المرأة العربية
المرأة المسلمة
المرأة الخالدة
عائشة
زوج النبي
حديث الإفك
بعد النبي
في السياسة العامة
حقوق المرأة
المرأة العربية
المرأة المسلمة
المرأة الخالدة
عائشة
زوج النبي
حديث الإفك
بعد النبي
في السياسة العامة
حقوق المرأة
الصديقة بنت الصديق
الصديقة بنت الصديق
تأليف
عباس محمود العقاد
المرأة العربية
كانت نظرة العرب إلى المرأة نظرة طبيعية مرتجلة.
ونعني بالنظرة الطبيعية المرتجلة أنها النظرة التي لا يشوبها إحساس دخيل من وهم العقائد أو حكم التشريع، ولكنها تمضي على الفطرة التي توحيها ضرورة الساعة أو ضرورة البيئة، وتختلف على حسب اختلاف هذه الضرورات.
فالعرب لم يضربوا اللعنة قط على المرأة في جاهليتهم الأولى؛ لأن اللعنة التي ضربت على المرأة في القرون الأولى وامتدت إلى القرون الوسطى، إنما جاءت من الإيمان بالخطيئة التي انحدرت بآدم وحواء من نعيم الفردوس، وأصبحت المرأة ملعونة موصومة بالنجاسة والشر عند بعض الناس؛ لأنهم ألقوا عليها تبعة الشهوات التي تثيرها فيهم، وجعلوها حبالة للشيطان مذ كانوا يحسون بغوايته الخفية كلما أحسوا بغواية الشهوة الحيوانية، ومناطها المرأة قبل غيرها من هذه الأحياء.
فالعرب لم ينظروا قط إلى المرأة هذه النظرة، ولم يحكموا عليها قط بالنجاسة والأصالة في الشر والخباثة؛ لأنهم لم يعرفوا الخطيئة بهذا المعنى في عهد الجاهلية.
كذلك لم يعرفوا التشريع الموضوع الذي يحكم عليها بالاستعباد والخطة المتفق عليها في المنزلة الاجتماعية، وإنما عرف هذا وأشباهه عند الرومان قبل الإيمان بالخطيئة، وقبل الإيمان بالدين؛ لأنهم كانوا أصحاب ملك عريض لا غنى لهم فيه عن ترتيب الحقوق والمعاملات بين أبناء المجتمع وبناته كافة، فلما رتبوا هذه الحقوق نظروا إلى المرأة في زمانهم نظرتهم إلى كل ضعيف تابع لغيره، ولم يلاحظوا في ذلك عنتا خاصا بها ولا ضغينة «جنسية» موجهة إليها دون غيرها؛ لأنهم نظروا هذه النظرة بعينها إلى أبنائهم الصغار وإلى القاصرين منهم على الإجمال، فعاملوهم معاملة الضعفاء، وأعطوهم من الحقوق ما يعطاه الضعفاء، وهم مع ذلك في عزة الأقارب والأبناء.
هذه النظرة أيضا لم يعرفها العرب في جاهليتهم الأولى ؛ لأنهم لم يضطروا إلى وضع تشريع كامل لدولة كاملة، ولكنهم تركوا أنفسهم على سجيتها كما تختلف بها عاداتها ومأثوراتها، وارتجلوا معاملة المرأة ارتجالا كما تدعوهم إلى ذلك ضرورة البيئة أو ضرورة اللمحة الحاضرة؛ فربما عاملوها معاملة الرقيق المستضعف في بعض الأحيان، وربما نسبوا إليها الأبناء دون الآباء من الرجال في أحيان أخرى.
والمرجع في كل أولئك إلى أحوال المعيشة العامة في الجزيرة العربية، وخلاصتها السريعة أنها أحوال نزاع شديد على المرعى وموارد الماء لقلة المرعى وكثرة طلاب هذا وذاك.
وهذا النزاع الشديد يجعل القدرة على «حماية الذمار» مقدمة على كل قدرة؛ لأنها مسألة تتعلق بها الحياة والفناء.
وهو كذلك خليق أن يجعل المرأة في بعض الأحوال كلا ثقيلا على عواتق ذويها؛ لأنها تستنفد القوت ولا تشترك في حمايته والذود عنه.
وهذا الذي يفسر لنا كثيرا من النقائض العجيبة في الآداب العربية؛ لأنها - عند الرجوع بها إلى أسبابها - لا تحسب من النقائض، ولا تزال متشابهة متقاربة في الأصول.
فمن ذلك مثلا أن الحرب نشبت بين بني بكر وبني تغلب أربعين سنة لأن البسوس ابنة منقذ أضافت رجلا فضرب كليب ناقة ذلك الرجل وهو في ضيافة البسوس، فأقسم ابن أختها جساس لها «ليقتلن غدا جمل هو أعظم عقرا من ناقة جارك»، وقتل كليبا سيد بني تغلب في ثأر تلك الناقة، أو من أجل كرامة امرأة في ناقة جارها.
وإلى جانب ذلك يعلم القارئ أن قبائل من العرب كانت تدفن بناتها في طفولتها فرارا من عارها أو إشفاقا من نفقتها.
ويلوح أنهما نقيضان لا يلتقيان. والواقع أنهما غير نقيضين، وأن البيئة التي تدعو إلى إحدى الخصلتين حقيقة أن تدعو إلى الأخرى.
فإن آداب الحماية تجعل المرأة أحق شيء بأن يحمى، وأن يغار عليه الحماة؛ لأنها أمس بالرجل من أرض المرعى ومن ماء البئر ومن الجمل والناقة، فمن فرط فيها فما هو بقادر على حماية شيء من هذه الأشياء. ومن هنا فرط الغيرة على العرض وإيثار الموت للبنت على العار.
وإذا رجعنا إلى الأصل في «آداب الحماية» وهو النزاع الشديد الذي أوجبه شح الأرض بالري والطعام، فالحاجة إلى القوت خليقة أن تغري بالقسوة المهينة، وأن توسوس للمعوزين في سنوات الضيق بالتخلص ممن يستنفد القوت ولا يعين على تحصيله أو الذود عن موارده، ونعني بهن البنات الزائدات عن حاجة القبيلة في تلك السنوات.
وربما ظن بعضهم أن الوأد كله من مخافة العار كما قال البحتري وهو يعزي بني حميد ذلك العزاء العجيب عن فقد فتاة:
أتبكي من لا ينازل بالسي
ف مشيحا ولا يهز اللواء
ويختم عزاءه بقوله:
ولعمري ما العجز عندي إلا
أن تبيت الرجال تبكي النساء
فقد قال في تلك القصيدة:
لم يئد كثرهن قيس تميم
عيلة، بل حمية وإباء
يشير إلى قيس بن عاصم سيد بني تميم الذي أقسم ليئدن كل بنت ولدت له؛ لأن ابنته اختارت صاحبها الذي سباها على العودة إلى أهلها، فكلام البحتري إن صدق فإنما يصدق على قيس وأمثاله، ولكنه لا ينفي أن العرب وجد فيهم من يئد البنات عيلة - أي إشفاقا من النفقة - كما وجد فيهم من يئد البنات أنفة من العار، وآية ذلك أن صعصعة بن ناجية كان يشتري البنات من آبائهن ليستحييهن، فيقبلون ذلك ويبيعونهن راضين عن بيعهن، حتى قيل إنه افتدى ثمانين ومائتي وليدة بالشراء، ولو كان آباؤهن يئدونهن خشية العار وحده لما أغنى عنهم إقصاؤهن وهن في قيد الحياة، ولحق بهم في بيعهن عار لا يقبله من يأنف من العار، والقرآن الكريم يقول:
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق .
ونخرج من هذا جميعه بأن هذه النقائض الظاهرة مصدرها واحد، وهو النزاع على الرزق وما أوجبه من تقديس فضائل الحماية والدفاع عن الحرمات. فهذا المصدر يفسر لنا وأد البنات خشية الإملاق كما يفسر لنا وأدهن خشية العار، ويفسر لنا احتقار البكاء على المرأة كما يفسر لنا إعزاز جارها حتى لتنشب الحرب أربعين سنة غضبا من إصابة ناقة في جوار خالة رئيس، ويرجع كله إلى نظرة طبيعية تجري مع الحوادث في مجراها، فلا يشوبها وهم من عقيدة دينية، ولا يخالطها قيد من أحكام التشريع. •••
ومن لوازم هذا النزاع الشديد في مظهر آخر من مظاهر البادية العربية أنه جعل المرأة عاملة نافعة في حياة الأسرة وحياة القبيلة؛ لأن المعيشة الضنك التي كان يعيشها البدوي في صحرائه المجدبة تأبى عليه الترف والبذخ، ولا تتسع لإسراف المدني الذي ينفق على المرأة ولا أرب له عندها غير المتعة والمسرة، ولا عمل لها عنده غير الراحة والزينة. فكانت المرأة العربية - في البادية خاصة - تعمل كل ما تستطيع أن تعمله لخدمة أسرتها وقبيلتها، وتعلم كل ما تستطيع أن تعلمه لإتقان عملها وتجويد خدمتها؛ فكانت ترعى الإبل والشاء، وتمخض اللبن، وتغزل الصوف، وتصنع الخيام، وتضمد الجراح، وتطب لنفسها في شئون الحمل والولادة، وتحذق من هذه الشئون ما تجهله المرأة الحضرية في كثير من أمم العصر الحديث، وتعينها على ذلك حاجتها إلى تطبيب نفسها وقيامها على رعي الأحياء التي تلازمها في غدوها ورواحها وفي صحتها ومرضها وفي حملها وولادتها وفي اختيار الأصلح والأجدى لنسلها ونتاجها.
وقد رويت عن نساء العرب صفات أخرى للحمل والرضاعة تشبه هذه الصفة في جملة معناها، وهي صفات لا يشترط أن تطابق العلم الحديث في جميع تحليلاته وتفصيلاته، بل حسبها على سذاجتها أن تدل على طب معروف في علاج الحمل والولادة والرضاع، وأن الأمر في هذه الشئون لم يكن عند المرأة العربية هملا متروكا للمصادفات، كما يشاهد ذلك في بيئة الكثير من الحضريات المعاصرات. •••
إلا أن الشظف الذي كان يعم الجزيرة العربية ويذكي فيها ذلك النزاع الشديد على الرزق لم يكن خلوا من الجوانب التي يرق فيها ويلطف وتسري منها الرقة واللطف إلى العلاقة بين الرجال والنساء؛ فتنعم المرأة بالرفق الذي يرفع من مكانتها، ويهذب من معاملتها في سائر البيئات الإنسانية لا في الجزيرة العربية وحدها.
وأهم هذه الجوانب جانب النشأة في بيئة الحضارة، وجانب النشأة في بيئة السيادة.
فالحضارة تصقل الطباع، وتهذب حواشي النفوس، وتغني القبائل عن القتال وعن ثورة الغضب للذمار المهدد بالليل والنهار، وأول ما يظهر هذا الصقل والتهذيب في العلاقة بين الرجل والمرأة؛ لأنها العلاقة التي تمتحن بها الكياسة وآداب الخطاب.
والسيادة تعلم السادة أن يعنوا بمكان بناتهم من العزة والرخاء، فلا يسلمونهن لمن ينزل بهن عن منزلة العقائل المبجلات اللواتي يغنين في بيوتهن عن الخدمة المسفة والعيش الذليل.
ولهذا كان سادة العرب يختارون الأزواج لبناتهم، ثم لا يكتفون باختيارهم حتى يشركوهن في الرأي ويدخلوهن في المشورة، ومن أنباء ذلك التي استفاضت في الأدب العربي أن الحارث بن عوف المري قدم على أوس بن حارثة الطائي خاطبا، فدخل أوس على زوجته ودعا ببنته الكبرى، فقال لها: يا بنية! هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءني طالبا خاطبا، وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض العهدة، ولست بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي وعليك من ذلك ما فيه.
فصرفها ودعا بابنته الوسطى، وعرض عليها ما عرضه على الكبرى، فقالت: إني خرقاء، وليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني!
فلما دعا بأختهما الصغرى قالت: «... ولكنني والله الجميلة وجها، الصناع يدا، الرفيعة خلقا، الحسيبة أبا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير!»
وهذه الفتاة الصغرى - واسمها بهيسة - هي التي تزوجها الحارث وزفت إليه، فأنكرت منه أنه يدخل عليها في ثياب العرس والحرب قائمة بين عبس وذبيان فلا يشغله عن الطيب والزفاف أن يصلح بينهما ... فأكبر منها زوجها هذه الحكمة، وسعى في الصلح بين الحيين حتى استجيب إليه.
وممن جاءت الأنباء على اختلاف الروايات باستشارتهن في الزواج: هند بنت عقبة أم معاوية بن أبي سفيان، وقد خطبها سيدان من قومها، فاستخبرت أباها عنهما، فقال يصفهما: «أما أحدهما ففي ثروة وسعة من العيش، إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط إليك، تحكمين عليه في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه في الحسب الحسيب والرأي الأريب، مدره أرومته وعز عشيرته، شديد الغيرة لا ينام على ضعة ولا يرفع عصاه عن أهله.»
فقالت: «يا أبت! الأول سيد مضياع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جناحه، إذا تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت؟ ساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فمن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه علي بعد! وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العقلية، وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه.»
ويلوح من تكرار هذه الأنباء أن استشارة البنات في أمر زواجهن كان سنة من السنن المرعية بين سادات العرب، لا يشذ عنها إلا القليل. •••
ومن البديه أن هذه العادات والآداب التي تنشأ من بيئة الوطن ومناخه تعم الأمة برمتها، ولا يقع فيها التفاوت إلا ما لا بد منه بين فرد وفرد، أو بين طبقة وطبقة، على المثال الذي قدمناه.
بيد أنك قد ترى في الأمة طائفة من عليتها أو بيتا من بيوتها يخيل إليك أنهم خصوا من دونها بصفوة هذه الآداب ونقاوة هذه العادات.
أو يخيل إليك أن آداب الأمة كلها إنما كانت تحضيرا مقصودا لهذه الطائفة أو لهذا البيت، يأخذون منه بالخلاصة المصفاة واللباب المختار.
فإذا صح هذا الوصف في قبيلة من قبائل العرب فهو أصح ما يكون في قبيلة بني تيم، ثم في بيت أبي بكر الصديق الذي كان في موضع الذؤابة من هذه القبيلة.
فقد اجتمعت لبني تيم خلاصة الآداب التي نجمت من فرائض الحماية والذود عن الذمار، ثم تناولتها بالصقل والتهذيب بيئة السيادة وبيئة الحضارة.
وكان بيت الصديق على التخصيص مثلا في هذه الآداب جميعها يحتذى به بين الحواضر العربية.
لأن سيادة هذا البيت لم تكن سيادة طغيان وقتال، ولكنها كانت سيادة شرف وأمانة، وكانت حصته في الجاهلية من مقاوم الشرف حصة الوفاء بالمغارم وضمان الديون، وعمله الأكبر في الجاهلية يدور على التجارة ومعاملة الناس، ولا يدور على البأس والإكراه.
فنشأ البيت كله على الرفق والدماثة ورقة الحاشية ، واشتهر بتدليل نسائه وبناته حتى قيل - كما جاء في الأغاني - إنهن كن أحظى خلق الله عند أزواجهن، وكانت عند الحسين بن علي - رضوان الله عليهما - أم إسحاق بنت طلحة، فكان يقول: «والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني.»
وندر من أبناء الصديق - رضي الله عنه - من لم يكن له مع امرأته شأن يذكر في باب المحبة بين الأزواج.
فعبد الله أكبر أولاده بنى بعاتكة بنت زيد العدوية فهام بها وشغل عن خاصة أمره وعامته، حتى نصح له أبوه بطلاقها فطلقها وهو كاره، ثم أدركه الندم فنظم فيها القصائد، ومنها:
أعاتك لا أنساك ما ذر شارق
وما لاح نجم في السماء محلق
أعاتك قلبي كل يوم وليلة
لديك بما تخفي النفوس معلق
ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شيء تطلق
وأخوه عبد الرحمن نفله عمر بن الخطاب ليلى بنة الجودي من حسان غسان الموصوفات بالقسامة والجمال فلازمها، ولم يفارقها فترة إلا نظم الشعر في الحنين إليها، ومن قوله فيها:
تذكرت ليلى والسماوة بيننا
فما لابنة الجودي ليلى وما ليا
وأنى نلاقيها! بلى، ولعلها
إذا الناس حجوا قابلا أن توافيا
وأفرط في التعلق بها حتى لامته شقيقته السيدة عائشة - رضي الله عنها - وما زالت به حتى جفاها، فعادت تلومه في جفائها، وتقول له: «أفرطت في الأمرين، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها» فجهزها إلى أهلها.
ومن ذرية الصديق «ابن أبي عتيق» صاحب عمر بن أبي ربيعة شاعر الغزل المشهور، وكان يسمع بالجفاء بينه وبين الثريا، فيركب من مدينة إلى مدينة ليصلح بينهما، ولا يترجل عن مطيته حتى يتم الصلح على ما يرومه.
وهو مع هذا كان يتحرج من نزوات عمر ويسأله: ألم تخبرني أنك ما أتيت حراما قط؟ فيقول: بلى! فيستخبره عن قوله:
وما نلت منها محرما غير أننا
كلانا من الثوب المورد لابس
ثم لا يتركه حتى يجيبه بما يدفع شكه، ويرده إلى حسن ظنه. •••
فآداب الرجال والنساء في بني تيم كانت مثالا للرعاية التي تظفر بها المرأة العربية في بيئة السيادة وبيئة الحضارة.
ولكنها لم تزل عربية في قرارها، ولم تنقطع عن آداب الأمة التي جعلت عرضها أحق شيء بالحماية، وأقمن حصن أن تمنعه وتغار عليه.
فكان أبو بكر نفسه مثلا من أمثلة الغيرة بين أهله وقومه، وقد قال ابن سيرين: كان أغير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن نفرا من بني هاشم دخلوا على زوجته أسماء بنت عميس، فكره دخولهم عليها، وشكاهم إلى النبي - عليه السلام - فقام على المنبر فقال: لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا أن يكون معه رجل أو اثنان.
ولما شبب عمر بن أبي ربيعة بعائشة بنت طلحة التيمية تجمع فتيان تيم فأنذروه لئن تعرض لها بعد ذلك ليقتلنه شر قتلة، فأقسم لا عاد.
وعائشة هي التي كانت تعاتب في كشف وجهها فتقول: «إن الله وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد.»
فهو دلال لا ينسى الصيانة، ورفق لا ينسى الغيرة، وآداب سيادة وحضارة لا تنسى الأصول المعروفة في آداب البداوة.
وفي هذه البيئة التي تحوطها الحمية والرعاية نشأت ربة هذه الدراسة وموضوع هذا الكتاب: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها.
ولكنها تفردت برعاية لم تشركها فيها ولائد هذه البيئة؛ فقد تربت على النعمة والخير، وتدربت على العزة والكرامة، وتعلمت القراءة التي لم يكن يتعلمها من نجباء الأبناء في بيوت السادة إلا القلة المعدودة.
فصح أن يقال إن الرعاية التي ظفرت بها ربة هذه الدراسة كانت هي خلاصة الكرامة التي هيأتها لبناتها حمية البداوة، وصقلتها مع الزمن شمائل الحضر ومآثر الشرف والسيادة.
المرأة المسلمة
جاء الإسلام فبدأ من النهاية التي انتهت إليها آداب الحضارة والسيادة، وهي خلاصة العرف الذي تعارف عليه سادة الحضر في معاملة المرأة العربية.
إلا أنه جعل هذا العرف حقا مكتوبا على الرجال لكل امرأة من كل طبقة ، ولم يقصره على عقائل البيوتات كما كان مقصورا عليهن في آداب الجاهلية بحكم الاصطلاح والعادة، يتبعه من يرضاه ويهمله من يأباه.
ثم زاد على هذا العرف منزلة من الرعاية لم تصل إليها أرفع النساء في أرفع البيوتات قبل الدعوة المحمدية؛ لأنه جعلها مناط التكليف، ووجه إليها الخطاب في كل شيء كما وجهه إلى الرجال، إلا ما هو من خصائص عمل الرجال في العرف المستقيم.
فالمرأة في شريعة الإسلام إنسان مرعي الحقوق والواجبات ...
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة .
وكل امرأة أو فتاة - من العلية أو السوقة - لا يصح زواجها حتى يرجع إليها فيه، «فلا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن» وعلامة إذنها السكوت، كما جاء في بعض الأحاديث.
ولها أن تملك ما تشاء وأن تبيع وتشتري ما تشاء، وأن تشترك في الإرث وكان حراما عليها؛ لأنها لا تحمل الدرع ولا تضرب بالسيف. بل كان من حق الرجل أن يتخذها هي ميراثا ينتقل إليه كرها كما يرث الخيل والإبل والحطام، فأبطل الإسلام ذلك حيث جاء في القرآن الكريم:
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها .
وقضى بأن تبايع النساء كما بايع الرجال، فلا تغني عن مبايعتهن مبايعة آبائهن وأزواجهن وأوليائهن، ونص القرآن الكريم على ذلك حيث جاء في سورة الممتحنة:
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم .
وأبى الإسلام إلا أن يكفل لها حسن المودة كما كفل لها حسن المعاملة، وأن يوسع لها من حقوق البر والعطف كما وسع لها من حكم الشريعة؛ فأوصى المسلمين أن يستقبلوا ولادتها بالرضى، وزجر الذين يستقبلونها على غيظ وحرد:
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون .
ومن الآداب القرآنية أن يغالب الرجل كراهتها إذا تغير قلبه من نحوها عسى أن يثوب إلى حبها أو يكون في احتمالها خير له ولها:
وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا .
وكانت وصايا النبي
صلى الله عليه وسلم
على منهاج أوامر القرآن في إنصاف المرأة ورعايتها، فكان - عليه السلام - يقول: «خيركم خيركم للنساء ...» و«... ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم».
وأسند الوصاة بها في بعض الأحاديث إلى وحي جبريل حيث قال: «ما زال جبريل يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه يحرم طلاقهن.»
والتعليم الذي كان في بيوت السادة فلتة لا يقاس عليها بين الرجال فضلا عن النساء، جاء الإسلام فجعل «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» واستحبه - عليه السلام - حتى للإماء؛ حيث قال: «أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران.» •••
هذه هي المنزلة التي تبوأتها المرأة في الشريعة الإسلامية، وهذه هي المعاملة التي أوجبتها آداب الإسلام على المسلمين كافة، وهي أرفع من كل أدب ترقت إليه الجاهلية في الجوانب التي تهذبت فيها معاملة المرأة بين ذوي السيادة والحضارة من أهلها، وأضيفت إليها على عهد الإسلام جوانب شتى لم يكن للمرأة فيها أيسر نصيب من رعاية أو إنصاف.
ومهما يكن من الرأي في موقف العصور الحديثة من المرأة - وهو ما نعرض له في ختام هذا الكتاب - فالذي لا ريب فيه أن الإسلام قد رفعها درجات فوق أرفع منزلة بلغتها بين العرب أو بين الأمم الأخرى، وأن المسلم الذي يعمل بدينه يوليها من البر فوق ما طلبته لنفسها، لو أنها كانت في زمان يطلب فيه النساء لأنفسهن حقا من الحقوق. •••
ولم تكن تلك غاية المرتقى، فإن الفرائض الدينية تطاع ولا تطاع، وهي على هذه موكلة بالتعميم الذي يستوي فيه جميع المسلمين المخاطبين بالتكليف، وإنما طاعة التكليف فضيلة تعلوها فضائل الاختيار والرغبة والاشتياق إلى الإنجاز، كأن الإنجاز هو المثوبة التي تغني عن المثوبة الموعودة، وها هنا تتفاوت المراتب، وتترقى الفضائل من التعميم الشائع إلى الامتياز والرجحان، وتستبق النفوس حتى يكون العمل المفروض أمنية محبوبة يؤلم النفس أن تعاق دونها، ولا تبلغ الغاية منها.
وتلك عليا مراتب الأنبياء، وهي المرتبة التي سما إليها صاحب الدعوة الإسلامية بما تهيأ له من تمام الأريحية الإنسانية، وملاك الفطرة النبوية.
فالحق أن محمدا - عليه السلام - لم يفرض على نفسه الشريفة محاسنة المرأة كما تفرض الأوامر السماوية على من يطيعها ولا مسرة له في طاعتها، ولكنه حاسنها فطرة كما حاسن كل مخلوق حي ولا سيما الضعفاء، وجعل البر بها مقياس المفاضلة بين أخلاق الرجال، وعنوان المنافسة في طلب الخير والكمال، فقال غير مرة: «خيركم خيركم للنساء.»
وبلغ من ذلك أنه يأوي إلى البيت «فيكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة»، وأنه استحب خدمة الزوجة في منزلها فقال: «خدمتك زوجتك صدقة» وكان أكيس رجل في معاملة أهل بيته، يشفق أن يرينه غير باسم في وجوههن، ويزورهن جميعا في الصباح والمساء، وإذا خلا بهن «كان ألين الناس، ضحاكا بساما» كما قالت عائشة رضي الله عنها.
ومن المبالغات المألوفة في تناهي الرحمة أن يقال: «إنه أرحم به من أمه وأبيه».
لكنه - عليه السلام - كان حقا أرحم بأهله من آبائهن وأمهاتهن حتى الذين اشتهروا بالحدب الشديد على ذوي الرحم كأبي بكر الصديق رضوان الله عليه.
ففي الأحاديث عن عائشة أنها قالت: «كان بيني وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كلام. فقال: من ترضين أن يكون بيني وبينك؟ أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟ قلت: لا، ذلك رجل هين لين يقضي لك. قال: أترضين بأبيك؟ قلت: نعم. فأرسل إلى أبي بكر فجاء، فقال: اقصصي! فقلت: بل اقصص أنت ... فقال: هي كذا وكذا ... فقلت: اقصد! فرفع أبو بكر يده فلطمني، وقال: تقولين يا بنت أم رومان: اقصد؟ من يقصد إذا لم يقصد رسول الله؟ فجعل الدم يسيل من أنفي، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إنا لم نرد هذا ... وجعل يغسل الدم بيده من ثيابي، ويقول: رأيت كيف أبعدك الله منه ...»
وكان بره بمن مات من أزواجه أكرم من بره بمن يعشن معه ويراهن كل يوم. فلما ماتت زوجته الأولى خديجة - رضي الله عنها - حزن عليها، وسمى العام الذي قبضت فيه «عام الحزن» ووفى لذكراها طوال حياته، حتى لقد كانت عائشة تغار منها وهي في قبرها أشد من غيرتها من زوجاته اللواتي يعشن معها في كنفه، وقالت له يوما: هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها؟ فقال لها مغضبا: «لا والله! ما أبدلني الله خيرا منها. آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.»
وإن هذا الوفاء لذكرى الزوجة الغابرة لخليق أن يرضي المرأة - حين تنسى غيرتها - أشد من رضاها عن مكاشفتها بالتفضيل في حياتها لجمالها وشبابها ونعيم عشرتها وصفائها. •••
ونحن لا نعتسف التوفيق والترتيب حين نقول عن ربة هذا الكتاب - عائشة بنت الصديق - إنها لوحظت في آداب العرب والإسلام كأنها الوجهة التي اتجهت إليها هذه الآداب في طريق الارتقاء والتهذيب.
فمن قسمتها في آداب العرب النسائية أنها نشأت في خلاصة تيم الذين اشتهروا بظرف الرجال وتدليل النساء.
من قسمتها في الإسلام أنها ملكت حقوق المرأة المسلمة وتجاوزتها؛ فملكت الحظوة التي يضفيها على نسائه نبي كريم، يتجاوز الحقوق المفروضة صعدا في معارج الكمال، وكانت هي بعد هذا صاحبة الحظوة الأولى بين هؤلاء النساء.
إنها لمجدودة من بنات حواء، ولهذا الجد السعيد شأن أي شأن في تاريخها الذي اتصل بتاريخ الإسلام.
المرأة الخالدة
إن المرأة التي اجتمعت لها خلاصة الرعاية في آداب أمة من الأمم لذات شأن في تاريخ قومها لا يسهو عنه باحث موكل بدراسة التاريخ أو دراسة الآداب.
وأعظم من ذلك شأن المرأة التي كتبت لها خلاصة الرعاية في دين من الأديان، والتي اشتركت في سيرة النبي المرسل بذلك الدين، ونقلت أحاديثه في أحكام شريعته وخطرات ضميره، ولقيت عنده الحظوة التي لم تلقها واحدة من النساء.
والسيدة عائشة - رضي الله عنها - هي هذه، وهي تلك.
هي المرأة التي لوحظت في آداب الأمة العربية كأنما استخلصت لها هذه الآداب لتظفر منها بالرعاية الأولى.
وهي المرأة التي قال عنها النبي - عليه السلام - إنها أحب الناس إليه، وتلقى الأعقاب عنها مئات الأحاديث التي عرفوه بها في دينه ودنياه.
وكلاهما شأن عظيم يبوئ الإنسان بين قومه مكانا ملحوظا من جوانب التاريخ ...
ولكن السيدة عائشة مع هذا وذاك تهم الباحثين والمؤرخين لسبب آخر غير هذين السببين، أو للسبب الآخر المتمم لهذين السببين؛ لأنها المرأة في تكوينها الأصيل الذي خلقه الله منذ خلق حواء، أو هي المرأة التي تتمثل فيها الأنثى الخالدة التي لا تحتويها أمة واحدة، ولا يستأثر بها زمان واحد؛ لأنها استمدت من طبائع الإنسانية كل ما قدر لها من دوام.
وهذا هو جانب الاهتمام الصميم بكل عظيمة وكل عظيم.
فمهما يقل القائلون في غرض المؤرخ من سير العظماء، فالحقيقة التي لا ريب فيها عندنا هي أن الغرض الأول أو الغرض الذي تنتهي إليه جميع الأغراض هو توثيق الصلة بين الإنسانية وبين عظمائها وعظيماتها، والنفاذ إلى الجانب الإنساني من كل نفس تستحق التنويه والدراسة.
وما من علامة هي أصدق دلالة على السيرة الناجحة من هذه العلامة.
فنحن نعلم أننا سائرون على الجادة في التعريف بصاحب السيرة أو صاحبتها إذا نظرنا فرأينا أننا قد وصلنا من تلك السيرة إلى صميم الإنسان.
ونحن نعلم أننا تائهون في الطريق إذا نظرنا فلم نجد بين أيدينا إلا سرابيل العظمة، وأقواس النصر، ومواكب الرهبة والخشوع.
نحن إذا فهمنا النبي نبيا وكفى فإنما وصلنا بين ضميره وضمائرنا، وبين محراب العبادة عنده ومحراب العبادة عندنا.
ونحن إذا فهمنا البطل بطلا وكفى فإنما وصلنا بين قدرته وقدرتنا، وبين ضخامته بالقياس إلينا وضآلتنا بالقياس إليه.
ونحن إذا فهمنا الرئيس رئيسا وكفى فإنما وصلنا بين مركزه في الأمة ومركزنا، وبين الحقوق التي له والواجبات التي عليه، والحقوق التي لنا والواجبات التي علينا.
ولكننا إذا فهمنا النبي إنسانا فقد فهمناه كله، وفهمناه على حقيقته التي تعنينا، وتعقد له أواصر القرابة فيما بينه وبيننا؛ لأننا وصلنا بين الإنسان فيه والإنسان فينا.
وكذلك البطل، وكذلك الرئيس، وكذلك كل ذي شأن يستحق البحث فيه.
هم غرباء حتى يقال: هذا هو الإنسان! فإذا هم الأقربون الذين ترضينا عظمتهم؛ لأنهم منا ونحن منهم، ولأنهم خالدون خلود الإنسان من وراء الأقوام والأزمان.
والسيدة عائشة - رضي الله عنها - مثل من أمثلة الأنوثة الخالدة في جميع أقوامها وجميع عصورها.
فضلها في الكتابة عنها أنها كتابة عن تلك الأنوثة التي نلمحها حولنا ونلمحها من قبلنا في كل أنثى.
وأنها ترينا النبي في بيته فترينا الرجل الذي ارتفع بالنبوة إلى عليا مراتب الإنسانية، ولكنه مع هذا هو الرجل في بيته كما يكون الرجال بين النساء على سنة الفطرة المعهودة من آدم وحواء.
وفضلها على الجملة أنك تقرأ من أخبارها ما تقرأ فلا تزال تقول بعد كل خبر ترويه أو يرويه غيرها: أجل، هذه هي الأنثى الخالدة في كل سمة من سماتها.
هذه هي الأنثى الخالدة في غيرتها، وهذه هي الأنثى الخالدة في دلالها، وهذه هي الأنثى الخالدة في كل ما عرفت به الأنثى من حب الزينة وحب التدليل والتصغير وحب التطلع وحب المكايدة والمناوشة، ومكاتمة الشعور والتعريض بالقول، وهي قادرة على التصريح.
وكل لون من ألوان الغيرة التي تتراءى في طبيعة المرأة فهو باد في خبر من أخبار السيدة عائشة كأوضح ما يبدو، وأصدق ما يكون في طبائع النساء.
والغيرة في طبائع النساء ألوان:
تغار المرأة على قلب الرجل الذي تحبه ولو شغلته الذكرى ولم تشغله المودة الحاضرة؛ لأنها تعلم من هذا أنها لم تشغل قلبه كله، وهي تأسى على كل ما يفوتها من شواغل ذلك القلب، ولو لم تكن ثمة منافسة محذورة.
وتغار المرأة من المرأة الجميلة، وإن لم تنافسها على رجل تحبه، وتغار من شريكتها في رجلها كائنا ما كان حظها من الجمال، وتغار من كل مزية غير الجمال ما كان فيها سبيل إلى الحظوة في القلب الذي تريده لها، ولا تطيق المزاحمة عليه.
و«الأنثى الغيرى» في جميع هذه الألوان من الغيرة النسائية ماثلة هنالك في سيرة عائشة، كما روتها هي وكما رواها غيرها، ما من فارق بينها وبين سائر النساء إلا الأدب الذي ينبغي لها، والحق النبوي الذي هي جاهدة جهدها أن توفره وترعاه.
كانت السيدة خديجة متوفاة منذ سنوات يوم بنى النبي بالسيدة عائشة، لكن السيدة عائشة كانت تغار منها غيرة لم تنطو على مثلها لشريكاتها اللواتي يعشن معها؛ لأنها شغلت قلب النبي بعد وفاتها، فلم يزل يذكرها، ويحب لحبها من كان يزورها أو يراها.
وكان - عليه السلام - يبر بعض العجائز، فسألته السيدة عائشة في ذلك فقال: إن خديجة أوصتني بها ... فقالت مغضبة: خديجة، خديجة ... لكأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة!
وعلى حلم رسول الله ربما غضب أحيانا من ثورتها على ذكرى خديجة. فغضب في هذه المرة وتركها فترة، ثم عاد وأمها - أم رومان - عندها فقالت له أمها: يا رسول الله! ما لك ولعائشة؟ إنها حديثة السن وأنت أحق من يتجاوز عنها؛ فلم يدعها حتى أخذ بشدقها معاتبا وهو يقول لها: ألست القائلة: كأنما ليس على وجه الأرض امرأة إلا خديجة؟!
وسألته مرة: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد بدلك الله خيرا منها؟ فأسكتها قائلا: «والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها.»
أما شريكاتها اللواتي كن يعايشنها في بيت النبي، فربما كانت تغار من إحداهن لطعام يستطيبه النبي عندها فضلا عن الغيرة من الجمال أو الملاحة.
تعود - عليه السلام - أن يستطيب العسل الذي تهيئه له «زينب بنت جحش» من أجمل أمهات المؤمنين وأحظاهن عنده، فأجمعت رأيها مع صديقتها «حفصة بنت عمر» أن يبغضاه في عسلها، وقالت فيما روته عن نفسها: «... فتواطأت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ وهي طعام من صمغ حلو ولكنه كريه الرائحة، ولم يكن أبغض إلى النبي - عليه السلام - من رائحة كريهة ... فلما دخل عندها رسول الله قالت: إني أجد منك ريح مغافير، قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود إليه!»
وقد عرفت زميلتها السيدة صفية بجودة الطهي، وهي في الأصل إسرائيلية من أهل خيبر؛ فنفست عليها السيدة عائشة هذه الإجادة ولم تكتم منها، بل هي التي روتها، ومن حديثها عنها عرفناها. قالت: «ما رأيت صانعة طعام مثل صفية، صنعت لرسول الله طعاما وهو في بيتي فأخذني أفكل - أي قشعريرة - فارتعدت من شدة الغيرة فكسرت الإناء ثم ندمت، فقلت: يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام.»
وهذه غيرتها من زميلات لم يجهرن بالمنافسة والمغايظة، وهي بالبداهة دون غيرتها من الزميلات اللواتي كن ينافسنها جهرة ويكاشفن النبي - عليه السلام - بالشكوى عن تفضيلها عليهن في المودة والحظوة، وعلى رأسهن أم سلمة التي شهدت على نفسها والنبي يخطبها أنها غيور لا تطيق المنافسة، فكان - عليه السلام - يجاملها ليذهب غيرتها، وتغضب عائشة من هذه المجاملة على علمها بمكانتها عنده، قالت: دخل علي يوما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقلت: أين كنت منذ اليوم؟
قال: يا حميراء كنت عند أم سلمة.
قلت: ما تشبع من أم سلمة؟
فتبسم. ثم قلت: يا رسول الله، ألا تخبرني عنك لو أنك نزلت بعدوتين إحداهما لم ترع والأخرى قد رعيت، أيهما كنت ترعى؟
قال: التي لم ترع!
قلت: فأنا ليس كأحد من نسائك، كل امرأة من نسائك قد كانت عند رجل، غيري ...
فتبسم عليه السلام.
وإذا كانت أكلة أو شربة عسل تستطاب عند إحدى الزميلات أو مجاملة لإحداهن جبرا لخاطر ومداراة لغيرة، تثير هذه المنافسة وتغري بهذه المؤامرة، فليس من العسير أن نفهم كيف تكون الغيرة التي تثيرها الذرية المحبوبة المرقوبة حين يرزقها النبي من إحدى زوجاته، وقد حرمها من سائرهن سنوات، وهو شديد الكلف بها والتطلع إليها. تلك إذن غيرة لا تمسكها الحدود ولا تكبحها المجاملات.
وقد ثارت ثائرتها يوم ولد له - عليه السلام - ابنه إبراهيم من مارية القبطية، وكانت على هذه المزية التي امتازت بها جميلة بيضاء، تغار منها الزميلة لجمالها وصباحتها فوق غيرتها منها لهذه الأمومة التي تفردت بها بين تسع نظيرات.
قالت كتب السير: وغارت زوجات النبي ولا كعائشة.
لأن عائشة - رضي الله عنها - كانت صاحبة المكانة الأولى التي ترفعت إليها «مارية» بأمومتها، فهي أحق بالغيرة على تلك المكانة من سواها.
ولا ريب في حب عائشة للنبي ولا في سرورها ورضاها بما يسره ويرضيه، ولكننا نطالب الطبيعة الإنسانية - والطبيعة النسوية - بما يرهقها إذا نحن ترقبنا منها أن تسر بما يثير غيرتها، وأن تحب الرجل ثم تسر بما عسى أن يصرف حبها عنه، أو ينقص سهمها فيه.
فمن الطبيعي أن تسر المرأة بسرور الرجل؛ لأنها تحبه.
ومن الطبيعي كذلك أن تغار من السرور الذي يحببه إلى غيرها؛ لأنها تحبه.
وقد يفترق القلبان في لحظة من اللحظات؛ لأنهما مقتربان أشد اقتراب.
وهذا الذي حدث عند مولد إبراهيم من مارية القبطية - وهي فتية جميلة رضية - يدنيها من قلب النبي شتى المزايا، وأولاها هذه المزية التي تربى على كل مزية.
فلما رأت عائشة فرح النبي بالوليد المرموق، وأحست شغف النبي به جاهدت نفسها أن تغالب غيرتها فلم تقو على هذه المغالبة، وقال لها يوما: انظري إلى شبهه! فلم تملك لسانها أن تقول: ما أرى شيئا ... وربما أعجبه نمو الوليد ولفتها إلى بياضه ولحمه وترعرع جسمه، فيعز عليها أن تعجب مثل عجبه؛ لأنه هكذا كل طفل يشرب من اللبن ما يشرب إبراهيم!
وكان غضب النبي من غيرتها غضب تأديب وتهذيب، لا غضب سخط وتأنيب. فكان يعذرها فيما يمسه ولا يعذرها فيما ينبغي لها أن تتوخاه أو تتحراه، أو فيما يحسن بالمرأة التي أحبها هذا الحب أن تقلع عنه وتعرف موضع الملامة فيه.
فقلما لامها في شيء يمسه من غيرتها، ولكنه كان لا يسكت مرة عن مؤاخذتها على فلتات هذه الغيرة التي تمس بها أناسا آخرين، فيؤاخذ مؤاخذة المؤدب الرفيق، ولا يدع لها أن تعيد ما آخذها عليه.
عابت أمامه زوجته السيدة صفية فذكرت من عيوبها أنها قصيرة، فكره أن تمضي في حديثها، وقال: «يا عائشة! لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته.»
وحكت أمامه إنسانا فلم يعجبه ما يعجب الزوج المحب من هذه الفكاهة التي تسوغ وتستملح في ذوق كثيرين، ونهاها أن تحكي الناس حكاية استهزاء. •••
ومن «الأنثويات» الخالدة في طبيعة المرأة دلالها ومغاضبتها وهي أشوق ما تكون إلى المصالحة وتقصير أمد المغاضبة.
وللسيدة عائشة نوادر شتى في هذا الدلال الذي شابهت به كرائم قومها، وزادت عليهن بما بلغته من المنزلة التي لم يبلغنها.
غضب النبي من نسائه لكثرة منازعاتهن، وإلحافهن عليه بطلب المزيد من النفقة والزينة، فأقسم ليهجرهن شهرا، وشاع بين المسلمين أنه طلقهن جميعا!
وكان لهذه الإشاعة بين المسلمين رجة أي رجة؛ لأن تطليق النبي زوجاته جميعا هو أكبر طارق يتعرض له - عليه السلام - في بيته، ويمتد أثره إلى القبائل والبيوت التي كانت تجمعه بها صلة المصاهرة. وفي وسعنا أن نتخيل تلك الرجة بين الصحابة إذا علمنا أن صاحبا لعمر بن الخطاب سمع بالنبأ ليلا فأسرع إلى بابه يدقه دقا شديدا، ويسأل عنه في فزع: أثم هو؟ فلما خرج إليه قال صاحبه: حدث أمر عظيم. قال عمر: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق النبي
صلى الله عليه وسلم
نساءه.
ثم تحرى عمر الخبر من رسول الله، فعلم أن الأمر دون ذلك، وأن رسول الله إنما أقسم ليهجرهن شهرا. فما لبث أن استأذنه - عليه السلام - ليبادر إلى المسلمين المجتمعين بالمسجد فينقل إليهم حقيقة النبأ، ويذهب عنهم ما خامرهم من الأسى لما بلغهم من طلاق نسائه.
ولا ريب أن نساء النبي أنفسهن كانت بينهن للنبأ رجة أشد عليهن من هذه الرجة، وكان لهذه العقوبة التي لم يعاقبهن بمثلها من قبل أثر في قلوبهن أبلغ من هذا الأثر.
فلما انقضت الأيام التي أوعدن بها بدأ بالسيدة عائشة فدخل عليها وهي أشوق ما تكون إلى لقائه، فماذا سمع منها أول ما سمع؟
قالت: يا رسول الله، أقسمت أن لن تدخل علينا شهرا، وقد دخلت وقد مضى تسعة وعشرون يوما!
فقال عليه السلام: إن الشهر تسعة وعشرون.
أتراها كانت تنتظر استيفاء الثلاثين، ولا تقنع بالهجر تسعة وعشرين يوما؟
كلا، فقد عدتهن يوما يوما، وعلمت ساعة دخول النبي كم مضى وكم بقي على ظنها من أيام العقوبة، ولكنها الأنثى الخالدة كما أسلفنا، ولا بد للأنثى الخالدة في هذا الموقف من مكاتمة، ولا بد لها من دلال. •••
وما من سمة الأنوثة الخالدة غير هذه السمات إلا وجدت السيدة عائشة وقد صدقت فطرتها فيه، وإن كانت لتروض نفسها تلك الرياضة العالية التي تجمل بزوجة محمد وبنت الصديق وأم المؤمنين.
فإذا عرضت مناسبة للسن فليس أحب إليها من أن تقول: وكنت جارية حديثة السن، أو حدث ذلك لجهلي وصغر سني، وربما راقها أن تختار من الروايات التي ذكروها لها عن سنها أقرب تلك الروايات إلى التصغير وأولاها أن تميزها بين زميلاتها بميزة الشباب.
وقد تكون وحدها في بيتها فتعجبها ثيابها وتحب أن تنظر إليها. قالت: «ولبست ثيابي فطفقت أنظر إلى ذيلي وأنا أمشي في البيت، وألتفت إلى ثيابي وذيلي. فدخل علي أبو بكر، فقال: يا عائشة! أما تعلمين أن الله لا ينظر إليك الآن؟ قلت: ولم ذاك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته ربه - عز وجل - حتى يفارق تلك الزينة؟ فنزعته فتصدقت به، قال أبو بكر: عسى ذلك أن يكفر عنك.»
وهي عائشة كاملة في هذه القصة الصغيرة: هي حواء التي تحب أن تنظر إلى زينتها، وهي أم المؤمنين التي تحب أن ينظر الله إليها، وهي هنا أيضا حواء تطمح إلى زينة أعلى وأغلى. •••
ولن تعوزنا أسباب الاهتمام بحياة كهذه الحياة؛ لأنها المرأة العربية والمرأة المسلمة، والمرأة الخالدة في كل زمان.
عائشة
ولدت عائشة لأبي بكر الصديق من زوجته «أم رومان»، واسمها زينب أو دعد، مختلف فيه، كما اختلفوا في نسبها، واتفقوا على أنها من كنانة.
وكانت قبل بناء الصديق بها زوجا لصاحبه في الجاهلية عبد الله بن الحارث بن سخبرة، وولدت له ابنه الطفيل، ثم مات، فخلفه عليها أبو بكر ليحفظ بيت صاحبه وحليفه.
ومن المتفق عليه أنها كانت امرأة ذكية، أسلمت وهاجرت، ولقيت عنتا شديدا في سبيل دينها وزوجها، ويروى عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان.»
وقد اختلفوا في سنة وفاتها، من قائل إنها توفيت في حياة النبي عليه السلام، إلى قائل إنها عاشت إلى أيام عثمان رضي الله عنه، والأرجح في رواية البخاري أنها عاشت إلى أيام عثمان.
ولا يعرف على التحقيق في أي سنة ولدت السيدة عائشة رضي الله عنها، ولكن أقرب الأقوال إلى الصدق وأحراها بالقبول أنها ولدت في السنة الحادية عشرة أو الثانية عشرة قبل الهجرة، فتكون قد بلغت الرابعة عشرة من عمرها أو قاربتها يوم بنى بها الرسول عليه السلام.
وجملة ما يفهم من وصفها على التحقيق أنها كانت بيضاء، فكان - عليه السلام - يلقبها بالحميراء، وكانت أقرب إلى الطول؛ لأنها كانت تعيب القصر كما مر في كلامها عن السيدة صفية، وكانت في صباها نحيلة أو أقرب إلى النحول، حتى كان الذين يحملون هودجها خاليا يحسبونها فيه. قالت في حديث لها مشهور: «... وأقبل إلي رهط الذين كانوا يرحلون لي - أي يحملون الرحل على البعير - فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم. إنما يأكلن العلقة من الطعام ... فلم يستكثر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه؛ إذ كنت مع ذاك جارية حديثة السن.»
ثم مالت بعد سنوات إلى شيء من السمنة كما جاء في كلامها في حديث آخر: «... خرجت مع النبي
صلى الله عليه وسلم
في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم. فقال
صلى الله عليه وسلم
للناس: تقدموا! فتقدموا. ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسكت. حتى إذا حملت اللحم وكنا في سفرة أخرى، قال
صلى الله عليه وسلم
للناس: تقدموا! فتقدموا. ثم قال: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني؛ فجعل
صلى الله عليه وسلم
يضحك ويقول: هذه بتلك.»
وعلمنا من بعض أحاديثها أنها وعكت مرة فتمزق شعرها، فمن ثم وصيتها على ما يظهر بالشعر حيث تقول: «إذا كان لأحدكم شعر فليكرمه.»
وعلمنا من رواة وقعة الجمل أنها كانت جهورية الصوت، تخطب العسكر من هودجها في ساحة الحرب فيسمع خطابها.
وعلمنا من جملة أوصافها وأخبارها أنها كانت حية الطبع موفورة النشاط كدأب العصبيين من النساء والرجال، وكان أبوها - رضي الله عنه - من أصحاب هذا المزاج ولا مراء.
والظاهر أنها ورثت عنه كثيرا من خلقه وخلقه على السواء؛ فقد كان الصديق جميلا حتى جاء في بعض الروايات أنه لقب بالعتيق لجماله، وكان نحيلا دقيق التكوين كما هو مشهور، وكانت فيه حدة طبع مع حدة ذكاء، وكان كريما سريعا إلى نجدة المعوزين والضعفاء، وكان صادق المقال لم يؤخذ عليه كذب في الجاهلية ولا في الإسلام، وكان ماضي اللسان قديرا على إفحام من يجترئ عليه، وتشبهه السيدة عائشة في هذه الخلائق شبها كان يوحي إلى النبي - عليه السلام - كلما سمعها تجيب من يساجلها أن يقول: إنها ابنة أبي بكر! إنها ابنة أبي بكر!
وقد راضت حدتها زمنا كما كان أبوها يروض حدته طوال حياته، ولكنها لم تبلغ من ذلك ما بلغه أبوها؛ لمكان الرجل من القدرة والحاجة إلى سياسة الدنيا، ومكان الفتاة من الضعف ومن الحظوة التي تغنيها عن الصرامة في مغالبة النفس ومراس الخطوب في كفاح الحياة.
والمعهود في أخلاق الناس أن الحدة تلازمها سرعة الغضب، كما تلازمها سرعة الصفح والنسيان في معظم الأحيان.
وليس في أخبار السيدة عائشة ما يناقض هذه المشاهدة التي تعم النساء كما تعم الرجال، فليس مما ينقضها أنها - رضي الله عنها - بقيت على موجدة من مسألة الإفك طوال حياتها فلم تنس قط مقالة أحد من القائلين أو الساعين فيها؛ إذ ليس أهول على نفس الفتاة خاصة، ولا أوجع لضميرها من مطعن يهدم سمعتها، ويعصف بهناءتها، ويفقدها الرجل الذي تحبه، والمكانة التي تبوأتها، وأهول ما يكون ذلك على البريئة العزيزة التي يهولها الأمر على قدر ظلمها فيه، وعلى قدر نكبتها بما تفقده من العزة والسمعة. فلا يقاس على موجدة السيدة عائشة في مسألة الإفك سائر خلائقها ودوافع ضميرها، فليس في غير هذه المسألة ما ينم على شيء يتجاوز الحدة العارضة إلى الضغينة الباقية.
حدث مسروق الهمداني قال: «دخلت على عائشة وعندها حسان، وهو يرثي بنتا له، ويقول:
رزان حصان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت عائشة: لكن أنت لست كذلك. فقلت لها: أيدخل عليك هذا وقد قال الله عز وجل:
والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم
فقالت: «أما تراه في عذاب عظيم قد ذهب بصره؟!»
وهذا لأن حسان بن ثابت كان ممن نسب إليه شعر في مسألة الإفك لا يرضي السيدة عائشة.
على أنها قبلت عذره كما جاء في رواية أخرى ونهت عن شتمه، وذلك فيما رواه يوسف بن ماهك عن أمه، حيث تقول: كنت أطوف مع عائشة بالبيت فذكرت حسان فسببته، فقالت: بئس ما قلت، أتسبينه وهو الذي يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
فقلت: أليس ممن لعن الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قالت: لم يقل شيئا، ولكنه الذي يقول:
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد جاء عني قلته
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وقال هشام بن عروة عن أبيه: «كنت قاعدا عند عائشة فمر بجنازة حسان بن ثابت فنلت منه، فقالت: مهلا! فذكرتها كلامه، فقالت: فكيف بقوله:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
ولا شك أن الذي ذكرته السيدة عائشة لحسان لا ينسى، وأن الذي صفحت عنه بعد ذلك كثير، وأن حمد الصفح هنا أولى من ملاحظة التذكير والتبكيت. •••
أما كرم السيدة عائشة فهي فيه إلى النجدة أقرب منها إلى السخاء، وهي فيه على آسال من أبيها العظيم رضي الله عنه، تنقذ من الأسر وتغيث من البلاء، وتعطي من هو في حاجة إلى العون العاجل ما تيسر لها العطاء، وكانت في كرمها على حال سواء في أيام النبي - عليه السلام - حين لا مال لديها إلا القليل الذي هي أحوج إليه، أو في أيام الفتوح التي تيسر لها فيها من المال ما لم يكن قبل بميسور.
كان لعتبة بن أبي المهلب جارية حبشية اسمها بريرة زوجها على غير رضاها عبدا من عبيد المغيرة فكرهته وأعرضت عنه، وهي أهل لمن هو أصلح وآدب منه. فرحمتها السيدة عائشة فاشترتها وأعتقتها، وخاطبت فيها النبي - عليه السلام - فقال لها: ملكت نفسك فاختاري!
وكان زوجها يتعلق بها، ويتبعها حيث سارت وهي معرضة عنه، فتعجب النبي بين أصحابه يوما من فرط حبه لها وزهدها فيه، وقال لها: اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك! قالت: أتأمرني؟ قال: لا، إنما أنا شافع. فقالت: إذن لا حاجة بي إليه.
وما زالت بعد ذلك في خدمة السيدة عائشة تخلص لها، وتذكر لها عطفها عليها، ولا تنسى لها جميلها.
وقد أعانها على هذا الخلق السمح أنها رزقت القدوة القريبة بسيد المواسين للضعفاء ومعلم الجابرين لكسر القلوب، فما من شأو بلغته في هذا المعراج الرفيع إلا ارتفع بها رسول الله إلى أعلى منه وأجمل. كانت عندها فتاة يتيمة اسمها الفارعة بنت أسعد فزوجتها لنبيط بن جابر الأنصاري وسارت معها في زفافها إلى بيت زوجها، فلما عادت سألها عليه السلام: ما كان معكم لهو فإنه يعجب الأنصاري؟ هلا بعثتم جارية تضرب بالدف وتغني؟ فسألته: ماذا تقول يا رسول الله؟! قال: تقول: أتيناكم أتيناكم، فحيونا نحييكم، ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم، ولولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم.»
وحدثت مولاتها أم ذرة - وهي من الثقات - أن ابن الزبير بعث إلى السيدة عائشة بغرارتين فيهما مال يبلغ مائة ألف درهم، وكانت صائمة فدعت بطبق فجعلت تقسم في الناس، ثم أمست فقالت: يا جارية هاتي فطري. قالت أم ذرة: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لا تعنفيني! لو كنت أذكرتني لفعلت!
وقال ابن سعد عن عروة بن الزبير: «رأيت عائشة تصدق بسبعين ألفا، وإنها لترقع جانب درعها.» وأيسر ما يستفاد من هذه الروايات على اختلاف مكان رواتها من الثقة أنها - رضي الله عنها - كانت مشهورة بالكرم والإحسان إلى مستحقيه.
وقد كانت بنت أبيها في أكثر من خصلة واحدة من هذه الخصال النادرة بين الرجال والنساء، ولكنها كانت أشبه ما تكون به في خصلة الصدق التي بها اشتهر، ومن أجلها نعت بالصديق، وغلب هذا النعت عليه حتى أوشك أن ينسى الناس اسمه الذي دعاه به أبواه. وقد امتحن صدقها في مآزق عسيرة البلاء للنفوس فتمحصت عن معدن كريم وعرق سليم، ودلت على أصالة هذا الميراث النفيس من أبيها العظيم؛ ففي الغاشية التي أطبقت على العالم الإسلامي من جراء الخلاف على الخلافة تطايرت الأحاديث الموضوعة من هنا وهناك، وتعمد أناس أن يصوغوا من عندهم حديثا لكل حزب ينصره ويرضيه ويكبت خصمه ويخزيه، وافتن الوضاع في محاكاة الأحاديث النبوية ذلك الافتنان الذي شقي به المحققون للروايات بعد ذلك بسنين. وكانت السيدة عائشة تشترك في خصومات المتخاصمين على الخلافة باختيارها، أو تساق إلى المشاركة فيها على كره منها، وكانت هي أول من يسمع له إذا روت حديثا يدمغ خصومها ويعزز أنصارها، ولكنها لم تنقل قط في كل ما ثبتت نسبته إليها حديثا واحدا تمسه الشبهات من قريب أو بعيد ولا تؤيده الأسانيد الأخرى، ولم تحرف كلمة واحدة إلى غير موقعها طواعية لإغراء تلك النوازع النفسية التي تطيش بالألسنة أو تضلل العقول، وهو امتحان ليس أعسر منه امتحان في هذا الباب، ولهذا كانوا يروون عنها الأحاديث فيقولون: حدثتنا الصديقة بنت الصديق!
ومن الصفات التي شابهت فيها أباها الذكاء المتوقد والبديهة الواعية، ولم تقصر فيها عن شأوه.
بل لا نحسبها قصرت عن شأو واحد من معاصريها بين الرجال والنساء على السواء في سرعة الفهم وقدرة التحصيل، والإحاطة بكل ما يقع في متناول ذهنها.
قال أبو الزناد: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة بن الزبير. فقيل له: ما أرواك! قال: وما روايتي في رواية عائشة! ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا.
وقد كان عروة بن الزبير أشد الناس حبا لخالته السيدة عائشة وإعظاما لها وتوقيرا لسيرتها، ولكن الذي روي عنها من الشواهد الشعرية في أخبارها التي نقلت إلينا يدل على صدق ما وصفها به من غزارة الحفظ وحسن الاستشهاد.
دخل عليها النبي - عليه السلام - وهي تتمثل بالبيتين التاليين:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه
يوما فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك وإن من
أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
فقال عليه السلام: لقد أتاني جبريل برسالة من ربي: «أيما رجل صنع إلي أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلا الثناء عليه والدعاء له فقد كافأه.»
ورأت أباها يجود بنفسه فقالت:
لعمري ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وعادت تقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ومما يروى أنها أنشدته في تلك الساعة، وهي ولهى لفراق أبيها:
وكل ذي غيبة يئوب
وغائب الموت لا يئوب
ويؤخذ من بعض ما نقل عنها أنها كانت تسمع شعر زهير وتعجب به، فقالت لإحدى بناته فيما روى الهيثم بن عدي: «إن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر.»
على أن الفهم والحفظ ملكتان معروفتان للسيدة عائشة كثرت أو قلت الشواهد الشعرية التي وصلت إلينا من أخبارها.
فحسبها أنها قد روت للنبي - عليه السلام - أكثر من ألفي حديث في مختلف المسائل التي تدخل فيها الأحكام الشرعية، والعظات الخلقية، والآداب النفسية، والأصول التي يرجع إليها في الدين والعبادة.
بل حسبها أن يثبت لها عشر هذا العدد من الأحاديث النبوية ليثبت لها أنها كانت تفهم وتعي وتحسن الحفظ فيما تنقله بحروفه، كما تحسن التعبير فيما تحكيه بكلامها، وأنها تحيط في فهمها وحفظها بكل ما أحاطت به الأحاديث من المعارض والمناسبات.
ومع هذا يروي الثقات أنها كانت تحفظ وتفقه وتفسر، ولا يقتصر علمها على وعي الكلمات والعبارات. قال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها علما فيه. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة. وقال مسروق الهمداني: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال عروة بن الزبير: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة.
ومن الأحاديث التي ترفع إلى النبي أنه قال: «خذوا شطر دينكم عن هذي الحميراء»، وهو حديث لم يثبت بالسند الصحيح، ولكن الحق الذي لا مراء فيه أن المسلمين قد عرفوا الكثير من أمر نبيهم وأمر دينهم من أحاديث عائشة عن زوجها المحبوب عليه السلام.
ولا ريب أنها كانت تقتدي بأبيها في حفظ الأخبار والأنساب، كما كانت تقبس من ميراث أخلاقه وطباعه وملكاته، ويستفاد من بعض المنقول عنها أنها كانت تواقة إلى معرفة كل ما نعرف من تواريخ الأمم غير قانعة بأخبار الأمة العربية، ولا بالأخبار التي تعنيها خاصة كأخبار النبي والصحابة والعشيرة الإسلامية، ومنها خبر النجاشي حين هاجر المسلمون إلى بلاده فأوفد إليه المشركون جماعة منهم يحملون إليه الغوالي والنفائس ليبطش بأولئك المهاجرين أو يردهم إلى قومهم، فقال: «ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة منه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.»
فخفي على السامعين معنى كلامه هذا حتى بلغ السيدة عائشة ففسرته بما انتهى إلى علمها، وهو أن هذا النجاشي كان من الأمراء المغصوبين فأقصاه الملك الغاصب وباعه بيع الرقيق، ثم أعيد إلى ملكه فاقتضى الرجل الذي اشتراه حقه، وأبى هذا النجاشي إلا أن يعطوه الدراهم من أموالهم ليجزيهم بصنيعهم، فذلك إذ يقول: ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه.
وهو تفسير لا يعنينا هنا أن نستقصيه من الوجهة التاريخية، ولكن الذي يعنينا منه شغف السيدة باستطلاع أحوال الأمم كافة حيثما تسنى لها سبيل الاطلاع. •••
وغزارة الاطلاع بينة - إلى جانب هذا - من لغة السيدة عائشة التي امتزجت بأسلوبها في كل ما نقل عنها، ولا سيما الخطب والوصف خاصة. فقد كانت لها مادة من اللغة لا تتهيأ بغير محصول كبير من أنباء العربية التي تستقى من أعرق مصادرها.
قالت في خطبة بعد وقعة الجمل تذكر أباها: «... وأبي ثاني اثنين الله ثالثهما، وأول من سمي صديقا، مضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنه راض، وقد طوقه وهق
1
الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين فأخذ بطرفيه وربق
2
لكم أثناءه؛ فوقذ
3
النفاق، وغاض نبع الردة، وأطفأ ما حشت يهود، وأنتم يومئذ جحظ العيون تنتظرون العدوة وتستمعون الصيحة، فرأب الثأي
4
وأرزم
5
مسقاه، وامتاح من المهواة، واجتهر دفن الرواء
6
حتى أعطن الوارد وأورد الصادر، وعل الناهل
7
فقبضه الله واطئا على هام النفاق، مذكيا نار الحرب للمشركين، فانتظمت طاعتكم بحبله فولى أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيد ما بين اللابتين
8
عركة
9
للأذاة بجنبه صفوحا عن أذاة الجاهلين، يقظان الليل في نصرة الإسلام.»
ووصفت أباها في خطبة أخرى فقالت: رحمك الله يا أبت! فلئن أقاموا الدنيا لقد أقمت الدين حين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه، وانقبضت عما إليه أصغوا، وشمرت فيما عنه ونوا، واستصغرت من دنياك ما أعظموا، ورغبت بدينك عما أغفلوا، طالوا عنان الأمر واقتعدت مطي الحذر، فلم تهتضم دينك ولم تنس غدك، ففاز عند المساهمة قدحك، وخف مما استوزروا ظهرك.
ووقفت على قبره قائلة - وهو كلام يستغرب تنسيق فواصله وترجيع ضمائره، ولكنه لا يستبعد على عصره:
نضر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فلقد كنت للدنيا مذلا بإعراضك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، ولئن كان أجل الحوادث بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رزؤك وأعظم المصائب بعده فقدك. إن كتاب الله ليعد بالعزاء عنك حسن العوض منك، فأنا أتنجز من الله موعوده فيك بالصبر عليك، وأستعيضه منك، بالدعاء لك. فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعليك السلام ورحمة الله توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.
وقد كان لها أسلوب فيما يرتجل يناسب موضوعه، كما كان لها فيما يجوز تحضيره أسلوب يناسب ما يحتفل له بالتحضير. فلما حكت عن زواجها بالنبي قالت بأسلوب مرسل سهل ، ولكنه مع ذلك جزل فصيح: «... تزوجني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنا ابنة ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج فوعكت فتمزق شعري فوفى جميمه
10
فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة، ومعي صواحب لي، وصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي! فأخذتني بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر. فأسلمتني إليهن يصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضحى، فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين ...» •••
ومع هذه المادة اللغوية التي تنم عن استقصاء مادة العربية من أعرق مصادرها لا نستغرب ما تواترت به الروايات من علم السيدة عائشة بطب زمانها، وما يصح في زماننا أن يسمى بعلم الفلك والظواهر الجوية لإلمامه بمسالك النجوم ومهاب الأنواء وغير ذلك من معارف البادية والحاضرة في عصر الدعوة الإسلامية.
وهكذا تنظر إلى عائشة لنفسها فلا ترى أنها تقصر عن عائشة في المكان الذي خصتها به الآداب العربية، ورفعتها إليه الآداب الإسلامية والحظوة النبوية؛ لأنه مكان قد استحقته لنشأتها في قبيلتها ودخولها في دينها، واستحقته كذلك بما تميزت به بين أترابها من جمال وفهم ومعرفة وبيان.
زوج النبي
كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - أول زوجات النبي - عليه السلام - وأحبهن إليه، عاش معها زهاء خمس وعشرين سنة، ولم يتزوج عليها، ولا فكر في الزواج بغيرها في حياتها، مع أنه بنى بها وهو في نحو الخامسة والعشرين وهي في نحو الأربعين، وبقيت معه إلى أن أوفت على الخامسة والستين.
ثم توفيت حوالي السنة العاشرة بعد الدعوة؛ فلم يعرف عنه أنه حزن على أحد قط أشد من حزنه عليها، ولا أطال الذكرى لأحد قط بعد وفاته كما أطال ذكراها، وسمى عام وفاتها «عام الحزن»؛ لأن الحزن لم يفارقه طوال أيامه، ولم يفارقه - في الواقع - بقية حياته كلها، وإن سكنت سورته مع الأيام كما تسكن كل سورة لاعجة مع ذلك العزم الصادق والقلب الصبور.
وتزوج بالسيدة عائشة بعد وفاة السيدة خديجة بسنوات.
فكان التقابل بين الزوجين من أتم ما تأتي به المصادفة حين تكون المصادفة أحكم من التدبير والتقدير، ولعل هذا التقابل لم يخل كل الخلو من القصد الخفي، وإن لم تتجه إليه النية في وضوح.
ويبدو لنا أن النبي - عليه السلام - كان أحوج ما يكون إلى هذا التقابل العجيب في حياته الزوجية.
فالفتى اليتيم الذي فجع في حنان الأمومة منذ طفولته الباكرة لم يكن أنفع له من زوجة كريمة رشيدة كالسيدة خديجة التي أغدقت عليه من حنان الأمومة ما فاته في بواكير الطفولة، وأدركه عطفها وهو يعالج من نوازع الدعوة النبوية ثورة مقيمة مقعدة في سريرة النفس، لا تزال بين الجلاء والغموض وبين الإقدام والإحجام، ولا تزال في هذه الحالة على حاجتها القصوى إلى التثبيت والكلاءة والتشجيع.
أما النبي في الخمسين من عمره فقد كان أنفع له وأبهج لفؤاده أن يغدق حنان الأبوة على زوجته التي تظفر منه بالحظوة والمودة، وأن يستروح من شبابها وجمالها نعمة تسعده في جهاده، وربيعا يظلله في وحشة عمره.
كانت خديجة أما ترعاه.
ثم كانت عائشة طفلة تنعم بتدليله.
وكانت خديجة تسعده بالعقل والحنكة.
ثم كانت عائشة تسعده بالطرافة والجمال.
وكانت خديجة تصاحبه قبل الدعوة، وهو يطلب الأنصار في طوية النفس قبل أن يطلبهم في عالم النضال والبلاء.
ثم كانت عائشة تصاحبه بعد الدعوة، وهو صاحب دين جهر وبهر، فكانت هي أول سفرائه بالإصهار إلى رجالات العرب ورؤساء العشائر والبيوت.
كان تقابلا بين الزوجين الفضليين من أعجب ما تأتي به المصادفة، بل من أعجب ما يأتي به التدبير، وليس هناك تدبير معروف.
فالذي نعلمه من خطبة النبي - عليه السلام - للسيدة عائشة أنها كانت من المصادفات التي لم يتحدث بها قط قبل أن تقترح عليه.
نعم إنه - عليه السلام - قال لعائشة يوما: «أريتك في المنام مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقال: هذه امرأتك! فاكشف عنها، فإنما هي أنت. فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه.»
ولكن الحديث يدلنا على مبلغ ما كان في ضمير النبي - عليه السلام - من هذه النية، وقد يفهم منه أنه كان - عليه السلام - يناجي نفسه الشريفة بأمنيته في الزواج، فطابقت السيدة عائشة مثال هذه الأمنية، وكان هذا من بواعث حبه إياها لمطابقة الرؤية ما تمثله في الرؤيا.
فأما الخطبة، فالذي نعلمه من الروايات المتواترة أنها جاءت بعد اقتراح من سيدة بارة آلمها ما لحظته من حزن النبي على زوجه العزيزة عليه. فقالت له: أي رسول الله! ألا تتزوج؟ فسألها: من؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا. ثم سألها عن البكر فذكرت عائشة «بنت أحب خلق الله إليك» ... وسألها عن الثيب فذكرت سودة بنت زمعة. فأوفدها إلى بيت أبي بكر، وجرت الخطبة بعد ذلك في مجراها الذي انتهى بالزواج بعد سنوات.
هذه السيدة هي خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون من أجلاء الصحابة الذين حرموا الخمر في الجاهلية، وعاش بعد الإسلام عيشة النسك والحكمة. وبقية حديث الخطبة أنها ذهبت إلى أم رومان - أم عائشة - فبادأتها بالحديث قائلة: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله أخطب عليه عائشة. فاستمهلتها حتى ترى أبا بكر، وقيل إن أبا بكر سأل حين بلغه الأمر: وهل تصلح له وهي بنت أخيه - يظن أن المؤاخاة بينه وبين النبي قد بلغت مبلغ القرابة التي تمنع المصاهرة - فكان جواب النبي لها: «قولي له: أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي» كما جاء في هذه الرواية.
وإلى هذا الحين لم يكن في تقدير أحد أن صلة من أوثق الصلات ستنعقد بين النبي وصفيه الحميم؛ لأن عائشة كانت مخطوبة قبل ذلك لجبير بن مطعم بن عدي من أصحاب أبيها في الجاهلية، فتحرج أبو بكر من نقض خطبته قبل مراجعته فيما ينويه، وقال لأم رومان زوجته: والله ما أخلف أبو بكر وعدا قط. ثم لقي أبا الفتى وأمه يسألهما فيما ينتويانه، فأقبل الأب على امرأته يسألها: ما تقولين؟ فالتفتت الأم إلى أبي بكر وهي تقول متعللة: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه؟ فلم يجبها، وسأل زوجها: ما تقول أنت؟ فلم يزده على أن أجاب: إنها تقول ما تسمع.
فعلم أبو بكر يومئذ أنه في حل من نقض وعده لمطعم بن عدي، واستقبل النبي خاطبا، فتمت الخطبة في شوال سنة عشر من الدعوة قبل الهجرة بثلاث سنوات، وأصدقها النبي - عليه السلام - أربعمائة درهم على أشهر الروايات.
وتختلف الأقوال في سن السيدة عائشة يوم زفت إلى النبي - عليه السلام - في السنة الثانية للهجرة، فيحسبها بعضهم تسعا، ويرفعها بعضهم فوق ذلك بضع سنوات.
وهو اختلاف لا غرابة فيه بين قوم لم يتعودوا تسجيل المواليد؛ إذ قلما يسمع بإنسان - رجلا كان أو امرأة - في ذلك العصر إلا ذكر له تاريخان أو ثلاثة لميلاده أو زواجه أو وفاته، وقد يبلغ الاختلاف بين تاريخ وتاريخ في تراجم المشهورين فضلا عن الخاملين عشر سنين.
والأرجح عندنا أن السيدة عائشة كانت لا تقل عند زفافها إلى النبي - عليه السلام - عن الثانية عشرة، ولا تتجاوز الخامسة عشرة بكثير.
فقد جاء في بعض المواضع من طبقات ابن سعد أنها خطبت وهي في التاسعة أو السابعة، ولم يتم الزفاف كما هو معلوم إلا بعد فترة بلغت خمس سنوات في أشهر الأقوال.
ويؤيد هذا الترجيح أن السيدة خولة اقترحتها على النبي وهي في السن المناسبة للزواج على أقرب التقديرات إلى القبول؛ إذ لا يعقل أنها تشفق من حالة الوحدة التي دعتها إلى اقتراح الزواج على النبي وهي تريد له أن يبقى في تلك الحالة أربع سنوات أو خمس سنوات أخرى.
ويؤيد هذا الترجيح - من غير هذا الجانب - أن السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل خطبتها إلى النبي، وأن خطبة النبي كانت في نحو السنة العاشرة للدعوة.
فإما أن تكون قد خطبت لجبير بن مطعم؛ لأنها بلغت سن الخطبة، وهي قرابة التاسعة أو العاشرة ، وبعيد جدا أن تنعقد الخطبة على هذا التقدير مع افتراق الدين بين الأسرتين.
وإما أن تكون قد وعدت لخطيبها وهي وليدة صغيرة كما يتفق أحيانا بين الأسر المتآلفة، وحينئذ يكون أبو بكر مسلما عند ذلك، ويستبعد جدا أن يعد بها فتى على دين الجاهلية قبل أن تتفق الأسرتان على الإسلام.
فإذا كان أبو بكر - رضي الله عنه - قد وعد بها ذلك الموعد قبل إسلامه، فمعنى ذلك أنها ولدت قبيل الدعوة، وكانت تناهز العاشرة يوم جرى حديث زواجها وخطبها النبي عليه السلام.
ولهذا نرجح أنها كانت بين الثانية عشرة والخامسة عشرة يوم زفت إليه، وأنها هي - رضي الله عنها - كانت تسمع تقديرات سنها ممن كان حولها؛ لأنها لم تقرأها بداهة في وثيقة مكتوبة، فكان يعجبها - على سنة الأنوثة الخالدة - أن تأخذ بأصغرها، وكانت هي كثيرا ما تدل بالصغر بين أترابها فلا تنسى إذا اقتضى الحديث ذلك أن تقول: وكنت يومئذ جارية حديثة السن، أو كنت يومئذ صغيرة لا أحفظ شيئا من القرآن، إلى أشباه ذلك من أحاديثها في هذا المعنى.
ذلك هو التقدير الراجح الذي ينفي ما يقوله المستشرقون على النبي بصدد زواجه بعائشة في سن الطفولة الباكرة، وكل تقدير غير ذلك فهو تقدير مرجوح. •••
وقد ملكت ربة البيت الصغيرة بيتها الجديد من اللحظة الأولى؛ لأنها كانت تدل فيه بمكانة الزوجة المحبوبة عند زوجها العطوف، وبمكانة البنوة الناشئة عند الأبوة الرحيمة، ومكانة ابنة الصديق العزيز التي أضفى عليها المودة والإيثار ما كان بين النبي والصديق من مودة هي أوثق وأبقى من مودة الرحم؛ لأنها مودة الوفاء والإعجاب والإيمان، أو مودة الحياة وما بعد الحياة.
وقد سجلت لنا السيدة عائشة خطرات نفسها خطرة خطرة، ووصفت لنا في بيتها الجديد كل صغيرة وكبيرة ظاهرة وخافية، ولكنها لم تذكر لنا قط كلمة واحدة تنم عن وحشة الانتقال من بيت إلى بيت، ومن معيشة إلى معيشة، ومن ظل أبوين إلى ظل رجل غريب عنها لا تعرف عنه إلا ما تعرفه عن النبي كل صبية مسلمة في سنها الباكرة؛ لأن عطف محمد هو العطف الغامر الذي لا يلجئ إلى عطف سواه، وقد أغنى زيدا عن أبيه وأمه فآثر حياة الأسر مع سيده على حياة الحرية مع أبيه وأمه، فأحرى بمثل هذا العطف أن يغني الفتاة التي تأوي إليه فتلوذ منه بعطف زوج وعطف أب وعطف صديق.
وتركها على سجيتها تلعب بالعرائس في بيت زوجها كما كانت تلعب بهن في بيت أمها وأبيها، وربما جاءها صواحبها الصغار «فينقمعن - كما قالت - من رسول الله، فكان - عليه السلام - يسير بهن إليها ليلعبن معها».
وقالت جاريتها بريرة تصفها وهي في السنوات الأولى من زواجها: «ما كنت أعيب عليها شيئا، إلا أنها كانت جارية صغيرة، أعجن العجين وآمرها أن تحفظه فتنام، فتأتي الشاة فتأكله.»
وكان - عليه السلام - يتعهدها بما يسرها، وإن عجب الصحابة الذين لا يفهمون وقار الدين كما يفهمه، ولا تتسع صدورهم لما يتسع له صدره. ودخل عليها أبوها وعندها قينتان تغنيان في يوم منى، والنبي - عليه السلام - مضجع مسجى في ثوبه، فصاح بها: أعند رسول الله يصنع هذا؟ ... فكشف النبي عن وجهه وقال: دعهن فإنها أيام عيد.
وكان السودان يلعبون في يوم من أيام العيد بالدق والحراب، فسألها عليه السلام: تشتهين أن تنظري؟ قالت: نعم. قالت: «فأقامني وراءه خدي على خده وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة - كنية الحبشة - حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم! قال: فاذهبي.»
وربما مر أبوها - رضي الله عنه - بالبيت فيسمع صوتها عاليا في حضرة النبي عليه السلام، فيدخل غاضبا يتناولها ليلطمها وينهرها قائلا: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله. فينهض - عليه السلام - ليحجزه، ويقول لها بعد خروجه: رأيت كيف أنقذتك من الرجل؟
وفي مرة من هذه المرات خرج أبو بكر مغضبا، ثم عاد فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما.
فقال النبي: قد فعلنا.
ولم يخف هذا العطف الذي لا نظير له بين الأزواج على السيدة عائشة، وهي ما هي في ذكائها وعلمها ببيوت الصحابة وغيرها، وازدادت به علما يوم شاركها الزميلات في بيت النبي، وقد شاءت الدواعي السياسية والدينية أن تتعدد زوجاته، وتتعدد صلات المصاهرات بينه وبين قبائل الجزيرة العربية، فقد عرفت مكانها وهي بين تسع من الزميلات كما عرفت مكانتها وهي موشكة أن تنفرد في بيت النبوة، وكان عليه السلام يعدل بينها وبين زميلاتها فيما يملك العدل فيه. أما ميل قلبه فكان يستغفر الله فيه قائلا: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.»
وشكرت له هذا الإيثار، وفخرت به في معارض حديثها كلما بدا لها معرض للشكر أو للتحدث بنعمة الله عليها، فقص عليها النبي يوما قصة النسوة الإحدى عشرة اللواتي اجتمعن فتذاكرن أوصاف أزواجهن من خير وشر، وكانت الحادية عشرة منهن - وهي أم زرع - محبة لزوجها، فوصفته بأحسن ما يوصف به الأزواج في السر والعلانية. فقالت السيدة عائشة:
بأبي وأمي، لأنت يا رسول الله خير لي من أبي زرع لأم زرع.
وهي القائلة بعد وفاة النبي في مزاياها التي اختصت بها دون أترابها:
فضلت على نساء النبي
صلى الله عليه وسلم
بعشر! لم ينكح بكرا قط غيري، ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وجاء جبريل بصورتي من السماء في حريرة، وكنت أغتسل أنا وهو في إناء واحد ولم يكن يصنع ذلك بأحد من نسائه غيري، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه دون غيري، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي ولم ينزل وهو مع غيري، وقبض وهو بين سحري ونحري وفي الليلة التي كان يدور علي فيها ودفن في بيتي.
وكان هذا التمييز سر البيت النبوي في مبدأ أمره، ثم شاع في الجزيرة العربية حتى كان صاحب الهدية من المسلمين يؤخرها ليبعث بها إلى النبي وهو في بيت عائشة.
فوقع التغاير الذي لا محيص منه بين الزوجات، وأرسلن إليه إحداهن - أم سلمة - فأعرض عن حديثها ثلاث مرات، فلما أثقلت عليه قال لها: «لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة غير عائشة» - يريد بالثوب البيت في بعض التفسيرات، من قولهم ثاب إليه يثوب فهو في الثوب الذي لا يزال يرجع إليه.
وتوسلن بالسيدة فاطمة - رضي الله عنها - لما يعلمن من قبول أبيها لكل شفاعة تأتيه منها، فقالت له: «إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر. قال لها: يا بنية، ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. قال: فأحبي هذه» - يشير إلى عائشة.
ويسير على الزميلات المتنافسات أن يدركن حب النبي لعائشة، ويلحظن أنها كانت أحبهن جميعا إليه، وأقربهن جميعا إلى فؤاده.
ولكن الذي لم يكن يسيرا عليهن أن يدركنه أو يلحظنه أنها هي - رضي الله عنها - كانت أشدهن حبا له، ونفاذا إلى نفسه، واتصالا بقلبه ولبه.
فكلهن كن يحببنه، ويتنافسن على قربه، ولو كان فيه التنافس على الموت وفراق الدنيا ومن فيها. وحدثهن يوما عمن تلحق به بعد فراقه الدنيا فقال: «أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا» ... فجعلن يقسن أيديهن، وما منهن إلا من تتمنى أن تكون هي صاحبة اليد الطولى، ثم ظهر لهن أن المراد بالطول هنا طول اليد بالصدقة والعمل الصالح ... فغبطن زميلتهن زينب بنت جحش؛ لأنها استحقت اللحاق به لعملها بيدها، وإكثارها من الصدقات على مستحقيها.
إلا أن الحب الذي يبدو من فطنة عائشة لسرائر النبي أعمق وأقوى، فما منهن من لصقت بنفسه كما لصقت بها، ومن نفذت إلى معانيه كما نفذت إليها، ومن عاشرته في روحه وطويته كما عاشرته بروحها وطويتها، وفي كلامها من الشواهد على ذلك ما ليس في كلامهن، على تيسر الوسائل لهن أن يعرفن مثل ما عرفت، وأن ينقلن عنه مثل ما نقلت، وليس أدل على اقتراب الحب من هذا الاقتراب الذي امتازت به عليهن؛ فكان إيثار النبي لها ضربا من العدل على هذا الاعتبار.
لقد كانت تحبه حب المسلمة لنبيها، وكانت تحبه حب الزوجة لزوجها والمرأة لرجلها، وكانت تعجب بجماله كما تعجب بأدبه وعظمة قدره.
وكان يسرها أن تستمع إلى صوته، وتصغي إلى ترتيل حديثه، كما يسرها أن تستوضح معناه؛ لأنه - كما كانت تقول لسائليها - لا يسرد كسردكم هذا ولكنه «يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه».
وكانت تغار عليه أشد غيرة عرفتها امرأة على زوجها، وربما خرج من عندها في ليلتها فإذا هي تتبعه إلى حيث ذهب مخافة أن يلم ببيت زميلة من زميلاتها، ووجدته في ليلة من هذه الليالي قد ذهب إلى المقابر يصلي للشهداء ويستغفر لهم، فعادت إلى بيتها تقول لنفسها: بأبي أنت وأمي، أنت في حاجة ربك وأنا في حاجة الدنيا! ولكنها لبثت مكروبة الصدر مما خاطرها من خاطرها الأول ومن خطأ ظنها. فلما قفل عليه السلام إليها لحظ ما بها فسألها: ما هذا النفس يا عائشة؟! فقالت: بأبي أنت وأمي، أتيتني فوضعت ثوبيك، ثم لم تستتم أن قمت فلبستهما، فأخذتني غيرة شديدة ظننت أنك تأتي بعض صويحباتي حتى رأيتك بالبقيع تصنع ما تصنع ... وخرج مرة أخرى ثم عاد إليها فإذا هي في مثل تلك الحالة، فقال: أغرت؟ قالت: وهل مثلي لا يغار على مثلك؟ فقال: لقد جاءك شيطانك!
ولم تنس قط أن تتحلى بما يروقه من مرآها، فكانت تلبس المعصفر والمضرج، وتتحرى ما يعجبه من الطيب والحلية، ودخلت عليها امرأة وهي معصفرة فسألتها عن الحناء، فقالت: شجرة طيبة وماء طهور، وسألتها عن الحفاف فقالت لها: «إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعيهما أحسن مما هما فافعلي.» •••
ومن الجائز - أو ربما كان الواقع - أن زميلاتها أمهات المؤمنين كن يغرن على النبي مثل غيرتها، ويجهدن في رضائه مثل جهدها، ولكنهن - ولا ريب - لم يبلغن شأوها في حبها إياه حين نفهم من الحب ذلك الاقتراب بين النفسين بالبداهة والشعور، وليس في أحاديثهن عنه مثل ما في أحاديثها عنه من ذلك الإحساس بالقرب وذلك النفاذ إلى الطوية، وليست المسألة هنا مسألة الكثرة أو القلة في الأحاديث، فربما كان تعليل الكثرة في أحاديث عائشة عن النبي أنه كان - عليه السلام - أكثر تحدثا إليها وارتياحا إلى مجالستها ومسامرتها، ولكنها مسألة الرفق في الأداء والخبرة بالمعنى والقدرة على الاستيحاء والشعور الباطن بقلة الحواجز بين النفسين واتصال الحس بينهما واللقانة.
ومن البديه أنها لم تبلغ هذه المنزلة في حب النبي وفهمه طفرة واحدة، ولا في سنة واحدة أو سنتين، بل لبثت السنوات الأولى من عشرتها له وهي تقترب من الأنس به إلى المعرفة بنفسه وعقله والترقي إلى عظمته ونبله ... حتى أدركت ما يتاح لها أن تدرك من تلك العظمة التي تعلو على هامتها وهامات الرجال من حولها، ولكنها هي - ببداهة المرأة وبداهة الحب الأنثوي - كانت تستقرب ما يبعد على غيرها، وتستعيض ما يفوتها من الفهم الواضح بما يفوتهم من اللقانة الباطنية والوعي المستسر في الأخلاد.
ومضت السنوات الأولى في عشرة النبي وهي تفقه من أحاديثه ما تيسر لها أن تفقه، ولا تقرأ كثيرا من القرآن، أو كما قالت في حديث الإفك: كنت جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن ... والتمست اسم يعقوب فما أذكره، فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف:
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون .
وقد أمهلها النبي في هذه السنوات رفقا بها وإعدادا لفهمها وعزمها، ولكنه لم يفتأ رويدا رويدا يشركها في العبء الذي ينبغي أن تنهض به زوجة النبي وأم المؤمنين، وسفيرته الأولى إلى عالم النساء في عصره وفيما يليه من العصور.
فكانت تحضره إذا بايع النساء أو صلى بهن أو جلسن إليه يسألنه في أمور الدين وآداب الزوجية، ويتفق كثيرا أن يعرض عن الجواب حياء فيوكلها بالتفسير والإسهاب حيث يعز الفهم على سائلاته اللواتي يستقصين في السؤال.
سألته أسماء بنت شكل من نساء الأنصار، كيف تكون الطهارة من المحيض؟ فقال لها: «خذي فرضة ممسكة فتوضئ ثلاثا» أو قال تطهري ثلاثا ... فقالت: وكيف أتطهر؟ قال: سبحان الله! تطهري بها، وأعرض بوجهه حياء، فاجتذبتها السيدة عائشة وكفتها عن سؤاله.
وما زالت - رضي الله عنها - تعي من سنن النبي في المسائل النسائية وغير النسائية حتى احتاج الرجال أن يسألوها، ويرجعوا إليها في كل ما تراجع فيه السنن النبوية من شئون عامة وخاصة، ومن أعم المسائل التي روجعت فيها أن معاوية كتب إليها لتوصيه وترشده فأرسلت إليه تقول: سلام عليك، أما بعد؛ فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس».
فلم يكن أعجب من سؤال معاوية في تعميمه إلا حسن الاختيار في هذا الجواب، وهو ألزم ما يزود به الملوك من وصية وإرشاد.
وقد نهضت السيدة عائشة بأمانة التبليغ والتعليم أحسن نهوض وأوفاه، فتورعت عن كتمان شيء من الأشياء التي تسأل عنها ولها اتصال بقواعد الدين وأصول التطهير وشروط العبادات ونواقض الصلاة والصيام، فأسلوبها في تبليغ هذه الأحكام هو أسلوب التعليم، وأسلوب أم المؤمنين في خطاب بناتها وبنيها من المسترشدات والمسترشدين، ولم يكن في مقدورها أن تتوخى أسلوبا غير هذا الأسلوب ولو عرضت لأخص الأمور التي تسكت عنها النساء؛ لأنها المرجع الذي لا يغني عنه مرجع في سنن النبي ومأثوراته وأعماله، فمن الإخلال بالأمانة النبوية أن تسكت عن سنة مطلوبة يعرضها السكوت للضياع.
ولقد تكون هذه السيدة الفضلى التي أفصحت عن كل فتوى نسوية سئلت عنها وهي ما تأذن لعمها في الرضاع أن يراها إلا بعد مراجعة النبي عليه السلام، فأسلوبها في تفصيل السنن النبوية والقواعد الشرعية إنما كان فريضة الأمانة وضريبة الوفاء، ولم يكن شيمة الطبع واللسان. •••
ودامت هذه الحياة الزوجية النادرة زهاء تسع سنين إلى أن توفي النبي عليه السلام.
ومن الحق أن توصف بأنها حياة زوجية سعيدة؛ لأننا لا نعرف بين أزواج الهداة والعظماء من ظفرت بأسعد منها أو كانت أرضى من السيدة عائشة عن حياتها.
ففي طوال هذه السنين لم تمتزج هذه الحياة قط بكدر أو مساءة تعود فيها التبعة على أحد من الزوجين.
وأخطر ما ألم بهذه الحياة الزوجية في السنين التسع كلها حديث الإفك، وغضب النبي من زوجاته جميعا لتنازعهن في فترة من الزمن، وإلحافهن عليه في طلب المزيد من النفقة والزينة.
فأما حديث الإفك فلا يد للزوجين فيه، وقد امتحنت به أريحية النبي وعطفه على أهله ؛ فأسفر عن خير ما تطمح إليه الزوجة من حنو وسماحة وإعزاز.
وأما غضب النبي من زوجاته لتنازعهن وإلحافهن في طلب النفقة، فعارض مضى مرة، ومضى أمثاله عشرات المرات في كل حياة زوجية بين جميع طبقات الناس، وكان خير درس لأمهات المؤمنين يعلمهن أن يصبرن على ضرورات العيش كما يصبر النبي عليها؛ لأنهن قدوة في القناعة ومغالبة الهوى ولسن بقدوة في الترف ونعمة العيش، وقد خيرن بعد هذا الدرس بين التسريح والصبر على نصيبهن، فاخترن أجمل النصيبين بهن، وهو الصبر على سنة الأنبياء وأمهات المؤمنين.
ومما لا شك فيه أن السيدة عائشة قد خامرها الأسى في هذه الحياة الزوجية لشيء لا حيلة لها ولا للنبي فيه، وهو الحرمان من الذرية التي كانت تتوق إليها كما تتوق كل أنثى، ولا سيما بعدما علمت من حب النبي لزوجته الأولى، ووفائه لعهدها، وترديده لذكراها؛ لأن له البنين والبنات منها.
وظهر ألمها هذا حين قالت للنبي وهي حزينة كاسفة: كل صواحبي لهن كنى! ... قال فاكتني بابنك عبد الله! يشير إلى عبد الله بن الزبير ابن أختها أسماء. فجعلت تكتني به وتحبه ذلك الحب الأموي الذي يستمد القوة من الحنو والشوق والحرمان.
واتفقت الأقوال على أنها - رضي الله عنها - لم تحمل قط إلا رواية جاء فيها أنها أسقطت ولدا سماه النبي عبد الله، فكانت لهذا تكنى بأم عبد الله.
وراقها أن تدعى أم المؤمنين، وأن يناديها الناس يا أمه يا أمه! فكان في هذا النداء تعزية كما كان فيه تشويق وتذكير.
والمرأة لا يهون عليها فقد الذرية ولا سيما إذا أحبت الزوج الذي تود أن ترزق منه الذرية، ولكنها إذا التمست التهوين فلن تجد تهوينا أبر بها وأروح لقلبها من شعورها بعطف زوجها عليها، وأنها بلغت من ذلك العطف ما لا تزيده الذرية التي تتمناها. •••
قلنا في كتابنا عبقرية محمد: «لسنا ندري لم طالت الفترة التي مضت على أزواج النبي جميعا بغير عقب، ولكنا لا نستبعد تعليلها باجتماع المصادفات التي لا يندر أن تجتمع في أمثال هذه الأحوال، فعائشة البكر التي لم يتزوج النبي بكرا غيرها قد مات عنها عليه السلام وهي دون العشرين، وهي سن قد تبلغها المرأة ولا تلد، وإن كانت ولودا فيما بعدها. أما أزواجه الأخريات اللاتي تزوجن قبله فلا نعلم من أخبارهن أنهن أعقبن لأزواجهن الأولين خلفا غير رملة أم حبيبة وهند بنت أمية المخزومية، وهذه كانت مسنة يوم بنى بها النبي عليه السلام، وفي عمر لا يستغرب فيه امتناع الولادة، فكلهن ما عدا هاتين لم يلدن للنبي ولا لزوج قبله. واجتماع هذه المصادفة ليس بالعجيبة المعضلة التي يصعب تعليلها إذا تذكرنا أن النبي قد توخى في اختيارهن تلك الأغراض العامة التي أجملناها في الفصل السابق، ولم يتحر منها النسل خاصة: وهي الإيواء الشريف والمصاهرة، وبعضهن - بل معظمهن - قد لقين من الشدائد والمخاوف وعناء الهجرة البعيدة ما يعقم الولود، فإذا أضفنا إلى ذلك معيشة الكفاف وضريبة العظمة النبوية التي أشرنا إليها على سبيل الاحتمال، واشتغال النبي فيما بين الخمسين والستين بتعزيز الدين وقمع الفتن ودرء الأخطار، لم يكن فهم تلك الظاهرة الحيوية بالأمر العصي على التعليل.»
وفي صدد الكلام عن عائشة في كتاب خاص بها يدعونا سياق التحليل والتعليل إلى مراجعة البحث والعلم في ظواهر حياتها البيتية، إن كان للعلم كلمة تقال في هذا الموضوع.
فليس من الغريب أن يتأخر حمل المرأة إلى ما بعد العشرين ثم تلد مرات، وقد كان من المحتمل - بل الراجح - أن السيدة عائشة تجاوزت العشرين حين وفاة النبي عليه السلام.
وإذا كان تأخر الحمل إلى ما بعد العشرين لا يطرد لزاما في أحوال النساء فهو من العوارض التي تشاهد ولا تستغرب إذا اتفق لها سبب يرجع في تعليله إلى العلم والمشاهدة.
والعوارض التي نستطيع أن نهتدي إليها في تاريخ السيدة عائشة هي أنها قد أصيبت فيما دون العاشرة بحمى مزقت شعرها كما ذكرت هي في بعض أحاديثها، وأنها كانت توعك من حين إلى حين، كما يفهم من قولها في حديث الإفك: «واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ... ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ... فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي ...» وقد علمنا من حديث الإفك أنها إذا فوجئت بخبر محزن أو مغضب تصاب بحمى نافض كما يصاب الذين تعاودهم حمى البرداء في هذه الحالات.
والأطباء الذين سألتهم عن هذه الحمى التي تسقط الشعر وتتجدد لها معاودة تنهك الجسم رجحوا أنها البرداء (الملاريا) أو التيفويد، والأولى أرجح؛ لأنها كانت فاشية بأعراضها المعروفة بين أهل المدينة في أيام الهجرة.
قالت السيدة عائشة: «لما قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المدينة، وهي أوبأ أرض الله، أصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه
صلى الله عليه وسلم
وأصابت أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة، فاستأذنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عيادتهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، فأذن لي. فدخلت عليهم وهم في بيت واحد، فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر، فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه
إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه
كالثور يحمي أنفه بروقه
قلت: والله ما يدري عامر ما يقول.
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
1
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يدنون لي شامة وطفيل
2
قالت عائشة: فجئت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأخبرته، فقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى. فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة» وهي في الطريق من مكة إلى المدينة.
فإذا كانت حمى البرداء قد أصابت السيدة عائشة فيما دون العاشرة وظلت عقابيلها تعاودها، فأيسر ما يقال هنا إننا حيال عارض ذي بال يلتفت إليه في تعليل ما أسلفناه.
وسألت أفاضل الأطباء في ذلك، فقالوا: إن هذه الحمى لا تعطل الحمل ضرورة، ولكنها قد تعطله من طريق إضعاف الجسم كله حتى يتغلب على عقابيلها.
قلت: وإذا أضيفت إليها معيشة الكفاف؟
وإنما سألتهم هذا السؤال؛ لأن المتواتر عن معيشة النبي - عليه السلام - في بيته أنه كان لا يشبع من خبز البر أو الشعير ثلاث ليال متواليات، وأنه لم يشبع من خبز وزيت مرتين في يوم واحد، وأنه هو وأهله كانوا لا يصيبون من المطاعم إلا بمقدار ما يدفع الجوع.
فكان من جواب الأطباء: أن عقابيل الحمى وقلة الغذاء من الأسباب التي لا يعدوها النظر في بحث هذا الموضوع، فإذا صحت مع هذا رواية السقط فهي دليل على أثر تركته الحمى يعترض وظيفة الحمل والولادة.
وأيا كانت هذه العوارض فهي كل ما لدينا من أسباب المراجعة العلمية التي تعلل لنا حرمان السيدة عائشة - رضي الله عنها - من نعمة الذرية. نلم بها لأن الإلمام بها لا غنى عنه في هذا المقام. •••
وأية كانت علة هذا العارض فالأمر الذي لا شك فيه أنه لم يكدر صفو المودة والبر بين النبي وأهله، وأنه لم يمنع هذه الحياة الزوجية أن تكون قدوة للمقتدين في العطف وأدب المعاشرة، وكانت هي العروة الوثقى كما وصفها النبي عليه السلام. فإذا سألته السيدة عائشة بين الفينة والفينة مدلة بمكانها عنده وعطفه عليها: كيف حال العروة يا رسول الله؟ قال: على عهدها لا تتغير.
أما العلاقات البيتية التي فرضتها هذه الحياة الزوجية على السيدة عائشة - رضي الله عنها - فقد كانت على أحسن ما تتسنى العلاقات بين أناس تجمعهم معيشة واحدة.
فهي وزميلاتها كن يتغايرن ويتنافسن لا محالة كما تتغاير النساء في كل مكان، ولكنهن لم ينسين قط أنهن نساء نبي يتأدبن بأدبه، ويتطلعن إلى رضاه، ويفزعن من غضبه.
فقصارى ما سمعناه من فلتات الغيرة على لسان السيدة عائشة أنها كانت تقول عن السيدة خديجة: «إنها عجوز حمراء الشدقين» ثم يعاتبها النبي فتندم ولا تعود إلى مثل هذه المقالة ... أو أنها عابت السيدة صفية مرة فقالت إنها قصيرة ... فاستكبر النبي هذه الكلمة، وقال لها إنها لتمزج البحر إذا مزجت به. فلم تعد إلى مثلها.
وعلى ما كان بين عائشة وزينب بنت جحش من التنافس الشديد في الجمال والزلفى سنحت لزينب سانحة تقول فيها ما تقوله الضرة المحنقة فلم ينبس فمها بكلمة باطل، وذلك إذ سألها عليه السلام في حديث الإفك فاستعاذت بالله وقالت: «أحمى سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا.»
وأحست سودة إحدى زميلاتها أمهات المؤمنين أنها أسنت وضعفت فتركت ليلتها لعائشة راضية، وقالت عائشة تشكرها: «ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مسلاخها من سودة.»
فكل ما روي لنا من تغاير زوجات النبي إن ذكرنا أنهن نساء من طينة الأنوثة الخالدة فلن ينسينا أنهن نساء نبي يتأدبن بأدبه، ولا يجاوزن بالغيرة ما يجمل بهن في كنفه ورعايته، وإن تسع أخوات شقيقات من أب واحد وأم واحدة ليقع بينهن من شحناء الغيرة إذا اجتمعن في بيت أسرتهن أضعاف ما روي لنا من غيرة زوجات النبي في عشرتهن الطويلة. •••
أما قرابة النبي فأعزها قدرا عنده قرابة السيدة فاطمة وزوجها وبنيها.
وكانت الصلة بين السيدة عائشة وبينهم جميعا على أكمل ما ترضاه السجية الإنسانية في كل صلة من قبيلها.
فالسيدة فاطمة كانت أحب الناس إليه عليه السلام، كما هو العهد بأبوته الشريفة التي تشمل الناس جميعا بالحنان والمودة فضلا عن بناته وبنيه، وسئل - كما قالت عائشة مرة: من أحب الناس إليك؟ فقال: فاطمة! ثم سئل: ومن الرجال؟ فقال زوجها.
وفاطمة بعد أم السبطين اللذين كان عليه السلام يلاعبهما ويلاطفهما ويوصي بهما ويسميهما ولديه وهو مشوق إلى إنجاب الأبناء، وهي كذلك بنت خديجة التي نفست عليها عائشة قديم مكانتها وطويل وفاء النبي لذكراها.
فالسيدة فاطمة والسيدة عائشة شريكتان في قلب واحد تتنافسان عليه، ولكنها شركة بين كريمتين.
ومن أثر هذه المنافسة أن أمهات المؤمنين أوفدن السيدة فاطمة إلى النبي ليعدل بينهن وبين عائشة، فقبلت الوفادة.
وربما خطر للسيدة عائشة أن عليا - رضي الله عنه - قد تأثر بهذه المنافسة يوم سأل النبي في حديث الإفك فقال: «... لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير.»
ومن الصدق للتاريخ وللطبع الإنساني أن نلاحظ هذه الأمور؛ لأن الطبع الإنساني لن يدع حقوقه على أبنائه، ولن يكون الإنسان من لحم ودم إلا إذا كان فيه للحم والدم نوازعهما التي لا فكاك منها، وإن راضها أدب النبوة ونبل العشيرة، فثابت إلى أكرومة تجمل بالكرامة.
فالصلة بين عائشة وقرابة النبي قد كانت صلة الأدب والتجمل والمجاملة، ولكنها كانت في مجال لا يغيب فيه التنافس على العطف والإعزاز.
والمثل هنا أيضا قدوة المقتدين في الأسر العليا التي عرفها التاريخ، سواء منهم من أخذ بأدب الدين أو بأدب الدنيا.
وهي على الجملة «حياة زوجية» سعيدة نزلت منها السيدة عائشة منزلة الزوجة المدللة في طوال أيامها، ثم منزلة الشريكة المعينة في عبء التبليغ والرسالة، وبلغت من الثقة بها في المعونة حمادى ما تبلغه شريكة حياة؛ فحفظت من تعليم النبي ما لم يحفظه أحد، وحفظ عندها النبي أغلى الودائع من بعده: صحف الكتاب وسنته المشروعة لتابعيه.
حديث الإفك
حديث الإفك هو حديث القصة التي أشاعها بعض المنافقين عن السيدة عائشة (رضي الله عنها)، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المدينة الموتور، الذي لم ينس قط حقده على النبي ولا على الإسلام والمسلمين.
وحديث الإفك هذا هو الحديث الذي اجتمعت له كل بواعث الفضول والوشاية، التي تغري ألسنة الناس بالخوض في أمثال هذه الأحاديث، ولو كانت من نسج الخيال واختراع القصاص.
فمن دأب الناس قديما أن يتطلعوا إلى الأسرار، ويكثروا القيل والقال في الوشايات.
وهم أشد تطلعا إليها، وكلفا بالقيل والقال فيها، إذا اشتملت على وشاية من وشايات الرجال والنساء، ولولا كلفهم بهذا لما اخترعت لهم القصص والروايات، التي يقرءون فيها أخبار رجل لا وجود له وامرأة لا وجود لها، وهم يعلمون أنهما من نسج الخيال.
ولكنهم أشد من ذلك تطلعا إليها وكلفا بالقيل والقال فيها إذا هي تعلقت بعظماء الرجال وعظماء النساء.
ثم يبلغ التطلع أشده والكلف حده إذا كان لأحد من الناس غرض في ترويج الإشاعة واللغط بها، والاسترسال في ذيولها وحواشيها.
فإذا كان هذا الغرض على اتصال بالعصبيات القومية والعقائد العامة التي تصطرع حولها الأهواء وتضطرم فيها الضغائن، ويطول فيها جدل المصدقين والمكذبين، ونزاع المحبين والمبغضين، فقد اجتمعت للقصة - كما قلنا في صدر هذا الفصل - كل بواعث الفضول والوشاية، وأحاطت بها كل مغريات اللغط والتشهير.
وهذا الذي حدث بحذافيره في حديث الإفك، الذي تولى كبره زعيم الخزرج في المدينة عبد الله بن أبي بن سلول.
فهو حديث وشاية عن رجل وامرأة.
وهما أعظم الرجال وأعظم النساء.
وفي اللغط به غرض قوي لأكبر زعماء الخزرج في زمانه، وغرض قوي لكل من يبغي المساس بالنبي، وبالإسلام كله من طريق المساس بنبي الإسلام.
ولولا ذلك لما سمع بحديث الإفك، ولا استحق أن يصغى إليه؛ لأنه أوهى وأسخف من أن يطول فيه تصحيح وتفنيد.
وكأي من رئيس في قومه وتر كما وتر ابن سلول، واشتمل قلبه على البغض كما اشتمل قلب ابن سلول على بغض النبي، وأحب أن يهدم دعوة من الدعوات كما أحب ابن سلول أن يهدم دعوة الإسلام، ولكنه مع كل هذا يتورع عن رجم المحصنات بالباطل، ويمسك لسانه عن الخوض في وشايات الدنس؛ لأنها مسبة لا تجمل بمروءة الكرام.
إلا أن ابن سلول لم يكن من هؤلاء الرؤساء المتورعين المترفعين، ولم يكن له من أخلاقه ما يعصمه أن يكذب وأن ينافق وأن يداهن، وأن يصطنع الوشاية ويلغ في الأعراض؛ لأنه كان مطبوعا على النفاق، مشهورا به بين أصحابه وخصومه على السواء.
كان زعيم الخزرج بالمدينة، فكان ينافس زعماء الأوس بها في إرضاء النبي والتزلف إليه، ثم يخلو بأعداء الإسلام فيؤلبهم على المسلمين، ويسول لهم قتل النبي ويوغر صدورهم على هذا الدين الجديد، وكل منتصر له وكل منتسب إليه.
وقبيل حديث الإفك بأيام قليلة كانت فئة من الأنصار والمهاجرين تستقي ، فتنازع رجلان منهما على الماء كما يحدث على كل بئر وفي كل مورد يكثر حوله القصاد، فلم يدعها ابن سلول تنقضي دون أن يثير فيها الثائرة، التي ود أن تعصف بالمسلمين أجمعين، وقال مستهولا: أوقد فعلوها؟ والله ما أرانا وجلابيب قريش هذه إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وأقبل على من حضره من قومه يحرضهم، ويقول لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم ... أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، وأما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم!
ونمى الحديث إلى النبي عليه السلام، فأسرع إليه ابن سلول يقسم ويبالغ في القسم أنه ما نبس بحرف منه.
فالخوض في الوشايات والولوغ في الأعراض هو أشبه شيء بأخلاق هذا الرجل الذي مرد على النفاق، وأصبح وأمسى حياته كلها بين الدس والاختلاق، وله من الوتر العظيم الذي وتر به شفيع عند طبعه السقيم؛ لأنه أضاع الملك والتاج بظهور الإسلام.
قال أسيد بن حضير زعيم الأوس يسأل النبي عليه السلام ألا يدع المدينة لعبد الله بن سلول: «يا رسول الله أرفق، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه؛ فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.»
فلا جرم يكون له غرض، أي غرض، في ترويج حديث الإفك، واتخاذه مطعنا في الإسلام من وراء الطعن في كرامة نبي الإسلام؛ ولهذا لم يلبث أن أفلتت منه نيته، فظهرت من بوادر لسانه في الكلمة التي قالها حين مرت به السيدة عائشة على جمل يقوده صفوان بن المعطل، فقد حكي عنه أنه سأل: من هذه؟ فقيل: عائشة. قال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها.
وإن غرض ابن سلول هذا لهو بعينه غرض كل متشبث بحديث الإفك إلى يومنا هذا، ليتخذ منه سبيلا إلى الطعن في الإسلام ونبي الإسلام، وبخاصة بين المبشرين من المستشرقين.
فمن هؤلاء من غلب عليه أدب التربية، فاستبعد حديث الإفك كما فعل موير
Muir ، حيث قال بعد الإشارة إليه: «إن سيرة عائشة قبل الحادث وبعده، لتوجب علينا أن نعتقد براءتها من التهمة.»
ومنهم من نقل الحكاية وخلطها بالمعجزات، التي لا يصدقها غير المسلم، كما فعل واشنطون إرفنج في سيرة النبي عليه السلام، فلم يقطع بنفي صريح، وترك الباب مفتوحا للأقاويل.
ومنهم من جاوز الحقيقة في وصف ما جاءت به الروايات، فزعم أن السيدة عائشة ابتعدت عن النبي يوما كاملا، قضته في صحبة صفوان، خلافا لما جاء في كل قصة نقلت إلينا عن حديث الإفك، ونعني به ردويل
Rodwell
صاحب ترجمة القرآن، حيث عرض لهذا الحديث في حاشية من حواشيه على سورة النور.
وهؤلاء مع هذا هم أشد المستشرقين تقية وحذرا في تعرضهم لهذا الحديث.
لكن المبشرين المحترفين لم يتقوا هذه التقية ولم يحذروا هذا الحذر، بل جزموا بصحة الحديث وقال بعضهم إن محمدا استنزل الآيات في سورة النور ليحمي سمعة زوجته، ويدين الوشاة بالعقاب الذي ورد في تلك السورة. وجهلهم بالقرآن هو الذي أوقعهم في تلك الفرية الوضيعة، التي يخبطون فيها على غير علم بمصادرها ومواردها، فإن سورة النساء - وهي سابقة لسورة النور - قد نصت على الأربعة الشهود في إثبات الزنا:
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا .
وآخرون من أولئك المبشرين المحترفين رجعوا إلى تاريخ الغزوة التي جرى بعدها حديث الإفك ليقولوا إن الليلة كانت غير قمراء، وإن البحث عن العقد الضائع فيها عسير، مع أن الاختلاف على سنة الغزوة - فضلا عن شهرها وليلتها - كثير، يتراوح بين السنة الرابعة والسنة السادسة وما بعدها، فجاءوا هم وأخذوا بالقول الذي يعجبهم ويعينهم على فريتهم، وهم حتى في هذا مغرضون متعسفون؛ لأن ابتداء المسير إلى الغزوة في الثاني من شعبان لا يمنع أن الجيش قضى أياما في ذهابه وإيابه، وعاد والليلة قمراء في صحو البلاد العربية. ولو كان في الأمر محل اعتراض من هذه الناحية، لما فات الذين حضروا الغزوة وشهدوا النور والظلام في تلك الليلة، وهم قصاص الأثر وأصحاب القمر في الحل والسفر، وفيهم من يحرص على التشهير كحرص هؤلاء المبشرين.
ومن الإسفاف أن نتتبع هؤلاء الوشاة في كل ما خبطوا فيه من إثم وكل ما رجموا به من ظن، كأن أخلاق الناس وحقائق التاريخ رهن بما يتمحلونه ووقف على ما يختلقونه. وما كانت وشاياتهم تلك بحثا يستند إلى رأي، أو ظنا يعتمد على قرينة، ولكنها كانت كذبا لا يليق بالمؤرخ، وسوء نية لا يليق بالإنسان، وخسة في حق امرأة شريفة لا تليق بالرجل الكريم.
وإنما أومأنا إلى ضروب من تلك الوشايات لنعلم أن الحذر واجب هنا على قدر ضخامة الأغراض التي تخلق الوشاية، وتنطلق في ترويجها إلى أيامنا هذه وإلى ما بعد هذه الأيام، ما دام في الدنيا أناس يستبيحون أن يجترئوا بالشبهات على امرأة لا ذنب لها إلا أنها زوج نبي يريدون التشكيك فيه.
على أننا في الجهة الأخرى نبرئ السيدة عائشة من هذه المظنة، ولا نعتمد في التبرئة إلا على الفهم الذي يفهمه المسلم ومن لا يدين بالإسلام، ويقبله صاحب الدين ومن لا يأخذ بدين من الأديان؛ لأن براءتها ليست من الخفاء بحيث لا يقام عليها الدليل إلا من وحي السماء.
وكفى دليلا هنا أن ليس على الظنة بها أقل دليل. •••
نشأ حديث الإفك بعد عودة النبي من غزوة بني المصطلق، وقد كان مسير الجيش في عودته من هذه الغزوة مضطربا أشد اضطراب، لشيوع الفتنة بين المسلمين وأتباع عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وزعيم الخزرج أقوى قبائل المدينة، والرجل الذي جامل النبي عليه السلام كل مجاملة كريمة، فلم يقلع عن نفاقه ولم يدع قط فرصة من فرص الكيد والسعاية.
ففي طريق العودة من غزوة بني المصطلق، نجم ذلك الخلاف الذي أشرنا إليه على السقاية من بعض الآبار، فصاح صائح: يا للخزرج! وصاح الآخر: يا لكنانة، يا لقريش! وشهر الفريقان السلاح، فخرج النبي غاضبا لهذه العصبية، التي كره أن يحييها الخلاف في جيشه، وسأل: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: دعوها فإنها منتنة .
واغتنم عبد الله بن أبي الفرصة فطفق يحضأ في النار، ويصيح في كل من لقيه: «ما رأيت كاليوم مذلة، والله إني لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما سمعت، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. حتى قال لأتباعه: لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا، فقتلتم دونه - يعني النبي - فأيتمتم أولادكم، وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من عند محمد.» إلى آخر ما قال وبلغ النبي عليه السلام.
وشاع الخبر فأذن النبي عليه السلام بالرحيل في ساعة لم يكن يرحل فيها لشدة الحر، وسأله أسيد بن حضير: يا نبي الله، لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟ فقال: أما بلغك ما قال صاحبكم! يشير إلى كلام ابن سلول.
ثم سار الجيش سيرا حثيثا، وجعل النبي عليه السلام يضرب راحلته بالسوط في مراقها ليستعجلها، وانقضى اليوم وليلته وصدر من اليوم التالي حتى آذنتهم الشمس، ثم نزل الناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض حتى وقعوا نياما.
ولما أخذوا في المسير هاجت ريح شديدة كادت تدفن الركب، وخطر لبعض الجند أن عيينة بن حصن ربما أغار على المدينة في هذه الغاشية، لانقضاء مدة الموادعة بينه وبين المسلمين، فكان هذا من دواعي العجلة واضطراب مواعيد الرحيل.
ثم دنا الليل وهم على مقربة من المدينة، فأناخ الركب للراحة، وذهبت السيدة عائشة لبعض شأنها، ثم تفقدت عقدها وهي راجعة، فإذا به قد انسل منها فحبسها التماسه هنيهة، ثم عادت إلى مكان هودجها، فإذا بهم قد احتملوه وهم يحسبونها فيه، لخفتها. وتهيب الجند الذين يرحلون لها أن ينادوها أو يستوثقوا من وجودها.
فأقامت حيث هي وظنت أنهم سيرجعون إليها لا محالة إذا أحسوا غيبتها.
وكان صفوان بن المعطل على ساقة الجيش، يتخلف عنه ليلتقط ما يسقط من المتاع، وربما كان النبي عليه السلام يعهد إليه في ذلك؛ لأنه كان ثقيل النوم فلا يستيقظ حتى يأخذ الجيش في المسير، وقد شكته امرأته إلى النبي لأنه ينام ولا يصلي الصبح قبل طلوع الشمس.
فكان عليه السلام يعلم ذلك منه، ويقول له: إذا استيقظت فصل!
وقد يحسن هنا أن نوجه شكوى امرأته إلى بعض معانيها، كأنها أرادت بثقل النوم كناية عن أمر آخر لا تفصح عنه؛ إذ قيل عن صفوان هذا إنه كان «حصورا» لا يأتي النساء، وسمع وهو يقسم بعد حديث الإفك أنه ما كشف عن كتف امرأة قط.
فلما نهض صفوان ليتبع الجيش في ساقته، رأى سوادا على البعد، ثم عرف السيدة عائشة فجعل يسترجع ويعيد استرجاعه: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون ...» كأنه ينبهها بالاسترجاع؛ لأنه يتهيب التحدث إليها. ثم قرب البعير وقال: «أمه، قومي فاركبي.» وأخذ بزمام البعير يقوده، حتى أدرك الجيش في نحر الظهيرة.
حدث هذا وابن سلول لم يفرغ من دسيسته الأولى، التي أزعجت الجيش وأوقعت الاضطراب في حركاته ومواعيد رحيله ومبيته، فسنحت له فرصة للقيل والقال، لا يضيعها الرجل الذي عز عليه أن تنقضي مشاجرة بين أجيرين على الماء، دون أن يثير فيها تلك الثائرة الهوجاء، وراح يقول: «والله ما نجت منه ولا نجا منها.» وأطلق لسانه في حديث الإفك على الطريق وبعد العودة إلى المدينة، عسى أن يوقع بين النبي وأقرب الأصدقاء إليه أبي بكر الصديق، أو يفلح في تشكيك المسلمين في كرامة نبيهم، أو يقيم بين قومه الخزرج وسائر المسلمين شغبا يقعون فيه عصبية له وأنفة من هوانه، فينتقض أمر الإسلام من أوس وخزرج وأنصار ومهاجرين.
قالت السيدة عائشة في بعض ما روي عنها: «وقدمنا المدينة فاشتكيت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ووصل الخبر إلى النبي وإلى أبوي، ولا أشعر بشيء من ذلك، وكان يريبني أني لا أعرف من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي فيسلم وعندي أمي تمرضني، ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني، حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت معي أم مسطح، وهي بنت خالة أبي بكر ... وعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح! قلت لها: بئس ما قلت: أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: يا هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بحديث أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي، ورجعت إلى بيتي فمكثت تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم دخل رسول الله وقال بعد أن سلم: كيف تيكم؟ فاستأذنته أن آتي بيت أبوي، وأنا أريد أن أتثبت الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي ودخلت الدار، فوجدت أم رومان في السفل، وأبا بكر فوق يقرأ، فقالت أمي: ما جاء بك؟ قلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: يا بنية! هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها ... فاستعبرت وبكيت، فسمع أبو بكر صوتي فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت: بلغها الذي ذكر من شأنها. ففاضت عيناه، وبكيت تلك الليلة والليلة التي بعدها، وأبواي عندي يظنان أن البكاء فالق كبدي ... فبينما نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله فسلم، ثم جلس وتشهد وقال: أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه ... فلما قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، وقلت لأبي: أجب رسول الله! قال: والله لا أدري ما أقول. فقلت لأمي: أجيبي. فقالت كذلك: والله ما أدري ... ثم قلت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم، فلئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف عليه السلام: فصبر جميل والله المستعان. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى ... وكنت أرجو أن يرى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رؤيا في النوم يبرئني الله بها. وعند ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل علي، والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية، حيث لا يعبد الله، فيقال لنا في الإسلام! ... فأخذ رسول الله ما كان يأخذه عند نزول الوحي، فسجي ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فلما سرى عنه إذا هو يضحك، وإنه لينحدر منه العرق مثل الجمان، فجعل يمسح العرق عن وجهه الكريم، وكان أول كلمة تكلم بها: يا عائشة! أما إن الله قد برأك. فقالت أمي: قومي إليه. قلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله. وتناول رسول الله درعي فدفعت يده، فأخذ أبو بكر النعل ليعلوني بها، فمنعه رسول الله وهو يضحك ويقسم عليه ألا يفعل ...»
إلا أن النبي عليه السلام قضى فترة من الوقت قبل ذلك، وهو في قلق شديد لا يدري ماذا يفعل، واستشار الصحابة فقال له عمر بأسلوبه الحاسم: من زوجها لك يا رسول الله؟ قال: الله تعالى! قال: أفتظن أن الله دلس عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. ودعا عليا وأسامة بن زيد ليستأمرهما في فراق أهله، فقال أسامة بن زيد: أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا. وقال علي: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية - يعني بريرة - تصدقك. فدعا بها وسألها: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجينها فتأتي الداجن فتأكله. وسأل زينب بنت جحش، وهي أحب نسائه إليه بعد عائشة، فقالت: أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا، والله ما أكلمها وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق.
وفي خلال ذلك كان عليه السلام يتأذى بحديث الإفك، فخطب المسلمين قائلا: أيها الناس، ما بال رجال يؤذوني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟ ... ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي، يقولون عليه غير الحق ... فقال أسيد بن حضير: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا أمرك؛ فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فوثب سعد بن عبادة وصاح به: كذبت لعمر الله ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. وهم به أسيد بن حضير، وتساور الناس حتى كادت تكون فتنة، لولا أن أدركهم النبي بحسن توفيقه. •••
هذه خلاصة حديث الإفك بحذافيره كما بقي لنا في مصادره التي يعتمد عليها اليوم كل باحث في موضوع هذا الحديث، كائنا ما كان ظنه بالإسلام أو بالنبي وأهله.
وفي وسع القارئ أن يعرف قيمة هذه الوشاية من نظرة واحدة؛ فهي على التحقيق وشاية لا قيمة لها عند منصف يلمس من ورائها تربة الكيد والوقيعة التي نبتت فيها؛ إذ هي تربة وبيئة تنضح بسخائم الخصومة الدينية والسياسية، ومساوئ الخبث والكذب والنفاق، وخليق بها أن تبعث الشك في كل حديث ينبت بين طياتها، ولو زعموا له من الأسانيد والشبهات أضعاف ما زعموا لهذه الوشاية الواهية، وليس لها من سند ولا شبهة إلا أن السيدة عائشة تأخرت في الطريق هنيهة حين تحرك العسكر على حين فجأة، وقد كانت الرحلة كلها كثيرة المفاجآت في مواعيد النزول والرحيل.
تلك شبهة لا تكفي للشك في امرأة من عامة المسلمين الخارجين للجهاد في حضرة نبي الإسلام؛ إذ لو كانت كل امرأة تتأخر في الطريق تؤخذ بالتهمة في دينها وعرضها، لكانت التهم في الأعراض أهون شيء يخطر على بال.
بل لو تأخرت كل امرأة في الركب غير السيدة عائشة لجاز أن تلحق بها شبهة من هذا التأخير؛ لأن الركب لم تكن فيه امرأة غيرها يهابها الموكلون بهودجها أن ينادوها ليتأكدوا من وجودها، ولم تكن فيه امرأة أخرى تهاب الرقبة من جيش المسلمين كما تهابها وهي زوج النبي وبنت الصديق، وقد كان أبوها يحمل راية المهاجرين في تلك الغزوة بعينها.
وعلى الذي يقبل وشاية كتلك الوشاية الواهية أن يروض عقله على تصديق أمور كثيرة لا موجب لتصديقها؛ لأنها تفتقر إلى كل دليل، والأدلة على ما يناقضها كثير.
عليه أن يصدق أن صفوان بن المعطل كان رجلا لا يؤمن بالنبي ولا بأحكام الإسلام.
وأن يصدق أن السيدة عائشة كانت - وهي زوج النبي - لا تؤمن به ولا تعمل بدينه.
ولا دليل على هذا ولا ذاك.
بل الأدلة على إيمان صفوان وإيمان عائشة تجري في كل سياق وردت لهما سيرة فيه.
فصفوان كان مسلما غيورا، وكانت غيرته في حادثة الماء، التي تصاول فيها المهاجرون وأتباع ابن سلول، هي التي عرضته لهجاء حسان بن ثابت، ولعلها هي التي بغضته إلى ابن سلول، فتمادى من أجل ذلك في اتهامه، وقد حضر الغزوات ومات شهيدا ولم يذكر قط بسوء.
والسيدة عائشة آمنت بكل كلمة قالها النبي، وحفظتها حفظ من يتبرك بها ولا يغفل عنها. ومن إيمانها بصدق هذه الكلمات أنها اشتبكت في خصومات دامية تثير الحفائظ، وتهون عليها أن تحارب خصومها باختلاق الأحاديث التي تزري بهم وتبطل دعواهم لو كانت ترتاب في صدق الأحاديث كلها، ولكنها لم تبح لنفسها قط شيئا من ذلك، ولم تذكر حديثا قط على غير وجهه الذي تؤيده الروايات الأخرى. وقد كانت في طريقها إلى وقعة الجمل بعد وفاة النبي بزهاء ثلاثين سنة، فنبحتها كلاب على مقربة من ماء في بعض الطريق، فسألت: أي ماء هذا؟ قال الدليل: هو ماء الحوءب. فأجفلت إجفالة مروعة وصاحت بحيث يسمعها أدلاؤها: إنا لله وإنا إليه راجعون. وضربت عضد بعيرها، فأناخت وأبت أن تتحول عن مكانها، فلما سئلت في ذلك قالت: إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول، وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوءب؟ ردوني، ردوني، والله أنا صاحبة ماء الحوءب. وما زال الركب مقيما في ذلك المكان يوما وليلة، وهي مصرة على الرجعة، وهم يزعمون لها أن الدليل قد أخطأ، وأن المكان غير المكان الذي تخشاه، ولم يزل عبد الله بن الزبير يقنعها ويهدئ من روعها، وهو ابن أختها وأحب الناس إليها، وبه تكنى في أشهر الروايات، وهي تأبى المسير إلا أن تعود إلى مكة، حتى أرسلوا إليها من يصيح في الركب: النجاء، النجاء، قد أدرككم علي بن أبي طالب. فأذنت لهم في المسير بها، وقد أخافتها الصيحة وخامرها الشك في كلام الدليل.
هذا وليس معها في الركب من سامعي ذلك الحديث غيرها، فكيف تغدر بالنبي زوجة تصدقه هذا التصديق، ولا تأمن أن ينكشف سرها بوحي من الله؟
ومن هي تلك الزوجة بعد هذا؟ هي بنت الصديق الذي لم يوصم بيته بوصمة في الجاهلية كما قال، حتى يوصم بهذه الوصمة الكبرى في الإسلام ومع نبي الإسلام.
إن أقوى الأدلة لا يحسم الشك هنا، فضلا عن تلك الوشاية الواهية، ويبقى على من يقبلها أن يسأل نفسه بعد هذا: كيف نشأت علاقة صفوان المزعومة؟ أفي تلك الليلة بعينها؟ فكيف اجترأ الرجل على مفاتحة أم المؤمنين، وهم يتهيبون المناداة عليها في هودجها؟ بل كيف تخطر له هذه المفاتحة وهو لا يشك في إيمانها بزوجها، وليس له علم قبل ذلك بخبيئة صدرها؟ وإذا اجترأ هذا الاجتراء هوسا منه، فكيف يصدق العقل أن امرأة النبي وبنت الصديق تكون هكذا لقطة لأول لاقط يصادفها؟ إن التي تكون كذلك لا يخفى سرها حتى يكشفه حديث الإفك، ويقتصر الحديث فيه على صفوان.
أما إن كانت العلاقة المزعومة قبل ذلك، فكيف خفيت بين الضرائر والحساد وقالة السوء من المنافقين؟ وما أغناهما إذن عن المجازفة في الطريق، وعن الكارثة التي تنكشف للجيش كله في نحر الظهيرة؟
كل أولئك سخف لا يقبله إلا من يفتري بوشاية أو بغير وشاية، وسواء فيه منافقو المدينة ومن يصنع صنيعهم من المؤرخين في العصر الحاضر؛ لأنهم لا يؤمنون بنبي الإسلام، بل هؤلاء أنذل وأغفل ؛ لأنهم يؤمنون بمريم والمسيح، وكان عليهم أن يعصمهم عاصم من هذا الإيمان. •••
إن تفنيد حديث الإفك له موضع من كتابنا هذا لأنه حادث في تاريخ السيدة عائشة له أثر في الإسلام والشريعة الإسلامية، وله أثر في ضميرها لم يفارقها طوال حياتها، وربما كان له أثر في موقفها من تاريخ الإسلام ترتبط به ذيوله على نحو من الأنحاء، ولولا ذلك كله لما استحق من المؤرخ كبير التفات.
بعد النبي
عاشت السيدة عائشة بعد النبي ستا وأربعين سنة، وتوفيت وهي في نحو السبعين من عمرها، سنة ثمان وخمسين للهجرة.
وقد توفي النبي - عليه السلام - في بيتها وفي زيارتها، ودفن بالمكان الذي كان ينام فيه.
وقد علم كثير من الناس عند اشتداد المرض به أنه مرض الوفاة، ولكنه كان قد صحا بعض الصحو قبيل يوم وفاته حتى استأذنه أبو بكر في الخروج إلى بيته بالسنح، وتفرق المسلمون متفائلين وهم يرجون الخير ويبعدون عن خواطرهم نذير الخوف. فلما قبض عليه السلام بعد ذلك روعت عائشة أيما روع، وتعاظمها الخطب أن تملك صبرها وهو يموت بين سحرها ونحرها، فنسيت لهول الساعة ما ينبغي لها أن تستقبل به هذا الوداع الذي لا يتكرر ولا تهونه سابقة وداع مثله، إنها أم المؤمنين التي لبثت السنين بعد السنين تلقنهم ما لقنها النبي من سداد التجمل ووقار الحزن في الملمات ... إذا هي تنسى كل ذلك ساعة فقده، وإذا هي امرأة والهة بين النساء تلتدم وتضرب وجهها، قالت: «... وجدت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يثقل في حجري، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة» قلت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق. وقبض بين سحري ونحري ودولتي ولم أظلم أحدا. فمن سفهي وحداثة سني أنه
صلى الله عليه وسلم
قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي.»
ولم تشهد دفنه عليه السلام بعد وفاته بيومين؛ لأن المسلمين كان قد بلغ في تنافسهم في حبه أن يتولى كل فريق منهم مراسم دفنه على ما تعود في بلده وبين أهله، وكان أهل مكة يسوون قاع القبر وأهل المدينة يقوسونه، فبعث العباس بن عبد المطلب رجلين يدعو أحدهما أبا عبيدة بن الجراح ويدعو الآخر أبا طلحة، وأولهما يضرح كأهل مكة والآخر يضرح كأهل المدينة؛ فعاد صاحب أبي طلحة به ولم يعد صاحب أبي عبيدة، فحفر اللحد على طريقة أهل المدينة، وتولى القائمون على الجثمان الكريم دفنه بعد انقطاع المودعين عند هزيع من الليل. قالت عائشة وفاطمة - رضي الله عنهما: «ما علمنا بدفنه
صلى الله عليه وسلم
حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل.»
وما برحت منذ تلك اللحظة تلازم البقعة الخالدة ولا تفارقها إلا للعمرة أو الحج أو لزيارة قريبة، وقلما كانت تزور.
واتخذت سكنها في الحجرة المجاورة لقبره وهي لا تحسب أنها قد فارقت منه غير مشهد جثمانه؛ فقد كانت تزوره زيارة الأحياء، ودفن أبوها إلى جواره بعد سنوات، فكانت تزورهما كذلك زيارة الأحياء. فلما دفن معهما عمر جعلت بعدها تنتقب وتلبس ملابس الحجاب وهي تزور أولئك الأصدقاء المتجاورين، كأنهم بقيد الحياة.
وكانت في أوائل العقد الثالث على أكبر تقدير عند وفاته عليه السلام، فعاشت في صحبته زهاء عشر سنين، وعاشت في ذكراه خمسين سنة. وحسبنا من شعور الناس بجلال تلك الذكرى في نفسها أن أحدا لم يخطر له خاطرة عن السيدة عائشة تجيز التفكير في حياة زوجية أخرى كأنه خاطر حرمته قداسة تلك الذكرى وهيبة ذلك الوفاء، فضلا عن الحكم بتحريمه في سورة الأحزاب على سبيل التشريع.
ولم تكن حياة السيدة عائشة فارغة في خلال السنين الطوال من لدن فارقها زوجها العظيم وهي تجاوز العشرين إلى أن فارقت الدنيا وهي تقارب السبعين؛ لأنها في حدة نفسها ورفعة مكانها لا تقبل الفراغ. فما هو إلا أن هدأت ثائرة الفتنة بعد وفاة النبي - عليه السلام - وتوفر المسلمون على تحصيل مراجع الدين حتى كانت هي المرجع الأول فيما حفظ عندها من آي القرآن وما حفظته من السنن والأحاديث، وحتى كان بيتها مثابة الزوار من أبنائها وبناتها، يدعونها يا أمه! ومنهم من هي في سن بناته الصغريات، ويا له من دعاء محبب إلى الأسماع!
وكانت إذا فرغت من تلقين الأحاديث وجواب السائلين تأوي إلى الصلاة والتسبيح في جوار الضريح، أو تعمل في مهنة البيت ذلك العمل الذي كان النبي - عليه السلام - يسرها بمساعدتها فيه.
ومن أهم الأشياء التي ينبغي أن تلاحظ في حياة السيدة عائشة بعد النبي - عليه السلام - أنها قضت خلافة أبي بكر وعمر وهي لا تشعر بأن مكانها في عهد النبي قد تغير أو بأن أمرا من أمور السياسة العامة يدعوها إلى التعرض له راضية أو ساخطة، حتى كانت خلافة عثمان فتغيرت هذه الحال، وكان لتغييرها دلالة كبيرة وأثر كبير.
ففي عهد أبي بكر كانت أمور السياسة العامة تجري على أحكام الدين، وتركن منه ومن أصحابه إلى سند ركين، وكان الخليفة أباها وهو أول من يدعوها بأم المؤمنين.
وفي عهد عمر كانت أمور السياسة العامة تضطرب أو تسكن، ولكنها في كلتا الحالتين لا تنشعب ولا تؤذن بانصداع، وكان عمر أهيب خليفة عرفه الإسلام وأحب خليفة إلى عائشة رضي الله عنها. سرت صداقة الأبوين أبي بكر وعمر إلى بنيهما فكانت عائشة وحفصة أصدق صديقتين تتفقان وتتكاشفان كلما وقع الخصام في بيت النبي عليه السلام، وحفظت له أجمل الشكر لموقفه من حديث الإفك حين شاوره النبي فقال له: إن الله هو الذي زوجكها وإنه سبحانه وتعالى لم يدلس بها عليك. وتم هذا الشكر حين ولي الخلافة فرعى لها المكانة الأولى بين المسلمين، وخص بيت النبي بالحصة العليا من الحفاوة والعطاء.
فمضى العهدان - عهد أبي بكر وعمر - وليس في الحياة الخاصة ولا في الحياة العامة ما يشعرها بتغيير أو ينزع بها إلى نوازع السياسة، وما تعارض منها أو جنح إلى التحزيب والتأليب.
ثم تغيرت الأمور في عهد عثمان، ولولا هذا التغيير لما عرف للسيدة عائشة نصيب من السياسة العامة بعد موت النبي، وهو الموقف الذي تحولت بها الأحوال إليه بعد اجتناب السياسة العامة قرابة عشرين سنة، على غير سابقة له في سيرتها الأولى.
في السياسة العامة
قلنا في الفصل السابق إن السيدة عائشة لم تقض حياتها فارغة خلال السنين الطوال التي انقضت بعد وفاة النبي عليه السلام؛ «لأنها في حدة نفسها ورفعة مكانها لا تقبل الفراغ».
فأما حدة نفسها، فمن السهل بعد إلمامة يسيرة بمزاجها وتكوينها الذي يشبه تكوين أبيها أن نعرف كيف يتعذر الفراغ على هذه السليقة الحية التي نشط بها المزاج العصبي، ولم يقعد بها الترهل والإعياء.
وأما رفعة مكانها، فهي أحرى أن تشغلها عن الفراغ مريدة له أو غير مريدة؛ لأنها تعودت أن يؤبه لها طوال حياتها، ولم تتعود قط أن تكون غفلا في بيئتها، وهي أرفع بيئة بين قومها.
نشأت عزيزة في آلها وذويها، عزيزة في بيت أبيها، عزيزة في أعز البيوت العربية بعد زواجها. فمن الحق لها ولنشأتها، ومن الواجب لها ولنشأتها أن يؤبه لها طوال حياتها، وألا يكون فراغها بمثابة الإغضاء عنها.
هذه حقيقة لو التفت لها ولاة الأمر كما ينبغي في حينها لسلمت السياسة العامة في ذلك الحين من جرائر الخطأ الذي وقعت فيه.
ولا بدع في تقرير الحقيقة، ولا في تعظيم خطرها، والتنبيه إلى تبعاتها.
فما من دولة قط إلا قد اتخذت لها أصولا مرعية في سياسة أقطابها، ومراسم كبرائها وكبيراتها توافق ما لهم أو لهن من الشأن في الدولة، وما يكون لميولهم أو ميولهن من الآثار في السياسة العامة، أو السياسة العليا على التخصيص، وهي أصول لم تغفل مرة إلا كان لها أثر غير منظور ولا محسوب له حساب في توجيه الأمور.
وقد كانت «أصول» السياسة العليا في معاملة السيدة عائشة - رعاية لمكانتها وسليقتها - أن تظل بالمكان الذي يستفاد فيه من عملها وعلمها، وأن تعرف لها مهمتها الكبرى في تقرير السنة النبوية، أو تبويب الدستور الإسلامي كما يؤخذ من أحاديث النبي ومأثوراته وعاداته، في معيشته وعباداته، وكان هذا وحده عملا خليقا أن يشغل أيام السيدة عائشة على أحسن الوجوه الصالحة لها وللمسلمين وللدولة الإسلامية.
كان هذا واجبا لها وجوب الحق، ووجوب المصلحة، ووجوب السياسة.
وكان هذا الواجب «أصلا مرعيا» من أصول السياسة العليا أيام أبي بكر وعمر سواء قصدا إليه أو ذهبا فيه مذهب البداهة ومقتضيات الأمور ...
ولكنه خولف أو عدل عنه بعد الخليفتين الأولين. خولف أو عدل عنه لأسباب يرجع بعضها إلى حكومة عثمان، وبعضها إلى طوارئ الزمن، وبعضها إلى السيدة عائشة على اختيار منها أو على ما تحولت بها إليه دوافع الأحوال. •••
جاء الخطأ الأول في هذه السياسة من القائمين بالأمر في حكومة عثمان، وكان خطأ عجيبا حقا؛ لأنه لا يفهم على وجه من وجوه المصلحة، ولا تدعو إليه ضرورة من ضرورات الدولة، ونعني به نقص العطاء الذي كان مقدورا للسيدة عائشة في عهد الفاروق، أعدل من لاحظ العدل في تقسيم الأعطية على حسب المراتب والحقوق.
إن نقص عطاء السيدة عائشة كان يكون سائغا عندها وعند المسلمين والمسلمات إذا دعت إليه حاجة في خزانة الدولة، ولكنه لا يسوغ ولا تستريح إليه النفس والأموال تتدفق على خزانة الدولة بالألوف التي يحار فيها الإحصاء، وغنائم أفريقية وحدها تبلغ مليونين ونصف مليون من الدنانير، فيعطي خمسها لبنت الخليفة وزوجها مروان بن الحكم، وغير ذلك من القطائع والأعطية التي يخص بها القريبات والقريبون ولا يضبط لها حساب.
إن الغضب من هذا لن يكون غضب الحريص على مال، ولم تكن السيدة عائشة خاصة ممن يحرص على مال أو يبذله في ترف أو يخزنه للمكاثرة والادخار، فما سمع عنها قط أنها أنفقت المال في غير الكفاف من الرزق والإحسان إلى المعوزين، وما تركت بعدها بقية تدل على حرص ولا ادخار.
ولقد كانت تنكر التزيد من الثراء على الصحابة الأجلاء، وإن كان من التجارة والحسب الموروث؛ فكان عبد الرحمن بن عوف - وهو مثل من أمثلة عدة - وافر الثراء على عهد النبي عظيم السخاء في خدمة الدين، ودخلت له عير إلى المدينة فيها سبعمائة بعير تحمل البر والدقيق والطعام، فارتجت لها المدينة وسمعت رجتها في بيت عائشة، فما نجا به من لومها إلا أنه ذهب إليها يشهدها أن العير بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.
فغضب السيدة عائشة من نقص العطاء لم يكن غضب الحريص على مال والطامع في ادخار، ولكنه كان غضبا عادلا من غضاضة لا حاجة إليها ولا حكمة فيها، ولا تستريح إليها النفس بتعليل مقبول.
وشاع النقد والسخط من ولاة عثمان وحواشيه، وكثر القيل والقال في مخالفتهم للدين وتوسعهم في اقتناء الدور والحطام.
ومثل من الأمثلة العدة في هذا الباب تولية الوليد بن عقبة أخي عثمان لأمه خلفا لسعد بن أبي وقاص على الكوفة وهو من أعلام الصحابة المحبوبين بين جلة المسلمين.
وكان الوليد متهما بالخمر، وشاع في المدينة أنه أم الناس يوما في صلاة الصبح وهو سكران، فلما فرغ التفت إليهم وقال: هل أزيدكم، فإني أجد في نفسي نشاطا؟
ولم يكن عجيبا أن يلجأ الشاكون منه إلى بيت عائشة فيمن لجئوا إليه من كبار الصحابة وهم غير قليلين، وإنما لجئوا إليها بعد أن قدموا على الخليفة فتبرمت بهم حاشيته وبرءوا الوليد عنده مما اتهمه به أهل مصره، فقال لهم: أكلما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم. فاستجاروا ببيت النبي وعائشة فيه.
ثم أصبح عثمان «فسمع من البيت صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة، فقال مغضبا: أما يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة؟ فسمعته، فقيل إنها رفعت نعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقالت: تركت سنة رسول الله صاحب هذه النعل ... وتسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد، فمن قائل: أحسنت، ومن قائل: ما للنساء وهذا؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال، ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان وناشدوه الله أن يعزل أخاه».
ولم يكن من شأن هذه السياسة من حاشية عثمان أن تكف السيدة عائشة عن نقد الولاة وقبول الشكاة، بل قربت هذه السياسة بينها وبين اللاجئين إليها. فلما شكا الناس من والي عثمان في مصر - عبد الله بن أبي سرح - واتهموه بقتل رجل ممن شكوه إلى الخليفة، فزعت وفود المصريين إلى بيت عائشة، فأرسلت إلى الخليفة تندد بواليه، وتقول له: تقدم إليك أصحاب رسول الله وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت، فهذا قتل منهم رجلا فأنصفهم من عاملك.
وجعل وفود المصريين يلقون المصلين بالمسجد في أوقات الصلاة، ويبسطون لهم ظلامتهم وشكايتهم إلى أم المؤمنين وكبار الصحابة، فألحف كبار الصحابة على الخليفة في إنصافهم، وأثمرت غلطات الحاشية ثمرتها في توجيه الشاكين إلى طلب المزيد من حماية أم المؤمنين، فاختاروا محمد بن أبي بكر - أخاها - ليخلف عبد الله بن أبي سرح حين خيرهم الخليفة فيمن يؤثرونه للولاية بعده، ووقعت الطامة بعد ذلك بتدبير لا تعلم جليته حتى الآن، وإنما الرأي الراجح أنه من تدبير مروان بن الحكم على غير علم من عثمان ونصحائه المخلصين.
ذلك أن الوفود القافلة إلى أمصارها عثرت في طريقها بغلام يحمل كتابا في أنبوبة من رصاص وفيه أنه: «إذا أتاك محمد بن أبي بكر ومن معه فاحتل في قتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله».
فأعقب هذا الكتاب ما لا بد أن يعقبه من الأثر في نفوس الصحابة وفي نفس السيدة عائشة وفي نفوس الوفود المتجمعة من الأمصار، وقذف بالفتنة القائمة يومئذ في طريق غير مأمون.
وظاهر من هذا العرض السريع أن اختلال الأحوال في عهد عثمان هو الذي تحول بالسيدة عائشة عن موقفها الأول من حكومة أبي بكر وعمر إلى موقف الاشتراك في السياسة العامة والمجاهرة بالنقد الشديد لحكومة عثمان وولاة عثمان وحاشية عثمان.
بل هو الذي جعل لها مهمة تطلبها وتسعى إليها، وهي مهمة الوساطة بين الشعب والخليفة أو مهمة الحماية لمن يجهرون بالشكوى ويخافون عقباها.
فلولا الحمق الذي اشتهرت به حاشية عثمان لما تركت السيدة عائشة في مكانتها العليا من الأمة الإسلامية وهي تشعر أنهم قد أنزلوها من الرعاية والمبالاة دون منازل بناتهم وزوجاتهم وأصحاب القرابة والزلفى لديهم.
ثم تمادى الأمر فلم يقبلوا من المسلمين أن يلوذوا ببيتها ويفزعوا إلى جوارها، ولو تناولوا الأمر بالرفق لاستفادوا من لياذهم بذلك البيت وفزعهم إلى ذلك الجوار.
وكانت الطامة الكبرى أن تأتمر الحاشية الحمقاء بحياة أخيها، وتنفذ إلى مصر من يأمر واليها بقتله وهو قادم من قبل الخليفة لولاية الحكم فيها.
ومن المحقق عندنا أن الخليفة نفسه براء من هذه الدسيسة التي يتورع عنها مثله في بره وتقواه؛ فإن الرجل الذي تورع عن إهراق قطرة دم في سبيل الدفاع عن حياته، والخطر محدق به من جميع جهاته، لن يأمر بسفك دم ابن صديقه وزميله، ولا ذنب له إلا أن الشاكين ندبوه للولاية حين سألهم عمن يختارونه فأجابهم لما ندبوه إليه.
ولكن ما الذي أصاب الجاني المدبر للدسيسة؟ ولم نجا من العقوبة؟ ولم لم يكشف للملأ لولا أنه من رجال الحاشية، وأن رجال الحاشية هم الذين ستروه وأنقذوه؟ وماذا لو أن الغلام الذي كان يحمل الأمر بالقتل وصل إلى مصر ولم يعترضه الشاكون في الطريق؟ ألم يكن القتل نافذا في محمد بن أبي بكر كأن الكتاب قد صدر من الخليفة بغير خلاف؟
فهذه الحاشية الحمقاء قد بدأت بالغض من مكانة السيدة عائشة لغير ضرورة محتومة ولا مفهومة، وانتهت بالتآمر على قتل أخيها لغير ذنب جناه، وسلكت في خلال ذلك مسلكا تأباه السيدة عائشة من الحاكمين وغير الحاكمين، وهو مسلك الإسراف والتهالك على الحطام.
فغير عجيب أن يكون للسيدة عائشة موقف عداء من تلك الحاشية، وأن تنادي على رأس المنادين بتبديل حكمها وتأليب الناس عليها، وأن تضيق ذرعا بعثمان؛ لأنه يمضي حيث مضت تلك الحاشية في جنفها وغلوائها.
قيل إنها تربصت به حتى أقبل يخطب الناس فدلت قميص النبي ونادت: «يا معشر المسلمين، هذا جلباب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنته.»
ولم تذكر الحاشية الحمقاء مكانة السيدة عائشة، وأمان جوارها، وما يرجى من الخير في شفاعتها إلا بعد فوات كل فرصة، وضياع كل أمل، واستعصاء كل تدبير.
فلما حوصر عثمان وحيل بينه وبين الزاد والماء ذهبت أم حبيبة إلى داره وهي زميلة للسيدة عائشة من أمهات المؤمنين، فاعترض الثوار بغلتها وكانت معها إداوة ماء. قالوا: ما جاء بك؟ قالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل، وكانت أم حبيبة أموية من آل أبي سفيان، فاجترأ الثوار عليها وقالوا: كاذبة؟ وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها كرام الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها.
وكانت السيدة عائشة قد كرهت المقام بالمدينة وهي على هذه الحال من الفتنة الطاغية، فتجهزت للحج واستصحبت أخاها محمدا فأبى وتخلف بالمدينة.
عند ذلك لجأ مروان بن الحكم - وهو رأس البلاء - إلى جوار السيدة عائشة التي كان يغري عثمان بها لاحتماء الناس ببيتها، فقال لها: يا أم المؤمنين، لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل ... فقالت: أتريد أن يصنعوا بي كما صنعوا بأم حبيبة ثم لا أجد من يمنعني؟ لا والله ولا أعبر ولا أدري إلى ما يسلم أمر هؤلاء.
وفي رواية أخرى: أن مروان هذا تذكر الجود بالمال في ذلك المأزق الميئوس منه، فذهب إلى السيدة عائشة يستبقيها لتصلح الأمر، فقالت: قد فرغت من جهازي وأنا خارجة للحج ... قال عندئذ: فيدفع لك بكل درهم أنفقته درهمين؛ فلم تملك عائشة نفسها على ما جاء في هذه الرواية أن تقول: «لعلك ترى أنني في شك من صاحبك، أما والله لوددت أني أطيق حمله فأطرحه في البحر!»
وليس أكثر ولا أغرب من الأحاديث التي نسبت إلى عائشة في خلال هذه الفتنة قبل خروجها من المدينة وبعد خروجها منها، وأشد هذه الأحاديث وأقساها أن بعضهم سمعها تقول: «اقتلوا نعثلا فقد كفر»، وأنها كانت تسأل من تلقاه أن يخذل الناس عن عثمان وشيعة عثمان.
فأما الصحيح من هذا كله فهو أنها كانت تنقم من حكومة عثمان، وتتمنى لها الزوال.
ويجوز الشك بعد ذلك في كثير من نصوص الأحاديث التي نسبت إليها بصدد هذه الفتنة؛ لأن بني أمية مثلوا بأخيها محمد بن أبي بكر عند دخولهم مصر أبشع تمثيل، فقتلوه ظمآن ووضعوه في جوف حمار ميت ثم شووه ، وهذا بعد أن جروه من رجله في أسواق مصر، وأشهدوا على مثلته السفلة والصبيان. ثم أرسلوا قميصه الذي قتل فيه وهو بدمه إلى المدينة، فلبسته نائلة زوجة عثمان ورقصت به، وشوت أخت معاوية بن حديج خروفا وأهدته إلى السيدة عائشة - في ذلك العيد - وهي توصي الرسول أن يقول لها: هكذا كان شي أخيك! فما أكلت السيدة عائشة بعدها شويا قط وأقسمت لا تأكله حتى تلقى الله.
فلما تسامع المسلمون بأنباء هذه المثلة الشنعاء غضبوا للسيدة عائشة أن يشمت بها ولاة الدولة الجديدة هذه الشماتة، وخاف الأمويون من جرائرها، وندم عقلاؤهم على ما كان من سفهائهم، واحتاجوا إلى المبالغة في تشويه نصيب عائشة من فتنة عثمان، فأضافوا بألسنتهم وألسنة أتباعهم وصنائعهم أقاويل وأباطيل تمتزج بما نسب إلى السيدة عائشة، فلا يعرف منها الخالص والمشوب، ولا يسهل النفاذ من بينها إلى موقع المبالغة والتلفيق.
وخليق بنا أن نزداد حذرا من هذه المبالغات على قدر أصحاب المصلحة في قبولها. وقد اتفق على تكبير نصيب عائشة من التحريض على عثمان مصدران متناقضان، وهما مصدر أصحاب معاوية ومصدر الشيعة أصحاب علي: يريد الأولون ما قدمناه من تخفيف وزرهم في المثلة بأخيها والحيف عليها، ويريد الآخرون أن يبطلوا موقفها من مطالبة علي بدم عثمان، وأن يثبتوا براءة علي من دم الخليفة القتيل ومشاركة عائشة في مجمة قاتليه، فضلا عن مصلحة القاتلين أنفسهم في التعلل بهذا السند الذي يعفيهم من لوم كثير. •••
كذلك بدأت السيدة عائشة مشاركتها الأولى في السياسة العامة، وهي إلى الاضطرار أقرب منها إلى الاختيار.
أما مشاركتها الثانية فقد كان اختيارها فيها أكثر من اضطرارها؛ فإنها تلقت خلافة علي من مبدئها بالسخط والمقاومة، وأذنت لبعض الطامحين إلى الخلافة أن يتوسلوا بجاهها ويشركوها معهم في خصوماتها، وكان أكرم لهم ولها لو أنهم جنبوها هذه الخصومة، وأنزلوها بحيث يعتصم بها الفريقان، ويستوي في جيرتها العسكران، فتركوا لها مندوحة للمراجعة يوم دعاها الدعاة بعد تفاقم الفتنة إلى السعي بينهم بالتوفيق.
وأصوب ما قيل في هذا المعنى مقال ذلك الفتى السعدي الذي تصدى للزبير وطلحة فقال لهما: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله بيدك، وأرى أم المؤمنين معكما، فهل جئتما بنسائكما؟
نعم، لقد أصاب ذلك الفتى من بني سعد حين أقام الحجة عليهما بهذا السؤال الذي يغني عن كل جواب، فما من أحد يلومهما أن يوافقا السيدة عائشة في الرأي أو توافقهما فيه، وإنما الملام الذي لا محيص عنه أن يتجاوزا النداء برأيها إلى الخروج بها في حومة قتال، وهما لم يخرجا إليها بالمحارم والأزواج.
كانت في طريقها إلى مكة يوم لقيت ابن عباس موفدا من قبل عثمان ليتلو على الحجاج كتابه، ويطلب النصفة بينه وبين الثائرين عليه، فاقترحت عليه أن يخذل الناس عن عثمان، وأن يشككهم فيه، ورشحت للخلافة طلحة بن عبيد الله؛ لأنه «اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإن يل الخلافة يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر رضي الله عنه».
قال لها ابن عباس: يا أمه! لو حدث - أي اعتزال عثمان - ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا ... قالت: إيها عنك لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك.
وألفت نفسها في مكة بين العثمانية والأموية يوم نزلت بها قبيل مقتل عثمان، فعن لها أن ترجع إلى المدينة لتدرك الأمر قبل فواته، ولكنها سمعت في الطريق ببيعة علي فقالت فيما رواه عبيد بن أبي سلمة وهو من خئولتها: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك. مشيرة إلى السماء والأرض، ثم صاحت بركبها: ردوني! ردوني! وجعلت تتوعد في الطريق: أن تطالب بدم عثمان ... فقال لها عبيد بن أبي سلمة: ولم؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت! قالت: «إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول.»
وما لبثت في مكة قليلا حتى تجمع فيها كل ناقم على علي بن أبي طالب من أعدائه ومنافسيه، فقضت أيامها بمكة بين العثمانية والأموية والولاة الذين أحسوا بزوال الدولة والثروة، والذين أوجسوا من حساب الخليفة الجديد، ولحق بهم طلحة والزبير، وكلاهما طامح إلى الخلافة يائس من الأنصار في المدينة، فاتفقوا جميعا على كلمة واحدة لا اتفاق بينهم فيما عداها، وهي المطالبة بدم عثمان؛ لأن المطالبة به تغنيهم عن القدح في الخليفة الجديد، وليس الاتفاق على القدح فيه بمستطاع.
كذلك لذلك ارتفعت الصيحة بدم عثمان.
وفي هذه البيئة غلبت على السيدة عائشة نية الخروج إلى البصرة بتلك الدعوة التي اتفقوا عليها، وأكبر الظن أنها كانت وشيكة أن تحجم عن الخروج إليها لولا غلبة البيئة، واجتماع الأصوات من حولها على نداء واحد، فإنها ما عتمت في الطريق أن صدمت أول صدمة حتى همت بالرجوع، ثم أصرت عليه لولا احتيالهم في إقناعها بمختلف الحيل.
عبروا بماء الحوأب فنبحتهم كلابه، وسألوا: أي ماء هذا؟ فقال الدليل: هذا ماء الحوأب. فصرخت بأعلى صوتها قائلة: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول وعنده نساؤه: «ليت شعري! أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟» ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وهي تقول: أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقا، ردوني، ردوني، ردوني. وأقامت يوما وليلة لا تريم مكانها، حتى جاءوا لها بخمسين رجلا من الأعراب رشوهم فشهدوا أنهم جازوا الماء، وقالوا لها: مهلا يرحمك الله، فقد جزناه. ثم صاح عبد الله بن الزبير: النجاء، النجاء، فقد أدرككم علي بن أبي طالب. فأذنت لهم في المسير بعد امتناع شديد. •••
ونعتقد أن وقفتها عند ماء الحوأب لم تكن آخرة التردد من جانبها في أمر القتال، فإننا في الواقع لم نقرأ بين أخبار وقعة الجمل المتشعبة خبرا واحدا ينم على عزمة قتال مبيتة لغرض مرسوم، ويؤخذ من كلامها لأبي الأسود الدؤلي حين أشخصه إليها عامل علي بالبصرة، أنها كانت تستبعد خروج أحد من المسلمين لقتالها، فقد سألته: أفتظن يا أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي؟ وكان أبو الأسود رجلا صعب المراس في نصرة علي فأجابها: والله لتقاتلن قتالا أهونه الشديد. وكان مما قاله لها قبل ذلك: ليس على النساء قتال ولا لهن الطلب بالدماء، وإن عليا لأولى بعثمان منك وأمس رحما فإنهما أبناء عبد مناف.
ولم تزل بالبصرة على هذا التردد كلما اشتبك أتباعها وأتباع عثمان بن حنيف والي علي عليها، فتحاجزوا عن الحرب غير مرة في المربد وفي دار الرزق، ونادى أصحاب عائشة بالكف عن القتال بعد أن تورط فيه الفريقان بدار الرزق نهارا كاملا من الصباح إلى الغروب كثر فيه القتلى والجرحى من الجيشين.
ثم أنفذ علي بن أبي طالب رسوله القعقاع بن عمر إلى طلحة والزبير وعائشة، فبدأ بعائشة وسألها: أي أمه! ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني، الإصلاح بين الناس. قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما. فبعثت إليهما فجاءا، فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان! قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا يصلح. فذكرا قتلة عثمان وحكم القرآن، قال: لقد قتل بالبصرة ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم أعظم مما تراكم تكرهون، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء ... فسألته عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال: إن هذا الأمر دواؤه التسكين ... فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المآل، فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم.
قالوا: قد أصبت وأحسنت، فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر. ثم أقر علي وساطة رسوله وأشرف القوم على الصلح لولا أن حبط هذا المسعى بسفاهة السفهاء من العسكرين فترامى هؤلاء وهؤلاء، وجمحت الفتنة جماحها الذي خرجت به من أعنة الرؤساء.
ولم ييأس الفريقان بعد هذا من وساطة الصلح، ولم يكن التردد من شأن عائشة وحدها، بل كان أنصارها جميعا يترددون ولا يستقرون على صنيع، وقد قال لها الزبير يوما: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. قالت: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب.
وربما تقابل الخصمان وجها لوجه فتناصحا على مسمع من العسكرين تناصح الإخوان ... نادي علي خصمه الزبير يوما: يا زبير ارجع، فقال: وكيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان؟
1
وهذا والله العار ... قال علي: يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار.
فرجع، وأهاب به ابنه عبد الله يستثيره: أحسست رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد؟ قال: قد حلفت ألا أقاتله. قال: كفر عن يمينك وقاتله.
وبينما هم في تقديم وتأخير ومشاورة ومثاورة أقبل كعب بن سور إلى عائشة فقال لها: أدركي، فقد أبى القوم إلا القتال، لعل الله أن يصلح بك. فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، وتعالت الضجة من هنا وهناك، فسألت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر. قالت: بخير أو بشر؟ قالوا: بشر. إذ كان القتال قد نشب بين الفريقين من تصارع الغوغاء وتدافع الغلاة وإفلات الأعنة من الرؤساء.
ويبدو لنا من جملة الوقائع أن حملة الجمل كانت حملة اندفاع، ولم تكن حملة تدبير وتقدير، ولا كان أحد من دعاتها يملك زمامها ويتجه به إلى مصير معروف.
وإلا فما يكون ذلك المصير، إن أصحابها لم يريدوا بها أن يفسدوا الأمر على علي بن أبي طالب ليصلحوه لمعاوية، فليس منهم زعيم من حزبه والعاملين لدولته.
ولم يتفقوا على ولاية واحد منهم بعد هزيمة علي إن تمت هذه الهزيمة، وليست هي بالمركب الذلول.
إنما هي حملة تهويل إلى المقاسمة في الأمر على وجه من الوجوه التي أشاروا إليها قبل مفارقتهم المدينة: فيتولى بعضهم العراق وبعضهم اليمن، ويصبح الأمر شركة أو «شورى» بينهم وبين الخليفة، على قولهم الذي عبروا به عن طلب الولاية في بعض الأحاديث بينهم وبينه.
وفهم الحملة كلها على هذا الوجه أقرب ما نراه لفهم السيدة عائشة في موقفها من القتال ومن السياسة العامة على الإجمال.
نعم، إن فهم مأساة الجمل هي وسيلتنا إلى فهم السيدة عائشة؛ لأننا نعرف مصادرها ومواردها ومبلغ الأخطار المنظورة من ورائها عند الهجوم عليها، فنعرف النية التي جنحت بالسيدة عائشة إلى الدخول فيها، وهي كل ما يعنينا من تاريخ تلك المأساة في هذا السياق.
والذي يبدو لنا من تلك الحوادث التي لخصناها فيما تقدم أن مأساة الجمل لم تكن عند السيدة عائشة إلا دفعة من دفعات الحدة التي طبعت عليها، قدحتها المفاجأة وأوقدتها كثرة المغريات بعداوة علي في بيئة لم يرتفع فيها صوت لغير أعدائه، ومهدت لها حوادث الماضي تمهيدها الذي رسم لها الوجهة، واندفع بها عن هذه الخطة دون غيرها.
فمن تمهيد الحوادث الماضية أن طلحة والزبير وعليا لم يكونوا غرباء عن السيدة عائشة، ولم تكن هي غريبة عنهم بميولها وسوابق شعورها.
فطلحة من بني عمومتها، ومن بني تيم قبيلتها وقبيلة الخليفة الأول أبيها.
والزبير زوج أختها أسماء، وابنه عبد الله ابنها الذي اختارته لكنيتها في بعض الروايات، فكانت تكنى من أجله بأم عبد الله.
وعلي أقرب الناس إلى بيت النبي وزوج ابنته وأبو حفيديه، وصاحب الرأي الذي لا ينسى في حديث الإفك، وهو نصيحته للنبي بتطليقها.
ومن الحق أن نقول إن الشعور الذي تكنه السيدة عائشة لعلي من جراء هذه النصيحة شعور طبيعي لا غرابة فيه.
فلا ريب أن عليا - رضي الله عنه - قد أخطأه التوفيق في تلك النصيحة؛ إذ لم يكن من الإنصاف أن تطلق عائشة لشبهة لغط بها المنافقون وطلاب الوقيعة بين النبي وأصحابه، ولن يفهم الناس من تطليقها إلا أن النبي قد أدانها وأنف من معاشرتها، ولن يصيبها ذلك وحدها، بل يلصق بها وبأبيها وآلها وصمة لا تمحى في زمانها ولا بعد زمانها، وقد يتعدى الأمر عائشة وآلها إلى الإسلام كله فيتخذ المنافقون من صدق حديثهم الذي أفكوا به مطعنا في صدق الدين ونبيه، وهذا كله إلى أن الإدانة بمثل تلك الشبهة لا توافق التحرز الشديد الذي قضى به الدين في هذه القضايا ولو مست من هن دون عائشة في القدر والثقة. فما نحسب عليا قد سها عن هذا كله وهو ينصح إلى النبي بتلك النصيحة إلا لفرط الغيرة على تنزيه سمعة النبي وبيته، واستكباره في هذا الصدد أن يقال ما يقال، ولو لم يكن ثم برهان على ما قيل.
وما من أحد يجهل الشعور الذي تقابل به النساء نصيحة كتلك النصيحة، فأقل ما يقال إنه شعور لا غرابة فيه.
ثم ها هي ذي مسألة الخلافة والترشيح لها من بين عظماء الصحابة الذين بقوا على قيد الحياة بعد موت أبي بكر وعمر وعثمان، ومن هؤلاء الصحابة علي وطلحة والزبير، وكلهم قد ندبوا للاجتماع في بيت عائشة لاختيار واحد منهم للخلافة، وقال لهم عمر يومئذ: «إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكن ما أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا واختاروا رجلا منكم.»
وكان جائزا أن يقع الاختيار في بيت عائشة على طلحة أو الزبير؛ لأنهما وكيلان من وكلاء الشورى.
ثم انقضت خلافة عثمان، وتجددت المسألة كرة أخرى على النحو الذي شهدته عائشة قديما في بيتها. فمع من يكون شعورها؟
إن طلحة والزبير مرشحان للخلافة منذ اثنتي عشرة سنة، وقد تكرر اختيار الخليفة من غير بني هاشم حتى أصبح في رأي بعضهم كالعرف الذي جرى عليه التقليد، وليس لعلي سند قاطع من القرآن أو السنة يبطل ذلك العرف ويسقط حجة طلحة والزبير. فإذا كانت السيدة عائشة أميل إلى طريق طلحة والزبير بشعورها وسابقة رجائها، فليس ذلك - كما أسلفنا - بغريب ولا مخالف للمعهود في طبائع الناس.
على أننا لا نريد بما تقدم أن نسوغ موقف السيدة عائشة من وقعة الجمل وخصومات الخلافة، وإنما أردنا تفسير شعورها على الوجه الذي لا غرابة فيه، ولم نرد تسويغه في نظر العقل ولا في نظر التاريخ .
فعلي قد أخطأه التوفيق في نصيحته، وعائشة قد أخطأها التوفيق في مكافحته من أجل هذه النصيحة، وإن كانت لا تلام على أنها كانت تتمنى الخلافة لسواه.
ولكننا إذا ذكرنا هذا كان علينا أن نذكر معه أن السيدة عائشة ندمت على موقفها من يوم الجمل أشد ندامة، فكانت تقول بقية حياتها: ليتني مت قبل يوم الجمل، وقالت مرة: ليت كان لي من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بنون عشرة وثكلتهم ولم يكن يوم الجمل. وكانت كلما خاض الناس في حديث ذلك اليوم تبكي حتى تبل خمارها.
وعلينا أن نذكر أنها صانت خصومتها عن كل كلمة نابية في حق علي - رضي الله عنه - فلم تتهمه بدم عثمان ولم تتجاوز بالتهمة بعض من بايعوه، وقالت عنه غير مرة إنه الصوام القوام، وإنه أحب الناس إلى رسول الله.
وعلينا أن نذكر أن المغريات بالاندفاع في هذه الغاشية كثيرة: حدة في الطبع، ومفاجأة تبتدر الحدة، وبيئة مطبقة بالعداء لعلي، وسعي حثيث من أقرب الناس إليها وأقربهم إلى إقناعها.
وإنها مع هذا أقدمت على مورد مبهم لا يتضح الشر فيه، وترددت هنالك بين إقدام وإحجام، واعتقدت أن الأمر لا يفضي إلى قتال، وأصغت إلى دعوة الإصلاح ودعت إليه.
وهو حادث لا بد له من عبرة، وإن عبرته لأحق عبر التاريخ الإسلامي بالتسجيل.
حقوق المرأة
في حياة السيدة عائشة ميزان صادق لحقوق المرأة في عصرها، وقد يقاس عليه الميزان الصادق لحقوق المرأة في جميع العصور.
فالحياة البيتية وما يتصل بها من حياة التربية والتعليم ومعونة الرجل في واجباته العامة هي خير ما تتولاه المرأة من الأعمال.
والسياسة - ولا سيما السياسة في عصور الاضطراب - هي المجال الذي يحسن بها اجتنابه ولا يرجى لها التوفيق فيه، وقد تؤدي فيه هنالك الخير إذا التزمت منه جانب المسالمة وكانت لها وسيلة إليها. أما جانب الرئاسة والإشراف فلا طاقة لها به، ولا يتأتى لها أن تتولاه إلا إذا نقلت إليه شئون البيت ومزجته بما يهمها من أواصر القرابة والمعيشة الزوجية.
فالسيدة عائشة كانت ربة بيتها وشريكة زوجها، وكان زوجها العظيم يعينها في شئونه، ويكون في مهنة البيت ما دام فيه.
وكانت هي تعينه على شئون الهداية والإصلاح كلما وسعتها المعونة فيها، وقد لقنت الناس ما تلقنته منه فأحسنت التلقين.
وهذا في جملته هو قوام الحقوق بين الجنسين.
ولكنها على ذكائها وعلمها، وعلى أنها في بيت الرئاسة نشأت وفي بيت الرئاسة عاشت، وأنها تعودت أن يؤبه لها وتسمع كلمتها، قد تحولت بها طوارئ العصر إلى السياسة العامة، فكانت فيها طوعا لأواصر البيت ودواعي المودة والنفور التي توحيها، ولم تكن مثلا يقتدى به في توجيه الأمور العامة كما كانت مثلا للنساء كافة وهي ربة بيتها وشريكة زوجها.
بل هي قد كانت أول مثل يستشهد به المستشهد على صواب الحقوق التي عرفها الإسلام للنساء:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة .
فلم تأت العصور بعد ذلك بإنصاف للمرأة أصوب من هذا الإنصاف. فليس المهم أن تساوي الرجل في كل شيء وأن يكون لها مثل حقوقه ومثل واجباته؛ لأن المماثلة مع الاختلاف ليست هي الصواب، وليست هي الإنصاف.
ولكن المهم أن تكون حقوقها مساوية لواجباتها، وأن يكون لها مثل ما عليها، وألا تظلم في حياتها الخاصة والعامة شيئا، ولا يفوتها عمل تصلح له، وتحسن أداءه، وتغني فيه غناء الرجل ولا يغني فيه الرجل غناءها.
وقوام ذلك كله أنهن:
لهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة .
وهي الدرجة التي ينفرد بها الرجال حيث تبطل المشاركة في الملكات والأعمال.
وإنما كان هذا قوام الإنصاف في حقوق الجنسين؛ لأنه حكم قائم على الواقع الذي لا يتغير اليوم، ولم يتغير قط، ولن يتغير في الغد مهما تتغير أحكام الشرائع وأقاويل أصحاب الأقوال والآراء.
وكل حكم قائم على إنكار الواقع أو المغالطة فيه فهو جهالة تنكشف لا محالة في يوم من الأيام، وإن لم تنكشف كانت كالداء المكتوم أوبل ما يكون وهو مجهول.
والواقع أن الرجل والمرأة مختلفان، وأن اختلافهما حقيقة علمية وحقيقة تاريخية وحقيقة حسية، وحقيقة تعرف بالعقل والبداهة.
فالمرأة تخالف الرجل في وظائف الغدد، وفي تكوين الأعضاء، وفي شواغل الذوق والإحساس.
والمرأة تخالف الرجل في أعمالها وتكاليفها منذ القدم في جميع الشعوب، ومن قال إن هذه المخالفة من فعل الرجال وسيطرتهم وليست من فعل الطبيعة وسيطرتها فقد قال إنها من فعل الطبيعة وليست من فعل الرجال.
والمرأة تخالف الرجل في القدرة حتى حين تشاركه في العمل الذي تفردت به منذ زمن طويل، فهي منذ زمن طويل تزاول الطهي والخياطة والتجميل والولادة، وتندب الموتى وتشيعهم بالبكاء والتعديد، ولكنها لا تبلغ شأو الرجل في هذه الصناعات إذا وقعت المزاحمة بينهما في إحداها، فالطاهي يفوق الطاهية، ومبدع الأزياء يفوق مبدعتها، والطبيب المولد مقدم على الطبيبة المولدة، وكل ما نظمته النساء من الرثاء لا يوازن قصيدة من الرثاء الجيد في شعر الرجال.
والمرأة تخالف الرجل، ولا بد أن تخالفه على سنة الفطرة التي عمت الأحياء، فإن سنة الفطرة لا ترمي إلى توحيد العمل، بل إلى توزيعه وتنويعه، ولا تجعل جنسين ليشتركا في حقوق واحدة وواجبات واحدة، بل تجعلهما جنسين ليختلفا في الحقوق كاختلافهما في الواجبات.
هذه هي الحقيقة الماثلة بين أعيننا، وعلى أساسها ينبغي أن تنبني المذاهب والآراء، أما الذين يضعون المذاهب والآراء ثم يقسرون الحقيقة على موافقتها فأولئك على باطل، ولن تقوم للباطل قائمة في عالم الطبيعة.
ومن أمثلة المذاهب التي تقسر الحقيقة على موافقتها مذهب الشيوعيين في التسوية الكاملة بين الرجل والمرأة؛ فهم يريدون أن يهدموا الأسرة؛ لأن الأسرة في زعمهم أصل الاستغلال، وإن الاستغلال قائم على الاختلاف بين حقوق الرجل وحقوق المرأة، ولهذا يجب أن يبطل هذا الاختلاف، وأن تتقرر المساواة بين الرجال والنساء في جميع الأحوال وجميع الأعمال.
وهذا تسخير للحقيقة في سبيل الرأي، وهو وحده كفيل بالقضاء على المذهب الشيوعي واقتساره عاجلا أو آجلا على موافقة الحقيقة التي يريد هو أن يقتسرها على هواه. •••
فليس الإنصاف إذن أن يتساوى الرجل والمرأة في جميع الحقوق والواجبات وهما مختلفان هذا الاختلاف الظاهر للعيان، الماثل للعلم والحس منذ كان الإنسان، بل قبل أن يكون الإنسان؛ حيث يختلف الذكر والأنثى في عالم الحيوان.
ولكن الإنصاف الذي يجتمع فيه حكم الفطرة وحكم الآداب الإنسانية هو أن تأخذ من الحقوق كفاء ما عليها من الواجبات، وأن تعطى حقوقها وتسأل عن واجباتها بالمعروف:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، لا بالإرهاق والإذلال، فهنالك تهذيب الإنسان إلى جانب حكم الفطرة، وهما خير مناط لإنصاف الشرائع والآداب. •••
وليس من الحيد عن سواء التفكير أن يستطرد الفكر هنا إلى سؤال لا بد أن يخطر على البال، وهو السؤال عن تعدد الزوجات: أهو من الإنصاف؟ أهو من الكرامة والمعروف؟ أهو من سنة الفطرة وتهذيب الإنسان؟
واعتقادنا نحن أن المثل الأعلى للزواج هو الزواج بين رجل وامرأة يتحابان ويمتزجان بالجسم والروح ولا يفترقان مدى الحياة.
ولكننا نعتقد مثل هذا الاعتقاد أن المثل الأعلى لم يخلق قط لتفرضه القوانين على جميع الناس.
إنما المثل الأعلى هو الحالة النادرة التي تتيسر كلما تيسر الكمال أو تيسرت مقاربة الكمال.
وليست هذه بالحالة التي تفرضها القوانين على كل رجل وكل امرأة من جميع مراتب التفكير والتهذيب.
فإنما تفرض القوانين ما يستطاع بين عامة الرجال وعامة النساء، وما تسمح به أخلاق الزوجين وضرورات المعيشة التي لها عليهما سلطان مسموع كسلطان الأخلاق.
ولا حاجة إلى فرضها على الأمثلة النادرة بين صفوة الرجال وصفوة النساء؛ لأن هذه الأمثلة النادرة في غنى عن تعليم القوانين.
والإسلام لم يقل إن تعدد الزوجات هو المثل الأعلى، ولم يفرضه على كل مسلم، ولم يحمده من كل مسلم، ولم يخله من شرط عسير، هو العدل في المعاملة وإن تعذر العدل في المحبة، ولم يفعل إلا أنه وضع التشريع في موضعه الذي يحسب فيه حساب المثل النادر والمثل الشائع، ولم تأت بعده شريعة حلت هذه المشكلة بغير الهرب منها أو المغالطة فيها، كما هو الواقع الملموس في الأمم التي تحظر تعدد الزوجات ولا تحظر المعيشة مع الخليلات، أو معاملة النساء كمعاملة العجماوات.
وفي المجتمع الإنساني حالة يكثر فيها عدد النساء ويقل عدد الرجال، ولم تستطع الحضارة التي ينعون باسمها تعدد الزوجات أن تمنع تلك الحالة أو تبطل عواقبها، فلا نزال في كل جيل نشهد حربا من الحروب العالمية التي تنجلي عن ثلاثين أو أربعين مليونا من الفتيات أو الأرامل بغير قرناء.
وقل ما شئت في تعدد الزوجات فهو خير من التبذل الوبيل، أو من إعطاء المرأة محلا في المصنع بديلا من محلها في البيت والأسرة.
وقد ينطلق الهوس بالمساواة إلى أبعد من هذا المدى فيسأل سائل: وهل يجوز للمرأة تعديد الأزواج كما يجوز للرجل تعديد الزوجات؟
وجواب ذلك أنه بحكم الفطرة لا يجوز؛ لأن الرجل يستطيع أن يؤدي واجب الأبوة مع تعدد زوجاته، ولا تستطيع المرأة أن تؤدي واجب الأمومة لأربعة أزواج أو لزوجين اثنين.
كذلك له هو من حق مراقبتها والسهر عليها أكثر من حقها هي في مراقبته والسهر عليه.
لأنها تستطيع أن تخدعه بولد ليس من لحمه ودمه، أو تخدعه في أمس شعور به بعد شعوره بكيانه.
ولكنه هو لا يستطيع أن يخدعها بولد ليس من لحمها ودمها، وأن يصيبها بمثل هذا المصاب الأليم الذي ليس آلم منه ولا أفجع في نكبات النفوس.
وهنا محل عادل للدرجة التي للرجال على النساء، كالعدل في محل تلك الدرجة عند التفرد بحق تعديد الزوجات، وعند التفرد بحقوق تخالف حقوق النساء، تبعا للخلاف في التركيب والتكوين. •••
على أن البحث في حرية الزوجة والبحث في حرية المرأة مسألتان اثنتان لا مسألة واحدة.
لأن الآراء على تناقضها تلتقي في مسألة حرية الزوجة عند ملتقى واحد وهو تقييدها بحقوق الزوج كائنا ما كان الرأي في قداسة الزواج؛ فالذي لا ينكر الخيانة ينكر السرقة والاغتصاب، والذي لا يؤمن بالعاطفة الخالصة يؤمن بشروط القسمة بين الشريكين، ومما لا جدال فيه أن الزواج شركة لها شروطها، وأهون ما يقال في تلك الشروط أنها كشروط الشركة في المال، فلا يجوز للزوجة أن تختلس من حقوق شريكها، ولا أن تسرق نصيبه المقسوم بينهما على السواء، وهنا الملتقى بين القائلين بالوفاء والقائلين بالمحافظة على حصة الشريك.
وخلاصة ذلك كله أن حقوق المرأة لم تكن قط مسألة فرد ولا مسألة أمة أو مجتمع موقوت، ولكنها كانت ولن تزال مسألة النوع الإنساني بأسره، فلا مناص فيها من الضوابط التي تعبر عن مصلحة النوع، وتتجاوز المصلحة العاجلة والغرض القريب.
ولهذا تصدق الأديان؛ لأنها تنطق بلسان الفطرة السليمة، وتكذب المذاهب التي تحسب أن ضوابط الجنس في المرأة والرجل من اعتساف الأديان؛ لأن الإباحة التي تنادي بها هذه المذاهب تدل على جهل بالفطرة، وهي تنادي نداءها باسم العلم والمعرفة الحديثة، وهنا فلنحسب للقدم مزيته الأولى؛ إذ هو قدم الفطرة الباقية، وهي أسبق إلى المعرفة الصادقة من كل حديث.
ناپیژندل شوی مخ