أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
السيد
السيد
تأليف
بيار كورناي
ترجمة
خليل مطران
أشخاص الرواية
دن فرناند:
ملك مقاطعة قشتالة.
دن دياج:
والد «لذريق» ومرشد لأمير قشتالة.
دن غوميز (الكنت):
سيد مقاطعة جورماس ووالد «شيمان».
دن ردريك (لذريق):
حبيب «شيمان» ويود الاقتران بها.
دن سنش:
ينافس «لذريق» في حب «شيمان».
دن أرياس ودن ألنس:
شريفان من أشراف المقاطعة.
دونا أوراك:
بنت الملك دن فرناند ملك «قشتالة» وتنافس «شيمان» في حب «لذريق».
شيمان:
بنت «الكنت دن غوميز».
ليونورة:
مربية «بنت الملك».
الفيرة:
مربية «شيمان».
وصيف .
القرن: السابع عشر.
الفصل الأول
المشهد الأول
شيمان والفيرة
شيمان :
أي الفيرة، هل خبرتني الخبر اليقين، ولم تخف علي شيئا مما قاله أبي؟
الفيرة :
كل جوارحي ما زالت تهتز طربا لما سمعته منه، وإن مكان لذريق من رعايته كمكانه من حبك، فإن لم أكن قد خدعت في استطلاع طلع
1
نفسه، فهو سيتقدم إليك بأن تجيبيه إلى هواه.
شيمان :
إذن أعيدي علي، ولك الشكر، ما استدللت منه على أنه يستصوب اختياري، ثم زيديني علما بما أنوط به أملي، فليس هذا الحديث العذب مما يمج تكراره، وما من بشرى أحب إلي وإلى من أحب، من بشرى انطلاق اللواعج
2
الكمينة فينا يوما، وشبوبها في الرائعة،
3
وبم أجابك عن المنافسة اللطيفة التي يتنافسها لديك دن سنش ودن لذريق؟ أولم تظهري له، بما ينفي كل ريب، ما بينهما من تفاوت يجنح بي إلى أحدهما؟
الفيرة :
لا، بل وصفتك له وصف الواقفة منهما موقفا لا يشيد أملا ولا يهدم أملا، والناظرة إليهما نظرات لا مجافية ولا مواتية، ترقب أمر أبيها في اصطفاء قرين لها. ولقد سرته منك هذه الرعاية لشأنه سرورا تجلت آياته وشيكا على فمه ومحياه. وما دمت مشوقة إلى سماع ما أردده من هذا الحديث فدونك ما قاله لي عاجلا عنك وعنهما: «هي في حد الواجب، وكلاهما كفء لها، كلاهما من عنصر كريم فيه الشجاعة والوفاء وكلاهما مقتبل الشباب، تتلألأ في عينيه زواهر الفضائل التي تحلى بها أجداده الأمثلون، أخص بالذكر دن لذريق، فما من مخيلة في وجهه إلا وهي أجمل صورة لمروءته، تحدر من أصل كثر فيه عديد أحلاس
4
الحرب، حتى لكأنهم يولدون بين أغصان الغار، أبوه تفرد في زمانه، بين أقرانه الصناديد، ببأس لزمه ما لزمته قوته، فضربت به الأمثال، خطت معاركه آياتها غضون جبهته، فهي تحدثنا إلى اليوم عما كان شأنه في عصره، ورجائي أن أرى من الولد ما رأيته من والده، فلا حرج على بنيتي من قبلي أن تمنحه هواها.» قال هذا وقد حانت ساعة انصرافه إلى المجلس، فقطعت ذلك الحديث قبل مضيه فيه، ولكنني أستخلص من هذه الكلمات القلائل أن فكره غير متردد كثيرا بين الخاطبين. ينظر الملك اليوم في اختيار مرشد لابنه، والى أبيك سيسند هذا المقام السامي، ذلك لا ريب فيه، فإن لم يكن له نظير في البأس والإقدام فهو اليوم بلا مناظر، وحقيق به أن يقلد ذلك المنصب. ولما كان دن لذريق قد أقنع أباه بمفاتحة أبيك في هذا الشأن عند انقضاض المجلس، فاغتبطي بحسن انتهازه للفرصة، وابتهجي بتحقيق آمالك عن كثب.
شيمان :
بيد أنه يغشى نفسي من الريب ما يغشى، فهي تخشى هذا السرور، وتنوء بوقره.
قد تطرأ طارئة بنت ساعتها تغير وجوه الأقدار.
وإنني لأوجس خيفة من فشل كبير ينجلي عنه هذا السعد الكبير.
الفيرة :
سترين كيف تنجلي خشية الفشل عن برد الأمل.
شيمان :
هلمي بنا نرقب المصير، وليكن ما يشاء الله.
المشهد الثاني
بنت الملك وليونورة ووصيف
بنت الملك :
اذهب يا وصيف إلى شيمان من قبلي، ونبهها إلى أنها اليوم تباطأت عن زيارتي، وأبلغها أن مودتي تأخذ عليها تمهلها. (يتوارى الوصيف)
ليونورة :
مولاتي، تجد بك الرغبة كل يوم، فتسألين شيمان - ما لقيتها - عما أفضت إليه في غرامها.
بنت الملك :
لا أسألها لغير ما سبب، أنا التي أهدفتها أو كادت للسهام التي أدمت مهجتها، فهي تحب دن لذريق وأنا التي أهدته إليها، وعلى يدي تمكن أن يستنزلها من معتصمها، فأما وقد أبرمت بينهما أسباب هذا الغرام، فيعنيني أن أرى نهاية ما يكابدان من الجوى.
ليونورة :
على أنك يا مولاتي كلما لاحت بارقة نجاح تبدين أسفا حتى يعود جزعا، فهل ذلك الحب الذي يملأ قلبيهما جذلا يوقد في قلبك جذوة تمس الصميم؟ وهل تلك العناية السمحة بهما تشقيك في حين تسعدهما؟ أراني قد جاوزت حدي، وأفضيت إلى الفضول.
بنت الملك :
يضاعف حزني أنني لا أبوح به. أصغي إلي - نفد صبري - واعلمي أي جهاد جاهدت، وأي كفاح ما زلت أكافح حتى لا تخونني عزيمتي. الغرام طاغية لا يبقي على أحد، وهذا الفارس المقتبل الشباب، هذا العاشق الذي أهديه إلى سواي أحبه.
ليونورة :
تحبينه!
بنت الملك :
ضعي يدك على قلبي، وتحسسي كيف يخفق لذكرى مالكه وكيف يعرف سلطانه عليه.
ليونورة :
اغتفري لي يا مولاتي أن أتخطى واجب الإجلال، وأخطئك في هذا الهوى؛ أتتمادى أميرة عظيمة في تناسي مقامها حتى تفسح مكانا في قلبها لفارس من عامة الفرسان؟ وماذا يقول الملك؟ وماذا تقول قشتالة؟ أتذكرين، أم غاب عنك بنت من أنت؟
بنت الملك :
أذكر ذلك، ولن يغيب عني أو أسفك دمي قبل أن أسف
5
إلى ما دون منزلتي، على أنني لو التمست المعاذير لصبوتي لأجبتك بأن من أبلغته نفسه العلياء حقيق بأن يقع له من ذوات النفوس الزكية ما لا يقع منهن لأنداده بالمناسب، ولاستعنت بألف مثل شهير على الترخص في هذه الاستباحة، غير أنني لا أريد أن أقتدي بقدوة تمس شرفي، ولن أمكن سورة حواس من التغلب على إبائي، بل أقول لنفسي في كل آن إنني بنت ملك، وإن كل رجل ما لم يكن رب تاج غير كفء لي، فلما وجدت أن قلبي قد أوشك أن يفقد منعته، أعطيت بيدي ما لم أكن لأجسر على أخذه بيدي، فجعلت شيمان بمكاني منه، وقيدتها بقيوده، وأوقدت نيرانهما لأطفئ نيراني، فلا تعجبي من أن نفسي المعذبة ترقب قرانهما بذاهب الصبر.
ومن ثم ترين أن راحتي بعد اليوم منوطة بهذا الزواج. يحيا الحب بحياة الأمل، ويموت بموت الأمل.
هو ضرام
6
يأكل نفسه إن لم يجد ما يأكل. لشد ما أعانيه من تبريح المحنة التي أنا فيها، فإذا عقد لشيمان على لذريق يوما قضي على أملي، وشفي عقلي.
على أنني في هذه الأثناء أكابد ما لا تدركه الظنون، وإلى أن يتم ذلك القران سيظل لذريق هواي، أعمل لفقده، وأجزع لفقده، ومن هنا مبعث شجوني، وإن أخفتها شئوني.
فواحر قلباه من الغرام، يصعد أنفاسي الحرى شوقا إلى من أزدريه، أشعر بقلبي وقد انشق شغافه، فشطر بالشجاعة علا، وشطر بالصبابة استعر.
هذا الزواج قضاء علي فأخشاه وأتمناه، وغاية ما آمل منه ليس إلا سرورا منقوصا.
شرفي وحبي يتنازعان لبي.
وسواء علي أتم ذلك القران أم لم يتم، فإن نهاية حياتي إحدى النهايتين.
ليونورة :
بعد هذا يا مولاتي لم يبق لي ما أقول سوى أنني أجد ما تجدين وآخذ من حزنك بنصيب.
كنت لك عاذلة فأصبحت عاذرة. وما دام في هذا المعترك العذب المرير لك جلد تدرأين به صدمات الهوى، وتبطلين سحره، فهو سيعيد إليك صفاءك، ويجمع شتيت أفكارك، فارجي منه كل خير بمعونة الزمن، وارجي كل خير من الله جل عدله عن الإغضاء عنك طويلا، وأنت تعانين ما تعانين في الذود عن عرضك.
بنت الملك :
أشهى رجاء إلي هو أن أبقى بلا رجاء.
الوصيف :
امتثالا لأمرك حضرت شيمان.
بنت الملك (إلى ليونورة) :
اذهبي واجلسي إليها في هذا الرواق.
ليونورة :
أتبغين أن تمضي في هيام فكرك؟
بنت الملك :
لا، وإنما أبغي على الكره مني خلوة يسيرة لتطرية وجهي وسألحق بك.
يا رباه، من أية يد أستمد دوائي، أدركني من شقوة تمادت ورفه عني. أعد إلي السكينة، وأيد شرفي. أنا أنشد سعادتي في سعادة غيري. نحن ثلاثة يعنيهم هذا القران في آن، فعجل تحقيقه أو شدد عزيمتي، فإن ارتباط هذين العاشقين برباط الزواج يحطم قيودي ويمسح آلامي. أبطأت على شيمان فلأمض للقائها، ولأروح عني بحديثي معها.
المشهد الثالث
الكنت ودن دياج
الكنت :
لقد آل إليك الحظ الأوفر، ورفعتك نعمة الملك إلى منصب كنت أنا الأحق به، فجعلك مرشدا لأمير قشتالة.
دن دياج :
هذا الشرف الذي أكرم به أسرتي يدل على أنه عادل، ويقدر ما قدمت من الخدمة حق قدره.
الكنت :
مهما يكن الملوك كبارا فهم ونحن شيء أحد، يجوز أن يخطئوا كما يخطئ سائر الأنام، وهذا الاختيار دليل لدى جميع المقربين على أن الملوك لا يحسنون جزاء الخدم العتيدة.
دن دياج :
لندع الكلام في اختيار يثير بك الحفيظة، فقد يكون عن عطف، وقد يكون عن جدارة، وعلى الحالتين يجدر بنا، إجلالا للسلطان المطلق، ألا نبحث في أمر وقد أراده الملك. أتزيدني شرفا على الشرف الذي أضافه إلي الملك فتصل بين بيتي وبيتك بصلة مقدسة؛ ليس لك إلا بنت، وليس لي إلا ولد.
فإذا اقترنا سمت صداقتنا إلى قربى لا تنفصم. أولنا هذا الفضل واتخذ ولدي صهرا لك.
الكنت :
حقيق بهذا الشاب الجميل أن ينظر إلى ما هو أسمى، وخليق بالبهرج الجديد الذي زانك به منصبك أن يشغل قلبه بمطمع، فامض في شأن منصبك يا سيدي، وأرشد الأمير، أره كيف يصرف شئون دولته، ويخضع شعوبا عن يد لأحكام قانونه، ويفعم قلوب الأخيار محبة، وقلوب الأشرار رهبة. ثم أضف إلى تلك الفضائل مزية قائد الجيوش فبين له كيف يجب أن يصبر على المكاره، وأن يتفوق على الأنداد في صناعة القتال، وأن يقضي الأيام والليالي الطوال على صهوة جواده، وأن يستريح مثقلا بأسلحته، وأن يخترق الأسوار، وأن يأبى النصر إلا وهو كاسبه.
دربه بقدوتك، وأبلغه إلى الكمال، شارحا له دروسك بوقعات يشهدها، وشواهد منك تؤيدها.
دن دياج :
حسبه أسوة - وإن كره الحاسدون - أن يطالع سيرتي وجريدة أحسابي، ويتابع السلسلة الطويلة من جسام فعالي فينجلي له كيف يروض الشعوب من عصيان، ويهاجم الحصون ويعبئ الفيالق، ويشيد شهرته البعيدة على ملاحم مجيدة.
الكنت :
إن للقدوة الحية لسلطانا آخر.
لا يحسن الأمير استذكار واجبه أن يقرأه في كتاب. وبعد، فهل فعلت في ذلك الردح الطويل من دهرك ما لم تضارعه فعالي في يوم من أيامي، لقد كنت شجاعا وإني لكائنه اليوم، هذا الساعد هو أقوى ركن للمملكة.
ترتعد غرناطة والأرغون حين أنتضي حسامي.
ويقوم اسمي مقام السور المنيع دون قشتالة. لولاي لانتقلتم عاجلا من ولاية قوم إلى ولاية آخرين، ولأصبح أعداؤكم بين ليلة وضحاها ملوكا عليكم.
كل يوم أو بعض يوم يضيف إلى مجدي غارا فوق غار، وفوزا بعد فوز. ولو وجد الأمير بجانبي في الحومات لارتاض بأسه في ظل ذراعي، ولتعلم النصر وهو يشهد نصراتي، ولاستكمل وشيكا خلقه العظيم برؤية ...
دن دياج :
أعرف أنك تحسن القيام بخدمة الملك، وقد نظرتك تكافح وتقود الجنود تحت إمرتي، فلما علت سني، وأسال الشيب صقيعه في أعصابي، أحلتك بسالتك النادرة إحلالا كريما في مكاني، وعلى الجملة وتنكبا عن الفضول، إنما أنت اليوم ما كنت أنا بالأمس، غير أنك رأيت في سانحة هذا اليوم أن الملك وجد موضعا للتمييز بيني وبينك.
الكنت :
قد غصبت مني ما كنت به أولى.
دن دياج :
إنما آب بالغنم من كان به أولى.
الكنت :
كان الأقدر على هذه المهمة بتوليها أجدر.
دن دياج :
لأمر ما لقيت المنع بدلا من المنح.
الكنت :
أظفرك بالمنصب ظهراؤك
7
لقدم عهدهم بالزلفى.
8
دن دياج :
لم يكن لي ظهيرا إلا ما سطع من آيات إقدامي.
الكنت :
لنذكر بالأحرى أن الملك راعى كبر سنك.
دن دياج :
إذا منح الملك رفعة قاسها إلى الكفاية.
الكنت :
ومن ثم كنت أحق منك بتلك الرفعة.
دن دياج :
من لم يحرزها لم يكن أهلا لها.
الكنت :
لم يكن لها أهلا ... أأنا؟
دن دياج :
أنت.
الكنت :
دونك أيها الهرم الجسور جزاء قحتك. (يلطمه على وجهه)
دن دياج (آخذا سيفه بيده) :
أنجز وأجهز علي بعد هذه الإهانة. هي أول وصمة ندى لها جبين في أسرتي.
الكنت :
ما أنت فاعل مع ما يقعد بك من العجز؟
دن دياج :
يا رباه، إن قوتي المتلاشية لتخونني في هذا الموقف.
الكنت (مسقطا بطرف سيفه سيف خصمه) :
سيفك لي ... ولكنك قد تفخر وتزهى لو حملت بيدي هذا السلب المخجل. وداعا ... أقرئ الأمير - وإن كره الحساد - سيرة حياتك لاستكمال تهذيبه، وهذا العقاب الذي عوقبت به عن هجرك في القول لا يدع أن يزيد تلك السيرة حلية صغيرة.
المشهد الرابع
دن دياج
دن دياج :
يا للحنق ... يا لليأس ... يا للشيخوخة القهارة ألم تمتد بي أيامي إلا لتعلق بي هذه السبة، أو لم أشب متمرسا بآفات الحروب إلا لأرى في يوم كل ما علاني من أكاليل الغار ملطخا بالعار.
أساعدي الذي تكبره إسبانيا جميعا، أساعدي الذي أنقذ هذه المملكة من كل كريهة، وثبت عرش صاحبها كلما تداعى، يخونني اليوم في خصومتي ولا يجديني فتيلا؟
يا للذكرى الأليمة، ذكرى مجدي السالف الذي بني في أيام عداد، وتقوض في يوم واحد.
يا منصبي الجديد الذي كبا به طالع سعدي، فكان مهبطا باذخا سقط من عليائه شرفي.
أحق علي أن أرى الكنت بعدوانه يطفئ سناك، وأن أموت بلا انتقام أو أعيش في شنار؟
أيها الكنت، كنت بعد هذا اليوم مرشد أميري.
هذا المقام السامي لا ينفسح لرجل ثلم
9
شرفه.
حفزك الحسد والكبرياء فكسوتني سبة نحتني عن ذلك المنصب ولم يغن عني معها اختيار الملك.
فأنت أيها النصل الذي كنت أداة مجيدة لحملاتي أصبحت زينة غير مجدية لجسم قد خمدت عزيمته.
أيها الحديد الذي هابه الأعداء قديما، وفي هذه المذلة وجدته حلية للبهرجة لا أداة للدفاع، اذهب وفارق من اليوم أحقر من فوق الثرى، وانتقل - لتنتقم لي - إلى يد خير من يدي.
المشهد الخامس
دن دياج ودن لذريق
دن دياج :
لذريق، ألك فؤاد؟
دن لذريق :
لو سألني غير أبي لذاق بأسي وشيكا.
دن دياج :
نعمت الغضبة. ونعمت الحفيظة التي تلطف ألمي. لقد عرفت في هذه السورة
10
دمي، وبعث شبابي في هذه الفورة السريعة.
تعال يا ابني، يا دمي، تعال واثأر لوصمتي، تعال وانتقم لي.
دن لذريق :
مم؟
دن دياج :
من إهانة شديدة طعن بها شرفنا الطعنة القاتلة، من لطمة في الوجه بيد وقح ما كنت لأبقي عليه لولا أن الهرم قد أخذ من عزيمتي الصادقة. وهذا الحسام الذي شل به زندي أدفعه إليك لتثأر لي وتعاقب الأثيم. فاذهب واختبر شجاعتك في مبارزته.
إن إهانة كهذه لا تغسل إلا بالدم، فمت أو اقتل. واعلم حذر الاغترار، إن الذي أدعوك إلى كفاحه رجل يرهب جانبه، فقد شهدته مجللا بالدم والعثير،
11
يلقي الرعب في قلب جيش بأسره، ورأيت الجحافل تتمزق بصدماته. ولأزيدك علما به أقول إنه فوق العسكري الباسل، وفوق القائد الكبير، هو ...
دن لذريق :
رحماك أتمم.
دن دياج :
والد شيمان.
دن لذريق :
ال ...
دن دياج :
لا تحاور. أعرف هواك. ولكن الذي يطيق الحياة في ذلة غير جدير بالحياة. إنها لتشق المهانة علينا بقدر ما يكون مقترفها حبيبا إلينا. فأما وقد عرفت الإساءة وبيدك الانتقام منها، فلن أقول لك غير ما قلت. خذ بثأري. خذ بثأرك. وأظهر أنك الابن البار الخليق بالانتساب إلى أب مثلي. سأمضي وأنا أنوء بالمصائب التي صبها علي القدر، فأبكي لما حل بي منها. وأنت فاذهب؛ توثب، طر وانتقم لكلينا.
المشهد السادس
دن لذريق
دن لذريق :
رميت في صميم الفؤاد بسهم فاجأني فأصمى. أنا الطالب المسكين لثأر عادل، والهدف الذي تبرح به صروف دهر ظالم، أقف بلا حراك وتستسلم نفسي مستضعفة لضربة تودي بي.
أفي حين أوشكت أن أبلغ غرامي - واحر قلباه لمرارة خطبي - يكون في هذه الخصومة أبي الموتور،
12
ويكون الواتر أبا شيمان! لشد ما أكابد من المعارك في نفسي حتى شرفي يحاربني دونه غرامي. يجب أن أنتقم لأبي، فإن أفعل أفقد ريحانة روحي؛ فنازعة تحفز قلبي، وأخرى تصد ذراعي. أفضيت إلى التخير الأليم بين خيانة هواي أو الرضا بالهوان، ومن كلا الجانبين مصابي وراء كل مصاب، وا رحمتا لي من تأنق هذا العذاب!
أأدع الإساءة بلا عقاب، أم أقتص من المسيء وهو أبو شيمان؟ الوالد، المعشوقة، الشرف، الغرام، وأنا بين الطواعية للأمر الشريف القاسي أو الاستبداد المعذب.
بادت جميع مسراتي أو صدع شرفي.
أحد الأمرين يردني شقيا، والثاني يفقدني الحق في البقاء.
فيا أيها الأمل الحبيب البغيض الصادر عن نفس أبية للهوان مدلهة
13
بالهوى في آن، إنك لأشرف عدو لأتم سعادة أطمع فيها. ويا سيفا يسبب شقائي، أقلدتك لأثأر بك لشرفي؟
أقلدتك لأرزأ بك شيمان؟ أولى لي أن أهرع للقاء منيتي. أنا مدين لمحبوبتي كما أنا مدين لوالدي، فإذا انتقمت أثرت غضبها وبغضاءها، وإذا لم أنتقم كسبت ازدراءها.
فحالة تنقض ما عاهدت عليه أعز آمالي، وحالة تجعلني غير كفء للتي أحبها. يتفاقم دائي بما ألتمس له من الشفاء، وكل شيء يزيد تباريحي، فتوطني يا نفس إذا لم يكن بد من الموت، على أن نرد حوضه من غير إساءة إلى شيمان. أأموت ولا أستأدي حسابي موتا يقضي على شرفي شر قضاء، متحملا أن تصم إسبانيا ذكراي بأنني لم أرع كرامة بيتي!
أأوثر حبا تراه نفسي - وإن أضلها - صائرا إلى الضياع! فلا تصغ إلى إغراء خادع لا يجدي علي سوى مضاعفة آلامي. وهلم يا ساعدي ننقذ الشرف إذا لم يكن لنا بد من فقد شيمان.
أجل، كان عقلي قد اختبل، أنا مدين بكل شيء لأبي قبل معشوقتي. لأجندل
14
في الكفاح، أو لأهلك من الأسى، سأرد دمي نقيا كما تلقيته، إني لأشكو نفسي من تريثي.
بدار
15
إلى الأخذ بالثأر. وا خجلتا من هذا التردد الطويل.
لا علي، ووالدي هو الذي أهين اليوم، إن الذي اعتدى عليه هو والد شيمان.
الفصل الثاني
المشهد الأول
دن أرياس والكنت
الكنت :
أعترف بيني وبينك أن الحمية استفزتني، وأن دمي غلى من كلمة أكبرت مرماها. فأما وقد قضي الأمر، فالعلة لا دواء لها.
دن أرياس :
فلينزل قلبك الكبير على إرادة الملك، إذ إن ذلك الحادث قد وقع منه موقعا أحفظه، وسيقضي في شأنك بمطلق سلطانه. وليس لك من عذر مقبول؛ فإن خطر المساء إليه، وجسامة الإساءة يستلزمان من الواجبات ومن الطاعات ما يتخطى حد المألوف في الترضيات.
الكنت :
للملك أن يتصرف في حياتي كما يشاء.
دن أرياس :
أتبعت وزرك بوزر آخر من النزق والاندفاع.
الملك ما زال يودك، فسكن غضبه. قال إني أريد، فهل تأبى الامتثال؟
الكنت :
يا سيدي ، أئذا أبقيت على كرامتي ومن أجلها انحرفت عن الطاعة انحرافا يسيرا، أتعد علي هذه المخالفة ذنبا جسيما؟
على أنه لو بلغ ذنبي ما بلغ، فإن خدمي الراهنة كافية للتكفير عنه.
دن أرياس :
مهما يأت التابع من عظائم الفعال فلا فضل له بها على الملك. إنك لتحسن ظنك بنفسك غاية الإحسان، على أن خدمة الملك فرض مقضي، فإن ظللت على هذا الاعتداد بنفسك أفضى بك إلى سوء المصير.
الكنت :
لا أصدق الخبر حتى يؤكده الخبر.
دن أرياس :
يجب أن تحذر جانب الملك.
الكنت :
يوم واحد لا يقضى به على رجل مثلي، فليتسلح بكل أسلحة اقتداره لتعذيبي؛ إن أهلك تهلك الدولة.
دن أرياس :
يا عجبا، أهذا مبلغ تهيبك للسلطان الأعلى؟!
الكنت :
سلطان الصولجان الذي لولاي لسقط من يده. إن مصلحته، كل مصلحته، لفي بقائي، فإذا هوى رأسي هوى تاجه عن رأسه.
دن أرياس :
تلطف بتهدئة روعك، والرجوع إلى رأي أصوب في شأنك.
الكنت :
قد انتصحت بما بدا لي.
دن أرياس :
فماذا أقول له إذن، ولا بد لي من الجواب؟
الكنت :
قل له إنني لا أستطيع قبول ما فيه إذلالي.
دن أرياس :
ولكن تذكر أن الملوك يأبون إلا أن يكونوا مستبدين.
الكنت :
هذا أمر قد فرغ منه يا سيدي، فلا محل لمزيد القول.
دن أرياس :
بقي علي الانصراف بعد إخفاقي في إقناعك، وليس الغار ليرد عن هامتك، فاتق الصاعقة.
الكنت :
سأنتظرها بلا وجل.
دن أرياس :
ولكنها واقعة لا محالة.
الكنت :
سنرى إذن دن دياج بالغا مرامه. (منفردا)
من لا يخش الموت لا يخش الوعيد. ولي قلب يعلو علوا كبيرا عن النقم، وإن كان من الأوج مهبطها. لأيسر لي أن أتحمل عبء الحياة لا نعماء فيها، من أن أطيق العيش والشرف مثلم.
المشهد الثاني
الكنت ودن لذريق
دن لذريق :
سمعك يا كنت، لي إليك كلمتان.
الكنت :
تكلم.
دن لذريق :
أزل ريبا من نفسي، أتعرف دن دياج؟
الكنت :
نعم.
دن لذريق :
لنتكلم همسا، أصغ إلي.
أتعرف أن هذا الشيخ كان في زمانه مثال الفضيلة والشجاعة والشرف ... أتعرف ذلك؟
الكنت :
لعله.
دن لذريق :
هذه الحرارة التي تسطع في عيني هي حرارة دمه. أتعرف ذلك؟
الكنت :
وما يعنيني؟
دن لذريق :
سأنبئك إن كنت من الجاهلين، على أربع خطى من هنا.
الكنت :
كبرت دعواك أيها الفتي.
دن لذريق :
تكلم بلا انفعال؛ إني فتى ما زلت، ولكن البأس في النفوس الكريمة لا يرتهن بعدد السنين.
الكنت :
أتقيس نفسك إلي؟ من الذي نفخ فيك هذا التبجح ولما تمتشق حساما؟
دن لذريق :
أمثالي يبينون عن بأسهم بفتكة لا فتكتين ويأتون في التجريب ما لم يأته أولو التدريب.
الكنت :
أتعرف من أنا؟
دن لذريق :
أجل، وسواي من يفرق لشهرة اسمك. أرى غارا فوق غار يغشي رأسك، فيلوح لي أن الأقدار قد كتبت به آية هلاكي، ولكنني سأضرب غير مبال ساعدا ما فتئ النصر حليفه، وسأجد من القوة كفاء ما عندي من الشجاعة.
لا يمتنع أمر على الذي ينتقم لأبيه.
زندك لم يغلب ولكنه لم يعصم من يد تغلبه.
الكنت :
هذه الشجاعة التي تتفجر في كلامك كنت أرى مخايلها كل يوم في عينيك، وأشعر أنك ستغدو فخر قشتالة فيطيب لي أن تصبح ابنتي لك حليلة. أعرف هيامك بها ويسرني أن أشهد أن عوامل الهوى لم تحل بينك وبين الواجب ولم تثن عزيمتك النبيلة. ولقد جاءت شمائلك العالية مصداقا لعالي رأيي فيك، فتبينت منها - وأمنيتي اختيار صفوة الفوارس لمصاهرتي - أنه لم يخطئني التوفيق في إيثارك.
على أنني أحس أن بي نزعة من الرحمة لك، فأعجب بإقدامك وأشفق على صباك.
دع التعرض في بدء شأنك لتجربة تأتي على نفسك. وأعف بأسي من نزال من ليس لي ندا، فما من فخر لي في عقبى ذلك النزال.
من غلب ولم يخاطر فاز ولم يمجد.
سيتوهم الناس أنني صرعتك ولم أجهد، فيبقى لي، ولا فخر، أسف الإيذاء بك.
دن لذريق :
تعقب على جرأتك بشفقة مزرية.
أفمن يسلبني شرفي يتجنب أن يسلبني حياتي؟
الكنت :
توار من هذا المكان.
دن لذريق :
هلم بنا من غير حوار.
الكنت :
أأنت تعب من الحياة؟
دن لذريق :
أأنت ترهب الموت؟
الكنت :
تعال فإنما تقوم بواجب، وليس بكريم العنصر ولد يعيش يوما بعد شرف أبيه.
المشهد الثالث
بنت الملك وشيمان وليونورة
بنت الملك :
سكني يا شيمان، سكني ألم نفسك، ورديها إلى الصبر في هذا المصاب.
ستجدين الصفاء بعد هذه الراعدة
1
الضعيفة.
وما شوائب سعدك إلا سحائب رقيقة لا تلبث أن تنقشع فتجلدي تحمدي عقباها.
شيمان :
قلبي مقسم بين الهموم ولا يشيم بارقة للرجاء. هذه العاصفة المفاجئة التي هاجت بحرا هادئا إنما تنذر بغرق لا مفر منه.
لست بمرتابة وإني لهالكة في المرفأ. كنت محبة ومحبوبة وكان أبوانا على وفاق، فبينما أنا أحدثك بهذا الحديث البهيج إذ تولدت تلك الخصومة، وانتهى إليك خبرها المروع فهدم ما كان مشيدا من آمالي. قبح الطمع، وساء من خلة تجني باستبدادها على أكرم النفوس.
فيا أيها الشرف الذي لم يرحم أعز أماني، ماذا أنت سائمي من دموع وزفرات؟
بنت الملك :
ليس في هذه الخصومة ما يؤذن بما تخافين، فقد شبت جذوتها في لمحة، وستخمد في لمحة. سيدعو تفشي أنبائها إلى حسمها، وحسبك أن الملك قد أراد إصلاح البين، ثم تعلمين أنني أرق لأشجانك، فما من أمر مستطاع إلا سأفعله لإزالتها.
شيمان :
في مثل هذا الأمر لا تجدي المصالحات فتيلا، والمساءات القاتلة كهذه لا تندمل جراحها.
هيهات أن تنجع القوة أو الحكمة في تلك العلة، فإن شفيت لم يكن شفاؤها إلا في الظاهر.
البغضاء التي تتغلغل في القلوب تغذي نيرانا يخبئها الرماد فما يزيدها إلا احتداما.
بنت الملك :
إن الرابطة المقدسة التي ستربط لذريق بشيمان ستذهب بأحقاد الوالدين المتعاديين، وسنرى عما قليل حبكما يستظهر على الضغينة فيهما، ونرى الزفاف الهنيء يلاشي تلك الشحناء.
شيمان :
تلك أمنيتي ولكن يقصر دونها رجائي.
دن دياج عات،
2
ووالدي أعرفه. تسيل دموعي وبودي لو ترقأ، يؤلمني الماضي، وأخشى المستقبل.
بنت الملك :
ماذا تخافين من هرم قد وهن
3
العزم منه؟
شيمان :
لذريق مقدام.
بنت الملك :
لم يزل في نضارة عوده.
شيمان :
الشجاعة في الشجعان تبدو لأول بادرة .
بنت الملك :
وعلى هذا لا أرى محلا لما تحذرين، فإن لذريق يهواك هوى ينأى به عما تكرهين، وكلمتان من فمك تكفيان لإطفاء ثورته.
شيمان :
فإن لم يطعني فما أشد حزني، وإن أطاعني فماذا يقولون عنه، أيتحمل تلك الإهانة من ينميه أصل كأصله؟ وسواء أأبرم عهده لي أم نقضه فمصيري معه، إما إلى الخجل منه أو الخجل عنه، لإفراطه في الامتثال أو لإبائه وله العذر.
بنت الملك :
نفسك يا شيمان عالية، ولا إخال الغرام ينزل بها إلى ظنة دنيئة. فإذا أهبت بذلك العاشق الواله، واحتسبته لدي حتى تنحسر الغمرة، فحلت بذلك بينه وبين تلبية داعي شجاعته أفلا يمر بقلبك خلجة شك من هذه الناحية؟
شيمان :
آه يا سيدتي، لو فعلت لأفرخ روعي.
المشهد الرابع
بنت الملك وشيمان وليونورة والوصيف
بنت الملك :
يا وصيف، ابحث عن لذريق وادعه إلي.
الوصيف :
الكنت دي جرماز ودن لذريق ...
شيمان :
يا رباه! أرتعد.
بنت الملك :
تكلم.
الوصيف :
خرجا معا من هذا القصر.
بنت الملك :
أمنفردين؟
الوصيف :
منفردين وكأنهما يتلاحيان.
شيمان :
لا ريب في أنهما يتبارزان، ولا وقت لإطالة الكلام اغتفري لي يا مولاتي هذا البدار.
المشهد الخامس
بنت الملك وليونورة
بنت الملك :
يا ويح لي، ما أشد بلبالي!
4
أبكي لشقائها وعاشقها يملأ قلبي، زايلتني راحتي، وثارت لواعجي.
والسبب الذي سيفرق بين لذريق وشيمان ينعش أملي ويجدد في آن ألمي. أرى انفصالهما بمضض وارتماض
5
وفي قرارة مهجتي غبطة وسرور.
ليونورة :
تلك العصمة السامية، وهي ملاك أمرك، أتتغلب عليها بهذه السرعة صبوة أثيمة؟
بنت الملك :
لا تصفيها بالإثم بعد أن طغت على نفسي، وألقيت زمامها إلى أحكامها القاهرة.
أوليها رعايتك من حيث إنها تعز علي. عفتي تقاتلها ولكن على الرغم مني أرجو رجاء لا يقوى عليه قلبي المستضعف فيطير بأجنحة الخيال إلى العاشق الذي فقدته شيمان.
ليونورة :
فأنت إذن تقذفين بقوة عزيمتك من حالق، وتعطلين عمل عقلك.
بنت الملك :
آه، ما أقل استجابة الهوى فينا للرشاد حينما يرتوي القلب من سمه الشهي. قد يألف السقيم نزوات سقامه، فيشق عليه التماس البرء من آلامه.
ليونورة :
أملك يغريك، وألمك مستعذب، ولكن لذريق ليس بأهل لك.
بنت الملك :
أعلم ذلك فوق ما تعلمين، ولكن إذا كان خفري لم يعصمني منه فتبيني كيف يسطو الغرام على القلب الذي يملكه.
إذا خرج لذريق منتصرا من هذه المبارزة، وإذا سقط هذا الغطريف بآية من بأسه جاز لي أن أكترث لشأنه وأن أحبه بلا تورع، فما الذي يمتنع عليه، وقد تغلب على الكنت؟ يخيل إلي عندئذ أنه لو صال أدنى صولاته لدانت له الممالك بأسرها. ويهيئ لي غرامي منذ الساعة أنني أراه جالسا على عرش غرناطة يستعبد المغاربة، ويعبدونه خاشعين، وأن الأراغون ستتلقاه فاتحا، وأن البرتغال ستوليه قيادها، وأن أيامه الغراء ستمد إلى ما وراء البحار جاهه وسلطانه، وتسقى بدماء أعدائه أكاليل غاره. وعلى الجملة فكل ما قالوه عن أشهر الغزاة أرقبه من لذريق بعد فوزه، وأجعل معه كلفي به فخرا لي وذخرا.
ليونورة :
ولكن يا سيدتي تبصري إلى أين ترفعين مقامه على أثر مبارزة لعلها لم تحدث.
بنت الملك :
لذريق مساء إليه ... والكنت هو المسيء وقد خرجا معا ... أبعد هذا جواب على سؤال؟
ليونورة :
ليكن يا مولاتي أنهما يقتتلان كما تشائين، ولكن هل يدرك لذريق عملا ما بلغته إليه أملا؟
بنت الملك :
ماذا تبتغين مني؟ لقد خولط عقلي، وضللت سبيلي فانظري ما يعد لي العشق من التباريح، تعالي إلى غرفتي فسري عني، ولا تتركيني في هذا البلبال وحدي.
المشهد السادس
دن فرنان ودن أرياس ودن سنش
دن فرنان :
الكنت إذن على ما وصفت من الخيلاء، وقلة البصر بالعواقب، أيجرؤ على الظن بأن جريمته تغتفر؟
دن أرياس :
حدثته من قبلك وأسهبت في البيان، وبذلت معه جهدي يا مولاي، ولم أصل منه إلى طائل.
دن فرنان :
يا عجبا! رجل من أتباعي تذهب به الجرأة إلى نقض ما لي من حق التجلة وإلى الاستخفاف برضاي، فيهين دن دياج، ويحتقر مليكه، ويأمرني أمره بين حاشيتي وبطانتي! ليكن ما شاء مقداما جسورا وقائدا قديرا، سأكسر من غربه،
6
وأحط من خيلائه، ولئن كان أخا للشجاعة وإله الحرب لأرينه ما عقاب معصيتي. كبرت جريمته وحق عليه القصاص، غير أنني أردت بادئ بدء أن أرفق به، فأما وهو قد جاز مدى الحلم، فامض إليه ليومك، واقبض عليه مستسلما أو مقاوما.
دن سنش :
لعل التريث في أمره يرده عن المعصية، فقد أخذ على حين كان دمه فائرا من أثر الخصومة.
مولاي إن قلبا نبيلا كقلبه يصعب اقتياده في حرارة سورته الأولى. إنه ليرى خطأه، ولكن النفس الأبية يشق عليها، ولما يسكت عنها الغضب، الإقرار بخطئها.
دن فرنان :
صه يا دن سنش واعلم أن الشفاعة فيه جريرة كجريرته.
دن سنش :
سمعا وطاعة ولكن سماحا يا مولاي، وإذنا لي بكلمتين أخريين دفاعا عنه.
دن فرنان :
وما يسعك أن تقول؟
دن سنش :
يعز على نفس تعودت المساعي الجسام التدني إلى الطاعات زعما منها أن خضوعها لا يئول إلا بما فيه هوانها، فالهوان وحده هو اللفظة التي عصى من أجلها الكنت، ووجد في أداء مفترضها قسوة ناهيك من قسوة، وما كان أقربه إلى الامتثال لو كان أقل صلابة في القتال، فأوقع إليه أمرا بأن يصلح ما أساء في حومة يخوضها، وجلاد يعمل فيه ساعده المتمرس بآفات المعامع، يلبك يا مولاي إلى ما تشاء.
و لو تصدى له من تصدى ريثما يتبين جلية أمره - لإجابة هذا (يشير إلى سيفه) .
دن فرنان :
ذهلت عن حرمة الموقف، ولكنني أتجاوز لسنك، وأعذر الحمية في مقتبل الشباب، فإن الملك الذي يصرف حكمته في الأمور المثلى يبقي إبقاء الضنين على دم رعاياه. وما شأني في الحرص على أتباعي والاحتفاظ بهم إلا شأن الرأس يعنى بالأعضاء التي تخدمه.
فالرأي الذي أدليت ليس هو الرأي في نظري.
أنت تتكلم كلام جندي، وعلي أن أفعل فعل ملك، ومهما يزعم الآخرون، ومهما يدع الكنت فإن إطاعته لي لم تكن لتحط من عليائه، على أن إساءته قد مستني بإيذائها شرف ذاك الذي آثرته مرشدا لولدي، فهو باستطالته على من اصطفيت استطال علي بالذات، واقترف وزر الاعتداء على السلطان الأعلى.
حسبنا كلاما في هذا المعرض. وقد بقي علي أن أقول إن عشرا من سفائن أعدائنا القدماء لوحظت رافعة أشرعتها ومجترئة على الاتجاه نحو مصب النهر.
دن أرياس :
قد عرفك المغاربة بما عانوه من بلائك فيهم، وأراهم لكثرة ما باءوا بالفشل والاندحار لا يقدمون بعد على مناوأة قهارهم العزيز.
دن فرنان :
يعز عليهم - لا محالة - أن يروا صولجاني باسطا ظله على أرجاء الأندلس، وهم يرمقون بعين الغيرة هذا البلد الجميل الذي أضاعوه بعد أن طالت ولايتهم عليه، فلهذا السبب الأوحد نقلت عرش قشتالة إلى أشبيلية منذ عشر سنين، بحيث يتسنى لي أن أراقبهم عن كثب، وان أتدبر عاجلا فيما يصد هجماتهم ويخلف ظنونهم.
دن أرياس :
يدرون، وقد أطارت الحرب أرفع هاماتهم، أن شهودك الوقائع يضمن لك الفتوح، فلا بأس عليك منهم.
دن فرنان :
وليس من الصواب أيضا أن نسترسل في الإهمال فإن فرط الثقة مجلبة للخطر، وما غاب عنك أن مد البحر يدنيهم إلى هذا المكان بأيسر مجهود، على أنه لا يجمل بي أن ألقي في القلوب هلعا من الطوارق ولم تبد حقائقها، فربما أحدث شيوع هذا النذير هلعا يزعج المدينة في الليلة الآتية، فمر عني بمضاعفة الحرس على الأسوار وفي الميناء، وحسبنا هذا القدر في هذا المساء.
المشهد السابع
دن فرنان ودن سنش ودن النس
دن النس :
مولاي، قد مات الكنت، ووتر دن دياج بيد ابنه.
دن فرنان :
منذ علمت بالإهانة شعرت بهذا الانتقام، وعمدت من ساعتي إلى تدارك الفاجعة.
دن النس :
بالباب شيمان وفدت لترفع بثها إلى قدميك مستعبرة العينين تلتمس الإنصاف.
دن فرنان :
إني لأرثي لبلواها، ولكن أباها لقي الجزاء الحقيق بجرأته، على أنه خليق بها أن تحزن على الكنت، وبي أنا أن آسف لفقدي قائدا عظيما خدم مملكتي خدمة طويلة الأمد، وسفك في سبيلي دمه في ألف معترك، فمع ما حركت نفسي من العوامل سورة كبريائه أجهر أن فقده يضعضعني، وأن موته يشجيني.
المشهد الثامن
دن فرنان ودن دياج وشيمان
شيمان :
مولاي، مولاي عدلا.
دن دياج :
آه يا مولاي أصغ إلينا.
شيمان :
أترامى على قدميك.
دن دياج :
أقبل ركبتيك.
شيمان :
ألتمس النصفة.
دن دياج :
استمع لدفاعي.
شيمان :
عاقب ذلك الشاب الجريء على قحته، فقد قوض ركن صولجانك، قتل أبي.
دن دياج :
أخذ بثأر أبيه.
شيمان :
الملك موكل بالعدل في دماء رعيته.
دن دياج :
لا عقاب على الانتقام المشروع.
دن فرنان :
انهضا كلاكما لقد فسحت لكل منكما في إبداء ما عنده. شيمان، أرثي لبلواك، وأحس أن حزني عديل حزنك، نتكلم فيما بعد، لا تقطع عليها شكواها.
شيمان :
مولاي، أبي قتل، وشهدت عيناي دمه المسفوح يتدفق دفعا كبارا من جنبه الكريم، ذلك الدم الذي بذل مرارا لصيانة أسوارك، ذلك الدم الذي أعلى كلمتك في المعامع.
ذلك الدم الذي خرج والدخان يسطع منه غضبا لانسفاكه في غير سبيلك.
ذلك الدم الذي لم تستطع الحروب أن تريقه في غمراتها قد جلل به لذريق بلاط قصرك.
هرعت خائرة القوة شاحبة اللون، فوجدته فارق الحياة. اعذر توجعي يا مولاي. عدمت الصوت لاستكمال هذه القصة المروعة، وكفى بدموعي وزفراتي إفصاحا عن سائر ما جرى.
دن فرنان :
ثبتي قلبك يا بنيتي واعلمي اليوم أن الملك يريد أن يكون لك أبا مكان أبيك.
شيمان :
مولاي، بالغت في تشريف قدري بعد محنتي. لقد تقدم قولي أنني وجدته بلا حراك، كان جنبه فاغرا وكأنني بدمه يستصرخني ويخط لي على التراب ما يقتضيني من الواجب.
أو كأن تلك القوة التي ردت إلى البوار تخاطبني بجرحها لتستحثني على اللحاق بالغارم، وتستعير من فم هذا الجرح الأليم صوتي لإبلاغ ظلامتها إلى أعدل الملوك. مولاي، لا تجز أن يقع في عهدك وبمشهد منك مثل هذا الجرم، وأن يستباح أولو البأس المبرزون لمجترئ عليهم يأمن العقاب، وأن ينبري شاب جسور فيهدم علياءهم، ويشرب دماءهم، ويلطخ ذكراهم، فإذا لم تثأر لذلك الصنديد
7
الذي رزئته طفئت في النفوس حماسة الذين يخدمونك.
دع كل هذا. قتل أبي، وأطالب بدمه لا للترفيه عني بأكثر من الرعاية لجانبك. خسارة لك أن تحرم رجلا هذا شأنه، فاثأر لموته بموت الجاني عليه، وكافئ الدم بالدم، وضح به لتاجك لا لي، بل قدمه لعليائك بل لذاتك. ضح يا مولاي لمنفعة الدولة بكل من يستطيل مثل هذه الاستطالة.
دن فرنان :
دن دياج، أجب.
دن دياج :
أحر بالإنسان الذي يعدم الحياة بانعدام عزيمته أن يغبطه الناس فقد يهيئ للكرام طول آجالهم بعد شوطهم المجيد ضعة وهوانا، أنا الذي ضمنت له فعاله الجسام ما شاءت من الفخار. أنا الذي عقب على النصر بالنصر كل آن وآن. أراني اليوم لا ذنب لي إلا امتداد البقاء أتلقى الإهانة وألبث موسوما بميسمها، فما لم تنله مني ملحمة ولا حصار ولا كمين، وما لم تستطعه أراغون وغرناطة ولا أعداؤك جميعا، ولا حسادي جميعا، فعله الكنت في قصرك وعلى مدى بصرك غيرة من إيثارك إياي، واعتدادا برجحان قوته على القوة التي سلبها مني تقادم سني.
فهذه اللمة التي ابيضت تحت خوذة الكفاح، وهذا الدم الذي بذل غير مرة في سبيلك يا مولاي، وهذا الساعد الذي كان يلقي الذعر في جيش أعدائك، كل ذلك كاد ينزل معي إلى القبر موصوما بالعار، لو لم ألد ولدا جديرا بالانتساب إلي، خليقا بإعلاء ذكر بلاده، حقيقيا بالانتماء إلى ملكه، أعارني ذراعه، وصرع الكنت، فنضح عن شرفي، وغسل أوضار
8
عاري. فإذا كان إبداء الشجاعة، وشفاء غلة الحقد، والانتقام من اللطمة في الوجه، جناحا يعاقب عليه، فعلي وحدي تقع التبعة.
يخطئ الزند فيعاقب الرأس، وسواء أعد ذنبا ما نتحاور فيه أم لا، أنا يا مولاي الرأس، وليس ابني إلا الذراع. تشكو شيمان من أنه قتل أباها، وتالله ما كان ليودي به لو قدرت على الإيداء به. فليضح إذن بهذا الرأس الذي يلوي به الهرم، وليبق الساعد الذي يضطلع بخدمتك. أرض شيمان بسفك دمي، فقد طبت نفسا للاقتصاص مني ورضيت بالحكم علي مهما بولغ في شدته، إذ إنني بموتي نقي الشرف، أموت بلا أسف.
دن فرنان :
المسألة ذات بال تدعو إلى إعمال الروية ومشاورة المجلس، دن سنش اصحب شيمان إلى بيتها.
دن دياج يلزم قصري سجينا فيه، رهينا بعهده. ليؤت بابنه سأنصفك يا شيمان.
شيمان :
من العدل أيها الملك العظيم أن يقتل القاتل.
دن فرنان :
روحي عنك يا ابنتي، وسكني أحزانك.
شيمان :
الأمر بالترويح عني يزيد أشجاني.
الفصل الثالث
المشهد الأول
دن لذريق والفيرة
الفيرة :
لذريق، ماذا صنعت؟ إلى أين تأتي يا منكود الطالع؟
دن لذريق :
جئت لأتابع سيري في طريق شقائي.
الفيرة :
أنى لك هذه الجرأة وهذه الخيلاء الجديدة، وكيف تظهر في هذه الأمكنة التي ملأتها حدادا، أجئت إلى هنا تتحدى طيف الكنت؟ ألست قاتله؟
دن لذريق :
حياته كانت عارا علي، وشرفي سام يدي هذا البطش.
الفيرة :
ولكن أتلجأ إلى بيت صريعك؟
وهل جرى أن قاتلا اتخذ بيت قتيله موئلا؟
دن لذريق :
إنما أتيته لأستسلم إلى ولي الدم فيه، فلا تنظري إلي بهذه الدهشة. أطلب الموت بعد أن أعطيته. وغريمي هو غرامي، وقاضي هو شيمان.
حق لي أن أموت حين أثرت حفيظتها
1
فوافيت ولا مطمع لي إلا سماع الحكم علي من فمها، وتناول الضربة القاضية من يدها.
الفيرة :
أولى لك أن تتوارى عن عينها، وتفر من غضبها، وتتقي سورة حزنها في بدء شبوبها. اذهب ولا تتعرض للفورة الأولى، وللنزوات التي تدفعها إليها عوامل حقدها.
دن لذريق :
لا، لا وهيهات أن يبلغ حنقها، والعذاب الذي ينالني منها، ما هو حقيق بأن يبلغه، فإني لو قدرت على مضاعفة غضبها لتعجيل أجلي لاجتنبت مئة ميتة ستعنيني.
الفيرة :
شيمان في القصر غارقة في البكاء، ولن تعود منه إلا مصحوبة بمن يخشى بأسه.
فاهرب يا لذريق إني أسألك مستعطفة، وأنقذني من هذه الحيرة، ماذا يقول الذين قد يرونك الآن في هذا المكان، أتريد أن يتهمها واش - وفي ذلك نهاية بؤسها - بأنها فسحت لقاتل أبيها أن يتحرم بحماها.
أزف معادها ... ها هي آتية ... أراها.
لأيسر الخطب على شرفها - يا لذريق - أن تختبئ.
المشهد الثاني
دن سنش وشيمان والفيرة
دن سنش :
أجل يا سيدتي يجب أن تسفك دماء عزيزة شفاء لغضبك المشروع، وإرقاء لدموعك.
ولست محاولا بالإسهاب في الكلام تلطيف ما بك أو تعزية قلبك، ولكن إذا تسنى لي أن أضطلع بخدمتك فاستخدمي سيفي للاقتصاص من المجرم، واجعلي غرامي قاضيا لغرمك، فبأمر منك يشتد ساعدي، ويأتي العجب العجاب.
شيمان :
وا حربا!
دن سنش :
أبتهل إليك أن تتقبلي مني ما أعرض من خدمتي.
شيمان :
أخشى تكدير الملك وقد وعدني بإنصافي.
دن سنش :
تعرفين أن القضاء يسير سيرا بطيئا، فيغلب إفلات الجناة منه، لكثرة مطاولته، وذهاب الدموع هدرا من جراء ريبه ومهله؛ فأذني لفارس أن ينتقم لك بسلاحه، فيختصر طريق الثأر، ويعجل القصاص.
شيمان :
هذا آخر علاج، فإذا تحتم وظللت على هذا العزم وهذه الرقة لمصابي كان لك أن تأخذ بثأري.
دن سنش :
هذا أشهى ما تصبو إليه نفسي، فأما وقد ساغ لي أن أرجوه فإنني أنصرف راضيا.
المشهد الثالث
شيمان والفيرة
شيمان :
يسرني بعد نفاد صبري أن أخلو، وأن أكشف لك بطلاقة ضميري ما في نفسي من أفاعيل الآلام، ففي وسعي أن أصعد زفراتي، وأن أظهرك على مكمن شجوني.
أبي مات يا الفيرة، وأول سيف تقلده لذريق هو الذي صرم به حبل أيامه.
ابكي، ابكي يا عيوني، وسيلي دموعا.
شطر من حياتي قذف الشطر الآخر إلى القبر. وأكرهني بعد تلك الضربة القاضية على طلب الثأر للشطر المفقود من الشطر الموجود.
الفيرة :
استريحي يا سيدتي.
شيمان :
آه توصيني بالراحة وما أبعدها عما يقتضيني رزئي الفادح. من أين ألتمس تسكين ألمي في هذا المصاب الجلل، وأنا لا أستطيع أن أبغض اليد التي سببته، وماذا أرجو سوى العذاب السرمد من تعقبي الإثم وأنا أحب الأثيم.
الفيرة :
أيتمك من أبيك، وما زلت تهوينه!
شيمان :
قليل قولك إنني أهواه يا الفيرة، أنا أعبده، وهيامي به يعارض حقدي، هو العدو الذي أجد فيه الحبيب. وأحس على ما بي من شديد الغضب أنه في قلبي يقاتل أبي، يهاجمه، يحرجه، يتاركه، يذود عن نفسه؛ تارة قويا وطورا ضعيفا، وآنا منتصرا.
عراك قاس بين الغضب والصبابة يفطر فؤادي ولا يشطر نفسي، للهوى ما له علي من سلطان، ولكنني لن أتردد في متابعة واجبي، سأمضي بلا توقف في ما يدعوني إليه شرفي.
لذريق حبيب إلي، وهيامي به يشجيني، ينحاز قلبي إليه غير أنني مرغمة على عدوانه، وأعرف من أنا، وأن أبي قد قتل.
الفيرة :
أتنوين تعقبه؟
شيمان :
آه، يا له من خاطر أليم، ويا له من تعقب أمعن فيه على الكره مني. أطلب رأسه وأخشى أن أعطاه. سأموت على أثره وأريد أن أقتص منه.
الفيرة :
دعي، دعي يا سيدتي هذا المطلب الفاجع، ولا تسومي نفسك شرعا تناهى في جفوته.
شيمان :
كيف تقولين؟ أيقضى أبي وكأنه قد قتل بين ذراعي فيستصرخني دمه للانتقام ولا أستمع لصراخه؟
أيظن قلبي وقد أسرته عوامل صبوته أن حق أبي عليه يوفي بدموع لا تجدي؟ وهل أتحمل غراما خادعا يعوقني جبنا عن بث ما بي ويخنق شرفي؟
الفيرة :
صدقيني يا سيدتي إنك أبليت العذر، فلا تشتدي كل هذه الشدة على من تحبين.
كلاكما عاشق ومعشوق. ولقد فعلت ما في وسعك، رفعت أمرك إلى الملك فلا تستعجلي حكمه، ولا تتمادي في ما يزعجك من هذا التناقض الغريب.
شيمان :
لا يسلم شرفي إلا بأن أثأر له، ومعاذير الهوى حجة للمبتلين به، على أنها مخجلة للقلوب النبيلة.
الفيرة :
ولكنك تحبين لذريق وهو لم يكن ليغضبك.
شيمان :
أعرف ذلك.
الفيرة :
وبعد فماذا ترين أن تفعلي؟
شيمان :
للاحتفاظ بشرفي وللنجاة من همي، سأنتصف منه فأفقده، وأموت على أثره.
المشهد الرابع
دن لذريق وشيمان والفيرة
دن لذريق :
إيها، لا تجشمي نفسك عناء تعقبه، واضمني لها شرف الإيداء به.
شيمان :
الفيرة! أين نحن؟ وماذا أرى؟
لذريق في بيتي ... لذريق أمامي؟
دن لذريق :
لا تبقي على دمي، وتذوقي لذة قتلي، والانتقام مني غير مدافعة.
شيمان :
ويحي!
دن لذريق :
أصغي إلي.
شيمان :
أحتضر.
دن لذريق :
امنحيني هنيهة.
شيمان :
اذهب ودعني أقضي نحبي.
دن لذريق :
أربع كلمات ولا أزيد، ثم لا تجيبيني إلا بهذا السيف.
شيمان :
وا حربا، أبهذا السيف، وما زال بليلا بدم أبي.
دن لذريق :
يا شيماني ...
شيمان :
وار هذا الشيء البغيض فهو يزيد جرمك وإبقاءك قبحا في عيني.
دن لذريق :
بل انظريه واستفزي به بغضاءك، لتضاعفي غضبك وتعجلي في الأخذ مني بطائلتك.
شيمان :
إنه مضرج بدمي.
دن لذريق :
غيبيه في مهجتي، وأزيلي منه صبغ دمك.
شيمان :
آه من جفوة طبعك، في يوم واحد تقتل الأب بالسيف والبنت بمرآك، وار هذا الشيء، لا أطيق رؤيته، تريد أن أرعيك سمعي، وأنت تزهق روحي.
دن لذريق :
أفعل ما تأمرين به على أن أختم بيدك حياتي الشقية وحاشا كلفي بك أن يداخله الجبن، فأندم على فعل كان حميدا. فتكة أعجلها الحمق عن تقدير العواقب، وصمت أبي وكستني عارا، وتعلمين ما أثر اللطمة في النفس الكريمة، لحقني ما لحقني من الوصمة فبحثت عن مقترفها، فرأيته فانتقمت لشرفي وشرف والدي، ولو وجب أن أعاود لعاودت، على أن غرامي نازعني طويلا فقاومت والدي ونفسي في سبيل حبك، وحسبك منه، على جسامة تلك المساءة، أنه تركني حينا أشاور نفسي في الإقدام أو الإحجام، فلما وازنت بين إغضابك أو تحمل الشنار أيقنت أن زندي سبق العذل
2
بزماعه،
3
وشكوت من حدة في طبعي جازت مداها، ولا شك أن جمالك كاد يرجح بكفته في الميزان لو لم أدفع سطواته بما مر في خاطري، وهو أن رجلا عطل من شرفه لا يكون لك أهلا، وأن التي أحبتني حرا كريما ستبغضني جبانا لئيما، مع ما لي في قلبها من المكانة الرفيعة، وإنني لو أطعت هواك وصبرت على الهوان لأصبحت غير خليق بعطفك، وأخلفت بي حسن ظنك.
أعود فأقول لك - وعلى ما بي من حزن وجزع - سأعود وأقول لك إلى آخر نسماتي - إنني أسأت إليك، وأكرهت على هذه الإساءة، لأمحو عاري وأكون أهلا لك فأما وقد وفيت دين الشرف، وقضيت حق أبي، فإنني لماثل لديك متوخيا مرضاتك، فقد سعيت إليك لأقدم لك دمي مؤديا ما يجب كما أديت ما وجب.
ولعلمي أن أبا مات يستفزك للاقتصاص من ذنبي أبيت أن أخبئ غريمك، فأقدمي وضحي لدمه بدم فتى يفاخر بأنه هو الذي أراقه.
شيمان :
آه ... إني وإن كنت عدوتك لا أستطيع ملامك، لفرارك من العار، وعلى تنوع الألوان التي أذوقها من العذاب لا أشكو منك بل أبكي لمصابي.
أعرف ما كان الشرف، وقد مسته تلك الشنعة، يدفع إليه قلبا تحتدم فيه الحماسة.
فأنت لم تفعل إلا ما يفعله الفتى الأبر، بيد أنك بحرصك على واجبك علمتني الحرص على واجبي.
إقدامك المشئوم، والنصر الذي أحرزته أدباني، فقد ثأرت لأبيك وصنت شرفك، ومثل ما عناك من أمرك يعنيني من أمري، إذ إن لي شرفا أصونه، وأبا أنتقم له، يا ويلتي، إن حبي لك هو الذي يؤيسني في هذه المعضلة، ولو أن مصابا آخر أيتمني لوجدت نفسي في سرورها بلقائك سلوانها الأوحد، وعزاءها الأوفى، ولهان علي العسير من ألمي حين تمتد إلي يد عزيزة وتكفكف عبراتي. ولكن كتب علي أن أفقدك بعد أن فقدته، فكفاحي لغرامي دين علي لشرفي، وذلك الواجب الذي يودي بي أداؤه يضطرني إلى العمل بنفسي على ثبورك.
فلا ترتقب من شغفي بك أن يعوقني عن أخذك بجريرتك، ومهما يشفع لك حبي فلا مناص لعزة نفسي أن تكافئ عزة نفسك.
لقد أبديت بإساءتك إلي أنك جدير بي فحتم علي وأنا أطلب قتلك أن أكون خليقة بك.
دن لذريق :
لا تؤجلي إذن ما يدعوك إليه الشرف، فهو يطلب رأسي وأنا أهبك إياه، فاجعليه قربانا لما يتخالجك من المأرب السامي. يعذب لدي ورد الردى، ويسهل علي حكمه، أما انتظارك بعد إجرامي إلى أن يقضي القضاء فتقصير في حق مجدك وإطالة لتعذيبي، وغاية سعادتي أن أموت بضربة من يدك الجميلة.
شيمان :
إني لخصمك ولست بجلادك، تقدم لي رأسك وما علي أن آخذه، شأني أن أصوب إليه طعناتي، وشأنك الذود عنه وإنما أطلبه من غيرك لا منك، علي مناجزتك،
4
وما علي عقابك.
دن لذريق :
دعي شفاعة الحب في لديك، وارجعي إلى كرم عنصرك فأجزيني من نفسي، يأبى ذلك الكرم يا شيماني أن تستعيري ساعد غيرك للانتقام مني، يدي هي التي أخذت بثأر أبي، وما أحرى يدك دون سواها أن تأخذ بثأر أبيك.
شيمان :
لك الله من قاس، علام هذا الإصرار، قد انتقمت بلا معين، وتعينني على الاقتصاص منك، لأقتدين بقدوتك ولأصبرن حتى أقاسمك فخر الانتقام، لا أبي ولا ساعدي يقبلان بفضل حبك أو يأسك.
دن لذريق :
وا حر قلباه من خلاف رأيينا في أمر الشرف، ألا أستطيع - جاهدا ما جاهدت - أن أظفر منك بهذه المنة، بحق أبيك القتيل، بحق ما بيننا من الوداد عاقبيني تشفيا، أو عاقبيني رحمة وإشفاقا، فإن عاشقك المنكود الطالع ليؤثر الموت بيدك على البقاء وتبغضيه.
شيمان :
رح فلست لك بكارهة.
دن لذريق :
كان حقا عليك أن تمقتيني.
شيمان :
ما بيدي.
دن لذريق :
ألا تبالين الملام وسوء المقالة، إذ يعلم الناس بأن ذنبي إليك لم يذهب بحبك لي، ماذا تشيع عنك يومئذ ألسنة الوشاة الحساد، أكرهيهم على السكوت، وتخلي عن الحوار، فأنقذي سمعتك بقتلي.
شيمان :
ما أزداد إلا حسن أحدوثة
5
بتركك حيا، وبودي أن يرتفع صوت النميمة من أعماق ظلماته، فهو إذن سيرفع إلى السماء كرامتي، ويستلين - حتى الوشاة - لجزعي إذ يعلمون أنني أعبدك وأستعدي عليك، فول ووار عن عيني السخينة من الحزن ذلك الإنسان الذي سأفقده على أنني أحبه، اخرج في سر من الناس تحت الليل، وحذار أن يروك فيتجنوا على شرفي وليس للسعاية نهزة تنتهزها إلا ترخصي في لقائك هنا، فلا تجعل لها سبيلا إلى الريب.
دن لذريق :
تبا لي!
شيمان :
اذهب.
دن لذريق :
علام عزمت؟
شيمان :
إني وإن كانت شعل الغرام تشغلني عن حنقي، سأبذل ما في وسعي للأخذ بثأر والدي، ومع ما يقتضيني أداء هذا الواجب من الصلابة، فإن أمنيتي الوحيدة هي ألا أقدر على شيء.
دن لذريق :
يا لأعجوبة الغرام!
شيمان :
يا لنهاية البؤس!
دن لذريق :
ماذا سامنا أبوانا من العبرات والحسرات.
شيمان :
لذريق، من كان يظن ما أفضينا إليه؟
دن لذريق :
ومن كان يتنبأ؟
شيمان :
بأن سعادتنا وهي على وشك إبرامها تنقضي.
دن لذريق :
وأن أملنا على مقربة من الميناء، وفي تمام الصفاء يسطو عليه عاصف مفاجئ فيحطمه.
شيمان :
آه من الآلام المهلكة!
دن لذريق :
آه من عبث الأسف!
شيمان :
إليك عني. إليك عني. لن أصغي إليك.
دن لذريق :
أستودعك الله. سأمضي لأعاني حياة خير منها الحمام ريثما يسلبنيها القضاء بخصومتك.
شيمان :
إذا تحقق مرامي فعهدي إليك أنني لا أرضى بالبقاء بعدك هنيهة. وداعا. اخرج واحرص أن لا يراك أحد.
الفيرة :
سيدتي، مهما يحق بنا من الكوارث ...
شيمان :
لا تزعجيني بعد، دعيني أتنفس الصعداء، إنما تعلتي السكون، وحاجتي الليل أبكي تحت أستاره.
المشهد الخامس
دن دياج
دن دياج :
لن يتسنى لنا أن نذوق غبطة غير مشوبة، ولا تتحقق أمانينا إلا وتخالطها الكآبة، فكلما واتتنا حوادث الدهر تخللها من الهموم ما يكدر علينا صفو مسراتنا.
قد تمت لي الهناءة وريب الزمان ينغصها علي. أسبح في بحر من الابتهاج وأرتعد من الخوف. رأيت العدو الذي أهانني قتيلا، وليس بوسعي أن أرى اليد التي ثأرت لي منه، أبحث عن ولدي معملا فكري في طلبه ولا أجده، ومع كوني متداعيا على حقوي أنشده في كل مظنة بالمدينة، أذيب ما أبقت لي الأيام من الهمة الواهية في ابتغاء نظرة أنظرها إلى هذا الظافر، في كل ساعة وفي كل مكان تحت هذا الظلام الدامس أتخيل أنني أعانقه، فما أعانق إلا طيفا، فيخيب أملي هذا التصور الخادع، وتخلق في أوهام تضاعف وجلي، ولا أقف على أثر لفراره، أخاف عليه من أصدقاء الكنت وأتباعه فهم غير قليل وكثرتهم تبلبل ذهني. لذريق إما قتيل وإما سجين يا لله ... مخدوع بصري بما يلوح لي، أو هو سليلي ووحيدي وأملي أراه مقبلا. لا ريب أنه هو.
استجيبت أدعيتي وزالت مخاوفي وهدأت أشجاني.
المشهد السادس
دن دياج ودن لذريق
دن دياج :
لذريق، حمدا لله، ما كان أظمأني إلى رؤيتك.
دن لذريق :
وا أسفاه!
دن دياج :
لا تمزج حزنا بسروري، وأمهلني حتى ينطلق لساني بالثناء عليك، فقد وقفت من البسالة موقفا لا تنكره عليك بسالتي، وحذوت حذوي بجرأتك الباهرة. لقد بعث بك أبطال يباهي بهم محتدي،
6
منهم تحدرت ومني تلقيت الحياة، ضربة منك وهي الأولى عادلت جميع ضرباتي ونمت عن صدق حميتك، واتقاد عزيمتك، فبلغتك في أول بلاء غاية شهرتي، يا ركن شيخوختي ويا ذروة سعدي، المس هذه اللمة البيضاء التي أعدت إليها كرامتها. تعال قبل هذا العارض واعرف المكان الذي نضحت عنه فمحوت أثر الوصمة منه.
دن لذريق :
ذلك الشرف إليك مرجعه، إنني لسليلك وربيب نعمتك وما كنت لأفعل أقل مما فعلت، فأنا مغتبط بما أرضاك عني ويزيد اغتباطي أن ضربتي الأولى قد أعجبت من أحسن إلي بالحياة. ولكن أجز لي بين مسراتك - ولا تأخذك الغيرة - أن أجسر وأنفس من كربتي، وأذن ليأسي أن ينطلق من مكمنه ما جهدت في كلامك من تهوينه علي، ما بي من ندم على ما قدمت من خدمتك، ولكن أعد إلي النعيم الذي سلبته مني هذه الفتكة، تسلح ساعدي لثأرك ولم يعقه غرامي، فضرب الضربة وقد آب منها بفخار، ولكنه أودى بنفسي، فلا تزدني حديثا. قد خسرت من أجلك كل شيء، وكل ما كنت به مدينا لك قد رددته عليك.
دن دياج :
أرفع إلى غاية أسمى آية ظفرك، أعطيتك الحياة وأعدت إلي الشرف، فبقدر ما يفضل شرفي الحياة عندي رجح فضلك علي اليوم فضلي عليك بالأمس، فأحر بك أن تستأصل هذه النزعات الضعيفة من قلبك النبيل، ليس لنا إلا شرف واحد. أما المعشوقات فما أكثرهن، إنما الحب متاع ولكن الشرف واجب مقضي.
دن لذريق :
ويحي، ما تقول؟
دن دياج :
أقول ما ترغب في معرفته.
دن لذريق :
أما كفاني أن انتقامي لشرفي جاء انتقاما مني حتى تسومني تبديلا في هواي، الخيانة في الحب من شيمة المحارب الرعديد والعاشق الغادر، فلا تلحق بوفائي ظنة تمسه، واعتددني كريم النفس، ولا تسمني النكث بالعهد. لعلاقتي أمكن من أن تنفصم بمثل ما تصف، ولو فاتني فيها الأمل، لكن بذمتي مدعاة إلى الحفاظ، فأما وأنا من هواي بحيث لا أملك شيمان ولا أطيق عنها صبرا، فقد أصبح الموت - وهو مبتغاي - أخف آلامي.
دن دياج :
لم يحن الوقت لتلتمس الحمام، فإن مليكك ووطنك في حاجة إلى ذراعك. الأسطول الذي ذاع نبؤه قد دخل الميناء متوهما أنه يفاجئ المدينة وينهب البلاد.
سيهبط المغاربة ويهاجمون أسوارنا بلا جلبة مستعينين بمد البحر ومدد الظلام. القصر في اضطراب والشعب في هلع، لا يسمع إلا صخب، ولا يرى إلا دموع، وفي هذه الفوضى العامة أتاح لي التوفيق أن وجدت في بيتي خمس مئة من أصحابي، قدموا جميعا حين علموا بما حل بي، يحدوهم الولاء، ليعرضوا علي الأخذ بثأري، على أنك سبقتهم ولكن سواعدهم الشديدة تؤثر الاصطباغ بدماء البربر، فامض وسر على رأسهم إلى حيث الشرف يهيب بك، إن عصابتهم الكريمة لتأبى سواك زعيما. اذهب وذد صدمة أولئك الأعداء القدماء، فإن أردت الموت فالقه هناك كريما، انتهز هذه الفرصة وقد سنحت لك، واقرض مليكك سلامته بتهلكتك، بل عد من ذلك العراك وعلى جبينك الغار ولا يقصر مجدك على الانتقام من إساءة، بل توخ له غاية أبعد، وأكره بشجاعتك ذلك الملك على الغفران وشيمان على السكوت، وإذا كنت محبا لها، فاعلم أن عودك مستظهرا هو الذريعة المثلى لتملك قلبها. على أن الوقت أعز من أن يضاع في الكلام. دعنا من الإطالة وطر إلى المعترك. تعال اتبعني. سر إلى القتال وأر المليك أن ما فقده بالكنت يجده فيك.
الفصل الرابع
المشهد الأول
شيمان والفيرة
شيمان :
أليست إشاعة مكذوبة؟ أأنت على يقين يا الفيرة؟
الفيرة :
لا تكادين تصدقين ما بلغه من إعجاب الناس، فهم بصوت واحد يرفعون إلى السماء شهرة هذا البطل الفتى وفخر مواقفه. لم يظهر المغاربة أمامه إلا ليبوءوا بالفشل المخجل، سرعان ما وفدوا وسرعان ما انهزموا. دام القتال ثلاث ساعات، فتركوا لأبطالنا الكلمة العليا، وخلفوا ملكين أسيرين، وكان إقدام ذلك لا يدع عقبة إلا ذللها.
شيمان :
ويد لذريق هي التي أتت تلك الآيات؟
الفيرة :
كان ذانك الملكان ثمنا لبلائه الحسن، يده قهرتهما ويده أسرتهما.
شيمان :
من أين سمعت هذه الأنباء المدهشة؟
الفيرة :
من الشعب الذي يتغنى بشجاعته في كل مكان، ويصفه بأنه موطد عزه ومجدد فخره، ويدعوه بحارسه الأمين ومنقذه.
شيمان :
وماذا يرى الملك في هذا الإقدام الرائع؟
الفيرة :
لم يجسر لذريق أن يمثل في حضرته، ولكن دن دياج سيقدم له الملكين الأسيرين، وسيلتمس من سماحته وكرمه أن يتفضل ويأذن لحامي حماه بلقائه.
شيمان :
ولكن ألم يجرح في الكفاح؟
الفيرة :
لم أعلم بشيء من هذا. أراك ممتقعة الوجه. عودي إلى رشدك.
شيمان :
ولأعد أيضا إلى حنقي الذي هدأت فورته، فهل علي للاعتناء به أن أنسى واجبي؟
يمدحونه ويحمدونه. قلبي عن ذلك راض، وشرفي صامت، وهزتي للواجب وانية.
فصه يا غرامي. دع غضبي يفعل أفاعيله، لئن كان قد أسر ملكين لقد قتل أبي. وهذه الثياب السوداء التي أقرأ فيها آية يتمي هي الهدايا الأولى التي أهدتها إلي عزيمته الماضية. ينعت الناعتون في الخارج قلبه النبيل.
ولكن كل شيء حيالي يذكرني جريمته.
ألا أيتها الأشياء التي تهيج في الضغينة من مقانع وحرير وثياب هي زينة الحداد. وأنت أيتها المفاخر والمظاهر التي تحدثها نصرته الأولى أديلي لمجدي من غرامي، فإذا غلبتني الصبابة على أمري فراجعي فكرك وأذكريني واجبي الأليم، واطعني غير هيابة موقع تلك اليد القاهرة من نفسي.
الفيرة :
هدئي روعك، قد وفدت بنت الملك.
المشهد الثاني
بنت الملك وشيمان وليونورة والفيرة
بنت الملك :
لست قادمة إليك لتسكين آلامك بل لأمزج زفراتي بزفراتك، ودموعي بدموعك.
شيمان :
أحرى بك يا مولاتي أن تصيبي قسطا من السرور العميم، وأن تذوقي السعادة التي جاءتك بها العناية.
ما لغيري أن يحزن في هذا الوقت، فقد استطاع لذريق أن ينقذنا من الخطر، وردت عليك أسلحته أمن البلاد وسلامتها، فأنا وحدي اليوم يجوز لي ذرف العبرات. حمى المدينة وخدم مليكه، ولم يكن بأس ساعده بؤسا على غيري.
بنت الملك :
أي شيماني، في الحق إنه أتى معجزات.
شيمان :
لقد طرقت أذني هذه الأنباء المكدرة، وينتهي إلى سمعي ما يذاع عنه في كل مكان من أنه بالغ من السعادة في الحرب مبلغه من الشقاء في الحب.
بنت الملك :
وماذا يسوءك من هذه الأحاديث الشعبية، فإن البطل الذي تطريه قد أعجبك من قبل، وكان يملك فؤادك، ويعيش تحت أحكامك، فالإكبار لشأنه إنما هو تشريف لاختيارك.
شيمان :
لكل أن يثني عليه ولا حرج، أما أنا فأجد في ذلك الثناء تجديد العذاب، ويزداد المضض في نفسي بقدر ما يعلون من شأنه إذا قيس ما خسرت بمقياس ما له من القدر. ما أنكأ هذه الأشجان في لب الفتاة المتيمة!
كلما ازدادت معرفتي بمناقبه ازداد شغفي به، غير أن واجبي ما زال هو الأقوى، وسيتعقبه إلى أن يأخذ لي حقي على غرامي به.
بنت الملك :
بالأمس رفعك هذا التشبث بهذا الواجب إلى مقام علي، وبدا لأهل العصر من نبل مجهودك وحسن جهادك لنفسك ما ملأ قلوبهم إعجابا بك ورثاء لصبابتك، ولكن هل لك أن تنتصحي بنصح ودي صادق؟
شيمان :
من الإثم ألا أطيعك يا مولاتي.
بنت الملك :
ما كان بالأمس حقا ليس اليوم بحق. قد أصبح لذريق سندنا الأوحد، وإليه اتجه الهوى والأمل من شعب يعبده، فهو أمن قشتالة وخوف المغاربة. للملك نفسه من عالي الرأي فيه ما لأمته.
وكلهم مجمع على حقيقة هي أن أباك قد بعث فيه وحده، وإذا رغبت في بيان أصرح أوجزت لك بكلمتين: إنك بإصرارك على إهلاكه تهدمين سمعتك في البلاد، إذ يقولون: أمن أجل الانتقام لأبيها تدفع بأوطانها إلى أيدي أعدائها؟ أمشروع منك أن تطالبي بما فيه بوارنا؟
وهل نحن ضربنا بسهم في الجناية عليك؟ لا أزعم أنك على هذا مضطرة للاقتران برجل كنت تطالبينه بدم أبيك، بل أود لو استطعت أن أزيل من نفسك هذه المكابرة. ذودي عنه غرامك، ودعيه لنا حيا.
شيمان :
آه، ليس من شأني أن أسعه برحمتي، وليس واجبي بالمطلب الذي يحصره حيز، نعم إن قلبي يشفع لهذا الظافر وإن لنا شعبا يعبده، وملكا يلاطفه، ولكنني لو أحاط به أبسل المحاربين لأويت إلى ظل السرو الذي أدفن فيه، وسودت بعاره أكاليل غاره.
بنت الملك :
إنها لمكرمة منا أن نبغي الانتقام لأب نبر به، فنطلب في ديته رأسا يعز علينا، غير أننا نأتي مكرمة أسنى وأسمى عندما نبيح دمنا خدمة للأمة.
لا وصدقيني إنك إذا أطفأت لاعج
1
هواك، وسرحته من فؤادك عاقبته أشد العقاب، ليسمك حبك للبلاد هذا التجاوز، ومع ذلك ماذا تظنين أن يمنحك الملك؟
شيمان :
له أن يمنع، ولكنني لا أستطيع الخنوع.
بنت الملك :
فكري مليا يا شيماني في شأنك، أستودعك الله وأدعك تتروين في أمرك على مهل.
شيمان :
بعد أن قتل أبي لا خيار لي في أمري.
المشهد الثالث
دن فرنان ودن دياج ودن أرياس ودن لذريق ودن سنش
دن فرنان :
أيها الوارث الكريم لأسرة عريقة في المجد كانت وظلت على الأيام فخرا وذخرا لقشتالة. يا خير سليل لأجداد اشتهروا بإقدامهم.
لم يجل جولته الأولى في مضمارهم حتى بلغ شأوهم.
ليت لي من القدرة ما أحسن به جزاءك.
وهيهات أن يفي ما لي من الطول بما لك من الاستحقاق.
ثنيت عن البلاد عدوا قوي الشكيمة، وثبت بيدك صولجاني في يدي. دحرت المغاربة ولما يبدر مني أمر بصد هجماتهم ورد غاراتهم، فلم تبق تلك الهمم لرب هذا الملك ذريعة ولا أملا أن يقابل إحسانك بإحسان. ولكن ملكين أسرتهما سيكونان ثوابك، فقد دعواك في حضرتي بالسيد، والسيد في لغتهما يعني الغطريف الصنديد، فلن أنفس عليك شرف هذا اللقب.
كن منذ اليوم السيد، وليخضع كل لهذا الاسم العظيم، وليغمر من الرعب غرناطة وطليطلة، وليدلل جميع الذين يشملهم سلطاني على ما أنت به خليق، وما أنا به لك مدين.
دن لذريق :
ليتفضل جلالة مولاي ويقتصد في إخجالي، إنك لتسدي إلي من الثواب ما تقصر دونه خدمتي، وتستحييني تجاه هذا العاهل العظيم من قلة ما أجدر به من الألطاف ووفرة ما يعطي، وما أنا من يجهل حق الملك وحق سعادته على الدم الذي يحركني والهواء الذي أتنسمه، فلو وهبتهما في التماس ذلك المأرب الأسمى لم أقم بأكثر مما يجب على كل من التبع.
دن فرنان :
ليس كل من يدعوه هذا الواجب إلى خدمتي بمضطلع بها كما اضطلعت، ومبد من البسالة ما أبديت.
وإذا الشجاعة لم تفض إلى الإفراط في المغامرة لم يدرك بها مثل هذا النجاح، فلا يشق علي أن تمدح، وصف لي بإسهاب ما كان من أمر هذا الفوز المبين على حقيقته.
دن لذريق :
علمت يا مولاي حينما ألح الخطر، وألقى في المدينة من الرعب ما ألقى، أن عصابة من الأصدقاء التقت لدى والدي، ورغبت إلي في زعامتها على ما كان لي من الاضطراب، ولكن يا مولاي اغتفر لي بدءا أن اجترأت على تسييرها من غير إذنك فقد وضح عذري، إذ كان الخطب داهما، والعصابة متأهبة، فلو جئت القصر لكان رأسي عرضة للسقوط. ولما لم يكن لي بد من فقده آثرت أن أفارق الحياة مجاهدا في سبيلك.
دن فرنان :
أعذر زماعك في الانتقام لأبيك، وهذا ملكي الذي سددت ثغره يخاطبني في الدفاع عنك، فأيقن أن شيمان - قائلة ما قالت بعد اليوم - لن تسترعي سمعي، ولن أعمد إلا تعزيتها. امض في حديثك.
دن لذريق :
سارت تلك العصابة تحت إمرتي وعلى وجوهها آية ثقتها بأنفسها. كنا خمس مئة فما حصلنا في الميناء حتى تمت عدتنا ثلاثة آلاف من أناس رأونا نمشي إلى الكفاح بتلك الوجوه الصباح، فعاودت الشجاعة من زايلته منهم. خبأت ثلثيهم منذ أدركنا المرفأ في بطون المراكب التي كانت راسية، وأقررت الآخرين ومن توافد على الولاء من الأعوان، فلبثوا حيالي متحرقين إلى الصدام، لاصقين بالثرى، لا يسمع لهم دوي ولا ركز، يمر بهم الهزيع تلو الهزيع من تلك الليلة الشائقة. كذلك توارى بأمري العسس
2
لازمين كمينهم لاستكمال الحيلة، وفي كل ذلك زعمت أنني تلقيت منك الأمر، فامتثلته ونقلته إليهم جميعا.
لم تعتم تلك الأنوار الضئيلة التي تتحدر من الكواكب أن أرتنا ثلاثين شراعا يقدمها مد البحر. طغى الموج تحت المراكب ورمى بالمغاربة والقوارب، فتركناهم يجوزون لا يتحرك منا ساكن، ولا يبدو لهم حرسي في الميناء ولا جندي على أسوار المدينة. خدعهم صمتنا، وانقطاع الأنفاس، فلم يشكوا في أنهم أخذونا على غرة.
دنوا من البر بلا حذر، وألقوا مراسيهم وتدفقوا متراكضين - وما يظنون - نحو أيدي القناصة الراصدين، فهببنا عندئذ إلبا
3
واحدا، وقرعنا أسماعهم بألف صوت جهير، وصدعت عنان السماء صيحة رائعة رددها رجالنا الكامنون في مراكبنا، ثم أقبلوا مدججين، فاختلط حابل البربر بنابلهم وأخذتهم الرعدة قبل أن يتم نزولهم وشعروا بهلاكهم قبل المقاتلة.
أوضعوا وأخبوا يبغون النهب، فإذا هم يلاقون تعبئة حرب، فأحرجناهم على الماء، وزحمناهم على البر، وأجرينا من دمائهم أنهارا قبل أن يقاوم أحدهم أو يرجع إلى صفه، غير أن أمراءهم لم يلبثوا أن ضموا شتاتهم فبعثت الشجاعة فيهم، وزالت مخاوفهم، وغلب الحياء عليهم من لقاء الحمام قبل الصدام، فتألفوا من اختلاط، وراجعتهم بسالتهم، فصمدوا إلينا بأقدام ثابتة، وامتشقوا سيوفهم ودر من دمائهم ودمائنا مزيج يعج متلاحما، فإذا البحر والنهر وأسطولهم والميناء حومات
4
المتناحرين، تتبارى بينهم المنايا.
شهد الله كم كر وكم إقدام لم يشهد روائعهما إلا الظلام. إذ يفتك كل فاتك قدير ولا شاهد له إلا نفسه، وما يدري أي منقلب ينقلب الجلاد في عقباه. وكنت أتجه كل متجه مشجعا رجالنا. أدفع أناسا آخرين وأسلك القادمين للنجدة في الصفوف وأظاهرهم ثم أرمي بهم إلى الأمام، فلم أتبين نتيجة القتال إلا طلعة الفجر. تألق الضياء فكان الإقبال في جانبنا، ورأى المغاربة سوء مصيرهم، ففت في سواعدهم وراعهم تقاطر الأعوان إلينا في إثر الأعوان، فغلب خوف المنون على الرغبة في الاستظهار، وتراجعوا إلى مراكبهم يقطعون مراسيها، ويجأرون جأرات دوت أصداؤها في الآفاق. ثم نكصوا على الأعقاب غير مبالين ما آل إليه مليكاهم المتخلفان، صدفهم الهلع عن الصبر للواجب، وكما أدناهم المد منا أقصاهم الجزر عنا، على أن مليكيهم ظلا مشتبكين بنا وإلى جانبهما جنود مثخنون جراحا، يكافحون كفاح الصناديد، ويبيعون أعمارهم بأغلى الأثمان، فأهبت بهما غير مرة أدعوهما إلى التسليم ولكنهما أبياه والسيفان مصلتان، حتى إذا رأيا فلول جيشهما صرعى مجدلين ولبثا منفردين لا يغني منهما الجلد ولا المكابرة طلبا الزعيم، فتسميت لهما، فسلما، فسيرتهما كليهما إليك في آن، وانتهى القتال بفناء المقاتلين.
على هذه الصورة تصديت للخدمة ...
المشهد الرابع
دن فرنان ودن دياج ودن لذريق ودن أرياس ودن النس ودن سنش
دن النس :
مولاي، شيمان تلتمس المثول لعرض شكواها.
دن فرنان :
خبر سيئ وواجب ثقيل!
انصرف، لا أريد إكراهها
5
على رؤيتك، ويتعين علي بدلا من الشكر أن أقصيك الآن عن حضرتي، ولكن قبل أن تخرج تعال ليقبلك الملك. (دن لذريق يخرج)
دن دياج :
شيمان تتعقبه وتود نجاته.
دن فرنان :
قيل لي إنها تهواه، وسأختبر هواها، أرها عينا مكتئبة.
المشهد الخامس
دن فرنان ودن دياج ودن أرياس ودن سنش ودن النس وشيمان والفيرة
دن فرنان :
لك البشرى وإن أبطأت يا شيمان، فقد نجح الله قصدك وقضى لك وطرا. انتصر لذريق على أعدائنا، ولكنه توفي تحت بصرنا من أثر الجراح، فاحمدي الله الذي أدال لك، (إلي دن دياج)
انظر كيف شحب لونها لهذا النبأ.
دن دياج :
وانظر كيف أخذتها الغشية من شدة هواها، ثم اعجب يا مولاي من ظاهر الغم عليها، قد هتك حزنها سرائر نفسها، ولم يترك لك ريبا في هيامها.
شيمان :
أمات إذن لذريق؟
دن فرنان :
لا، لا، إنه ما زال حيا، وما زال محتفظا بعهده، مقيما على وده، فرفهي عنك، ولطفي من جزعك عليه.
شيمان :
مولاي، يدار بالمرء من الفرح كما يدار به من الترح، وفرط الجذل إذا فاجأ النفس ملك عليها حواسها، وأوهى شغاف القلب.
دن فرنان :
ترومين يا شيمان تصديق ما تكذبه شهادة العيان وقد ظهر عليك الأسى بأجلى مظاهره.
شيمان :
إيه يا مولاي، أضف هذا الظن بي إلى شدة تعسي، وهب الغاشية التي غشيتني جزعا عليه، فإن حزني - ولي فيه كل العذر - قد أرابكم في كنه أمري، وإنما فجعني نعيه لسقوط رأسه في غير وتري، ولأنه لو أودت به جراحه في سبيل البلاد لفسد انتقامي وأخفقت مساعي. تلك ميتة كريمة أراها غير عادلة في حقي، أما التي أريدها له فميتة لا يصحبها فخار، ولا تحيط بها أبهة ترفعه إلى أعلى الذرى، ميتة تدركه لا في ميدان الشرف بل على المقصلة، فليقتل من أجل أبي لا من أجل الوطن، وليكن اسمه ملوثا وذكراه مشينة. أما ضيعة العمر من أجل الوطن فليست بغبن بل هي الخلود في أبرع صورة للفناء، فخليق بي أن أغتبط بانتصاره، ولا جناح علي، إذ انتصاره يعز الدولة، ويرد على غريمي عالي القدر في الرجال، مرفوع الذكر في الأبطال، متوج الرأس لا بالأزهار ولكن بالعار، أليق ما يكون قربانا لبقايا والدي، يا ويحي لقد أبعدت مرمى أملي. هل على لذريق بأس يخشاه مني وما عليه من دموع إنما تزري على ذرافها.
قد أصبح الملك بأسره مأمنا له ومعتصما، وكل حرام عاد له مباحا تحت سلطانك، استظهر علي كما استظهر على الأعداء، وأراق من الدماء الزكية ما شرف به العدل حتى اختنق، فلم يكن جزاء المنتصر - على جرائمه - إلا حلية جديدة أضيفت إلى حلاه وزينة ذات بهارج، مشينا فيها بكره الإنصاف وراء مركبة الظافر يحف بها ملكان أسيران.
دن فرنان :
يا ابنتي جاوزت الحد في سورة غضبك، أما موقع الأحكام فشأنه أن يزن القضايا بميزان النزاهة.
قتل أبوك إلا انه المعتدي، وتلقاء ذلك يأمرني العدل بالرحمة فشاوري قلبك قبل أن تتهميني في ما بدا مني، ولا جرم أن الغرام الذي تنضم عليه جوانحك يحمد المليك لإبقائه على عشيق لك، ناهيك به من عشيق.
شيمان :
أبسببي تبقي على عدوي، على مثير حنقي، على مسبب مصائبي، على قاتل أبي؟! إنك لا تقدر مسلكي القويم قدره وتحسبني شكورا لإعراضك عن ظلامتي.
فأما وأنت لا تشكيني مما أشكو إليك بدموعي، فأذن يا مولاي أن ألجأ إلى السلاح، هو بالسيف ألحق بي العار وأنا بالسيف أتقاضى الثأر، إني لأطلب رأسه من جميع فرسانك. أجل، ومن جاءني به كنت له حليلة، فليبارزه يا مولاي، فمن انتقم لي من لذريق رضيت به قرينا.
دن فرنان :
تلك العادة القديمة التي اصطلح عليها قومي، وزعمهم أنها تأخذ للمظلوم من الظالم، تضعف الدولة، وتحرمها خيرة أبطالها، على أنه يغلب من جراء هذه العادة الذميمة أن البريء يهضم، والأثيم يعظم، فأنا أعفي منها لذريق وهو أكرم علي من تعريضه لتصاريف لا تؤمن بدراتها. لئن يكن لذلك القلب النبيل ذنب لقد ذهب به المغاربة وهم منهزمون.
دن دياج :
مهلا مولاي، أمن أجله وحده تغير شرعة جرى عليها أهل البلاط قديما وما فتئت مرعية، فما يظن شعبك وما يقول الحساد إذا أطاع لذريق نهيك وأرعى على حياته، واتخذ منه عذرا ليكون بمفازة
6
حين يخوض أولو الشرف والإباء غمار الحومات في التماس ردى كريم؟ إن مثل هذه المحاباة لتمسه في مجده مسا مبرحا، فدعه يتذوق ثمرات فوزه بلا تنغيص. قد اعتدى الكنت على أبيه فتولى عنه جزاءه، وأبلى في لقائه بلاء الباسل، فليكن باسلا إلى النهاية.
دن فرنان :
إجابة إلى طلبك آذن أن يبارز، ولكنه قد يغلب واحدا فيحل ألف محله، لأن وعد شيمان يستعدي عليه فرساني بأسرهم، فليس من العدل تصديه وحده لهم جميعا، وحسبه أن يدخل في نزال واحد.
اختاري يا شيمان من تشائين، وأحسني اختيارك، فإذا انقضى هذا الكفاح فلا تسأليني مزيدا.
دن دياج :
لا تجعل أمرك عذرا لتبجح الذين يخشون بأسه. ودع الميدان مفتوحا. إذن لا يدخله أحد، فبعد الذي أبداه لذريق اليوم، من القرم
7
العنيد الذي ينبري له؟
من الذي يغامر بحياته في لقاء قرن مثله؟
من يكون ذلك المقدام أو ذلك الجسور؟
دن سنش :
مروا بفتح الميدان، أنا ذلك المقتحم، أنا ذلك الجسور أو ذلك المقدام. جودي بهذه المنة على من يشتعل قلبه بهواك، وتذكري يا سيدتي وعدا أستنجزه.
دن فرنان :
شيمان، أتجعلين قضيتك بين يديه؟
شيمان :
مولاي، سبق الوعد.
دن فرنان :
تأهب لغد.
دن دياج :
لا يا مولاي، لا يحسن الإرجاء، والشجاع الحق يكون على أهبة في كل آن.
دن فرنان :
أيخرج من جهاد، ويدخل في جلاد على الأثر؟
دن دياج :
قد استجم لذريق مدة ما قص عليك الواقعة.
دن فرنان :
فليسترح ساعة أو اثنتين، وحذار من أن يعد هذا البراز قدوة يقتدى بها، ليعلم كل قاص ودان أنني بغير رضاي أبحث أمرا لا يليق بي.
فلن أشهد هذه المكافحة ولن يشهدها رجال قصري. (إلى دن أرياس)
أنت وحدك تحكم في أي المتبارزين أبسل وتحرص أن يتصرف أحدهما تصرفا يأباه الكرم، فإذا انتهى النزال أحضر إلي الغالب أيهما كان ليصيب الجزاء الموعود، أريد أن أقدمه لشيمان بيدي، فتكافئه بالمعاهدة على القران.
شيمان :
رحماك مولاي، أتلزمني هذا الحكم القاسي.
دن فرنان :
تشكين، ولكن حبك ينكر عليك الشكوى ويقبل بلا إكراه لذريق إذا عاد ظافرا، فدعي التأفف من حكم يستعذبه قلبك.
وأي الندين عاد منتصرا سأجعله لك قرينا.
الفصل الخامس
المشهد الأول
دن لذريق وشيمان
شيمان :
أأنت يا لذريق، وفي رائعة النهار، أنى لك هذه الجرأة؟ اذهب أو تفقدني شرفي. انصرف عني، أبتهل إليك مستعطفة.
دن لذريق :
أنا ذاهب إلى الموت يا سيدتي، وقد جئتك في هذا المكان لأودعك آخر وداع قبل أن أتلقى الضربة القاضية. وإن هواك لأثبت في فؤادي من أن أرى الردى، ولا أجعله لك فدى.
شيمان :
أتمضي إلى الموت؟
دن لذريق :
سأبادر إلى تلك الهنيهة الهنيئة، أقدم فيها حياتي لشفاء أحقادك.
شيمان :
تمضي إلى الموت! أترى في دن سنش من شدة البأس ما يحدث ذعرا في قلب لا يقهر؟ ماذا أوهنك إلى هذا الحد أو ماذا قواه إلى هذا الحد؟
ألذريق يذهب للنزال فيتوهم أنه قتيل ولما يقتل؟
أذاك الذي لم يخش المغاربة، ولم تأخذه الرهبة من أبي يمضي للقاء دن سنش فييأس قبل مظنة اليأس؟
وعلى هذا فقد تكون حالة ينخلع فيها قلبك.
دن لذريق :
أبادر إلى العذاب لا إلى القتال، وصدق هواي لك قد أزال ولا ريب من نفسي أدنى رغبة في بقائي حين تطلبين مماتي. قلبي هو هو، ولكنني لا ساعد لي أحفظ به ما لا ترضين عنه. في الليلة البارحة أوشكت أن ألحق بالفارين لو كانت المناوأة في شأن لي، فأما وقد كنت أذود عن ملكي وشعبه وبلادي فقد خشيت أن أخونهم بسوء الدفاع عن نفسي، وفي قلبي من الكرم ما لا يبغض الحياة عليه إلى حد أن يخرج منها وقد اقترف غدرا.
أما الآن والمسألة لا تعدو مصلحتي بانفرادي، فأنت تتقاضين موتي، وأنا أمتثل لقضائك، وقد تقاضاك الحنق إلى إيثار يد غيرك - إذ لم أكن خليقا أن أموت بيدك - فلن أصد عني ضربات ذلك الخصم إذ هو أحق ما أراه برعايتي لأنه يقاتل في سبيلك، وأجذل ما أكون لعلمي أن ضرباته آتية منك، وأن سلاحه يشهر في سبيل شرفك. وسأكشف له صدري لا يقيه مجن. وسأعبد في يده يدك التي تودي بحياتي.
شيمان :
إذا كان واجبي الأليم، وقد أثار بي غضبا مشروعا وحداني على هذه الخصومة، قد حكم هذا الحكم القاسي على حبك لي، فحال دون ذودك عن نفسك من هجوم المطالب بحقي، فلا تنس في هذه الضلالة التي غشت على بصرك أن الخطب لا يقتصر على حياتك بل يتناول مجدك. وإن حسن سمعتك بالغا ما بلغ في أيامك لن يدفع قول الناس إذا قتلت إنك غلبت، ولا جرم أن شرفك أحب إليك مني، إذ إنه غمس يديك في دم أبي، وجعلك على هيامك بي تؤثره على قربي، وما زلت - كما أرى - لا تحسب لهذا الشرف أدنى حساب، فتأبى أن تحسن البلاء في القتال، وترضى أن ينال منك، فأي تباين في الخلق يوهي عزة نفسك، وعلام تخليت؟ أو علام تحليت بها قبلا. عجبا! ألست أسدا إلا علي؟ فإذا خلا النزال من إساءة إلي فارقتك البسالة.
أيهون عليك والدي وأنت غالبه، فتستسهل بعده أن يغلبك أحد. امض غير مصر على الموت، ودعني أتعقبك. وإن لم تكن راغبا في البقاء فلا يفتك النضح عن شرفك.
دن لذريق :
بعد مقتل الكنت واندحار المغاربة أيتطلع مجدي إلى المزيد؟ لي أن أهمل الدفاع عن نفسي بعد أن شهدت مواقفي بكفايتي لكل عظيمة، ومضائي في كل مهمة، وبأنه ما من شيء تحت السماء يعز علي أكثر من شرفي.
لا، لا، والأمر على غير ما تتوهمين، يقضي لذريق في هذا النزال موفور الكرامة، لا يجرؤ أحد على اتهامه في شجاعته، ولن يعد مغلوبا، ولن يعرف له غالب. وإنما سيقول القائلون: «كان يعبد شيمان، فلم يرض بالعيش وهي عليه حانقة، فاستسلم مختارا لأمر التصاريف، وقد أبت هذه على معشوقته إلا أن تبغي هلاكه، أرادت رأسه فأوحى إليه قلبه النبيل أنه إذا ضن به عليها أذنب إليها، فلإنقاذ شرفه أضاع غرامه. وللأخذ بثأر متيمته وهب عمره، لم يكترث للأمل يخامر نفسه المشغولة بها، وآثر شرفه على شيمان وشيمان على حياته.» وهكذا ستعلمين أن منيتي في هذا الثقاف
1
لا تشوب مجدي بشائبة بل تزيده سطوعا، ولي شرف آخر يعقب موتي الطوعي، وهو أنه لم يكن في وسع آخر سواي ليرضيك.
شيمان :
أما وليس لحياتك ولا لشرفك نهي عليك، ولا أمر في الاستبسال، فإذا كنت قد هويتك يا حبيبي لذريق، فاجعل عوضي عن هذا الحب أن تذود عن نفسك لتنقذني من دن سنش، قاتل لتحررني من رق من لا أحب. أأزيدك على ما قلت: اذهب، ونازل، وفز لتغلبني على واجبي، وتكرهني على الصمت، وإذا كنت تشعر بأن قلبك ما زال مشغوفا بي فاخرج ظافرا من نزال جزاؤه شيمان، أستودعك الله. هذه التي بدرت مني يندى لها جبيني.
دن لذريق :
أي عدو لا أكبح اليوم جماحه!
تعالوا يا أهل نافار والمغرب وقشتالة وفرسان إسبانيا وصناديدها أجمعين، تألبوا إلبا
2
واحدا، واجمعوا جيشا عرمرما لتقاتلوا ساعدا مسلحا بمثل ما سلح به ساعدي. ضموا أشتات قواكم في وجه أمل عذب كأملي، فما والله تكفون بأسركم لتنالوا منه منالا.
المشهد الثاني
بنت الملك
بنت الملك :
أأظل مصغية إليك يا حرصي على محتدي، وأنت تعد علي الحب ذنبا؟ أأستمع لك يا غراما يهيج بسلطانه الموموق
3
أماني نفسي، ويستعديها على ذلك المستبد العاتي. مسكينة أيتها الأميرة، أي الداعيين يجب أن تجيبي؟
لذريق، إن إقدامك يجعلك أهلا لي، ولكنك على بسالتك لست بسليل مليك، يا للدهر الغشوم يفرق بين مجدي وصبابتي. أكان في الظن أن غرامي برجل لا كفل له في الرجال يسوم مهجتي أشجانا كهذه الأشجان.
وارباه! كم من زفرة يجب أن يتهيأ قلبي لتصعيدها إذا فاتني بعد هذا العذاب المديد سلو
4
يخمد لوعتي، أو قرب يبرد غلتي، ولكنني أفرطت في احترازي ويأبى ضميري أن يضع موضع الزراية فتى بلغ ذلك المبلغ من الكفاية.
نعم، إن نسبي يخص بي الملوك دون سواهم، غير أنني يا لذريق أعيش هانئة تحت ولايتك، وهل بعد انتصارك على ملكين يفوتك أن تصبح رب تاج. أوليس اسم السيد الذي لقبت به - وإنه لعظيم - دالا بلا مراء على من يليق أن تبسط سلطانك عليه، هو أهل لي ولكنه لشيمان. وهبته لها هبة عاد علي ضيرها، على إن قتله أباها لم يثر بينهما من البغضاء إلا النزر اليسير، بحيث إن واجب الأخذ بالثأر يتعقبه آسفا فلا ننتظرن ثمرة وإن قلت من جريمته ومن شغلي به، إذ إن القضاء لم يرق لي، وأعلى كلمة الغرام على الرغبة في الانتقام.
المشهد الثالث
بنت الملك وليونورة
بنت الملك :
علام جئت يا ليونورة؟
ليونورة :
جئت لأهنئك يا مولاتي بعود الصفاء إلى نفسك.
بنت الملك :
ومن أين يأتي الصفاء في هذا الكدر الشديد؟
ليونورة :
إذا كان الهوى يحيا بحياة الأمل، ويموت بموته، فقد بطل سحر لذريق وبرئ قلبك من رقاه، فذلك النزال الذي حثته إليه شيمان على أن يقتل فيه، أو يغدو بعلا لها قد أودى بأملك، ولكنه شفى نفسك.
بنت الملك :
آه، دون ذلك مدى قذف.
5
ليونورة :
أبقي لك فيه مطمع؟
بنت الملك :
بل أي مطمع تحظرينه علي وفي وسعي أن أكيد كيدي لخيبة الأمل الذي تعلل به في ذلك النزال، وما أكثر الحيل التي يوحيها الغرام إلى عقول العشاق الذين كابدوا تباريحه.
ليونورة :
ما الذي تستطيعينه، وقد عجز مقتل أبيها عن إيقاد جذوة الشقاق بين قلبيهما، وشيمان تبدي في سيرتها اليوم، غير متورعة، أن البغضاء ليست السبب في خصومتها، فقد فازت بإباحة القتال، ورضيت من أجل عاشقها بأن تكون زوجا لأول من يقدم لها. لم تلجأ إلى سواعد مدربة قوية أصلبتها المعارك الشهيرة المتعددة، واجتزأت بدن سنش دون سواه لأنه سينتضي السلاح لأول مرة، استحبت منه أنه عادم الخبرة لم تسبق له شهرة بالجلاد، فأوردته بلا حذر ورد الأريب
6
في عقباه. وذاك عمل ليس مرماه بسر، فهي إنما آثرت هذا النزال ليقوم معه عذرها في مخالفة ما يجب، هيأت به للذريق نصرا ميسورا حتى إذا أحرزه تظاهرت بالانضواء لأمر القضاء.
بنت الملك :
لمحت هذا، سوى أن قلبي ينافس شيمان في عبادة ذلك الظافر، فأي شطر ترين أن أولي وجهي، وأنا العاشقة المنكودة؟
ليونورة :
تذكري، جهدك، بنت من أنت. إذا وعد الله لك ملكا أفتشغلين قلبك بمن دونه مقاما؟
بنت الملك :
قد تغير مرمى غرامي، فما شغفي بلذريق من حيث لا يعدو الرجل النبيل، كلا ويعيذه حبي أن أسميه بهذا الاسم، أن أهوى إلا صاحب الملاحم المرفوعة الذكر في الأنباء، الشجاع الملقب بالسيد، الذي أصبح من أتباعه ملكان. على أنني سأتغلب على نفسي، لا خشية الملام، بل صونا لغرامي من شبهة تعلق به. فلو أنهم اصطنعوني، وزانوا لي مفرقه بالتاج لأبيت أن آخذ اليد التي أعطيت وإذا كان محتوما له الفوز في عقبى ذلك النزال فلنمض ولنهبه مرة أخرى لشيمان.
أما أنت التي رأيت مواقع السهام من قلبي، فتعالي واشهدي كيف أتم ما بدأت.
المشهد الرابع
شيمان والفيرة
شيمان :
الفيرة، ما أشد ألمي، وما أجدرني بالرثاء، لا أعرف ما أرجو ويلوح لي كل ما أخشى. تبدر مني الأماني، فما أجسر أن أتمناها وما أبتغي من شيء إلا والندم العاجل لزامه.
دفعت متناظرين في حبي إلى امتشاق الحسام، وأيهما أفلح أجرى سخين دمعي، ومهما يكن من ترقب ذات الغيب فإني بين خطبين: أبي ولم ينتقم له، أو عشيقي وقد قتل.
الفيرة :
بل أجد أن إحدى العاقبتين ستخفف من برحائك،
7
فإما لذريق تفوزين بقربه، وإما ثأرك تدركينه. ومهما يكن من تصرفات الدهر في أمرك، فهو إما يؤيد مجدك أو يهب لك حليلا.
شيمان :
وا عجبا! أذلك الذي أمقته أم ذلك الذي أطالبه بوتري؟
8
أقاتل لذريق أم قاتل أبي؟ أحدهما يجعل لي قرينا وأتلقاه مخضبا بأكرم دم علي. تثور نفسي من كلا الجانبين وما أخاف الموت كما أخاف عقبى هذه الخصومة.
يا انتقامي ويا حبي، إليكما عني، فقد قذفتما في روعي بلبالا لا تعادله لذة تستفاد منكما.
وأنت أيها المحرك القدير لما أشكو من تصاريف المقادير أختم هذا البراز، لا تعلو فيه كلمة ند على ند ولا يكون فيه غالب ولا مغلوب.
الفيرة :
لو استجيب دعاؤك لعدت أشد بؤسا، ولقيت من جراء هذا النزال عذابا جديدا. لخير لك من أن تظلي بعده مهضومة الحق مهتاجة بما يساورك من عوامل الحقد، مطالبة من غير هوادة بموت من تحبين، لخير لك يا سيدتي أن يعود لذريق وافر العزة بما أوتيه من البأس متوج الرأس فتنزلي كظيمة الغيظ على حكم النزال، ويكرهك الملك على إدراك ما تشتهين.
شيمان :
أجدك! إذا فاز فهل تظنين أنني أستسلم! لواجبي أسمى وخسارتي أعظم من أن يتقيدا بحكم السيف أو بأمر الملك. يقدر لذريق على قهر دن سنش بلا عناء، ولكنه لا يقدر على المساس بمجد شيمان، ولست أبالي وعد الملك له، فإن صدق عزيمتي في الذود عن شرفي يجد له ألف عدو.
الفيرة :
احذري أن يحاسبك الله على هذه الكبرياء، فيأذن أن ينتقم لك دن سنش. يا عجبا! أتظلين ترغبين عن السعادة، وتأبين أن يتسنى لك الامتثال مع سلامة الشرف، ماذا يريد هذا الواجب، وإلى أين ينتهي أمله! أبموت عشيقك يبعث أبوك حيا؟ أقليل عليك أن تصابي برزء واحد؟ وهل تلتمسين غبنا فوق غبن، وحزنا فوق حزن. إنك مع مجاراتك لطبعك على ما يشاء من التبدل والتحول، لا تكونين جديرة بالعاشق الذي يبتغونه لك قرينا، وقد نرى من سخط القدر - إذا استجاب لك - آية تذهب بلذريق، وتدع لك دن سنش بعلا.
شيمان :
حسبي يا الفيرة ما أكابد من نوازع النفس، فلا تضاعفيها بهذا التنبؤ الوبيل. أبغي لو استطعت أن أخلص منهما كليهما، وإلا فان آخر دعائي أن يظفر لذريق في هذا النزال، لا لأن فرط الهيام يجنح بي إلى جانبه، ولكن خشية من مآلي إلى دن سنش. ومن هذه الخشية تتولد أمنيتي. وا شقوتاه! ماذا أرى؟ الفيرة، قضي الأمر.
المشهد الخامس
دن سنش وشيمان والفيرة
دن سنش :
بكرهي ألقي على قدميك هذا السيف.
شيمان :
ويلاه! السيف المخضب بدم لذريق؟
أيها الغادر أتجرؤ أن تظهر أمام عيني بعد أن حرمتني أحب شيء لدي. أمط نقابك يا غرامي فما عليك اليوم من بأس. رضي أبي وحسبك تكتما. ضربة واحدة أمنت شرفي، وأيأست نفسي، وأطلقت صبابتي من سجن صدري.
دن سنش :
هدئي جأشك.
شيمان :
أتخاطبني بعد؟ أيها القاتل البغيض لبطل أعبده، اذهب فقد أخذته غيلة، ومثل ذلك المغوار الصنديد ما كان ليقتل بيد مبارز من طرازك. لا تنط بي أملا ما، ولا شكر على خدمتك، فلئن زعمت أنك انتقمت لي لقد أزلت حياتي.
دن سنش :
ما أغرب هذه الفورة التي تصمها عن سماع ...
شيمان :
أتبغي أن أسمع منك كلمات الفخر والتباهي، وأن أصبر على ما تذكره، في قحة وخيلاء، من وصف صرعته وجريمتي وشجاعتك.
المشهد السادس
دن فرنان ودن دياج ودن أرياس ودن سنش ودن النس وشيمان والفيرة
شيمان :
مولاي، برح الآن الخفاء بعد طول المجادلة، ولات حين كتمان. كنت أهوى وتعلم سريرتي. غير أنني صممت على إباحة ذلك الرأس العزيز، للأخذ بثأر أبي، وقد رأيت بعينيك يا صاحب الجلالة كيف أذللت غرامي لواجبي، فالآن مات لذريق وموته حولني من عدوة شديدة إلى عاشقة مدلهة، كان هذا الانتقام دينا علي لبري بوالدي، وهذه العبرات اليوم دين علي لهواي. قضى علي دن سنش بتوليه الذود عني، أفأكون الجزاء لذلك الساعد الذي أودى بي؟
فيا مولاي، إذا كان للشفقة أثر في نفس ملك، فرحماك، وانقض ذلك العهد الذي أبرمته بكرهي، وقده مني مكافأة على قتله عديل روحي أن أتخلي له عن كل مالي. فليخلني ونفسي أعتزل الدنيا في دير مقدس، وأبكي إلى آخر نسمة من حياتي أبي وحبيبي.
دن دياج :
إنها لمحبة يا مولاي، ولا تر جناحا عليها أن تعترف بغرامها المحلل.
دن فرنان :
شيمان، عودي إلى نفسك. لم يمت صاحبك، وإنما غلب دن سنش، ولم يصدقك النبأ.
دن سنش :
مولاي، إنما خدعتها سورة نفسها، فقد جئت من الميدان عقبى النزال ، وكان ذلك البطل الكريم الذي يتم فؤادها قد قال لي عندما أسقط السيف من يدي: «لا تخش نكيرا سأدع النصر لا لك ولا عليك، ذلك خير من أن أريق دما عرض في سبيل شيمان، وبما أن واجبي يدعوني إلى المثول لدى الملك فاذهب إليها وأخبرها بما جرى، وألق على قدميها حسام الظافر.» فبادرت إليها يا مولاي، ولكن رؤية السيف أطارت لبها. ظنتني أنا الفائز إذ رأتني عائدا، وفاض غضبها بما كشف عن سريرتها، فتكلمت، وقد ثارت ثائرتها ووهى جلدها، ولم تمكني من الإفضاء بكلمة إليها. على أنني وإن كنت غلبت، أراني مغتبطا، ومع ما يملأ جوانحي من الهيام بها، ومع ما بؤت به، وقد خسرتها، من فشل لا يدرك مداه، لست أقلى فشلي في جلاد كان من مغبته هذا الفوز الباهر لذلك الهوى الطاهر.
دن فرنان :
يا بنيتي لا ينبغي أن تخجلي من مثل هذا الوفاء في الحب ولا أن تعمدي لإنكاره وإن دعاك إليه الخفر. مجدك مصون وشرفك سليم. وأبوك راض يكفيه منك أنك للأخذ بثأره، عرضت لذريق غير مرة للهلكة. فقد رأيت كيف يتصرف الله بغير ما ننوي، وقد فعلت كل شيء لأبيك، فافعلي شيئا لنفسك. لا تعصي ما أتقدم به إليك وتقبلي مني زوجا تحبينه ذلك الحب.
المشهد السابع
دن فرنان ودن دياج ودن أرياس ودن لذريق ودن النس ودن سنش وبنت الملك وشيمان وليونورة والفيرة
بنت الملك :
كفكفي دموعك يا شيمان وتلقي بلا حزن هذا الغالب الكريم من يد أميرتك.
دن لذريق :
لا يسؤك يا مولاي أن أجثو أمام قدميها في حضرتك إطاعة لغرامي. لست يا سيدتي، بموقفي منك الآن مطالبا بجزائي، بل أنا آت مرة أخرى لأقدم لك رأسي غير متذرع لديك بحكم المليك، ولا بشرع النزال، فإذا كان كل ما عمل أقل مما يجب لوالد، فقولي بماذا أستطيع إرضاءك؟ أتريدين أن أصارع ألفا بعد ألف من الشجعان، وأن أتبسط في فتوحي إلى أقاصي الدنيا، وأن أقتحم بمفردي معسكرا، وأهزم جيشا، وأن أبز ببعد شهرتي أبطال السير؟ فإن كان ذنبي يغسل بتلك الفعال اضطلعت بكل أمر جسيم وأتيت بكل عجب عجاب. أما إذا كان ذلك الشرف السني غلة لا تبرد إلا بوفاتي، فلا تسلحي علي بعد يد إنسي. بل هذا رأسي على قدميك فانتقمي بيديك. ويداك وحدهما حقيقتان بقهر من لا يقهر. خذي من الثأر بما لا يستطيعه سواك، وعندئذ ليكفك عقابا لي أن يضحو ظلي، فإن أبعد فلا تزيديني بالسلو بعدا، وإذا ما أتاح لك موتي صيانة لمجدك فاجعلي جزائي الاحتفاظ بذكراي، وقولي أحيانا في أسف علي: لولا هواه لما جاد بحياته.
شيمان :
انهض يا لذريق. إنني لأقر يا مولاي أن ما قلته أثبت من أن أستطيع له نقضا. هيهات أن أقدر على مقت لذريق وفيه تلك الفضائل. ومتى أمر الملك وجب الامتثال. بيد أنه مهما يكن الأمر الذي تسومونني، فهل بوسعكم أن تشهدوا مثل هذا الزواج؟ وإذا ألزمتموني من الإذعان ما يأباه واجبي أفيمضى بذلك العدل كل العدل. أن أصبح لذريق حاجة للدولة فهل تعين علي أن أكون الجزاء لما يفعله في سبيلكم، وأن أعرض نفسي لتأنيب سرمدي على تخضيبي معصمي بدم والدي.
دن فرنان :
كثيرا ما جرى أن الزمان هون ما كان صعبا، وأحل ما عد حراما. قد كسبك لذريق ويجب أن تكوني له. ولكنني على ما ثبت من حقه لا أقف منك موقف غير المكترث، لما يوجبه سناء مقامك، ولا أتعجل في منحه ثمرة انتصاره، فإذا أرجئ القران فلا مخالفة، والحكم لزواج لم يقيد بميقات، فلك مهلة سنة تكفكفين فيها عبراتك، وأنت يا لذريق عليك في هذه المدة أن تحمل السلاح. دحرت المغاربة على شواطئنا، وعكست عليهم مراميهم وأبطلت مساعيهم، فاذهب الآن إليهم في نفس بلادهم وشن عليهم الغارات مؤمرا على جيش، موكلا بإنزال الثبور في أعدائي، ففي اسم السيد كفاية بإلقاء الرعب في قلوبهم، وقد دعوك مولى فربما أرادوك ملكا. ولكن الزم الوفاء لشيمان أثناء صولاتك
9
العظيمة. ثم عد، أعادك الله غانما، أولى بها مما كنت، أعل ذكرك وضاعف شأنك بحسن بلائك حتى يصبح من الفخر لها يومئذ أن تقترن بك.
دن لذريق :
من أجل الظفر بشيمان والقيام بخدمتك أي أمر، وإن جل، لا يتعذر علي إنفاذه، ومهما يشق علي بعدها عن عيني فحسبي يا مولاي أن أمسي على أمل من رضاها.
دن فرنان :
نط أملك بشجاعتك، وكله إلى وعدي، فأما ومكانك أعز مكان في قلب شيمان، فخير حل لعقدة الشرف التي حالت بينكما، أن تدع الزمان يفعل فعله، وأن تعتمد على شجاعتك وعلى مليكك.
ناپیژندل شوی مخ