انهدت عزائم بني حنيفة حين سمعوا الصيحة بموت مسيلمة وأسلموا أنفسهم لا يقاومون، وأمعن المسلمون فيهم قتلا، فلم تعرف بلاد العرب في تلك العصور موقعة كان فيها ما كان في موقعة اليمامة من دماء، لذلك أطلق على حديقة الرحمان اسم حديقة الموت، ولا يزال هذا اسمها في كتب التاريخ جميعا.
ولما انتهت الموقعة أمر خالد فجيء بمجاعة من فسطاطه، فطلب إليه أن يدله على مسيلمة، وجعل القوم يكشفون عن القتلى حتى مروا بمحكم اليمامة، وكان المحكم وسيما، فلما رآه خالد سأل مجاعة: هذا صاحبكم؟ وأجاب مجاعة: لا! هذا والله خير منه وأكرم؛ هذا محكم اليمامة. ودخل خالد ومجاعة حديقة الموت فمروا بجثة ذلك الرويجل الأصيفر الأخينس، فقال مجاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه. وقال خالد: هذا الذي فعل بكم ما فعل.
الآن وقد انتهت فتنة مسيلمة، واجتث أصلها، وقد قضي على جيشه هذا القضاء المبرم، أفما آن لخالد أن يطمئن ولجنده أن يستريح؟
كلا! ليس هذا من طبع خالد، وليست هذه السياسة سياسته في الحرب إنما سياسته أن يبلغ النصر مداه حتى لا يترك وراءه ما قد تخشى عواقبه، لم يكفه من حرب بني أسد ومن والاهم فرار طليحة، بل بقي حتى استبرأ الأرض، وحتى قضى على أم زمل وفلولها، وهو لم يدع بني تميم حتى قضى في ديارهم على كل نافخ في نار للفتنة أو في رماد، وكذلك فعل ها هنا، قال له عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن أبي بكر وقد فرغ ممن لجئوا إلى حديقة الموت: «ارتحل بنا وبالناس فانزل على الحصون.» يريدان حصون اليمامة، فكان جواب خالد: دعاني أبث الخيول فألقط من ليس بالحصون، ثم أرى رأيي. وبث الخيول فجاءوا بما وجدوا من مال ونساء وصبيان، فضمه إلى العسكر، ثم نادى بالرحيل لينزل على الحصون فيفتضها على من بها، ويفرغ بذلك من بني حنيفة فلا تقوم لهم من بعد قائمة أبدا.
كان خالد قد وثق بمجاعة بعد الذي كان من جواره أم تميم ومن إخلاصه القول له في مسيلمة ومن معه، وجاء مجاعة هذا إليه وقال: والله ما جاءك إلا سرعان الناس، وإن الحصون لمملوءة رجالا؛ فهل لك إلى الصلح على ما ورائي؟ ونظر خالد إلى جيشه فرأى قوما نهكتهم الحرب وقد أصيب من أشراف الناس فيهم خلق كثير، وهم إلى ذلك حراص على أن يعودوا متوجين بفخار النصر، أما وقد يكون مجاعة صادقا فقد رأى خالد من الخير أن يصالحه، وتصالحا على أن يحتفظ المسلمون بما غنموا إلا نصف السبي، واستطرد مجاعة يقول: الآن آتي قومي فأعرض عليهم ما قد صنعت. وانطلق فقال للنساء: البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون. وقد فعلن، ورآهن خالد فأيقن أن مجاعة لم يكذبه، وعاد مجاعة يزعم أنهم أبوا أن يجيزوا ما صنع، وإنما أشرف على رءوس الحصون منهم من أشرف حتى يرجع إليهم فيروا رأيهم، ونزل خالد عن النصف مما كان قد تصالح عليه من السبي، فلما فتحت الحصون لم يجد إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ورجالا ضعفى، عند ذلك نظر إلى مجاعة مغضبا وقال: ويحك! خدعتني! وأجاب مجاعة مطمئنا: هم قومي، ولم أستطع إلا ما صنعت. وأكبر منه خالد صدق وطنيته فأجاز الصلح وسرح صاحبه.
ويروى أن مجاعة ذهب إلى قومه قبل كتابة عهد الصلح، وقبل أن يرى خالد من بالحصون، فعرضه عليهم، فاعترضه سلمة بن عمير الحنفي وقال: «لا والله لا نقبل حتى نبعث إلى أهل القرى العبيد فنقاتل ولا نصالح خالدا؛ فإن الحصون منيعة والطعام كثير والشتاء قد حضر.» وأجابه مجاعة: «إنك امرؤ غر مشئوم، غرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح، فهل بقي أحد فيه خير أو به دفع! وإنما بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة: قبل أن تستردف النساء سبيات، وينكحن غير حظيات.» وسمع إليه القوم فأجازوا صلحه ولم يحفلوا بقول سلمة بن عمير.
وجاء خالدا رسول من أبي بكر ومعه أمر أن يقتل كل قادر على القتال من بني حنيفة، لكن خالدا كان قد صالحهم؛ وهو رجل متى عهد وفى، وحشر بنو حنيفة للبيعة والبراءة مما كانوا عليه؛ وجيء بهم إلى خالد في عسكره، فبايعوا وأعلنوا براءتهم من الردة ورجوعهم إلى الإسلام، وبعث خالد بوفد منهم إلى أبي بكر بالمدينة، فلما قدموا عليه قال لهم: ما هذا الذي استذل منكم ما استذل؟ قالوا: يا خليفة رسول الله، قد كان الذي بلغك مما أصابنا، وقد كان امرأ لم يبارك الله له ولا لعشيرته فيه.
ولعلك تسأل: كيف رضي خالد عن مجاعة بعد أن خدعه، وخالد من نعرف بأسا وشدة! لكن نصر المسلمين المؤزر جعل خالدا أدنى إلى التسامح؛ وقد بلغ قتلى بني حنيفة مبلغا زاده تسامحا ... قيل: إن الذين قتلوا في حديقة الموت بلغوا سبعة آلاف، وإن مثل هذا العدد قتل منهم في الميدان، وإن سبعة آلاف أخرى قتلوا حيث بث خالد جنوده تطارد الفارين، هذا إلى أن الصلح الذي عقده مجاعة قد ترك للمسلمين كل ما غنموا من ذهب وفضة وسلاح، وجعل لهم ربع السبي، وجعل لهم في كل قرية من قرى بني حنيفة حديقة ومزرعة يختارهما خالد، فإن يكن مجاعة قد أنجى بعد ذلك من بقي من قومه فلم يقتل منهم كل قادر على القتال، فإن قومه جميعا قد رجعوا إلى الإسلام وأقروا بسلطان أبي بكر، أما وقد بلغ خالد ذلك كله فليس له أن يغضب من مجاعة لخدعته أو ينقم منه بسببها.
وكما بلغ قتلى بني حنيفة ذلك العدد لم يكن يدور بخلد أحد من أهل ذلك العصر في بلاد العرب، بلغ عدد القتلى من المسلمين مبلغا جاوز كل ما كان يجري في تقديرهم، قتل فيها من المهاجرين ثلاثمائة وستون، ومن الأنصار ثلاثمائة، وذلك خلا من قتلوا من أهل القبائل، وبلغ مجموع قتلى المسلمون مائتين وألفا.
ولقد عير المهاجرون والأنصار أهل القبائل وفاخروهم بعدد قتلاهم، ولم يكن تفوق المهاجرين والأنصار مقصورا على زيادة العدد في القتلى، بل كان بين هؤلاء تسعة وثلاثون من كبار الصحابة ومن حفاظ القرآن، وأنت تعرف ما لهؤلاء وأولئك من قدر ومقام بين المسلمين، ولكن! رب ضارة نافعة؛ فقد كان مقتل هؤلاء الحفاظ سبب جمع القرآن في خلافة أبي بكر مخافة أن يستحر القتل في سائرهم من بعد، كما استحر فيمن حضر منهم غزوة اليمامة.
ناپیژندل شوی مخ