ولعله لم يطب نفسا لهذه الصحبة الثقيلة في طريق عودته، لكني تجاهلت ما يريده لنفسه من عزلة الطريق، وسرت إلى جانبه. سرنا بخطوات بطيئة خفيفة، لكن وقع أقدامنا على حصباء الرمل ومنثور الحجر، كان له رنين في ذلك الركن الهادئ البعيد.
قلت: نعم إن الذي ينقصك هو الخيال، ينقصك مثل أعلى تعمل من أجله، فينسيك الهدف مشاهد الطريق.
قال وقد ازداد تثاقلا في خطاه: أصابني مرض الخيال، وعلة المثل الأعلى منذ خمسة وعشرين عاما، ولبثت آثار المرض تتراكم حتى كان هذا البروز الذي تراه شائها فوق كاهلي.
قلت لنفسي عندئذ، دع عنك الواقع، والتمس لنفسك سلما في دنيا الخيال تصعد على درجاته إلى أجواز الفضاء؛ فصحبة الأصدقاء واقع فلا تأبه لها، والمرأة واقع فلا تلق بالك إليها. والطعام والشراب واقع فلا تحتفل بطعام أو شراب. هذا الذي حولك كله واقع فاخرج من نطاقه. وهناك في صومعة وقعت عليها في جوف الجبل، آثرت الكفاح في سبيل الخيال.
ولبثت الصومعة يعمرها خيالي عاما في إثر عام، وعقدا من السنين بعد عقد من السنين. لم تكن الصومعة خالية في بصري وسمعي، كنت أرى فيها الخيال مجسما حتى لأنسى أنه من خلق أوهامي، وأحدثه وأسمع لحديثه، وأتملقه ويبتسم في وجهي، وظللت في صومعتي أعبد آلهة خيالي، لا أشهد نور الشمس ولا أريد أن أشهده، ولا أرتد إلى دنيا الناس والعمران، ولا أريد أن أرتد إليها، ولا أستنشق الهواء الطلق النقي ولا أريد أن أستنشقه ... كنت على نقيض فاوست:
فقد اتفق الشيطان مع فاوست أن يمهله ردحا من الزمن، يعمل فيه فاوست ما يشاء، على شرط أن يأتيه الشيطان بعد ذلك فيتقاضى أجر إمهاله، وليس أجره بأقل من روح فاوست. وكان فاوست عند أول اتفاقه مع الشيطان يظن أنه الكاسب في هذه الصفقة، فماذا يهمه من نفسه إذا ما ترك له الحبل على الغارب عشرين سنة أو ثلاثين؟ لكن السنين انقضت، وصبر الشيطان جميل طويل لا ينفد، وجاء الشيطان ليستل من فاوست حياته. وعندئذ فقط أدرك فاوست أنه خسر في اتفاقه مع الشيطان خسرانا مبينا؛ كيف يبيع نفسه وحياته بعشرين عاما أو ثلاثين مهما يكن ما يملأ هذه الأعوام؟
وأما موقفي من شيطاني فعلى نقيض ذلك؛ عقدت معه اتفاقا أن أبيعه حياتي ردحا من الزمن، على أن يردها لي بعد ذلك خصبة مليئة قوية، وذهبت إلى صومعتي تلك لا أعرف فيها الحياة ولا أخالط الأحياء، أعلل النفس طوال السنين بأن حياتي السليبة مردودة إلي بعد حين، بعد أن تكون كل حبة فيها قد أنبتت مائة سنبلة وفي كل سنبلة مائة حبة.
فلما انقضى على غربتي عهد طويل؛ طلبت من الشيطان أن يفي بوعده كما وفيت له بعهدي، وفعل فإذا ما يعطينيه نفخات من هواء، هي هذه الأنفاس أرددها في صدري شهيقا وزفيرا، ثم لا شيء غير ذاك. وضحك مني الشيطان ضحكة قوية حسبت الأرض ترتج لها تحت قدمي، فابتسمت ابتسامة من زالت عنه غشاوة الخيال لأول مرة، وأبصر بحقيقة الواقع لأول مرة، وقلت: أستريح إذن بعد هذا العناء الطويل. إن الصومعة التي عمرها لي الخيال قد باتت خالية خاوية إلا من أصداء أنفاسي.
لكن مضجعي لم يستقم تحت ظهري حين أردت الراحة؛ لأن عهد الصومعة قد خلف لي هذا الورم الأليم، الذي تراه بارزا عند كتفي، نسجته لي الأعوام طبقة فوق طبقة، كما يفعل مر الأعوام في جذوع الشجر.
وكنا قد بلغنا العمران، وأراد الأحدب، أن ينصرف إلى سبيله، فقلت له: إن لي معك حديثا آخر.
ناپیژندل شوی مخ