وقد لاحظ جماعة من الأنصار أن أبا بكر جعل الأولوية للمهاجرين ولم يجعل لهم منها نصيبا، وهو إنما فعل هذا ليبقي أهل المدينة على قوات الدفاع عنها؛ فهم أعلم بأمرها، وأحرص من غيرهم على الزود عن حياضها، أما ما ظنه بعضهم من أنه استبقاهم حذرا منهم بعد الذي أبدوه في سقيفة بني ساعدة فلا مسوغ له.
فهذه الألوية إنما عقدت لقتال المرتدين، ولم يكن الأنصار دون المهاجرين إيمانا بالله ورسوله، فالحذر من ناحيتهم في هذا القتال لا مسوغ له، ولو مثل هذا التأويل ساغ في شأن الأنصار لساغ كذلك في شأن كبار المهاجرين أمثال علي، وطلحة، والزبير، ممن أقاموا كما كما أقام عمر بن الخطاب بالمدينة ليشيروا على أبي بكر، فيكون مركز القيادة العامة قويا بهم وبما يضعون من خطط ويدبرون من أمور.
ومم كان أبو بكر يحذر أو يخشى؟ إنه لم يتول الخلافة رغبة منه فيها، بل لأن أولي الرأي بالمدينة رأوه أصلحهم لها، ولقد أبدى منذ تولاها من التقدير لأعبائها ما يشهد بأنه قبلها مضحيا في سبيل الله، كان مما قاله وهو يخطب الناس بعد قليل من تمام بيعته: «أما بعد، فإني وليت هذا الأمر وأنا له كاره ووالله لوددت أن بعضكم كفانيه!» وخطب مرة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك.» فرفع الناس رءوسهم دهشا فقال: «ما لكم أيها الناس! إنكم لطعانون عجلون، إن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما بيده، ورغبه فيما بيد غيره ... فهو كالسراب الخداع، جذل الظاهر، حزين الباطن.» وكان منزل أبي بكر بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة منزلا بدويا صغيرا لم يغير منه ولا غير من منزله بالمدينة بعد ما بويع، بل أقام به ستة أشهر يغدو على رجليه من السنح إلى المدينة، وربما ركب فرسا له، وكان يتجر في الثياب، فلما رأى أعباء الدولة أشق من أن تتفق والتجارة قال: «لا والله ما يصلح أمر الناس والتجارة! وما يصلح لهم إلا التفرغ والنظر في شأنهم، ولا بد لعيالي ما يصلحهم.» وترك التجارة ووظف له من بيت مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله، فلما حضرته الوفاة قال: «ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا، وإن أرضي بمكان كذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم.» قال عمر بن الخطاب وهو يستولي على هذه الأرض بعد ما استخلف: «لقد أتعب أبو بكر من بعده.»
رجل ذلك شأنه مم يحذر؟! وما كان عسى أن يحذر يوم عقد الألوية الأحد عشر وكانت مكانته قد توطدت بين المسلمين، بل بين العرب جميعا، بما أبدى من حزم وحسن رأي وصدق إيمان وحرص على التضحية كانت كلها بعض صفاته في جميع أدوار حياته، ثم بلغت أوج قوتها وصفائها في هذه الآونة التي جلل الشيب فيها رأسه بعد أن تخطى الستين وتولى خلافة رسول الله، لذلك لم يخامر أحدا الريب في مقاصده، ولم يتردد أحد في تنفيذ ما أمر به.
ولقد كان اللواء الذي عقده لخالد بن الوليد أمنع الألوية الأحد عشر وأقواها، وكان به خيرة المقاتلة من المهاجرين والأنصار، ولعل خالدا هو الذي اختارهم، وسترى من بعد أنهم أبلوا في حروب الردة خير بلاء، ثم كان لهم في حروب العراق والشام بلاء لا تبليه الأيام، ولا يجني عليه النسيان.
ولا عجب أن يكون ذلك شأن لواء على رأسه خالد بن الوليد، فقد كان خالد عبقريا في الحرب لا يغلب، آتاه الله موهبتها، كما آتى هذه الموهبة الإسكندر الأكبر، وجنكيز خان، ويوليوس قيصر، وهانيبال، ونابليون، كان بطلا مقداما وفارسا مغامرا، ثم كان له من سلامة الحكم وسرعته ما يجنبه كل خطر للمغامرة أو الإقدام، وكان مداورا في الحرب ألهم سرها وتجلى له ما جل ودق من أمرها، وكان الناس جميعا يشهدون له بهذا، وقد سماه رسول الله «سيف الله» حين تولى أمر الجيش «بمؤتة» بعد مقتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، فداور به في وجه الروم ثم ارتد به سالما ينتصر ولم يلحقه عار الهزيمة، وبقي خالد سيف الله في كل وقائعه إلى أن مات.
وكان خالد قبل إسلامه بطل قريش المغوار وفارسها المعلم، لذلك كان في وقائع بدر وأحد والخندق على جيش المشركين، وكان له من صفات الجندي خشونة في الطبع، وميل إلى الشدة والبطش وتسرع لولا سلامة حكمه لأضر به، من ثم كان لا يهاب الأقران ولا يخشى أحدا، لما ذهب رسول الله إلى مكة في عمرة القضاء بعد عهد الحديبية ثم عاد إلى المدينة، وقف خالد بن الوليد في جمع من قريش يقول: «لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق على كل ذي لب أن يتبعه.» ودار لذلك بينه وبين عكرمة بن أبي جهل حوار لم يبلغ العنف فيه مبلغا تخشى مغبته، ولم يكن أبو سفيان حاضرا هذا الاجتماع، فلما بلغه إسلام خالد بعث في طلبه وسأله أحق ما بلغه عنه، أجابه خالد إنه حق، وإنه أسلم، وشهد برسالة محمد؛ فغضب أبو سفيان وقال: «واللات والعزى لو أعلم أن الذي تقول حق لبدأت بك قبل محمد.» وكان جواب خالد في حدة المعتز بنفسه: «فوالله إنه لحق على رغم من رغم.»
ولحق خالد بالمدينة، فلم يلبث أن سمت مكانته بين المسلمين بوصفه محاربا، فلما كانت مؤتة كان سيف الله فيها، ثم كان سيف الله من بعد؛ فتح الله به العراق والشام وأذل به فارس والروم الإمبراطوريتين العظيمتين صاحبتي الأمر والنهي في شئون العالم يومئذ، فلا عجب أن يختاره أبو بكر أميرا على لوائه الأمنع، ولا عجب أن يكون لخالد في حروب الردة وما تلاها ما سنقص عليك نبأه من بعد.
هل سير أبو بكر هذه الألوية الأحد عشر للقتال أول ما تم تجهيزها؟ وهل سيرها كلها دفعة واحدة؟ ذلك ما يذكره بعض الرواة وإن دلت الوقائع على خلافه، لكنه على كل حال لم يسير أولها حتى بدأ بهجوم سلمي مهد به لها خير تمهيد، فقد أذاع في الناس من أهل شبه الجزيرة جميعا كتابا تحدث فيه إلى من بلغه هذا الكتاب من عامة أو خاصة، أقام على الإسلام أو رجع عنه، وقد بدأ هذا الكتاب بحمد الله والثناء عليه، وذكر بعثه محمدا بالحق من عنده بشيرا ونذيرا، ثم أشار إلى وفاة رسول الله بعد أن بلغ ما أمره الله أن يبلغه للناس، وأن الله قد بين ذلك لأهل الإسلام فقال:
إنك ميت وإنهم ميتون
ناپیژندل شوی مخ