وفي تلك الساعة تراءى له طيف إلى جانب الحائط، فنهض من سريره منذهلا مذعورا ونادى العبيد، فجاءوا مسرعين، فأمرهم بإشعال الأنوار فأشعلوها، ثم أمرهم بإطفائها فأطفئت.
وانصرف العبيد، وعاد الملك إلى سريره يغالب السهاد، إلا أنه سمع وهو على وشك النوم وقع أقدام في مخدعه، ففتح عينيه وإذا بالطيف الذي تراءى له قرب الحائط قد صار في وسط القاعة، فنهض ثانية ونادى العبيد، فجاء هؤلاء مسرعين وبأيديهم المصابيح المشعلة، أما الطيف فكان قد اختفى قبل دخولهم، ثم عاد بعد أن خرجوا من القاعة، فوقف إلى جانب السرير الملكي.
فغر الملك المسكين فاه صارخا، ثم جلس مرتعبا وقد قبض بيديه على الوسادة والغطاء وجمع ما تبقى فيه من الرشد والشجاعة ليحدق في الطيف نظره.
هل في زمانك، أيها القارئ، نظرت إلى وجه ميت وقد كفن بضوء القمر؟ إذن ما رأيت قط شيئا مرعبا، وخير لك ألا ترى وجه نبوخذنصر حينما وقع نظره على نظر الطيف الواقف أمامه. وإننا من أجلك نضرب صفحا عن مثل هذه التفاصيل، ولا نقول سوى أن الملك حرك شفتيه فنطق الرعب فيه يخاطب الطيف أمامه. - ألست بالادان؟ - أنا هو. - ولكنك حي. - حي بالروح أيها الملك. - أولم تمت صباح البارحة؟ - مات الجسد الذي حاولت أن تسومه صنوف العذاب، أما الروح التي تخاطبك فما مسها شيء من سمومك. - والقصد من مجيئك الآن؟ - جئتك يا نبوخذنصر من عالم الأموات، بل عالم الأرواح، أحمل إليك نبأ من أسلافك ملوك بابل وآشور. فاعلم، أصلحت وعوفيت، أني بعد خروجي صباح أمس من هذا العالم مررت بواد عميق مخيف مظلم يجري فيه نهر أسود من الزفت الذائب، وعلى شواطئه عمد كبيرة من الحديد الذي ذهبته النيران، وجادات من الجمر المتأجج وقد تصاعد منه اللهيب والدخان، وفي تلك الجادات رأيت أناسا كثيرين يمشون ذهابا وإيابا، عراة يمشون مطأطئين الرءوس محنين الظهور، وعلى أكتافهم أحمال غريبة الأشكال، وفي أيديهم سلاسل من حديد تقطر من اللحم الذي يذوب عليها، ومن هؤلاء أناس يمشون في عزلة عن سائر الناس كأنهم كانوا في العالم من الأعيان والكهان والملوك، وقد رسا في وجوههم من آثار المجد والعز ما يذهل الغريب ويروعه، ناهيك بأن الأصفاد في أيديهم وأرجلهم أثقل من سواها، والأحمال على ظهورهم من الفولاذ الملتهب، فيذوب اللحم تحتها ولا تنفد أدهانه.
خنقني الغم إذ وقفت أمامهم، وقد خاطبني أحدهم سائلا: من أين أتيت؟ وإلى أين أنت سائر؟ فأجبته: إني عابر طريق، وإني من بابل، فصرخ إذ ذاك صرخة هائلة وطفق يبكي كالطفل الفطيم، ثم خاطبني بصوت كصوت الصغير فقال: أنت من بابل؟ بابل مدينتي، بابل مملكتي، بابل سبب هلاكي وبلائي! قال ذلك وهو يجهش، ثم طفق يبكي فأبكاني، وكدت مما ملكني من الحزن ومن الاحترام لما هو فيه، كدت أقول: عليك السلام. ولكن الأرواح تخجل مما تكون قد ألفته في العالم، تخجل من كل شيء سوى الحب، ثم خاطبني آخر فقال: اعلم أنك أمام ملوك بابل ونينوى، ومعنا كثيرون من الصيارفة والكهان، وبما أن الذين يتعذبون في هذا الوادي لا يؤذن لهم بالعود إلى العالم، فأسألك أنت، أيها الغريب، أن تعود إلى بابل، وتخبر نبوخذنصر بما رأيت وما سمعت؛ هي ذي حياتنا في وادي النار واللهيب، انظر كيف يذوب اللحم تحت الحديد المشتعل ولا يفنى، وكيف يملأ الدخان العيون فتحرقها الدموع الغالية، واعلم أنه محتوم على كل منا أن يقضي ليله جالسا على عمود من هذه العمد الحامية، وفي الصباح يقذف بنا زبانية النار إلى نهر الزفت، ثم نخرج من النهر ونمشي في هذه الجادة الملتهبة نجر أوزارنا، وبعد ذلك يصعد كل منا إلى عموده. أما ساعات الليل، أيها الغريب، فهي أمر ساعات الجحيم، نقضيها في السهاد والعذاب، فتتساقط من عيوننا الدموع الغالية، ومن شفاهنا اللعنات والأنين. آه ثم أواه! وقد قيل لنا: إننا بعد مضي ألف سنة في وادي النار نخرج مكبلين بالسلاسل مثقلين بالأحمال؛ لنسوح في العالم ليلا، ونعود في النهار إلى وادي النار. فعد، أيها الغريب، إلى بابل وقل لنبوخذنصر: إن رئيس الكهنة قد رثى لحالك، وأحب أن ينقذك من العذاب الذي هو فيه، فاغتنم الفرصة قبل فواتها، اغتنمها قبل أن تأتيك حشرجة الموت. هذا الذي رأيت وسمعت، هذا هو الخبر الذي أحمله، فاذكره يا نبوخذنصر واذكرني. الوداع ثم الوداع.
عندما انتهى الطيف من كلامه غاب عن نظر الملك، فصاح يناديه: قف، قف يا بالادان. وعبثا كان ينادي، فقد لباه بدل بالادان العبيد، فطردهم من الغرفة، وقد وثب من سريره كالمجنون وطفق يتمشى ذهابا وإيابا وهو يناجي نفسه: أملوك بابل وآشور في نار الجحيم، ورئيس الكهان، أخي، أخي في النار؟! كذب المخبر، كذب بالادان؛ إنه لوهم وخرافة، الميت لا يعود إلى العالم، والملوك لا تهلك. لا، لا، كله كذب واختلاق ... الملوك لا تهلك ...
فجاء صوت من الخارج يقطع عليه كلامه ويقول: اذكر ما قلته لك واذكرني. - هو صوته، هو لا يزال قريبا مني، هو يذكرني وينذرني، ينذر نبوخذنصر، ماذا تقول يا رجل؟ أين أنت الآن؟ وهل أنت الملك؛ ملك بابل وآشور؟ أهذه يدك؟ أفي هذا الصدر قلبك؟ أفي هذا الرأس عقلك؟ أهذا هو الجبين الذي تنيره كواكب السماء؟ أوأنت الآن في قصرك؟ وأين صولجانك، وأين تاجك، وأين حسامك؟ إذن لم لا تتحرك؟ من يتجاسر أن يدخل عليك في الليل؟ أنت نائم أم أنت في حلم؟ استيقظ يا نبوخذنصر استيقظ ... حسامك، استرجع بحسامك شتات مجدك.
تناول السيف وهم بالخروج فخانته خطاه، فاصطدم بالحائط. - آه ثم أواه، أيضمحل مجدي أمام خيال زائل؟ أتنهد قواي من كلمة سمعتها؟ أيسكتني بالادان وهو ميت بعد أن احتقرني وهو حي، ثم ينذرني بالهلاك؟ الهلاك لنبوخذنصر والموت السعيد والسعادة الخالدة للصعاليك؟ لا والآلهة! الملوك لا تهلك. أين بالادان؟ أين أنت أيها الخيال اللعين؟
وكأنه رأى الخيال عائدا فهجم وقد استل سيفه عليه، ولكنه وقف جامدا كالخشبة عندما سمع الصوت ثانية يقول: اذكر كلامي واذكرني. - لا حاجة إلى القول: إن نبوخذنصر لم ينم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي خرج من القصر مبكرا وظل يمشي حتى وصل إلى شاطئ الفرات خارج المدينة، فجلس في ظلال مقصبته هناك يستريح، فرثى النوم لحاله وحل في جفنه ضيفا كريما.
قد شاهدته، أيها القارئ، وهو في سكرة الغضب، فانظر إليه الآن؛ إن نبوخذنصر في البستان هو الغضب المجسم، هو الشر المستطير، هو الظلم في أفظع مظاهره، ونبوخذنصر النائم الآن على شاطئ النهر هو الحب في طفولته، هو الخير في فجره، هو الرحمة في مظهر جديد، هو الصلاح في أطمار الفقراء، هو الندامة في مسوح المتنسكين.
ناپیژندل شوی مخ