1
حين ذكرته له وما تردد فيه.» وليس كل العجب أن محمدا ذكر له التوحيد ودعاه إليه فاستجاب له، بل أكبر العجب أن محمدا قص عليه حديث حراء والوحي الذي نزل عليه، فلم يتردد في تصديقه، وإنما يزيل عجبنا، أو يخفف منه، أن أبا بكر كان من حكماء مكة الذين يرون عبادة الأصنام حمقا ومينا، وأنه كان يعرف من أمر محمد وأمانته وصدقه ورجحان عقله ما لم يدع في نفسه موضعا للريبة فيما قص عليه مما رأى وسمع، وبخاصة لأنه رأى في هذا الذي قصه الرسول عليه ما يتفق وموجب الحكمة وما لا يتردد العقل في تصديقه والأخذ به، على أن ما يزول من عجبنا لا يغير من تقديرنا جرأة أبي بكر في إقدامه ومجاوزته المعروف للناس في موقف دعا غيره ممن وجهت الدعوة إليهم للنظر والتردد والتماس الأناة والروية، وجرأة أبي بكر وإقدامه أجدر بالتقدير؛ لأنه كان تاجرا تقتضيه تجارته الحساب لصلاته بالناس وعدم مواجهتهم بما يخالف مألوف آرائهم وعقائدهم خشية ما يجره ذلك على معاملاته من سيئ الأثر، فما أكثر الذين لا يؤمنون بالكثير من آراء الناس ويرونها مينا باطلا وحديث خرافة، ثم يكتمون ذلك أو يتظاهرون بنقيضه التماسا للعافية، وجرا للمنفعة، وحرصا على ما بينهم وبين الناس من تجارة، وأنت لا تجد هذا النفاق في سواد الناس وعامتهم ما تجده في الخاصة والمثقفين منهم، بل إنك لتجده فيمن نصبوا أنفسهم لزعامة الناس والإبانة لهم عن وجه الحق في الحياة، لا جرم، وقد كان موقف أبي بكر منذ اللحظة الأولى ما ذكره رسول الله، أن يكون موضع التقدير غاية التقدير، والإعجاب غاية الإعجاب.
وقيام أبي بكر بالدعوة إلى الإسلام أدعى إلى العجب، فلعل تاجرا مثله يقتنع بصدق محمد كان يقنع بتصديقه سرا ولا يظهر الناس على شيء من أمره حتى تظل تجارته متصلة، ولعل محمدا كان يقنع منه بذلك ويحمده له، فأما أن يظهر أبو بكر إسلامه، وأن يدعو إلى الله ورسوله، وأن يصل من دعوته إلى إقناع المسلمين الأولين بتصديق محمد ومتابعته على دينه، فذلك ما لا عهد للناس به إلا فيمن سمت أنفسهم إلى حيث تقدر الحق لذاته، وترتفع به فوق منافع الحياة، وترى في تأييده والدعوة إليه ما يصغر من شأن الدنيا وعرضها وإن عظم، ولقد كان ذلك شأن أبي بكر في صحبته محمدا منذ أسلم إلى أن اختار الله محمدا، وإلى أن توفي أبو بكر من بعده.
وإني لأذكر ما كان لإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب من أثر في توطيد كلمة الإسلام، وكيف أيد الله بهما دين الحق، لما عرف عنهما من قوة بأس، ومضاء عزم، وصلابة تخيف من يناوئها، ثم أذكر الصديق وإسلامه فلا أتردد في القول بأنه أول من أيد الله به دينه، فهذا الرجل الرضي النفس، الوديع الخلق، الرقيق الطبع، حتى لتسرع الدمعة إلى عينه لمرأى الألم يصيب غيره، قد بلغت قوة إيمانه بالدين الجديد، وبالرسول الذي جاء به من عند الله، مبلغا لا تدانيه قوة ولا يتغلب عليه سلطان، وهل كقوة الإيمان في الحياة شيء! وهل كسلطانه في الحياة سلطان! والذين يحسبون أن قوة البطش وسلطان البأس لهما في الحياة الأثر البالغ يتورطون في أفحش الخطأ، فالنفس الراضية المطمئنة إلى إيمانها بالحق، الداعية إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، المتخذة من وداعة الخلق، ورقة الطبع، ومشاركة الضعيف والبائس في ألم البؤس والضعف في غيرها من النفوس فتطبعها بطابعها وتصوغها على غرارها، ولقد كان ذلك أثره (رضي الله عنه) في السنوات الأولى من الدعوة المحمدية، وبقي ذلك أثره إلى أن تولى الخلافة وإلى أن مات.
فهو لم يقف من تأييد الدعوة عند التحدث إلى أصحابه وإقناعهم بها، ولم يكفه أن يبذل للضعفاء والبائسين من رضا نفسه ووداعة خلقه ما يعزيهم عما كان خصوم الدعوة يرهقونهم به من أذى وتعذيب، بل كان ينفق من ماله، وكان يصطفي بهذه النفقة أولئك الضعفاء والبائسين ممن هداهم الله إلى الحق فأذاقهم أعداء الحق الضر وابتلوهم بألوان البأساء، وحسبك أن تعلم أنه كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته، وأنه أقام بعد إسلامه يتجر فيجني وارف الربح، فلما هاجر إلى المدينة بعد عشر سنوات لم يكن له من ذلك كله غير خمسة آلاف درهم، أما سائر ما كان عنده وما ادخر من بعد، فقد ذهب في سبيل الدعوة إلى الله والدعوة لدينه ولرسوله، وأيسر ذلك ما افتدى به الضعفاء والأرقاء الذين أسلموا، فعذبهم سادتهم بإسلامهم، وأذاقوهم الهون ألوانا.
رأى أبو بكر يوما بلالا الحبشي قد ألقاه سيده على الرمل في لظى الشمس، ووضع حجرا على صدره وتركه ليموت؛ لأنه أسلم، ولم يزد بلال وهو في هذه الحال على أن يكرر «أحد أحد»، عند ذلك اشتراه أبو بكر وأعتقه، وعذب عامر بن فهيرة، فاصطفاه أبو بكر راعيا لأغنامه، واشترى كثيرا كذلك من الموالي الذين يعذبون، رجالا ونساء، وأعتقهم.
على أن أبا بكر لم يسلم من أذى قريش، كما لم يسلم محمد من هذا الأذى، على رغم مكانته من قومه ومنع بني هاشم له، ولم ير أبو بكر قريشا تؤذي محمدا إلا وقف دونه وعرض حياته للذود عنه، روى ابن هشام أن شر ما نال قريش من رسول الله قد كان بعد أن عاب دينهم وسب آلهتهم، فقد اجتمعوا في الحجر يوما «فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : نعم! أنا الذي أقول ذلك، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر (رضي الله عنه) دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط .»
وليس هذا الموقف شيئا إلى جانب غيره من المواقف التي تجلى فيها إيمان أبي بكر بمحمد وبرسالته إيمانا لا يلين ولا يتزعزع، وهذا الإيمان هو الذي جعل غير واحد من المستشرقين يتراجع دون اتهام النبي بما يتهمه به غلاتهم، فما كان أبو بكر في رزانته ورجاحة عقله ليصل إلى هذا الإيمان لو لم يتنزه كل عمل من أعمال الرسول عن كل شبهة، وبخاصة في ذلك الوقت الذي كان الرسول فيه موضع الاضطهاد من قومه، وهذا الإيمان الذي امتلأت به نفس أبي بكر هو الذي وقى الإسلام أن ينصرف الناس عنه عندما حدثهم رسول الله بحديث الإسراء.
ناپیژندل شوی مخ