وسكن الناس عن الرجلين وتولاهم اليأس من العثور عليهما، فخرجا من مخبئهما وارتحلا، يواجهان ما في الطريق من أخطار لا تقل عما تعرضا له بالغار، وحمل أبو بكر ما بقي له من ربح تجارته خمسة آلاف درهم، فلما بلغا المدينة وتلقى الناس رسول الله ببشر دونه كل بشر، بدأ أبو بكر حياته فيها كأي رجل من المهاجرين، وإن ظلت له مكانته من رسول الله، مكانة الخليل والصديق والوزير المشير.
ونزل أبو بكر بالسنح من ضواحي المدينة على خارجة بن زيد من بني الحارث من الخزرج، فلما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار كان أبو بكر وخارجة أخوين، وأدرك أبا بكر أهله وأبناؤه الذين كانوا بمكة فاستعان بهم على الحياة، فقد عملت أسرته - كما عملت أسرة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - في الزراعة في أراضي الأنصار، مزارعة مع ملاكها، ولعل خارجة بن زيد كان في هؤلاء الملاك؛ فقد توثقت الصلة بينه وبين أبي بكر من بعد، فتزوج ابنته حبيبة وجاءت منه بأم كلثوم، وكانت حبيبة حاملا بها حين وفاته.
ولم تقم أسرة أبي بكر معه بدار خارجة بن زيد بالسنح، بل أقامت أم رومان وابنتها عائشة وسائر أبناء أبي بكر بالمدينة، بدار تجاور دار أبي أيوب الأنصاري حيث نزل النبي، وكان هو يتردد عليهم، جاعلا معظم إقامته بالسنح مع زوجه الجديدة.
وبعد قليل من مقامه بالمدينة أصابته الحمى التي أصابت أكثر الذين هاجروا إليها من أهل مكة، بسبب ما بين موطنهم ومهجرهم من تفاوت في الهواء؛ فهواء مكة صحراوي جاف، وهواء المدينة رطب لكثرة ما فيها من مياه وزروع، يروى عن عائشة أن أباها أصابه من هذه الحمى رهق حتى لكان يهذي لشدة ما نزل به منها.
فلما اطمأن إلى موطنه الجديد، وإلى كدح أهله كدحا أغناه عن الأنصار، وجه كل همه إلى معاونة الرسول في تثبيت دعوته وتوطيد مركز المسلمين، لا يألو في ذلك جهدا ولا يضن بتضحية.
ولقد كان الغضب لا يعرف إلى هذا الرجل الوادع سبيلا إلا حين يرى خصوم الدعوى من اليهود والمنافقين يسخرون منها أو يكيدون لها، كان رسول الله قد عقد بين اليهود والمسلمين عهدا أن يكون لكل حرية الدعوة إلى دينه، وأن يباشر من شعائره ما يشاء، وكانت اليهود قد حسبت أول الأمر أنها قادرة على أن تكسب المسلمين من أهل مكة ليكونوا عونا لهم على الأوس والخزرج، فلما سقط في أيديهم وعجزوا عن التفريق بين المهاجرين والأنصار، بدءوا يكيدون للمسلمين ويسخرون من دينهم، اجتمع رهط من يهود على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ودخل عليهم أبو بكر فرآهم كذلك، فقال لفنحاص: «ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم! إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل.» قال فنحاص وعلى شفتيه ابتسامة السخر والتهكم: «والله، يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا!» وإنما يشير فنحاص بعبارته هذه إلى قوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة (البقرة: 245)، فلما رأى أبو بكر أن الرجل يستهزئ بقول الله ووحيه إلى نبيه، لم يملك نفسه أن ضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: «والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله!»
أليس عجبا أن تكون في أبي بكر هذه الحدة وهو من هو؛ لين طبع ورقة خلق ووداعة نفس، وأن تكون فيه وقد جاوز الخمسين!
وهذه الغضبة على فنحاص تذكرنا بغضبة مثلها، كانت له قبلها بأكثر من عشر سنين، ذلك حين غلبت الفرس الروم؛ والفرس مجوس، والروم أهل كتاب، فقد حزن المسلمون لتهكم المشركين بهم وزعمهم أن الروم غلبت؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم، وتحدث مشرك في الأمر أمام أبي بكر وألح في الحديث فاغتاظ أبو بكر وراهنه عشرة جمال على أن تغلب الروم المجوس قبل عام، ذلك يدل على أنه لم يكن شيء في الحياة يثير ثائرة أبي بكر أو يهيج غضبه إلا ما اتصل بعقيدته وبإيمانه الصادق بالله ورسوله، كان هذا دأبه وهو في الأربعين، وظل هذا دأبه حين جاوز الخمسين، وحين تولى الخلافة من بعد ودبر أمر المسلمين.
وهذا الإيمان الصادق قد ملك على أبي بكر كل مشاعره في كل أطوار حياته منذ اتبع الرسول، وأنت تستطيع أن تفسر كل أحواله وكل أعماله وتصرفاته إذا نظرت إليها من هذه الناحية المعنوية، أما ما خلاها فقد كان ضعيف الأثر عنده؛ فلا تجارته، ولا أسرته، ولا أهواؤه، ولا شيء مما يتأثر به الناس في الحياة ومما كان يتأثر به كثير من المسلمين في ذلك العهد، قد كان ذا سلطان عليه، بل كان قلبه، وكان عقله، وكانت روحه، خالصة كلها لله ورسوله، وكانت كلها الإيمان الذي بلغ من مراتب الإيمان عليها، مراتب الصديقين، وحسن ذلك مقاما!
ناپیژندل شوی مخ