بازان الفارسي على حكم اليمن، ولم يكن الناس يتفاوتون عند رسول الله لعروبتهم ولا لمكانة قبائلهم، وإنما كانوا يتفاوتون بأعمالهم، وكان من أصحاب مشورة رسول الله ومن أولي الرأي بين المسلمين شبان أبرزهم إلى الصف الأول حسن إيمانهم وجميل بلائهم في سبيل الله، وكانت سيرة رسول الله هذه بعض ما أمر الله به في كتابه؛ إذ فاضل بين الناس بالتقوى، وإذ جعل جزاءهم رهنا بعملهم، وإذ رفع بعضهم فوق بعض درجات بهذا العمل وهذه التقوى، لا جرم، وتلك سنة رسول الله، أن يخفف العرب من غلواء نعرتهم الجنسية، وإن أقاموا على اعتزازهم بها، وإن جعلوا اصطفاء الله نبيه من بينهم حجتهم على سمو مكانتها، ولا جرم أن يتخذ أبو بكر من هذه المساواة الإسلامية بين الناس وبين الأجناس سنته، فتكون القوة التي تنهزم أمامها جيوش الفرس وجيوش الروم.
وأدرك أبو بكر بإلهامه أن الإسلام إمبراطوري في جوهره، فالدعوة إليه لم تنحصر في العرب، بل هي دعوة إلى الحق موجهة إلى الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، أما وذلك مداها، وقد وجه النبي رسله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى دين الله، فحق على كل من آمن بهذا الدين أن يدعو إليه، وأن ينشر كلمته هدى للناس ورحمة، ولكل مسلم في رسول الله أسوة حسنة، لقد أذاع رسول الله الدعوة في الناس على اختلاف أجناسهم، فلينشر خلفاؤه هذه الدعوة في أنحاء الأرض جميعا، وليجاهدوا في سبيل حريتها، لا يستكرهون أحدا ولا يقبلون من أحد أن يصدهم عن الحق الذي اهتدوا إليه، وليجعلوا العالم كله ميدان دعوته إلى هذا الحق وإن أصابهم في سبيل الله ما أصابهم؛ فإن استشهدوا فلهم عند الله جزاء الشهداء.
هذه المبادئ الجوهرية التي قامت دعوة النبي العربي على أساسها، والتي أدركها أبو بكر أدق الإدراك بإلهامه لما كان من صحبته رسول الله وتشبعه بتعاليمه، هي التي طوعت للصديق أن يذلل ما استفتح عهده من صعاب وأن يتغلب عليها، وهي التي أسرعت بالإمبراطورية الإسلامية إلى أنحاء العالم وأظلت أمما كثيرة منه بلوائها، ولقد ظلت هذه الأمم أجيالا متعاقبة ناهضة بعبء الحضارة في العالم، ثم أدركها الهرم الذي يدرك الأمم والإمبراطوريات، ثم تولتها السنة الطويلة التي تقابل موت الأفراد.
أفيرجع هذا الهرم ثم هذه السنة الطويلة إلى أن المبادئ الجوهرية تبين فسادها، أم يرجعان إلى أن الأمم التي انحلت عن الإمبراطورية الإسلامية جحدت هذه المبادئ وأخذت بنقيضها فأصابها الهرم والاضمحلال بصنيعها؟! ذلك كل تاريخ الإمبراطورية الإسلامية في قيامها وعظمتها وتدهورها، وهو تاريخ جدير بأن يدور على طريقة من البحث العلمي الوثيق الذي لا يعرف التعصيب ولا يرضاه، والذي يرمي إلى تحليل الحوادث وردها إلى أسبابها تحليلا يقره العقل ويتفق لذلك وما ركب في الطبيعة الإنسانية من نزوع روحي إلى الكمال، ومن تشبث مع ذلك بأهداب هذه الحياة الدنيا تدعونا إليه أهواؤنا وشهواتنا، فتحول بيننا وبين إدراك الغاية التي نبغي من هذا الكمال.
لا أراني في حاجة إلى أن أقول إن هذا الهرم وهذه السنة يرجعان إلى جحود الأمم التي انحلت عن الإمبراطورية الإسلامية للمبادئ الجوهرية التي قامت هذه الإمبراطورية على أساسها، مبادئ الإسلام في صفاء جوهره، ذلك أمر يلمسه المحقق المنصف لتاريخ هذه الإمبراطورية، ويراه في أطواره المتصلة منذ بدأ الخلاف بين المسلمين من أهل شبه الجزيرة إلى أن جسمت الفرقة بين العرب والعجم شقة هذا الخلاف، وفتحت به الأبواب واسعة للتدهور والانحلال.
ليس يتسع هذا التقديم لتفصيل هذا الأمر ولا لإجماله، فحسبي هذه الإشارة إليه، ولأقف هنا في حدود العهد القصير العظيم، عهد الصديق أبي بكر، ولأسجل ما كنت أشعر به من فيض المسرة حين تأريخي له، وأكبر رجائي أن أكون فيما كتبت عنه قد أرضيت في نفسي حب الحق، وبلغت بعض ما أردت من رسم الصورة التي حاولتها دقيقة، فيها من الحياة ما يبعث الماضي مجلوا على صفحة الحاضر، وأقول بعض ما أردت؛ لأنني كنت أحس دائما أن هذه الصورة ينقصها شيء غير قليل من الكمال لم يتسن لي أن أصل إليه لأسباب مختلفة.
وإنني لتضاعف غبطتي لو أن كتابي هذا نقل إلى نفس قارئه صورة واضحة من عهد الصديق خليل النبي العربي وصفيه، قد يشوب مطمعي هذا بعض الغلو، فلعهد الصديق - كما قدمت - صورة خاصة تامة التكوين يستشفها الإنسان من خلال ما كتب عنه ويتصورها في كمال بهائها، لكن البلوغ بصورة ما حد الكمال محتاج إلى جهد متصل يتعاقب على الأجيال، ويتناوله التمحيص من نواحيه المختلفة، ولم يبذل من الجهد في أمر الصديق وعهده ما يدني من هذا الكمال؛ فهو لا يزال مفتقرا إلى جهود جديدة يتضافر فيها البحث والتمحيص مع الموازنة بالعصر الذي عاش الصديق فيه، وبحياة الأمم صاحبة الأثر في هذا العصر، ولست في ريب من أن هذه الجهود ستبذل عما قريب، وستعاون على تمام الصورة التي تظهر هذا العهد واضحا، مجلوة بينة تفاصيله.
وعهد الصديق أحوج إلى هذا الجهد من غيره من العهود، فالمراجع العربية القديمة التي تتحدث عنه يشوبها اضطراب يجعل تتبع الحوادث المروية فيها عسيرا في بعض الأحيان كل العسر، ثم إنها كثيرا ما تثبت روايات هي أدنى إلى الخرافة منها إلى التاريخ، وقد يجد الإنسان في موازنة بعض هذه المراجع ببعض ما يعينه على تمحيص الحوادث، لكنها تتواتر روايتها أحيانا لحوادث يقف الإنسان منها موقف الحيرة، فلا يسعه أن يثبتها مع الإشارة إلى ما يخالجه من الريبة فيها.
وإني لأجد للمؤرخين الأولين أبلغ العذر عما شاب رواياتهم من اضطراب كان له أثره في جهود من بعدهم إلى عصرنا الحاضر، فهذه الفترة التي تولى الصديق فيها أمر المسلمين كانت فترة جهاد أي جهاد، حمل فيها كل من آمن بالله ورسوله عبئا عظيما لتأييد الدعوة إلى دين الله وما جاء به رسوله من عنده، اندفع هؤلاء جميعا إلى ميادين النضال، يجاهدون في سبيل الله، يقتلون ويقتلون، مستهينين بالحياة ونعمائها، مؤثرين البأساء، صابرين على الضراء، واهبين أنفسهم لله، لا يبتغون عن جهادهم أجرا إلا مثوبته جل شأنه، لم يكن يوم من أيامهم ينقضي في طمأنينة أو أمن، ولم يكن أحد منهم يفكر في أمسه؛ لأن غده يطالبه بأكثر مما عمل في ذلك الأمس، لذلك لم يفرغ أحد لتدوين ما حوته هذه الفترة من جسام الحوادث تدوينا منظما؛ وإنما تناقل الناس من بعد أنباءها يرويها بعضهم لبعض، ويتناقلها عن بعض، ثم لا يروونها ويتناقلونها بمثل ما يروون به ما حدث في عهد الرسول من تقديس وإجلال، وكيف يفعلون وقد كانوا في شغل متصل بالفتح وتنظيم الإمبراطورية التي تزداد كل يوم فسحة وسعة!! لذلك كان لا بد لمؤرخ هذا العهد من تقليب الروايات وموازنتها واقتناص الحقيقة من خلالها، وهذا جهد شاق حاوله الأقدمون على طريقتهم، ومع تقديرنا لجهدهم وإكبارنا لشأنهم، فإنهم لم يبرزوا عهد الصديق وحكمه في صورة يجلو وضوحها ما انطوى عليه من قوة تقف النظر وتبهر اللب وتثير في النفس غاية الإعجاب.
وحسبك أن ترجع إلى سجل المراجع التي أخذنا عنها هذا الكتاب، وأن تتلو فصوله لتقدر مبلغ الدقة فيما نقوله عن المتقدم منها، فبعض هذه المراجع لا يتعرض - إلا لماما - لأمور جليلة الخطر ترويها المراجع الأخرى مفصلة أدق التفصيل، فالطبري وابن الأثير والبلاذري لا يكادون يتعرضون لجمع القرآن؛ وجمع القرآن من جلائل الأعمال التي ازدان بها عهد الصديق إن لم يكن أجلها، وما يتعرض له هؤلاء المؤرخون من رواية الحوادث عن حروب الردة وعن فتح العراق ثم فتح الشام يقع عليه الخلاف بينهم، بل ترد الروايات المختلفة في أمره في الكتاب الواحد من كتبهم، حتى ليحار الإنسان أي الروايات يأخذ وأيها يدع، والخلاف على الزمن الذي حدثت فيه الوقائع لا يقل عن الخلاف في تصوير الوقائع جسامة، وكثيرا ما يكون تحديد التاريخ لبعض هذه الوقائع مغامرة لا تستند إلى أساس يمكن الاعتماد عليه في شيء من الدقة، ونسبة بعض الحوادث إلى بعض محير كذلك، فالطبري يروي أن حروب الردة وقعت في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأن فتح العراق تم في السنة الثانية عشرة، وأن فتح الشام تم في السنة الثالثة عشرة، وأنت تكاد تظن إذ تقرأ هذا التعاقب الزمني أن فتح العراق لم يبدأ إلا بعد الفراغ من حروب الردة، وأن فتح الشام لم يبدأ إلا بعد أن استقر الأمر في العراق، لكن شيئا من التدقيق في مراجعة الحوادث ووقوعها لا يلبث أن يحملك على الريبة في هذا التعاقب، فإذا زدت في التدقيق تبينت أن فتح العراق بدأ وحروب الردة لا تزال قائمة، وأن فتح الشام بدأ في أعقاب حروب الردة وجيوش خالد بن الوليد لا تزال تعالج إقرار السكينة في العراق وتتوقع غزوات فيه جديدة.
ناپیژندل شوی مخ