أي جيوش المسلمين كان أسرع إلى إمداد خالد بن سعيد؟ اختلف الرواة في هذا الأمر كما اختلفوا في بدء خالد بغزو الشام كما قدمنا؛ أما والطبري يجعل لخالد هذا السبق ويوافقه ابن الأثير وابن خلدون ومن إليهما على هذا الرأي، فإننا نساير الطبري وأصحابه الآن في روايتهم، لنعود إلى رواية الواقدي والأزدي والبلاذري من بعد.
كان عكرمة بن أبي جهل قافلا من كندة وحضرموت عن طريق اليمن ومكة، فلما بلغ المدينة أمره أبو بكر أن يسير مددا لخالد بن سعيد، وكان عكرمة قد سرح الجند الذين قاتلوا معه في جنوب شبه الجزيرة، فاستبدل الخليفة بهم غيرهم، وأمرهم أن يسيروا تحت لواء عكرمة إلى الشام ولذلك سمي هذا الجيش جيش البدال، وسار ذو الكلاع على رأس الجند الذين صحبوه من اليمن مسرعا مع عكرمة إلى الشام، حتى يطمئن خالد بن سعيد ويتابع مسيرته.
وكان عمرو بن العاص مقيما بقضاعة مذ قضى على الردة فيها، فبعث إليه أبو بكر يخيره أن يبقى حيث هو أو أن يسير إلى الشام، وكتب له: «وقد أردت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.» وكان جواب عمرو: «إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم بها شيئا إن جاءك من ناحية من النواحي.» وكتب الصديق إلى الوليد بن عقبة بمثل ما كتب إلى ابن العاص، فكان جوابه إيثار الجهاد، عند ذلك أمر الخليفة عمرا على فلسطين، وكتب إلى الوليد فأمره بالأردن.
سارت هذه الجيوش متجهة إلى الشام، ولا يشك أبو بكر في أن الله قد فتحه عليه وكان الوليد بن عقبة أول من أدرك خالد بن سعيد، وقص عليه أنباء المدد وحماسة أبي بكر لفتح الشام، وغبطة أهل المدينة بانتصار إخوانهم على بني الأصفر، وفاضت نفس خالد بالمسرة، فأمر جيشه أن يتهيأ للسير حين يكون له من فخار النصر ما يجعله في قتال الروم ندا لابن الوليد في قتال الفرس وتقدم بالمسلمين ومعه الوليد بن عقبة يقابل جيشا للروم على رأسه قائدهم الأكبر باهان، ونفسه تحدثه بأن ينقض على هذا القائد كما انقض ابن الوليد على هرمز، وأن يورده حتفا كحتفه، وكيف لا يفعل وقد أدركه عكرمة وذو الكلاع فصار في قوة لا تثبت أمامها قوة!
ولم يكن جيش الروم قريبا منه، مع ذلك تراجع باهان به متجها نحو دمشق وسار خالد في أثره يريد مرج الصفر بين واقوصة ودمشق، ليتخذ هناك معسكره ومكان قيادته العامة، ولم يكن تراجع باهان إلا خدعة لاستدراج خصمه حتى يعري ظهره فيتمكن من حصره ويجيئه من خلفه، وذلك ما حذر أبو بكر خالدا منه لكن نشوة الظفر وحب الفخار أنسياه الحذر ودفعاه يغذ السير، حتى إذا كان على مقربة من مرج الصفر إلى الشرق من بحيرة طبرية ارتد باهان بجنوده وأحاط به وقطع عليه خط رجعته، وصادف باهان سعيد بن خالد بن سعيد في فرقة من العسكر منعزلة عن المسلمين فقتلهم وقتل سعيدا في مقدمتهم، وبلغ خالدا مقتل ابنه، ورأى نفسه قد أحيط به، فخرج هاربا في كتيبة من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، تاركا وراءه جيش المسلمين يقوده عكرمة متقهقرا.
ولم يقف خالد بن سعيد من فراره دون ذي المروة على مقربة من المدينة، وعرف أبو بكر فراره هزيما يريد مدينة الرسول، فأبى ذلك عليه وبعث له بكتاب لقيه بذي المروة جاء فيه: «أقم مكانك؛ فلعمري إنك مقدام محجام نجاء من الغمرات، لا تخوضها إلى حق ولا تصبر عليه.» وأقام خالد بذي المروة في فلول الفارين معه حسيرا حزينا لمقتل ابنه وللهزيمة التي حلت به، أما أبو بكر فكان يقول: «كان عمر وعلي أعلم بخالد مني، ولو أطعتهما فيه اتقيته.»
أأضعف فرار خالد بن سعيد من عزم أبي بكر فتح الشام ومن حماسته لهذا العزم؟ كلا! فقد جاءته الأنباء بأن عكرمة بن أبي جهل داور بجيوش المسلمين، وداور معه ذو الكلاع، فتراجع بهم إلى حدود الشام، وهناك تحصن ينتظر المدد فليمده، وليكن هذا المدد من القوة بما يزيل كل أثر لهزيمة ابن سعيد، وما يرد إلى المسلمين الإيمان بالنصر، وما ينزل في قلوب الروم الخوف والهلع.
كان شرحبيل بن حسنة مع خالد بن الوليد بالعراق، وقد جاء في هذه الآونة إلى المدينة بأنباء النصر وبالسبي والأخماس، فأمره أبو بكر أن يذهب إلى الشام مكان الوليد بن عقبة الذي باء مع خالد بن سعيد بما باء به، وجمع شرحبيل قوة من جيش ابن سعيد وابن عقبة وسار بها إلى عكرمة، ودعا أبو بكر يزيد بن أبي سفيان فأمره على جند عظيم جلهم من أهل مكة، ثم أردفه بأخيه معاوية، وجعله على بقية الجيش الذي استدرجه خالد بن سعيد للغزو معه، وندب الخليفة جيشا عظيما جعل عليه أبا عبيدة بن الجراح وأمره على حمص، وكانت هذه الجيوش تعسكر بالجرف، فإذا آن لأحدهما أن يسير خرج إليه الخليفة وودعه على النحو الذي ودع به جيش أسامة غداة بيعته ، وانطلقت هذه الجيوش جميعا في طريقها إلى الشام مجاهدة في سبيل الله.
وأنت تذكر أن أبا بكر أوصى أسامة حين ودعه وصية تسجل له في تاريخ الحروب بحروف من نور، كذلك فعل مع هذه الجيوش، قال وهو يودعهم: «ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبه ومن عمل كفاه الله عليكم، بالجد والقصد فإن القصد أبلغ، إلا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به هذه التجارة التي دل الله عليها ونجى بها من الخزي، وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.»
وكان مما قاله ليزيد بن أبي سفيان: «إذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز؛ فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا ... وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ... وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم ... واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار ... واصدق اللقاء، ولا تجبن فيجبن الناس.»
ناپیژندل شوی مخ