[شبهات_حول_الصحابة_أم_المؤمنين_عائشة]
شبهات حول الصحابة والرد عليها
أم المؤمنين
عائشة
رضي الله عنها
لشيخ الإسلام ابن تيمية
ولد سنة 661 وتوفي سنة 728ه
جمع وتقديم وتحقيق
محمد مال الله
الطبعة الأولى
1410ه - 1989م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد :
أخي القارئ أقدم الجزء الثالث من هذه السلسلة، راجيا من الله تعالى أن ينفعك بها، وأن لا تبخل بالدعاء لمن قام بتأليفها وأيضا لجامعها.
أبو عبد الرحمن
محمد مال الله
شذرات من مناقب
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
1 - عن ابن شهاب قال أبو سلمة: أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى. تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
2 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون. وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام(2).
3 - عن عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
”فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام“(3).
مخ ۱
4 - عن القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر(1).
5 - عن الحكم سمعت أبا وائل قال: "لما بعث علي عمارا والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم، خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها"(2).
6 - عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء. فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل فيه للمسلمين بركة(3).
7 - عن هشام عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غدا؟ حرصا على بيت عائشة. قالت عائشة: فلما كان يومي سكن(4).
8 - هشام عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة. فقالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد لخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث ما دار. قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني. فلما عاد إلي ذكرت له ذلك، فأعرض عني. فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الروحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها(5).
مخ ۲
9 - عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت لا رب إبراهيم. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك(1).
10 - عن هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي(2).
مخ ۳
11 - عن ابن شهاب أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فاذن لها، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه. قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له أن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدا. قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العلم الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفينة. قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي فاستطالت لي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها. قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر. قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: إنها ابنة أبي بكر(1).
12 - عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد، يقول: أين أنا اليوم أين أنا غدا، استبطاء ليوم عائشة. قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري(2).
13 - عن هشام عن أبي عن عائشة: أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغن بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم(3).
14 - عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت وهو مسد إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: ”اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق“(4).
15 - عن عروة عن عائشة قالت: كنت أسمع أن لن يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة، قالت: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. قالت: فظننته خير حينئذ(5).
مخ ۵
16 - قال ابن شهاب أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجاله من أهل العلم أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: ”إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة ثم يخير“. قالت عائشة: فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي غشى عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: ”اللهم الرفيق الأعلى“. قالت عائشة: قلت: إذا لا يختارنا. قالت عائشة: وعرفت الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيح في قوله ”إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير“. قالت عائشة: "فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ”اللهم الرفيق الأعلى“"(1).
17 - عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة، فخرجتا معه جميعا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها، فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر، قالت: بلى، فركبت عائشة على بعير حفصة وركبت حفصة على بعير عائشة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم ثم سار معها حتى نزلوا، فافتقدته عائشة، فغارت، فلما جعلت تجعل رجلها بين الأذخر وتقول: يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئا(2).
18 - عن عروة عن عائشة أنها قالت: جلس إحدى عشرة امرأة وتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا:
قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل.
قالت الثانية: زوجي لا أبا خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكر فأذكر عجره وبجره.
مخ ۶
قالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق.
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.
قالت السادسة: زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
قالت السابعة: زوجي غياياه - أو عياياء - طباقاء، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلا لك.
قالت الثامنة: زوجي الريح ريح زرنب، والمس مس أرنب.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.
قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مال مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن سوت المزهر أيقن هوالك.
قالت الحادية عشر: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلى نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ونق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنح. أم أبي زرع: عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع: طوع أبيها، وملء كسائها وغيظ جارتها. جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثا، ولا تنفث ميرتنا تنقيثا، ولا بيتنا تعشيشا. قالت: خرج أبو زرع وإلا وطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها، كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريا وأخذ خطيا، وأراح علي نعما ثريا، وأعطاني من كل رائحة زوجا، قال: كلي أم زرع وميري أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
مخ ۷
قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع(1).
19 - عن عائشة: أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى الني صلى الله عليه وسلم فقال: ”هذه زوجتك في الدنيا والآخرة“(2).
20 - عن أبي موسى قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة، إلا وجدنا عندها منه علما(3).
21 - عن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أحدا أفصح من عائشة(4).
22 - عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟
قال: ”عائشة“.
قلت: من الرجال؟
قال: ”أبوها“(5).
23 - عن أنس قال: قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك؟
قال: عائشة.
قيل: من الرجال؟
قال: أبوها(6).
24 - عن ابن مليكة: استأذن ابن عباس على عائشة، فلم يزل بها بنو أخيها، قالت: أخاف أن يزكيني، فلما أذنت له، قال: ما بينك وبين أن تلقي الأحبة، إلا أن يفارق الروح الجسد، كنت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طيبا، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فنزلت فيك آيات من القرآن، فليس مسجد من مساجد المسلمين إلا يتلى فيه عذرك آناء الليل وآناء النهار.
فقالت: دعني من تزكيتك يا ابن عباس، فوالله لوددت(7).
مخ ۸
فضل عائشة
قال الرافضي: وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه، مع أنه عليه السلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد، وقالت له عائشة: إنك تكثر من ذكرها، وقد أبدلك الله خيرا منها. فقال: والله ما بدلت بها ما هو خير منها، صدقتني إذ كذبني الناس، وآوتني إذ طردتني الناس، وأسعدتني بمالها، ورزقني الله الولد منها، ولم أرزق من غيرها.
والجواب أولا: أن يقال: إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه، بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة، واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام“(1). والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم، كما قال الشاعر:
مخ ۹
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد وذلك أن البر أفضل الأقوات، واللحم أفضل الآدم، كما في الحديث الذي رواه ابن قتية وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ”سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم“(1).
فإذا كان اللحم سيد الإدام، والبر سيد الأقوات، ومجموعهما الثريد، كان الثريد أفضل الطعام. وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال: ”فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام“.
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللهك أي الناس أحب إليك؟ قال: ”عائشة“. قلت: من الرجال؟ قال: ”أبوها“. قلت: ثم من؟ قال: ”عمر“ وسمى رجالا(2).
مخ ۱۰
وهؤلاء يقولون: قوله لخديجة: ”ما أبدلني الله بخير منها“ - إن صح - معناه: ما أبدلني بخير لي منها، لأن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيرا له من هذا الوجه، فكونها نفعته وقت الحاجة، لكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول زمن النبوة، فكانت أفضل بهذه الزيادة، فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم ما لم يبلغه غيرها(1) ، فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي صلى الله عليه وسلم، لم تبلغ عنه شيئا، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة، ولا كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمال الدين به ما حصل لمن علمه وآمن به بعد كماله، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة، فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه، ولكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك. ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا وأكثر جهادا بنفسه وماله، كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم، هم أفضل ممن كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر منهم، كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما.
وفي الجملة.. الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه. لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها، وأن نساءه أمهات المؤمنين اللاتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعلمهن وأعظمهن حرمة عند المسلمين.
مخ ۱۲
وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا ينحرون بهداياهم يوم عائشة(1)، لما يعلمون من حبه إياها، حتى إن نساءه غرن من ذلك، وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها فقلن له: نسألك العدل في ابنة أبي قحافة. فقال لفاطمة: "أي بنية: ألا تحبين ما أحب"؟ قالت: بلى. قال: "فأحبي هذه".... الحديث وهو في الصحيحين(2).
مخ ۱۳
وفي الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عائش هذا جبريل يقرأ عليك السلام". فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا نرى"(1). ولما أراد فراق سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها بإذنه صلى الله عليه وسلم(2)، ولما كان في مرضه الذي مات فيه يقول: "أين أنا اليوم"؟. استبطاء ليوم عائشة، ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها، فمرض فيه، وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها(3) ، وجمع الله بين ريقه وريقها(1).
مخ ۱۵
وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته، حتى قال أسيد بن حضير لما أنزل الله آية التيمم بسببها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة(1).
وكان قد نزلت آيات براءتها قبل ذلك لما رماها أهل الإفك، فبرأها الله من فوق سبع سماوات، وجعلها من الطيبات.
مخ ۱۶
خروج عائشة بقصد الإصلاح بين المسلمين وليس القتال قال الرافضي: وأذاعت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تقاتلين عليا وأنت ظالمة له، ثم إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى: { وقرن في بيوتكن } [الأحزاب: 33] وخرجت في ملأ الناس لتقاتل عليا على غير ذنب، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان(1) ، وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله، وتقول: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا، ولما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: علي. فخرجت لقتاله على دم عثمان، فأي ذنب كان لعلي على ذلك؟ وكيف استجاز طلحة والزبير غيرهما مطاوعتها على ذلك؟ وبأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها أو سافر بها كان أشد الناس عداوة له، وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين، ساعدوها على حرب أمير المؤمنين، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلبت حقها من أبي بكر، ولا شخص واحد كلمه بكلمة واحدة.
والجواب أن يقال: أما أهل السنة فإنهم في هذا الباب غيره قائمون بالقسط شهداء لله، وقولهم حق وعدل لا يتناقض، وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبه إن شاء الله تعالى على بعضه، وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة، وكذلك أمهات المؤمنين: عائشة وغيرها.. وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء، وأهل السنة يقولون: إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ، بل ولا عن الذنب، بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيرا أو كبيرا ويتوب منه. وهذا متفق عليه بين المسلمين، ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها، وبالمصائب المكفرة وغير ذلك.
مخ ۱۸
وإذا كان هذا أصلهم فيقولون: ما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم، وما قدر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم: إما بتوبة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك، فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه: أنهم من أهل الجنة، فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة، وإذا لم يمت أحد منهم على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة. ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة، ولو لم يعلم أن أولئك المعينين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يعلم أنهم يدخلون الجنة، ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك، فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين، والعلم بتفصيل أحوال كل واحد منهم باطنا وظاهرا، وحسناته وسيئاته واجتهاداته، أمر يتعذر علينا معرفته؟ فكان كلامنا في ذلك كلاما فيما لا نعلمه، والكلام بلا علم حرام، فلهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيرا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال، إذ كان كثير من الخوض في ذلك - أو أكثره - كلاما بلا علم، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوى ومعارضة الحق المعلوم، فكيف إذا كان كلاما بهوى يطلب فيه دفع الحق المعلوم؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ”القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار“(1) . فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره، فكيف بالقضاء بين الصحابة في أمور كثيرة؟
فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق كان مستوجبا للوعيد، ولو تكلم بحق لقصد اتباع الهوى لا لوجه الله تعالى، أو يعارض به حقا آخر، لكان أيضا مستوجبا للذم والعقاب... ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم، ورضا الله عنهم، واستحقاقهم الجنة، وأنهم خير هذه الأمة التي هي أخرجت للناس - لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة: منها ما لا يعلم صحته، ومنها ما يتبين كذبه، ومنها ما لا يعلم كيف وقع، ومنها ما يعلم عذر القوم فيها، ومنها ما يعلم توبتهم منه، ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره، فمن سلك سبل أهل السنة استقام قوله، وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال، وإلا حصل في جهل وكذب وتناقض كحال هؤلاء الضلال.
وأما قوله: "وأذاعت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" فلا ريب أن الله تعالى يقول: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير} [التحريم: 3].
وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة(1).
فيقال أولا: هؤلاء يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاص بينة لمن نصت عنه من المتقدمين يتأولون النصوص بأنواع التأويلات، وأهل السنة يقولون: بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة.
مخ ۲۰
وهذه الآية ليست بأولى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات، فإن كان تأويل تلك سائغا كان تأويل هذه كذلك، وإن كان تأويل هذه باطلا فتأويل تلك أبطل.
ويقال ثانيا: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة، فيكونان قد تابتا منه، وهذا ظاهر لقوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4]، فدعاهما الله تعالى إلى التوبة، فلا يظن بهما أنهما لم تتوبا، مع ما ثبت من علو درجتهما، وأنهما زوجتا نبينا في الجنة، وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك حرم الله عليه أن يتبدل بهن غيرهن، وحرم عليه أن يتزوج عليهن، واختلف في إباحة ذلك له بعد ذلك، ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن. ثم قد تقدم أن الذنب يغفر ويعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة.
مخ ۲۱
ويقال ثالثا: المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة، فإن عليا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: ”إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليا ابنتهم، وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها“(1) فلا يظن بعلي رضي الله عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.
وكذلك لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية، وقال لأصحبه: ”انحروا واحلقوا رؤوسكم“ فلم يقم أحد، فدخل مغضبا على أم سلمة، فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ فقال: ”ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع“ فقالت: يا رسول الله، ادع بهديك فانحره، وأمر الحلاق فليحلق رأسك.
مخ ۲۲
وأمر عليا أن يمحو اسمه. فقال: والله لا اتمحوك فأخذ الكتاب من يده ومحاه"(1).
فمعلوم أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قال القائل: هذا ذنب، كان جوابه كجواب القائل: إن عائشة أذنبت في ذلك، فمن الناس من يتأول ويقول: إنما تأخروا متأولين، لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكة. وآخر يقول: لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم، بل تابوا من ذلك التأخير، رجعوا عنه، مع أن حسناتهم تمحو مثل هذا الذنب، وعلي داخل في هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين.
مخ ۲۳
وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها: "تقاتلين عليا وأنت ظالمة له" فهذا لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعا، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين(2) ، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها.
مخ ۲۴
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة، وكان علي غي راض بقتل عثمان ولا معينا عليه، كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله، وهو الصادق البار في يمينه، فخشي القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم، فحملوا دفعا عن أنفسهم، فظن علي أنهم حملوا عليه، فحمل دفعا عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة رضي الله عنها راكبة: لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال. هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار(1) .
وأما قوله: "وخالفت أمر الله في قوله تعالى: { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } [الأحزاب: 33] فهي رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. والأمر بالاستقراء في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفرة، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سافر بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم. وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحججن كما كن يحججن معه في خلافة عمر رضي الله عنه وغيره، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزا فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك.
وهذا كما أ، قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [النساء: 29]، وقوله: { ولا تقتلوا أنفسكم } [النساء: 29] يتضمن نهي المؤمنين عن قتل بعضهم بعضا، كما في قوله: { ولا تلمزوا أنفسكم } [الحجرات: 11]، وقوله: { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } [النور: 12].
مخ ۲۵