ثلة وقربى، فلا جرم كان اتباعه النبي اتباعا صحيحا صادرا عن إيمان وبينة: إيمان يجعله مطمئنا إلى أنه لن يخطئ ما اتبع الرسول، وبينة تجعله يسلك الطريق التي يرى أن الرسول كان لا ريب يسلكها.
سمع الناس مقالة عمر بعد عوده إليهم بالجرف يبلغهم رسالة أبي بكر، فلم يكن لهم إلا الإذعان لأمر الخليفة طوعا أو كرها، وخرج أبو بكر بعد ذلك حتى جاء المعسكر، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب ليزيدهم لإمارة أسامة إذعانا وتسليما، وكأنما غلب أسامة الحياء أن يرى هذا الشيخ الوقور صاحب رسول الله وخليفته على المسلمين يسير إلى جانبه، ودابته من ورائه يقودها عبد الرحمن بن عوف، فقال: «يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن.» قال أبو بكر: «والله لا تنزل ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة!» فلما آن له أن يودع الجيش قال لأسامة: «إني رأيت أن تعينني بعمر فافعل.» فأذن أسامة لعمر أن يدع الجيش وأن يرجع مع أبي بكر.
لعمرك ما عسى أن يقول المتذمرون بعد هذا الصنيع وقد بايعوا أبا بكر بالأمس ليلي أمر المسلمين جليله ودقيقه! ... والذين أذعنوا من قبل كرها لم يسعهم بعد هذا التصرف الحكيم إلا أن يرضوا أو يتعرضوا للقالة ويتهموا بالأثرة، وكثيرا ما كان للخوف من رأي الغير فينا وحكمه علينا سلطان على تصرفاتنا وأعمالنا يعدل سلطان اقتناعنا الذاتي، وإن اختلفت البواعث وتباينت النيات.
وآن لأبي بكر أن يودع الجيش، فوقف في رجاله خطيبا وقال: «أيها الناس، قفوا أوصكم بعشر فأحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله، أقناكم الله بالطعن والطاعون.»
وقال لأسامة وهو يوشك أن يتحرك بالجيش: «اصنع ما أمرك به نبي الله
صلى الله عليه وسلم ، ابدأ ببلاد قضاعة، ثم ائت آبل، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده.»
وسار الجيش وعاد أبو بكر وعمر بن الخطاب إلى المدينة، سار هذا الجيش وقائده الشاب على رأسه يقطع البيد ويتخطى المفاوز في هذه الأيام الشديدة القيظ من شهر يونية، وبعد عشرين يوما من مسيرته بلغ البلقاء حيث تقع مؤتة، وحيث استشهد زيد بن حارثة وصاحبه جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة.
هناك نزل أسامة بعسكره فأغار على آبل، وبث خيوله في قبائل قضاعة، وقضى على كل من وقف في وجهه من أعداء الله وأعداء رسوله قضاء لا يعرف هوادة ولا رحمة، وكان شعار المسلمين وصيحتهم في الحرب ذلك اليوم: «يا منصور أمت.»
قتل المسلمون أثناء هذه الغزاة، وأسروا، وأحرقوا القرى التي قاومتهم، وغنموا ما شاء الله أن يغنموا. بذلك انتقم أسامة لأبيه وللمسلمين في مؤتة، وبذلك نفذ أمر رسول الله أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلا، وأن يحرقهم بالنار، وقد أتم ذلك دراكا فلم تسبق إلى أعدائه أنباؤه، فلما أتمه عاد بالجيش مظفرا إلى المدينة ممتطيا الجواد الذي مات أبوه عليه.
عاد بالجيش الظافر إلى المدينة، لم يغره النصر باقتفاء أثر أعدائه أو باقتحام تخوم الروم والتوغل في ديارهم، وعاد وقد زادت حداثة سنه في جلال انتصاره، وجعلت المهاجرين والأنصار الذين تذمروا من قبل لإمارته يحدثون مفاخرين بحسن بلائه وعظيم إقدامه، ويرددون مؤمنين قوله
ناپیژندل شوی مخ