يحكى أن رجلا ضاق بنفسه وضاقت به نفسه، ومل الحياة وملته الحياة، لا يكاد يستقر في مكانه من مأواه حتى يخرج هائما على وجهه في الطريق، ثم لا يكاد يهيم في الطريق على وجهه حتى يقفل راجعا إلى مكانه من مأواه. ولبث على هذا النحو حينا، فاشتد به القلق، ولم يعد في قوس الصبر عنده منزع.
وما هو ذات يوم إلا أن ضرب المنضدة أمامه بجمع يده، وقال لنفسه في لهجة حازمة جازمة: إما موت وإما حياة، كما يقول هاملت. إما موت يقضي على هذه الحياة الخيالية الخاوية الفارغة إلا من التافه السفساف، وإما حياة خصبة مليئة غزيرة بعيدة الأغوار ... فأما الموت فلست أشتهيه لنفسي. وإذن؛ فلا بد لي منذ اليوم أن أعيش، وأن أعيش سعيدا.
راح يفكر كيف السبيل إلى ذلك العيش السعيد المأمول، واستهدى الناس إلى هدفه المرجو سواء السبيل، فقال له قائل: الأمر هين ميسور، ابحث عن أسعد الناس عيشا وأحفلهم بالحياة، حتى إذا ما جئته؛ البس قميصه ساعة أو ساعتين، تكن مثله سعيدا محتفلا بالحياة.
وانطلق صاحبنا يبحث عنه في الحضر تارة وفي البادية طورا، يبحث عنه في القصور مرة، وفي أكواخ الريف مرة، حتى جيء به يوما إلى رجل شهد لنفسه وشهد له الناس من حوله أنه سعيد هانئ، لم يعرف قط في حياته كيف تضيق النفوس وتحرج الصدور ... فإذا هو عريان الجسد لا يملك قميصا!
عاد الرجل من سفره وهو يتدبر ما وجد وما رأى ... ها هو ذا الحق قد وضح أمام عينيه أبلج ناصعا، لم تعد السعادة في رأيه مشكلا معضلا. ففيم هذا الكلام الطويل العريض الذي ما انفك يديره الناس في أفواههم عن السعادة والحياة السعيدة؟ ... إن اللغز لم يعد لغزا. إن سر السعادة قد افتضح، سر السعادة في قلة الحاجات. فقل لي كم تتطلب لحياتك من حاجات؛ أقل لك كم أنت سعيد ... هي عملية حسابية أولية بسيطة: لو بلغت حاجاتك صفرا كانت لك مائة السعادة كلها. وتزيد حاجاتك فيهبط مقدار السعادة في نسبة عكسية دقيقة ... لم يكن ديوجنيس إذن هازلا حين اكتفى من دنياه ببرميل يقيم فيه. فلما جاءه الإسكندر العظيم يسأله: ماذا تريدني أن أصنع لك من معروف؟ أجابه: لا أريد منك سوى أن تبعد عني الآن؛ حتى لا تحجب ضوء الشمس.
إذا آمنت بأن ملابس الشتاء تنفعك في الصيف كذلك؛ فأنت أقرب إلى الحياة السعيدة ممن لا يتصور الحياة بغير ملابس للصيف وأخرى للشتاء. وإذا آمنت بأن غرفة واحدة تكفيك للنوم والأكل والجلوس والقراءة؛ فأنت أقرب إلى السعادة ممن لا يتصور الحياة بغير عشر غرف أو عشرين. وإذا آمنت أنك تستطيع بيديك أن تؤدي لنفسك معظم حاجاتك؛ فأنت أدنى إلى العيش السعيد ممن يستحيل عليه العيش بغير خدم وأتباع ... وهكذا قل في شتى جوانب الحياة وأوضاعها. •••
لكن ما أيسر القول وما أشق العمل؛ فأيسر اليسر أن تقول لنفسك: البس ملابس الشتاء في الصيف، واسكن غرفة واحدة، واصنع هذا وذاك بيديك، وامش إلى هنا وهناك برجليك ... أيسر اليسر أن تقول لنفسك: إن كان عبء الحياة ثقيلا على كاهلك؛ فانفضه عن نفسك بضربة واحدة وعزمة واحدة؛ تزح عن كاهلك العبء الثقيل الذي يبهظه وينقضه. أما أن تنفذ هذا الذي تنصح نفسك بفعله؛ فأمر دونه أقوى ما عرف البشر من مضاء الإرادة وقوة التصميم. وإن شئت فاقرأ للغزالي كيف كادت نفسه تتمزق إربا من شدة ما كان يعانيه من تردد، حين أحس الرغبة في اعتزال حياته المدنية بكل ما جاءته به من مجد وجاه؛ ليلوذ بحياة بسيطة ساذجة متقشفة زاهدة.
ولا أكتم القارئ أني في موقف شبيه بهذا: أحس رغبة عارمة في الانطواء والانزواء والاختفاء وخلع الحياة المعقدة، لألوذ بما هو أبسط وأخف من ألوان الحياة. لكن ما حيلتي إن عزت علي إرادة الغزالي وأمثاله؟ إنني أتمنى الآن أن أعيش أبسط العيش وأبعده عن التركيب والتعقيد. ومع ذلك تراني لا أصنع شيئا في سبيل التنفيذ، فلا أزال أتأنق في ثيابي، وأجعل منها شيئا للصيف وشيئا للشتاء، وهذا الثوب للنهار وذلك للمساء!
حيلتي إزاء ذلك كله هي حيلة العاجز، وقد اصطنعتها، ألا وهي التنفيس عن طريق القراءة. فأقرأ لرجل عاش هذا العيش البسيط الذي أتمناه، ووصف لنا أسلوب عيشه؛ فلعلي أستمتع على صفحات كتابه بحياة أتمناها ولا أقوى على تحقيقها. ومن يدري؟ فقد يكون هذا هو أنفس ما يقصد إليه الأدب كله من غايات، فيعيش الأديب للناس، بمعنى أنه يعاني حياة معينة ليقدمها مكتوبة، فيعيشها غيره وهو مضطجع على مخدعه مسترخي البدن مستريح البال!
وكان الكتاب الذي اخترته ليحقق لي ما أبغيه هو كتاب «وولدن» الذي وصف فيه الكاتب الأمريكي «هنري ديفد ثورو» حياته في الغابة التي فر إليها من وجه المجتمع الممقوت البغيض. وقد كنت أهم بقراءة هذا الكتاب منذ سنتين، وكانت تصرفني عن ذلك شواغل الحياة، حتى سنحت هذه الفرصة البديعة لقراءته. فها أنا ذا فيما يشبه الحالة التي دفعت «هنري ديفد ثورو» إلى هجر المجتمع فرارا من تكاليفه المرذولة وتقاليده الممقوتة. لكني لا أملك الشجاعة التي كانت له، فحققت له ما أراد من هروب؛ فلا أقل من أن أصاحبه في فراره وأنا مستلق على مخدعي!
ناپیژندل شوی مخ