Significance of Scholars’ Attention to Isnād and Science of Jarh and Ta'dil
عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل - عبد العزيز فارح
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
ژانرونه
مقدمة
لم يختلف المسلمون منذ فجر الإسلام في أن السنة النبوية هي التطبيق العملي للإسلام والتفصيل الواقعي للقرآن، ومرجع كل مسلم في تعرُّف الأحكام، لذلك كان كل مسلم مكلفًا باحترام هذا التطبيق تكليفَه باحترام القانون نفسه، ولذلك أيضًا كانت طاعة الرسول ﷺ طاعة لله ﷿، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: ٨٠] . ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر ٧] .وليس من المستغرب أن يكون إهمال السنة والذهول عنها إضاعة لصرح عظيم من الدين، فقد كان النبي ﷺ مُبَلِّغًا عن الله ﷿، وموضحا مراده ببيان المجمل وتفصيله وذكر الجزئيات والتفاصيل، وتوضيح المشكل وتقييد المطلق وتخصيص العام وإضافة أحكام جديدة، ثم إن السنة أصل دلّ عليه كتاب الله؛ ولهذا فإن أئمة المسلمين متفقون على وجوب العمل بالحديث إذا صحَّ، فقد قال النبي ﷺ: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي" (١)، وصحّ عن الإمام الشافعي قوله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط" (٢)، وهو ما تبناه في الحقيقة غيره من علماء الأمة قبله وبعده. فلا
_________
(١) أخرجه الإمام مالك في كتاب القدر من الموطأ باب النهي عن القول بالقدر، رقم الحديث ٣ ج ٢، ص٨٩٩، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة والإمام أحمد في المسند ٦/٣٠٦.
(٢) الوافي بالوفيات ١/١٧٣. وانظر أيضا قواعد التحديث للقاسمي ص ٨٧ وما بعدها، وكتاب حجية السنة للدكتور عبد الغني عبد الخالق ص ٢٤٥ وما بعدها.
1 / 1
حجة إذًا إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ وما استند إليهما من إجماع وقياس مبني على علّة صحيحة، أو قواعدكلية مأخوذة منها. لذلك تمسك العلماء المسلمون بالسنة والعمل بها؛ لأنها دليل - إلى جانب الكتاب العزيز - من أدلة الأحكام ومصدر أساس للشريعة الإسلامية، وغيرهما من ينابيع الاستدلال محمول عليهما، ومقتبس من روحهما، ودائر في فلكهما.
وقد قيض الله تعالى من سلف الأمة الإسلامية وخلفها من يذود عنها، ويجاهد ويصابر في صيانتها وينفي عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فنهض علماء الأمة وقادتها في عهد الخلافة الراشدة لجمع القرآن الكريم ثم كتابته في مصحف إمام، وجاء بعدهم من يخدمه كتابة ورسمًا وتفسيرًا وإقراءً.. ولم يأل هؤلاء وأولئك جهدًا في خدمة السنة النبوية المشرفة، فقام من يكتبها في صحف خاصة، وهبّ الجميع لحفظها والعمل بها ثم روايتها وتبليغها، واستمر الأمر على هذا النحو، ثم اتّسعت آفاقه خصوصًا بعد أحداث ما يسمى بـ"فتنة الخلافة"؛ حيث لجأ بعض ضعاف الإيمان من أهل الأهواء والبدع والفرق الكلامية والسياسية إلى تزوير بعض الأحاديث النبوية وتحريفها أو وضع أحاديث على لسان رسول الله ﷺ، فهبّ علماء المسلمين وعامتهم إلى الذود عن السنة النبوية ومقاومة الوضع والوضاعين، فكثر الكلام في الرواة تعديلًا وتجريحًا، وقبلت أحاديث وردّت أحاديث أخرى، وكان ذلك أساسًا لعلم الجرح والتعديل، علم التمحيص
1 / 2
وتمييز الخبيث من الطيب، وقد شهد الجميع النتائج الطيبة المباركة لهذا العلم، وعلى رأسها رواية الأحاديث النبوية الشريفة غضّة نقية صافية كما صدرت عن رسول الله ﷺ، إلى أن استقرت في مصادرها بعد ازدهار حركة التصنيف المنهجي للحديث، وظهور الكتب المتعددة من موطآت ومصنفات ومسانيد وجوامع ومستدركات ومستخرجات ومعاجم وأجزاء... اختار فيها أصحابها مناهج معينة في ترتيب الأحاديث، وشروطًا في التصحيح والتضعيف والقبول والرد.
ونظرا لأهمية علم الجرح والتعديل وتوقف التصحيح والتضعيف والقبول والرد عليه فقد أحببت المشاركة في ندوة «عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية» بموضوع «عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل وأثر ذلك في حفظ السنة»؛ رجاء أن أميط اللثام عن تاريخ هذا العلم منذ بوادره الأولى، ومرورًا بعناية العلماء بالإسناد ومطالبتهم به وبيانًا لأهميته، ووصولًا عند مرحلة نشأة علم الجرح والتعديل علمًا مستقلًا بذاته، وتطوره وظهور أعلامه الكبار ونقاده المشاهير، وما ألفوه من كتب وما وضعوه من ضوابط وقواعد.
وقد اقتضى مني ذلك وضع خطة لهذا الموضوع بدأتها بمقدمة في فضل السنة وفضل الاشتغال بها ومظاهر عناية المسلمين بها، انتقلت بعدها إلى الكلام على عناية المحدثين بالإسناد وبيان قيمته في حفظ السنة، ثم تعريف علم الجرح والتعديل لغة واصطلاحًا، ثم نشأته وتطوره، وخلصت بعد ذلك لذكر عدد من قواعده، ثم آثاره في ميادين وعلوم أخرى، ولما كان لعلماء الجرح والتعديل مؤلفات كثيرة في هذا الشأن فقد عُنيت ببيان ذلك فذكرت
1 / 3
الاتجاهات الكبرى التي صار فيها التأليف عند هؤلاء مع ذكر نماذج قليلة تبين ذلك. وأنهيت هذا الموضوع بخاتمة في فضل علم الجرح والتعديل، وضرورة توظيف قواعد ومناهج نقاده في مجالات أخرى غير مجال الحديث النبوي.
وذيلت في الأخير هذا الموضوع بلائحة للمصادر والمراجع التي استعنت بها في إنجازه، ثم بفهرس للمواضيع راجيًا أن يكون ذلك وافيًا بالغرض، وألا يكون الاختصار في بعض المباحث مخلاّ، وألاَّ يكون التطويل في بعضها مملاّ، ومن الله التوفيق والسداد، وللجنة المنظمة والسادة الأفاضل القائمين عليها تحية وإكبار خالصان صادقان.
****************
1 / 4
عناية المحدثين بالإسناد وبيان قيمته في حفظ السنة
مدخل
...
عناية المحدثين بالإسناد وبيان قيمته في حفظ السنة
الإسناد نعمة من الله أكرم بها أمة محمد ﷺ لحفظ سننه ونقلها محفوظة مصونة، وخصيصة فاضلة فضلت بها من دون سائر الأمم، ولم يشأ المحدثون أن يكونوا سالبين تلك النعمة الربانية، مفرطين فيها، وعدّوا الإسناد من السنن المؤكدة، بل من فروض الكفاية وعمدة الكلام وطريق النقل والقبول، قال العلامة علي القارئ في شرح النخبة: «أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنّة بالغة من السنن المؤكدة بل من فروض الكفاية» (١) . وقال الحافظ ابن حجر ﵀: «ولكون الإسناد يُعلم به الحديث الموضوع من غيره، كانت معرفته من فروض الكفاية» (٢) .
ولذلك اتفق أهل الحديث على أن الإسناد مطلوب في رواية السنن النبوية وشرط من شروط الالتفات إلى تلك الرواية والاعتداد بها، وأن ما خلا عن السند فهو غير معتمد، قال الإمام محمد عبد الحي اللكنوي: «وقبول الحديث الذي لا أصل له أي لا سند له ليس من شأن العاقلين، فإن بين النبي ﷺ وبين هؤلاء الناقلين مفاوز تنقطع فيها مطايا السائرين.» (٣)،وقال أيضا: «لا يقبل حديث من غير إسناد ولو نقله معتمد ...» (٤) .
_________
(١) ص ١٩٤
(٢) مرقاة المفاتيح للعلامة علي القارئ، ١/٢١٨.
(٣) الأجوبة الفاضلة، هامش ص ٣٢.
(٤) المصدر نفسه، ص ٣٣.
1 / 5
ولم يكتفوا بذلك، بل رفعوا من شأن الإسناد وجعلوه من الدين، فقال الإمام عبد الله بن المبارك ﵀: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء» (١) . وأتمّ بعض من روى هذه الكلمة المشهورة فذكرها بلفظ: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء، فإن قيل له: من حدّثك؟ بقي» أي بقي ساكتا مفحَما، أو بقي ساكتا منقطعا عن الكلام (٢) .
وحكى ابن خير الإشبيلي في فهرسته اتفاق العلماء على أنه لا يحل لمسلم أن يقول: قال رسول الله ﷺ: كذا، حتى يكون هذا القول مرويا ولو على أقل وجوه الروايات.» (٣)
فلا غرو إذًا أن يصبح الإسناد بالشأن والقدر اللذين أعطيا له، وأن يعدّ خصيصة فاضلة من خصائص الأمة الإسلامية أكرمها الله وخصّها بها، دون سائر الأمم كلها قديمها وحديثها.
_________
(١) مقدمة صحيح الإمام مسلم ١/١٥، وجامع الترمذي كتاب العلل ٥/٦٩٥، والمحدث الفاصل للرامهرمزي ص ٢٠٩، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي ١/١٦، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص ٦، والتمهيد لابن عبد البر ١/٩٥.
(٢) تتبع الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، ﵀، المواطن التي وقعت فيها هذه الزيادة في المصادر المذكورة أعلاه وفي غيرها، والتحريف الكبير الذي وقع فيها من قبل بعض النساخ أو المحققين، وذلك في كتابه النافع "الإسناد من الدين" ص ٥١ وما بعدها، وفي تحقيقه كتاب "الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة" للإمام محمد عبد الحي اللكنوي، حاشية ص ٣٣.
(٣) فهرست ابن خير، ص ١٦-١٧.
1 / 6
الجرح والتعديل لغة واصطلاحًا:
الجرح لغة له معنيان: أحدهما الكسب ومنه قوله تعالى ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾ [سورة الجاثية:٢١]، وسمي ذلك اجتراحا لأنه عمل بالجوارح (١) .
والثاني: شق الجلد.
ثم استعمل مجازا في مثل قولهم: جرحه بلسانه إذا سبّه وشتمه وعابه.
- أما في الاصطلاح فالجرح والتجريح هو وصف الراوي بما يسقط عدالته أو يخل بحفظه وضبطه مما يترتب عليه سقوط روايته والحكم عليها بالرد فتكون ضعيفة أو موضوعة.
ويستعمل بعضهم أحيانا ألفاظا أخرى تفيد ذلك المعنى فيقال: لَيَّنَه، أو غمزه، أو رماه بكذا أو كذا.
المجرَّح أو المجروح هو الراوي الذي وُصف بما يسقط عدالته أو ضبطه.
المتكلم فيه: هو الراوي الذي تكلّم فيه بعض النقاد بجرح قد لا يكون نافذا أو مؤثرا.
المجرِّح: هو الناقد المشتغل بتجريح الرواة وتعديلهم أي بنقد أحوال الرواة.
التعديل: أصل التعديل في اللغة هو:
عدَل يعدِل إذا حكم بالاستواء وهو المعروف عند الناس بالعدْل الذي هو
_________
(١) قال الزمخشري في تفسير "اجترحوا السيئات": والاجتراح الاكتساب، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم. (الكشاف ٤/٢٩٠)
1 / 7
نقيض الجور. ومنه يوم معتدل إذا تساوى حالا حره وبرده.
وعدَلته وعدّلته حتى اعتدل أي أقمته حتى استقام واستوى.
وعَدَلتُ الدابة إلى طريقها: عطفتها.
فالتعريف اللغوي يقوم على معنى الاستقامة والاستواء، وهو الذي سيكون حاضرًا في التعريف الاصطلاحي.
أما في الاصطلاح، فالتعديل هو وصف الراوي بصفة أو صفات تزكيه وتظهر أو تثبت عدالته، ويسمى أيضًا التوثيق، والتزكية.
والعدالة هي ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى واجتناب الكبائر والابتعاد عن الصغائر أو هي حالة أو هيئة نفسانية تحمل صاحبها وتدفعه إلى ملازمة التقوى ...
والعدْل هو الراوي الذي وُصف بما يزكيه ويثبت عدالته.
وهو أيضا كل من لم يَظْهر في أمر دينه ومروءته ما يُخل بهما.
المعدِّل: هو الناقد الذي يشتغل بنقد الرواة وتتبع أحوالهم، فيعدل رواة ويجرح آخرين.
وبناء على ذلك فعلم الجرح والتعديل هو علم يبحث فيه عن أحوال الرواة من حيث قبول روايتهم أو ردها بألفاظ أو عبارات مخصوصة.
ينصب هذا العلم بالأساس على رواة الأحاديث النبوية وآثار الصحابة، ويقوم على ذكر أحوالهم مما له مدخل في قبول أخبارهم أو ردها، فيقتصر في بعض الأحيان على لفظة أو لفظتين تفيدان التعديل أو التجريح، أو إنه تلخيص الكلام على الراوي أي بيان حاله بخصوص الرواية بعبارة قصيرة جامعة محررة بعد تمحيص ودراسة وتتبع. وذلك أمر جَلَل، فهو نصف علم الحديث لأن الحديث سند ومتن، والسند عبارة عن الرواة ومعرفة أحوالهم
1 / 8
نصف هذا العلم بلا ريب، ولذلك قال الإمام علي بن المديني: "التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم" (١) .
وبين علم الجرح والتعديل وعلم الرجال عموم وخصوص، إذ إن علم الرجال هو العلم الذي يعنى بمعرفة الرواة من حيث أحوالهم عدالة وجرحًا، ويعنى أيضًا بما يخدم ذلك ويحققه كمعرفة أسمائهم وأنسابهم وكناهم وألقابهم ومواليدهم ووفياتهم وطبقاتهم، مما يعين على التمييز بينهم ولا سيما مع كثرتهم وتشابه أسمائهم أو أسمائهم وأنسابهم وكناهم إلى غير ذلك مما يوقع في الخلط الشنيع كتضعيف الثقة وتوثيق الضعيف، وردِّ الحديث المقبول وقبول الحديث المردود ...
مشروعيته: في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها تزكية أو تجريح كانت نبراسا للمحدثين اقتبسوا منها بعض الألفاظ المفيدة لذاك كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:١] ففي هذه الآية تجريح للمنافقين ورميهم بالكذب. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:٦] وفي هذه الآية تنبيه للمؤمنين بضرورة التثبت والتريث في قبول الخبر خاصة إذا كان راويه متهما بالفسق وفيها أيضًا تنبيه على ضرورة التمييز بين نقلة الأخبار، فليسوا سواء. _________ (١) كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي، ص ٩٥-٩٦.
مشروعيته: في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها تزكية أو تجريح كانت نبراسا للمحدثين اقتبسوا منها بعض الألفاظ المفيدة لذاك كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:١] ففي هذه الآية تجريح للمنافقين ورميهم بالكذب. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:٦] وفي هذه الآية تنبيه للمؤمنين بضرورة التثبت والتريث في قبول الخبر خاصة إذا كان راويه متهما بالفسق وفيها أيضًا تنبيه على ضرورة التمييز بين نقلة الأخبار، فليسوا سواء. _________ (١) كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي، ص ٩٥-٩٦.
1 / 9
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح:١٨] وفيها تعديل عام للصحابة الكرام، فهم بشهادة هذه الآية مرضيون.
ولم تخل السنة من أحاديث كثيرة فيها تجريح أو تعديل، فقد قال النبي ﷺ لفاطمة بنت قيس عندما شاورته فيمن خطبها: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد ... " (١) . وفي حديث مشهور قال النبي ﷺ لرجل استأذن للدخول عليه: "ائذنوا له بئس أخو العشيرة".
ولم يجد كثير من المحدثين الحرج الكبير في اتهام من يغير الحديث قصدا بالكذب بعد سماعهم الحديث المشهور عن النبي ﷺ في التحذير من الكذب عليه وهو حديث: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
_________
(١) الجامع الصحيح للإمام مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا، ١٠/٩٦.
1 / 10
نشأة الجرح والتعديل وتطوره
...
نشأة علم الجرح والتعديل وتطوره:
حظيت السنة النبوية باهتمام منذ عهد الصحابة الكرام باعتبارها مصدرا تشريعيا للأحكام في العبادات والمعاملات وغيرهما، فكان حرص هؤلاء على أن لا يفوتهم حديث رسول الله ﷺ، وسمعوا من بعضهم بعضا حينما كان يفوتهم حضور المجالس النبوية. ولم يكن الأتباع أقل حرصًا من الصحابة على سماع الحديث النبوي فرحلوا إليهم ولازموهم وسمعوا منهم.
ونظرا لما جُبل عليه الإنسان من الوهم والنسيان والخطأ، وما يعتريه من حالات التغيير من النشاط والقوة إلى الضعف وكبر السن وما ينجم عن ذلك أحيانا من الذهول والنسيان، قام الصحابة وكذا كبار التابعين بنقد بعض المرويات وباستدراكات على بعض الصحابة الرواة أو التابعين عن طريق المعارضة بين الروايات المختلفة أو عرضها على القرآن الكريم أو المطالبة بالشهود ...
وقد بدأ ذلك في عهد مبكر جدا، ولعل أول نقل يثبت هذا الأمر هو الذي وصلنا من عهد الخليفة أبي بكر الصديق ﵁، فقد ذكر غير واحد (١) أن الجَدَّةَ جاءت إلى أبي بكر تلتمس ميراثها، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله ﷺ ذكر لك شيئا. ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله يعطيها السدس.
_________
(١) انظر مثلا: الموطأ للإمام مالك في كتاب الفرائض باب ميراث الجدة. وسنن أبي داود كتاب الفرائض باب في الجدة. وجامع الترمذي كتاب الفرائض باب ميراث الجدة. وسنن ابن ماجه كتاب الفرائض ميراث الجدة. وانظر كذلك الكفاية للخطيب ص ٢٦ وتذكرة الحفاظ للذهبي ١/٢.
1 / 11
فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة مثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر الصديق ﵁.
وقد أشار الحاكم إلى هذه القصة وقال: «وأول من وقى الكذب عن رسول الله ﷺ الصديق ﵁) (١) وقال الذهبي: "كان أبو بكر أول من احتاط في قبول الأخبار" (٢)،وقال أيضًا: "وإليه المنتهى في التحري في القول والقبول" (٣) .
وقد مضى على هذا النهج الخليفتان عمر بن الخطاب (٤)، وعلي بن أبي طالب (٥)، والسيدة عائشة (٦) وغيرهم ﵃ أجمعين. وقد ذكر الحاكم أن أبا بكر وعمر وعليا وزيد بن ثابت جرحوا وعدلوا، وبحثوا عن صحة الروايات وسقيمها ... (٧)
_________
(١) المدخل في أصول الحديث ص ٣٤.
(٢) تذكرة الحفاظ ١/٢.
(٣) المصدر نفسه ١/٥.
(٤) احتاط عمر وتثبت في قبول عدد من الأحاديث انظر: صحيح البخاري كتاب الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثا. وصحيح مسلم كتاب القسامة الحديث ٣٩. وكتاب الآداب: الحديث ٣٦.وطبقات ابن سعد ٤/٢١. وتذكرة الحفاظ ١/٦.
(٥) كان الإمام علي في بعض الأحيان يستحلف من يحدثه. انظر المدخل للحاكم ص ٣٤. وتذكرة الحفاظ ١/١٠.
(٦) اشتهرت السيدة عائشة بمعرفتها الكبيرة بالأحاديث النبوية، وقد انتقدت عددا من الصحابة واستدركت عليهم وبينت أوهامهم. ومجموع ما ورد عنها في ذلك قد جمعه الإمام الزركشي في كتاب مستقل سماه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" مطبوع بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني وكذلك جمع أبو منصور عبد المحسن بن محمد بن علي البغدادي في هذا كتابا سماه "استدراك أم المؤمنين عائشة على الصحابة" ذكره ابن خير في فهرسته ص ١٧٤.
(٧) معرفة علوم الحديث للنيسابوري بتحقيق د. السيد معظم حسين ص ٥٢.
1 / 12
بداية الكلام في الرواة:
يحدث هذا وكثير من الصحابة على قيد الحياة يروون الأحاديث الصحيحة ويقومون حراسا للسنن النبوية، يذودون عنها كل خطر ناشئ، فيقوم واحد منهم وهو حبر الأمة عبد الله بن عباس بالتنبيه على وسيلة أخرى للاحتياط والتثبت في الرواية، فقد جاء بشير العدوي وأخذ يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه سلم، قال رسول الله ﷺ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه. فقال: يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله ﷺ ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: "إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله ﷺ، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف" (١) . هذا بداية التمييز بين من يقبل حديثه ومن يردّ حديثه، وسيكون ذلك بداية للمطالبة بالإسناد ليعرف مقبول الحديث من مردوده، قال ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" (٢) .
وروى الخطيب في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" عن خيثمة بن عبد الرحم؟ن قال: "لم يكن الناس يسألون عن الإسناد حتى كان زمن المختار فاتهموا الناس"، والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي ضال مضل كان
_________
(١) مقدمة صحيح مسلم، ص ١٥.
(٢) المصدر نفسه.
1 / 13
يزعم أن جبريل ينزل عليه، أحدث فتنا بين المسلمين في العراق وغيره، قتله مصعب بن الزبير سنة ٦٧؟، ومن صنيع هؤلاء المطالبين بالإسناد وغيرهم في هذه المرحلة المبكرة سيستلهم نقاد التابعين وأتباعهم أهمية الإسناد في الرواية، وسيبينون للناس شأنه وضرورته، كما وجدنا ذلك عند الأئمة الزهري وابن المبارك ومالك وشعبة وغيرهم.
هكذا استمرت العناية بالحديث النبوي تقيه من التحريف، فظهر نقاد بدؤوا في نقد بعض الرواة وتنبيه الناس لعدم أهليتهم للرواية، من هؤلاء النقاد الحسن البصري الذي تكلم في عطاء الخراساني وعكرمة مولى ابن عباس، ومنهم سعيد بن جبير الذي تكلم في نافع مولى ابن عمر، ومنهم عطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير، وعبد الرحم؟ن الأعرج وأبو صالح ذكوان بن صالح السمان وابن سيرين. قال الإمام الذهبي: "وأول من زكّى وجرّح، عند انقراض عصر الصحابة: الشعبي وابن سيرين ونحوهما، حفظ عنهم توثيق أناس وتضعيف آخرين" (١) .
لكن الأمر لم يكن كثيرا غالبا لقلة الكذب وقلة تعمد التغيير والتبديل، فلم تكن ساحة الكذب كبيرة فما زال الإيمان غالبا على النفوس متمكنا منها ومانعا الناس من الكذب على رسول الله ﷺ وتزوير شريعته. قال الإمام الذهبي: "وأما التابعون فيكاد يُعدم فيهم من يكذب عمدا ولكن لهم غلط وأوهام، فمن ندر غلطه في جنب ما قد جَلّ احتُمل، ومن تعدّد غلطه من أوعية العلم، اغتُفِر له أيضا، ونُقل حديثه وعُمل به على تردد
_________
(١) معرفة من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، ص ٤٥-٤٦.
1 / 14
بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج عمن هذا نعته، كالحارث الأعور وعاصم ابن ضمرة وصالح مولى التوأمة، وعطاء بن السائب، ونحوهم، ومَنْ فحُش خطؤُه وكثر تفرده لم يُحتج بحديثه، ولا يكاد يقع ذلك في التابعين الأولين ويوجد ذلك في صغار التابعين فمن بعدهم" (١) .
مع بداية المائة الثانية، ومع ازدياد عدد طلبة الحديث النبوي واتساع روايته كثر من يتتبع رواته بالنقد ورواياتهم بالتمحيص وكان ذلك غالبا في مجالس رواية الحديث عبارة عن ملاحظات وتصويبات مزجت بالرواية ضمن خليط من المعلومات والمعارف، كتوثيق الرواة أو تضعيفهم، أو بيان وفاة، أو ضبط غريب، أو بيان مشكل، أو توضيح كنية أو نسب أو غير ذلك.
لكن سرعان ما اتسع أفق علم الرجال وكثر النقاد المتتبعون لأحوال الرواة لكثرة الطلبة الذين أقبلوا على العلم، وكثرة الشيوخ الذين تصدروا مجالس التحديث، فظهر مَنْ يواجه الأحوال الجديدة، ويفضح الكذبة من الرواة، فهذا أيوب السختياني (١٣١؟) يذكر يوما أحد الرواة فيقول: "لم يكن بمستقيم اللسان". وقال يوما: "إن لي جارا، ثم ذكر من فضله، ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة". وقال في عبد الكريم -يعني أبا أمية-: "كان غير ثقة ... "، وقال لسلام بن أبي مطيع ينصحه ليحجم عن الرواية عن أحد الضعفاء: "أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه، كيف تأمنه على الحديث؟ " (٢) .
_________
(١) المصدر نفسه، ص ٤٦.
(٢) صحيح مسلم، ج ١، ص ٢٣-١٠٤.
1 / 15
ومن أبرز النقاد في هذه الفترة الأعمش سليمان بن مهران (١٤٨؟) الذي كان يجلس في طريق الطلبة. حتى إذا مروا عليه سألهم عن الشيوخ الذين سمعوا منهم، فيوثق مَنْ كان ثقة، ويحذرهم من غير الثقات (١) .
اتسع علم الرجال في هذا العصر أكثر فأكثر حتى ليعد المرحلة التأسيسية الناضجة له، حيث بدأت تعقد المجالس الخاصة به، واشتهر علماء ونقاد كبار متضلعون في الحديث متنًا وسندًا يُسألون عن الحديث ورجاله كهشام الدستوائي (١٥٤؟) وعبد الرحم؟ن الأوزاعي (١٥٦؟) وسفيان الثوري (١٦١؟) ومالك بن أنس (١٧٩؟)، الذي كان إلى جانب الإمام شعبة بن الحجاج (١٦٠؟) من أكثر النقاد بحثا عن المحدثين وأغزرهم تتبعا لأحوال الرواة، حيث عُدّ الإمام شعبة: "أول من تكلم في الرجال" (٢) . وأول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين وصار عَلمًا يقتدى (٣) . وحتى وُصف بأنه "كان أمة وحده في هذا الشأن، يعني في نقد الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته للرجال" (٤) .
_________
(١) انظر كتاب تحذير الخواص من أحاديث القصاص، وكتاب تهذيب التهذيب ٤/٢٢٣، وبحوث في تاريخ السنة ص ٣٣.
(٢) التهذيب ٤/٣٤٥.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه، ٤/٣٤٤، وتاريخ بغداد ٩/٢٣٣.
1 / 16
نماذج من عناية العلماء بالإسناد والجرح والتعديل ومناهجهم في النقد٤
شعبة ونقد الرواة:
اشتغل شعبة بن الحجاج بالحديث النبوي، وجدّ في طلبه، ولم يزل طول عمره يطلبه حتى مات على غاية الحرص في جمعه لا يشتغل بشيء سواه، ويكتب حتى عمّن دونه في السن والإسناد، فكان مِنْ أشدِّ أصحاب الحديث عنايةً بما سمع، وأحسنهم إتقانًا لما حفظ، وقد سمحت له كثرة الاشتغال بالحديث باكتساب معرفة كبيرة بأحوال الرواة، ودراية فائقة بأحاديث الشيوخ، حتى عُدَّ مِنْ أعلم الناس بالرجال، (١) بل ولُقِّبَ بأمير المؤمنين في الحديث (٢) .
لم تعد مجالس شعبة بن الحجاج تعقد قصد رواية الأحاديث فقط، بل أصبحت تعقد للبحث في أحوال الرواة تعديلا وتجريحا، حكى أبو زيد الأنصاري النحوي فقال: أتينا شعبة يوم مطر، فقال: ليس هذا يوم حديث، اليوم يوم غيبة تعالوا نغتاب الكذابين (٣) .
وقصر المجالس على نقد الرجال أمر ظهر بعد ذلك على يد الطبقة التي تلت شعبة، وعلى رأسها يحيى بن معين والإمام أحمد وابن المديني، يوجه خلالها الطلبة أسئلة تتعلق بالرواة، وردود الشيوخ هي التي يدونها تلامذتهم أو يروونها عنهم بعناوين مختلفة مثل سؤالات أحمد وسؤالات علي بن المديني وغير ذلك.
_________
(١) تقدمة المعرفة ١٢٧.
(٢) شرف أصحاب الحديث ١٥.
(٣) الكفاية ص: ٤٥.
1 / 17
من الذي يُترك حديثه في رأي شعبة؟
يرى شعبة أن أصنافًا أربعة من الرواة يترك حديثهم ولا يعتد به:
أولًا: مَنْ يُتَّهَمُ بالكذب: إن الراوي المتهم بالكذب هو الذي يعرف بكذبه في حديثه العادي بين الناس، فلا يؤتمن حينئذ على حديث رسول الله ﷺ، إذ إن جرأته على الناس دليل على جرأته على الله ورسوله. ولأن العدالة لا تتجزأ، فلا يكون الراوي ثقة عدلًا في جهة، وكذابًا فاسقًا في جهة أخرى، وهذا ما تشترك فيه الرواية والشهادة. وطرح حديث المتهم بالكذب في كلامه العادي مع الناس ضرب من الاحتياط والحذر اللذين مَيَّزا منهج المحدثين في تلقي الأخبار وروايتها، وأضفيا عليه صفة الدقة والسلامة.
ثانيًا: من يكثر الغلط: إن الراوي الذي يتهم بفحش الغلط وتزايده يفقد صفة الضبط فلا يؤخذ بحديثه في معرض الاحتجاج، ولا يعتمد في أحاديث الأحكام، بل يستأنس به استئناسا. (١)
ثالثًا: من يخطئ في حديث يجمع عليه فلا يتهم نفسه، ويقيم على غلطه ويصر على روايته لذلك الحديث، وإن الراوي الذي يعرف عنه هذا الأمر تسقط روايته ولا يكتب عنه بشرط أن يكون ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك.
رابعًا: من روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون. (٢)
_________
(١) انظر كتاب المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل ص: ٣١٨ - ٣١٩.
(٢) الكفاية ١٤٥، وفتح المغيث ١٦٠-١٦١.
1 / 18
موقف شعبة من الرواة المدلسين:
ذكر غير واحد أن شعبة بن الحجاج كان من أصدق الناس وأثبتهم في الحديث حتى قال عبد الله بن إدريس: شعبة قبان المحدثين، (١) أي أمينهم. وقال أحمد في معرض المفاضلة بينه وبين سفيان الثوري: «... وكان شعبة أثبت منه وأتقى رجلا.» (٢)
ولذلك فقد كان له موقف صارم من التدليس والمدلسين، فكان يجعل التدليس في مرتبة أكبر من الزنى، فهو القائل -إن صحت الرواية عنه-: «لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وفي رواية أخرى: التدليس في الحديث أشد من الزنى» (٣) .
وقال أيضا مستعظما أمر التدليس مستبعدا إياه: «لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول: زعم فلان ولم أسمع ذلك الحديث منه» (٤) .
منهج شعبة في نقد الرواة
١) الرجوع إلى مصدر الخبر: يعد رجوع المحدث الناقد إلى مصدر الخبر الذي استقى منه الراوي حديثه وسيلة من وسائل التثبت من صدق المخبر وعدالته وضبطه. ولقد كان هذا النهج من ديدن شعبة بن الحجاج وهو القائل في معرض التنويه بمكانة سفيان الثوري: ما حَدَّثني سفيان عن السدي بحديث فسألته عنه إلا كان كما حدثني. (٥)
_________
(١) التهذيب ٣٤٦.
(٢) المصدر نفسه ٣٤٤.
(٣) التهذيب ١/١٥-١٦ وتقدمة المعرفة ص: ١٧٣.
(٤) التمهيد ١/١٦.
(٥) طبقات ابن سعد ٦/٣٧٢.
1 / 19
وفي رواية: "ما حدثني أحد عن شيخ إلا وإذا سألته -يعني ذلك الشيخ- يأتي بخلاف ما حدث عنه ما خلا سفيان الثوري، فإنه لم يحدثني عن شيخ إلا وإذا سألته وجدته على ما قال سفيان" (١)
٢) الرحلة: وذلك من أجل تتبع الحديث الواحد، والرجوع إلى مصدر الخبر للأمن من كذب الراوي أو تدليسه أو غلطه. ولعل رحلة شعبة إلى مكة ثم إلى المدينة ثم البصرة لتتبُّع حديث واحد، والتأكد من اتصال سنده (٢) وصحته، دليل واضح على عنايته الكبيرة بالحديث النبوي عن طريق التتبع الدقيق لرواته وفحص أحوالهم ومعرفة عدالتهم وضبطهم.
٣) اختبار الراوي: وذلك بمعاودة السماع منه مرات متعددة قصد التأكد من حفظه وضبطه وثبوته على رواية نفس الحديث، وقد كان هذا النهج أيضا من المسائل التي اعتاد عليها شعبة، فسمع مرة حديثا واحدا من طلحة بن مصرف فكان كلما مر عليه يسأله عنه، فقال له: لِمَ يا أبا بسطام؟ قال: "أردت أن أنظر إلى حفظه فإن غيّر شيئا تركته". (٣)
وقال أيضا: "ما رويت عن رجل حديثًا إلا أتيته أكثر من مرة، والذي رويت عنه عشرة، أتيته أكثر من عشر مرار". (٤)
ولذلك لم يكن يقبل الراوي الذي يلقن، قال: كانوا يقولون لسماك:
_________
(١) تقدمة المعرفة ٦٧.
(٢) انظر المحدث الفاصل، ص ١٣١-١٣٢، والتمهيد، ١/٤٨-٤٩-٥٠.
(٣) الكفاية ١١٣.
(٤) تهذيب التهذيب ٤/٣٤٦.
1 / 20