يعنى الباحث كثيرا بدراسة نسب من يترجم له، إذا كان من وراء هذه الدراسة نور يضيء جوانب البحث، أو يوضح نتيجة من النتائج، أو يفسر أثرا من الآثار، فقد يكون في أسرة من الأسر توارث لنوع خاص من أنواع المعرفة، أو استعداد للون من ألوان الثقافة والفنون، ولكننا نبحث في نسب سيبويه فلا نجد شيئا يلقي بصيصا من الضوء على حياة آبائه، بل لا نعرف من هؤلاء الآباء إلى اثنين، هما: أبوه عثمان، وجده قنبر، وقنبر اسم عربي قح، هو اسم جد الشاعر الحكم بن معمر، وأرجح أن ذلك هو ضبط اسم جده، لا قنبرة كما في كتاب «نزهة الألباء» في الطبعة القديمة التي عثرت عليها، ويدل على ذلك رثاء الزمخشري له كما سنرويه بعد، فإن الشعر لا يسمح بالنطق بقنبرة، وليست القاف مفتوحة كما ضبطت في كتاب «معجم الأدباء»، وسلفستر دي ساسي (ص40)، وقد ترك ابن خلكان ضبط هذا الاسم مع شدة عنايته بضبط الأسماء، ولعله لم يصح عنده ضبط يذكره، واكتفاء المؤرخين بهذين الاسمين من سلسلة نسبه، قد يكون من حقنا أن نستنبط منه أن أباه وجده هما اللذان دخلا في الإسلام ، وسميا بأسماء عربية، ولم يكن لأجداده الفرس من الخطر ما يدفع المؤرخين إلى حفظ أسمائهم، وسيبويه وأسرته موال لبني حارث بن كعب، أو لآل الربيع بن زياد، أو آل ولاؤه لآل الربيع بعد بني الحارث.
أما أمه فكانت فارسية كذلك؛ بدليل أنها لقبت ابنها هذا اللقب الفارسي الصريح الذي عرف به في التاريخ، وبدليل هجاء بشار له بأنه ابن الفارسية كما سيأتي، وقد سار لقبه أشهر من اسمه وهو عمرو، وكنيته وهي: أبو بشر، أو أبو الحسن، ولا أريد أن أطيل في معنى هذا اللقب؛ فيكاد مؤرخو العرب يجمعون على أن معناه: «رائحة التفاح»، ثم يعللون سبب هذا التلقيب، مدعين حينا أنه كان جميلا ذا وجنتين كالتفاح، وحينا أنه كان جميل الرائحة حتى إن من يقربه كان يشم منه رائحة التفاح، وهذه تعليلات لا قيمة لها ولا داعي إليها؛ لأن الأسماء لا تعلل كما يقولون، ويقول المستشرق
Huart
في كتابه:
La Littérature arabe (الأدب العربي): إن هذه الصيغة قد يكون مدلولها التصغير في اللغة الفارسية، فيكون معنى اللقب إذا: التفاحة الصغيرة، والرأي في ذلك للعلماء باللغة الفارسية، وسيبويه هو الطريقة التي ينطق بها هذا النوع من الأسماء المنتهية ب «ويه»، ك «ابن خالويه» و«نفطويه»، أما نطقه في لغته الأصلية فسيبويه بفتح الياء كما ضبطه ابن خلكان وصاحب «إعجام الأعلام»، وبكسرها كما ضبطه «إيوارت»، وقد تعب المستشرق الفرنسي «دي ساسي» في ضبط هذه الكلمة وبيان معناها في كتابه:
An. Gra. Ara.
والمرجع أيضا علماء اللغة الفارسية.
سيبويه إذا فارسي صريح من ناحية أمه وناحية أبيه، وربما كانت اللغة الفارسية تحيا نوعا من الحياة في منزله، وعلى لسان أمه وأبيه، ولعله كان على علم قليل أو كثير بهذه اللغة، وهذا ما لا أستطيع إثباته، وإن كنت أستأنس له بهذا الفصل الذي عقده في كتابه للألفاظ المنقولة من الأعجمية، واطراد الإبدال في حروف الكلمة الفارسية عند تعريبها لوجود حروف في الفارسية لا نظير لها في العربية.
كان كثير من حملة العلم ودارسي اللسان العربي في تلك العصور من الفرس ، والمؤرخون يعللون ذلك بعلل كثيرة، كان من جملتها ولا ريب تطلع الشبان ذوي المواهب إلى نيل المناصب السامية في دولة كانت تعتمد على سواعد الفرس، ولقد كان هذا الباعث - بدون شك - واحدا من بين الأسباب التي حفزت سيبويه إلى دراسة اللغة العربية والتبحر فيها، كما يدل على ذلك رحلته إلى بغداد، فإنها كانت رحلة يريد من ورائها المجد المادي والأدبي، كما سنرى. (2) مولده
لا سبيل إلى تحديد سنة ميلاده، فقد أغفلها المؤرخون جميعا، ولا محيص لنا من الفرض والتخمين للوصول إلى معرفة تلك السنة على وجه التقريب؛ ذلك أن التاريخ يذكر من أساتذة سيبويه عيسى بن عمر الثقفي الذي يكاد المؤرخون يجمعون على أنه توفي سنة تسع وأربعين ومائة، ويقول ياقوت في كتابه «معجم الأدباء»: «وما يكون قد أخذ عنه إلا وهو يعقل، ولا يعقل حتى يكون بالغا، فإذا حسبنا لبلوغ سيبويه سن الرشد أربعة عشر عاما، كان لنا أن نضع ميلاد سيبويه في العام الخامس والثلاثين بعد المائة، ويكون عيسى بن عمر من أوائل الأساتذة الذين أخذ عنهم سيبويه.»
ناپیژندل شوی مخ