عن أي شيء أسفر الموقف الجديد؟ أفهاجم المسلمون الروم في بطيحهم فحصروهم فيه فقضوا عليهم؟ أفخرج الروم فلاقوا المسلمين فأتاح لهم تفوقهم في العدد الظفر بهم؟ لا هذا ولا ذاك؛ بل أقام المسلمون على طريق الروم ومخرجهم لا يقدرون منهم على شيء، ولا يقدر الروم منهم على شيء إذا خرج الروم على الطريق ردهم المسلمون إلى بطيحهم، وإذا غامر المسلمون بالهجوم لم يلبثوا ان يتراجعوا مخافة أن يحصرهم الروم بينهم وأن يقضوا عليهم، وأقام هؤلاء وأولئك على هذه الحال شهرين كاملين أيقن المسلمون خلالهما أن لا بد لهم من مدد يعينهم فكتبوا إلى أبي بكر يصفون له الحال ويستمدونه، حتى لا يظلوا الشهور، فيسأم الجند ويضعف إيمانهم بالنصر وتذهب ريحهم.
وكان أبو بكر أشد من أمراء الجند بالشام ضجرا؛ فلم يدر قط بخلده أن يقف أبو عبيدة وزملاؤه هذا الموقف، ولم يحسب أن البدريين الذين غلبوا على قلتهم أهل مكة من المشركين يطيقون هذا المقام بإزاء الروم لا يقتلون ولا يقتلون، طال تفكير الخليفة في هذا الأمر، وجعل يشاور ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسائر أولي الرأي المقيمين بالمدينة، وبينما هو يفكر انكشفت له الحقيقة جلية واضحة، إن المسلمين لم ينتصروا يوما بكثرة عددهم، وإنما انتصروا دائما بمهارة القيادة، وبقوة الإيمان، والإيمان لا ينقص جيوش الشام وفيها السابقون الأولون من أصحاب رسول الله مهاجريهم والأنصار، وفيها أهل بدر الذين فتحوا مكة ومن انتصروا على أهل الردة. لا بد أن تكون العلة إذن في القيادة، فهذا الموقف يحتاج إلى القائد الجسور الذي لا يعرف الهوادة ولا الإحجام، ولا يهاب الموت وأبو عبيدة على مقدرته رجل رقيق القلب، وابن العاص على دهائه في السياسة هياب غير مقدام، وعكرمة مداور مقدام إلا أنه تعوزه دقة التقدير، وسائر القواد لم يخوضوا بعد المعارك الكبرى؛ ثم إن هؤلاء الأمراء جميعا لا يقرون لواحد منهم بالتفوق على سائرهم تفوقا يكفل بسلطانه وحدة القيادة. تكشفت هذه الحقيقة لأبي بكر جلية واضحة، فقال لأصحابه: «والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.»
لم يعترض أحد رأي الخليفة هذا؛ فقد بلغ الموقف في الشام من الحرج أن ترددوا جميعا في احتمال تبعته، ولعل منهم من رأى في تعريض خالد لهذا الموقف الدقيق ما ينهنه من كبريائه بعد نصره المتصل في حروب الردة، وبلوغه قمة النصر في العراق، وكتب أبو بكر إلى خالد بالحيرة يقول: «سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك ؛ فإنهم قد شجوا وأشجوا،
1
وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس
2
بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجا من الناس
3
نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل؛ فإن الله (عز وجل) له المن وهو ولي الجزاء.»
أي أثر ترك هذا الخطاب في نفس خالد! إنه كان يرجو أن يظل بالعراق حتى يفتح المدائن عاصمة الفرس ويتربع فيها على عرش كسرى وخلفائه، ولم يخالجه في بلوغ هذا الغرض ريب؛ فقد سبر غور الفرس وعرف قوتهم وفتح المدائن فخار لا فخار بعده، فما اليمامة وما الحيرة وما هرمز وقواد فارس جميعا بالقياس إلى العاصمة التي يتطلع إليها قيصر الروم ويتطلع إليها العالم من كل نواحيه، وبالقياس إلى كسرى وإيوانه وأبهة ملكه؟ لا مرية إذن في أن يكون خالد قد برم بكتاب أبي بكر وضاق به صدره، ولعله رأى فيه كيد عمر بن الخطاب له. روى الطبري أنه قال بعد تلاوته: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة - يعني عمر بن الخطاب - حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.» بل لعله ظن أن عمر طمع في أن يجيء إلى العراق مكانه، وإن يكن هذا الظن قد دار بخاطره فلعله لم يكن مخطئا ولا آثما فيه؛ فقد روي عن أبي بكر أنه قال وهو في مرضه الأخير: «وددت أني كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله.»
ناپیژندل شوی مخ