخرت عنى كتبك تأخّرا ساء له ظنى، إشفاقا من الحوادث عليك، لا توهّما للجفاء منك؛ إذ كنت أثق من مودّتك بما يغنينى عن معاتبتك.
ومما هو فى هذه الطريقة، وهو أجزل مما تقدّم ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبى بكر ابن دريد، عن عبد الرحمن، عن عمه، قال: وقف علينا أعرابى ونحن برملة اللّوى،
1 / 12
فقال: رحم الله امرأ لم تمجّ أذناه كلامى، وقدم معاذه «١» من سوء مقامى؛ فإنّ البلاد مجدبة، والحال مسغبة «٢»، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم، والدعاء إحدى الصدقتين؛ فرحم الله امرءا أمر بمير «٣»، أو دعا بخير.
وقول بعضهم- يمدح رجلا: كان والله بعيد مسافة الرأى، يرمى بهمّته حيث أشار الكرم، يصافح عن صاحبه نوب الزمان، ويتحسّى مرارة الإخوان، ويسيغهم العذب، ويعطفهم منه على ما جد ندب «٤» .
1 / 13
الفصل الثّالث وهو القول فى تفسير ما جاء عن الحكماء والعلماء فى حدود البلاغة
فحقيقة البلاغة هى ما ذكرته. وقد جاء عن الحكماء فيه ضروب أنا ذاكرها ومفسّرها لتكمل فائدة الكتاب إن شاء الله.
قال إسحق بن حسان: لم يفسر أحد البلاغة تفسير ابن المقفّع؛ إذ قال: البلاغة اسم لمعان تجرى فى وجوه كثيرة؛ منها ما يكون فى السكوت، ومنها ما يكون فى الاستماع، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون خطبا، وربّما كانت رسائل. فعامّة ما يكون من هذه الأبواب فالوحى فيها والإشارة إلى المعنى أبلغ، والإيجاز هو البلاغة.
فقوله: «منها ما يكون فى السكوت»، فالسكوت يسمّى بلاغة مجازا، وهو فى حالة لا ينجع فيها القول ولا ينفع فيها إقامة الحجج. إما عند جاهل لا يفهم الخطاب، أو عند وضيع لا يرهب الجواب، أو ظالم سليط يحكم بالهوى، ولا يرتدع بكلمة التقوى. وإذا كان الكلام يعرى من الخير، أو يجلب الشّرّ فالسكوت أولى؛ كما قال أبو العتاهية «١»:
ما كلّ نطق له جواب ... جواب ما يكره السكوت
وقال معاوية رضى الله عنه لابن أوس: ابغ لى محدّثا. قال: أو تحتاج معى إلى محدّث؟ قال: أستريح منه إليك، ومنك إليه، وربما كان صمتك فى حال أوفق من كلامك.
وله وجه آخر؛ وهو قولهم: كلّ صامت ناطق من جهة الدلالة، وذلك أنّ دلائل الصنعة فى جميع الأشياء واضحة، والموعظة فيها قائمة.
وقد قال الرقاشىّ: سل الأرض؛ من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا «٢» أجابتك اعتبارا.
1 / 14
ولما مات الإسكندر وقف عليه بعض اليونانيين فقال: قد طالما وعظنا هذا الشخص بكلامه، وهو اليوم لنا بسكوته أوعظ، فنظم هذا الكلام أبو العتاهية فى قوله:
وكانت فى حياتك لى عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
وأحسن من هذا الكلام كلّه وأبلغ قول الله ﷿: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ
. معناه يدلّ على الله بصنعته فيه؛ فكأنه يسجد، وإن لم يسجد ولم يقرّ بذلك. وقوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ
. وقوله سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
. أى لا تفهمونه من جهة السمع، وإن كنتم تفهمونه من جهة العقل.
وقد قال بعض الهند: جمّاع «١» البلاغة: البصر بالحجّة، والمعرفة بمواقع الفرصة. ومن البصر بالحجّة أن يدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان طريق الإفصاح وعرا؛ وكانت الكناية أحصر «٢» نفعا. وذلك مثل ما أخبرنا به أبو أحمد، عن أبيه، عن عسل بن ذكوان، قال: دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على عبد الملك بن مروان، وأراد أن يقعد معه على سريره، فقال له عبد الملك: ما بال العرب تزعم أنّك لا تشبه أباك؟ قال: والله لأنا أشبه بأبى من اللّيل بالليل، والغراب بالغراب، ولكن إن شئت خبّرتك عمّن لا يشبه أباه! قال: من ذاك؟ قال: من لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام.
قال: ومن ذاك؟ قال: سويد بن منجوف. قال عبد الملك: أكذاك أنت يا سويد؟
قال: نعم. فلما خرجا قال عبيد الله لسويد: وريت بك زنادى، والله ما يسرّنى بحلمك عنى حمر النعم! قال سويد: وأنا والله ما يسرّنى أنك نقصته حرفا، وإن لى سود النعم «٣» .
1 / 15
وإنما كان عرّض بعبد الملك وكان ولد لسبعة أشهر.
وربما كانت البلاغة سببا للحرمان. وأسباب الأمور طريفة والاتفاقات عجيبة:
أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان، قال: كتب بعضهم إلى المنصور كتابا حسنا بليغا يستمنحه فيه. فكتب إليه المنصور: البلاغة والغنى إذا اجتمعا لامرىء أبطراه؛ وأمير المؤمنين مشفق عليك من البطر، فاكتف بأحدهما.
وقوله «١»: «ربما كانت البلاغة فى الاستماع»، فإنّ المخاطب إذا لم يحسن الاستماع لم يقف على المعنى المؤدّى إليه الخطاب. والاستماع الحسن عون للبليغ على إفهام المعنى.
وقال إبراهيم الإمام: حسبك من حظّ البلاغة ألّا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. وقال الهندى أيضا: البلاغة وضوح الدّلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقول عبيد الله بن عتبة: البلاغة دنوّ المأخذ، وقرع الحجة، وقليل من كثير.
فأما البصر بالحجّة فمثل ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبيه عن عسل قال: قال الهيثم بن عدى: أنبأنى عطاء بن مصعب، قال: كان أبو الأسود شيعة لعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكان جيرانه عثمانية فرموه يوما؛ فقال: أترموننى؟ قالوا:
بل الله يرميك. قال: كذبتم، إنكم تخطئون، وإنّ الله لو رمانى لما أخطأ. وقال بعضهم لأبى على محمد بن عبد الوهاب: ما الدليل على أنّ القرآن مخلوق؟ قال: إن الله قادر على مثله. فما أحار السائل جوابا.
ومثل ذلك ما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه- وهو يومئذ خليفة وكان على المنبر يخطب فى يوم جمعة، فدخل عثمان بن عفّان رضى الله عنه عليه. فقال عمر:
ما بال أقوام يسمعون الأذان ويتأخّرون؟ فقال عثمان: والله ما تأخّرت إلّا ريثما توضّأت.
فقال عمر: وهذا أيضا، أما سمعت أن رسول الله ﷺ قال «من أتى الجمعة فليغتسل» .
1 / 16
ومثله قول أبى يوسف بعرفة وقد صلى خلف الرّشيد فلما سلّم فى الرّكعتين- قال: يأهل مكة؛ أتمّوا صلاتكم فإنا قوم سفر «١» . فقال بعض أهل مكة: من عندنا خرج العلم إليكم. فقال أبو يوسف: لو كنت فقيها لما تكلمت فى الصلاة.
وأخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان؛ قال: أقام شاعر بباب معن بن زائدة حولا لا يصل إليه، فكتب إليه رقعة ودفعها إليه «٢»:
إذا كان الجواد له حجاب ... فما فضل الجواد على البخيل!
فكتب معن فيها (٣):
إذا كان الجواد قليل مال ... ولم يعذر تعلّل بالحجاب
فانصرف الرجل يائسا؛ ثم حمل إليه معن عشرة آلاف درهم.
ومن ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان قال: بلغ على ابن الحسين رضى الله عنهما أن عروة بن الزبير وابن شهاب الزهرى يتناولان عليا ويعبثان به؛ فأرسل إلى عروة؛ فقال: أما أنت فقد كان ينبغى أن يكون فى نكوص أبيك يوم الجمل وفراره ما يحجزك عن ذكر أمير المؤمنين، والله لئن كان علىّ على باطل لقد رجع أبوك عنه، ولئن كان على حقّ لقد فرّ أبوك منه.
وأرسل إلى ابن شهاب، فقال: وأما أنت يا بن شهاب فما أراك تدعنى حتى أعرفك موضع كير «٣» أبيك.
ومن وضوح الدلالة وقرع الحجة قول الله سبحانه: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ. قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
1 / 17
فهذه دلالة واضحة على أن الله تعالى قادر على إعادة الخلق، مستغنية بنفسها عن الزيادة فيها؛ لأن الإعادة ليست بأصعب فى العقول من الابتداء. ثم قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ
؛ فزادها شرحا وقوة، لأنّ من يخرج النار من أجزاء الماء، وهما ضدان، ليس بمنكر عليه أن يعيد ما أفناه.
ثم قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.
فقوّاها أيضا، وزاد فى شرحها، وبلغ بها غاية الإيضاح والتوكيد؛ لأنّ إعادة الخلق ليست بأصعب فى العقول من خلق السموات والأرض ابتداء.
وحضر أبو الهذيل جنازة فلما دفن الميت قال رجل: يا أبا الهذيل؛ الإيمان برجوع هذا صعب. فقال أبو الهذيل: يعيده الذى أنشأه أول مرة، إنه على رجعه لقادر.
وأما انتهاز الفرصة فمثاله أيضا قول أبى يوسف مع أكثر ما جرى فى هذا الفصل.
ومنه ما أخبرنى به أبو أحمد قال أخبرنى الحلوانى «١»، قال حدثنى محمد بن زكريا، قال حدثنا محمد بن عبد الله الجشمى، عن المدائنى، قال: دخل عمرو ابن العاص على معاوية وهو يتغدّى فقال له: هلم يا عمرو. فقال: هنيئا يا أمير المؤمنين، أكلت آنفا. فقال: أما علمت يا عمرو أنّ من شراهة المرء ألّا يدع فى بطنه مستزادا لمستزيد! فقال: قد فعلت يا أمير المؤمنين. فقال: ويحك لمن بقّيته؟ ألمن هو أوجب حقّا من أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن لمن لا يعذر عذر أمير المؤمنين.
قال: فلا أراك إلّا ضيعت حقا لحقّ لعلك لا تدركه. فقال عمرو: ما لقيت منك يا معاوية! ثم دنا فأكل.
وقال أبو العيناء لابن ثوابة: بلغنى ما خاطبت به أبا الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب إلّا أنه لم ير عرضا فيمضغه، ولا مجدا فيهدمه. وبعد فإنه عاف لحمك أن
1 / 18
يأكله، وسهك «١» دمك أن يسفكه، فقال: ما أنت والكلام يا مكدى «٢»؟
فقال: لا ينكر على ابن ثمانين سنة، قد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعوّل على إخوانه؛ فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا أن تتنزل ماء أصلاب الرجال فتستفرغه فى حقيبتك. فقال ابن ثوابة: الساعة آمر أحد غلمانى بك. فقال: أيهما؟
الذى إذا خلوت ركب، أم الذى إذا ركبت خلا؟ فقال ابن ثوابة: ما تسابّ اثنان إلّا غلب ألأمهما. قال أبو العيناء: بها غلبت أبا الصقر.
فانظر إلى انتهاز الفرصة فى قوله: بها غلبت أبا الصقر.
ومنه أن بعض الكتاب لقى أبا العيناء فى السّحر، فجعل يتعجّب من بكوره؛ فقال: أتشار كنى فى الفعل وتنفرد بالتعجّب.
وقالت له قينة: هب لى خاتمك أذكرك به. قال: اذكرينى بالمنع.
وقيل له: لا تعجل فإنّ العجل «٣» من عمل الشيطان. فقال: لو كانت من عمل الشيطان لما قال موسى ﵇: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى.
وقال عبيد الله بن سليمان: إنّ الأخبار المذكورة فى السخاء وكثرة العطاء من تصنيف الورّاقين وأكاذيبهم. فقال أبو العيناء: ولم لا يكذبون على الوزير أيّده الله! وأما الإشارة فسنذكرها فى موضعها إن شاء الله.
وقال حكيم الهند: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، متخيّر اللفظ، لا يكلّم سيد الأمّة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السّوقة. ويكون فى قواه التصرف فى كل طبقة، ولا يدقّق المعانى كلّ التدقيق، ولا ينقّح الألفاظ كلّ التنقيح، ويصفّيها كلّ التصفية، ويهذّبها
1 / 19
كلّ التهذيب؛ ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيما، وفيلسوفا عظيما، ومن تعوّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ؛ ونظر فى صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة فيها، لا على جهة الاستطراف والتطرّف لها.
قال: واعلم أنّ حق المعنى أن يكون الاسم له طبقا «١»، وتلك الحال له وفقا، ولا يكون الاسم فاضلا، ولا مقصّرا، ولا مشتركا، ولا مضمّنا؛ ويكون تصفّحه لمصادر كلامه بقدر تصفّحه لموارده؛ ويكون لفظه مونقا، ومعناه نيّرا واضحا.
ومدار الأمر على إفهام كلّ قوم بقدر طاقتهم، والحمل عليهم على قدر منازلهم؛ وأن تواتيه آلته، وتتصرف معه أداته، ويكون فى التهمة لنفسه معتدلا، وفى حسن الظن بها مقتصدا؛ فإنه إن تجاوز الحقّ فى مقدار حسن الظن أودعها تهاون الآمنين، وإن تجاوز بها مقدار الحقّ فى التهمة ظلمها وأودعها ذلّ المظلومين. ولكلّ ذلك مقدار من الشغل، ولكلّ شغل مقدار من الوهن، ولكل وهن مقدار من الجهل.
فقوله «٢»: «أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة» وأول آلات البلاغة جودة القريحة وطلاقة اللسان. وذلك من فعل الله تعالى؛ لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه واجتلابه لها.
ومن الناس من إذا خلا بنفسه وأعمل فكره أتى بالبيان العجيب، والكلام البديع المصيب، واستخرج المعنى الرائق، وجاء باللفظ الرائع. وإذا حاور أو ناظر قصّر وتأخّر. فحقّ هذا ألّا يتعرض لارتجال الخطب، ولا يجارى أصحاب البدائه فى ميدان القريض، ويكتفى بنتائج فكره.
والناس فى صناعة الكلام على طبقات: منهم من إذا حاور وناظر أبلغ وأجاد، وإذا كتب وأملى أخلّ وتخلّف. ومنهم من إذا أملى برّز، وإذا حاور أو كتب
1 / 20