المدخل
المقالة الأولى
المقالة الأولى من الفن الأول من الجملة الأولى وهي في علم المنطق
الفصل الأول في الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب
قال الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، أحسن الله إليه: وبعد حمد الله، والثناء عليه كما هو أهله، والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين، فإن غرضنا في هذا الكتاب الذي نرجو أن يمهلنا الزمان إلى ختمه، ويصحبنا التوفيق من الله في نظمه، أن نودعه لباب ما تحققناه من الأصول في العلوم الفلسفية المنسوبة إلى الأقدمين، المبنية على النظر المرتب المحقق، والأصول المستنبطة بالأفهام المتعاونة على إدراك الحق المجتهد فيه زمانا طويلا، حتى استقام آخره على جملة اتفقت عليها أكثر الآراء، وهجرت معها غواشي الأهواء. وتحريت أن أودعه أكثر الصناعة، وأن أشير في كل موضع إلى موقع الشبهة، وأحلها بإيضاح الحقيقة بقدر الطاقة، وأورد الفروع مع الأصول إلا ما أثق بانكشافه لمن استبصر بما نبصره ، وتحقق ما نصوره، أو ماعزب عن ذكرى ولم يلح لفكر. وأجتهدت في اختصار الألفاظ جدا " ، ومجانبة التكرار أصلا، إلا ما يقع خطأ أو سهوا " ، وتنكبت التطويل في مناقضة مذاهب جلية البطلان أو مكفية الشغل بما نقرره من الأصول، ونعرفه من القوانين. ولا يوجد في كتب القدماء شئ يعتد به إلا وقد ضمناه كتابنا هذا؛ فإن لم يوجد في الموضع الجاري بإثباته فيه العادة وجد في موضع آخر رأيت أنه أليق به؛ وقد أضفت إلى ذلك مما أدركته بفكري، وحصلته بنظري، وخصوصا في علم الطبيعة وما بعدها، وفي علم المنطق.
وقد جرت العادة بأن تطول مبادئ المنطق بأشياء ليست منطقية، وإنما هي للصناعة الحكمية أعنى الفلسفة الأولى، فتجنبت إيراد شئ من ذلك، وإضاعة الزمان به وأخرته إلى موضعه.
ثم رأيت أن أتلو هذا الكتاب بكتاب آخر، أسميه " كتاب اللواحق " ، يتم مع عمري، ويؤرخ بما يفرغ منه في كل سنة، يكون كالشرح لهذا الكتاب، وكتفريع الأصول فيه، وبسط الموجز من معانيه.
ولي كتاب غير هذين الكتابين، أوردت فيه الفلسفة على ماهي في الطبع، وعلى ما يوجبه الرأي الصريح الذي لايراعى فيه جانب الشركاء في الصناعة، ولايتقى فيه من شق عصاهم ما يتقى في غيره، وهو كتابي في " الفلسفة المشرقية " .
وأما هذا الكتاب فأكثر بسطا، وأشد مع الشركاء من المشائين مساعدة.
ومن أراد الحق الذي لامجمجة فيه، فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن أراد الحق على فيه ترض ما إلى الشركاء وبسط كثير، وتلويح بما لو فطن له أستغنى عن الكتاب الآخر، فعليه بهذا الكتاب ولما أفتتحت هذا الكتاب أبتدأت بالمنطق وتحريت أن أحاذى به ترتيب كتب صاحب المنطق، وأوردت في ذلك من الأسرار واللطائف ما تخلو عنه الكتب الموجودة. ثم تلوته بالعلم الطبيعي، فلم يتفق لي في أكثر الأشياء محاذاة تصنيف المؤتم به في هذه الصناعة وتذاكيره. ثم تلوته بالهندسة، فاختصرت كتاب الأسطقسات لأوقليدس اختصارا لطيفا، وحللت فيه الشبه واقتصرت عليه. ثم اردفته باختصار كذلك لكتاب المجسطي في الهيئة يتضمن مع الاختصار بيانا وتفهيما، وألحقت به من الزيادات بعد الفراغ منه ما وجب أن يعلم المتعلم حتى تتم به الصناعة، ويطابق فيه بين الأحكام الرصدية والقوانين الطبيعية. ثم تلوته باختصار لطيف لكتاب المدخل في الحساب. ثم ختمت صناعة الرياضيين بعلم الموسيقى على الوجه الذي انكشف لي، مع بحث طويل، ونظر دقيق، على الاختصار. ثم ختمت الكتاب بالعلم المنسوب إلى ما بعد الطبيعة على أقسامه ووجوهه، مشارا فيه إلى جمل من علم الأخلاق والسياسات، إلى أن أصنف فيها كتابا جامعا مفردا.
وهذا الكتاب، وإن كان صغير الحجم، فهو كثير العلم، ويكاد لايفوت متأمله ومتدبره أكثر الصناعة، إلى زيادات لم تجر العادة بسماعها من كتب أخرى؛ وأول الجمل التي فيه هو علم المنطق.
وقبل أن نشرع في علم المنطق، فنحن نشير إلى ماهية هذه العلوم إشارة موجزة، ليكون المتدبر لكتابنا هذا كالمطلع على جمل من الأغراض.
الفصل الثاني في التنبيه على العلوم والمنطق
مخ ۱
فنقول: إن الغرض في الفلسفة أن يوقف على حقائق الأشياء كلها على قدر مايمكن الإنسان أن يقف عليه. والأشياء الموجودة إما أشياء موجودة ليس وجودها باختيارنا وفعلنا، وإما أشياء وجودها باختيارنا وفعلنا. ومعرفة الامور التي من القسم الأول تسمى فلسفة نظرية، ومعرفة الأمور التي من القسم الثاني تسمى فلسفة عملية. والفلسفة النظرية إنما الغاية فيها تكميل النفس بأن تعلم فقط، والفلسفة العملية إنما الغاية فيها تكميل النفس، لا بأن تعلم فقط، بل بأن تعلم ما يعمل به فتعمل. فالنظرية غايتها اعتقاد رأى ليس بعمل، والعملية غايتها معرفة رأى هو في عمل، فالنظرية أولى بأن تنسب إلى الرأى.
والأشياء الموجودة في الأعيان التي ليس وجودها باختيارنا وفعلنا هي بالقسمة الأولى على قسمين: أحدهما الأمور التي تخالط الحركة، والثاني الأمور التي لاتخالط الحركة، مثل العقل والبارى. والأمور التي تخالط الحركة على ضربين: فإنها إما أن تكون لاوجود لها إلا بحيث يجوز أن تخالط الحركة، مثل الإنسانية والتربيع، وما شابه ذلك، وإما أن يكون لها وجود من دون ذلك. فالموجودات التي لاوجود لها إلا بحيث يجوز عليها مخالطة الحركة على قسمين: فإنها إما أن تكون، لا القوام ولا في الوهم، يصح عليها أن تجرد عن مادة معينة، كصورة الإنسانية والفرسية، وإما أن تكون يصح عليها ذلك في الوهم دون القوام، مثل التربيع، فإنه لا يحوج تصوره إلى أن يخص بنوع مادة، أو يلتفت إلى حال حركة. وأما الأمور التي يصح أن تخالط الحركة، ولها وجود دون ذلك، فهي مثل الهوية، والوحدة، والكثرة، والعلية. فتكون الأمور التي يصح عليها أن تجرد عن الحركة، إما أن تكون صحتها صحة الوجوب، وإما ألا تكون صحتها صحة الوجوب، بل تكون بحيث لايمتنع لها ذلك، مثل حال الوحدة، والهوية، والعلية، والعدد الذي هو الكثرة. وهذه فإما أن ينظر إليها من حيث هى هى، فلا يفارق ذلك النظر النظر إليها من حيث هى مجردة، فإنها تكون من جملة النظر الذي يكون في الأشياء، لا من حيث هى في مادة، إذ هى، من حيث هى هى، لا في مادة، وإما أن ينظر اليها من حيث عرض لها عرض لايكون في وجود إلا في المادة. وهذا على قسمين: إما أن يكون ذلك العرض لايصح توهمه أن يكون إلا مع نسبة إلى المادة النوعية والحركة، مثل النظر في الواحد، من حيث هو نار أو هواء، وفي الكثير، من حيث هو أسطقسات، وفي العلة، من حيث هي مثلا حرارة أو برودة، وفي الجوهر العقلي، من حيث هو نفس، أى مبدأ حركة بدن، وإن كان يجوز مفارقته بذاته. وإما أن يكون ذلك العرض - وإن كان لايعرض إلا مع نسبة إلى مادة ومخالطة حركة - فإنه قد تتوهم أحواله وتستبان من غير نظر في المادة المعينة والحركة النظر المذكور، مثل الجمع والتفريق، والضرب والقسمة، والتجذير والتكعيب، وسائر الأحوال التي تلحق العدد، فإن ذلك يلحق العدد وهو في أوهام الناس، أو في موجودات متحركة منقسمة متفرقة ومجتمعة، ولكن تصور ذلك قد يتجرد تجردا ما حتى لايحتاج فيه إلى تعيين مواد نوعية.
فأصناف العلوم إما أن تتناول إذن اعتبار الموجودات، من حيث هى في الحركة تصورا وقواما، وتتعلق بمواد مخصوصة الأنواع،وإما أن تتناول اعتبار الموجودات، من حيث هى مفارقة لتلك تصورا لاقواما، وإما أن تتناول اعتبار الموجودات، من حيث هى مفارقة قواما وتصورا.
مخ ۲
فالقسم الأول من العلوم هو العلم الطبيعى.والقسم الثاني هو العلم الرياضى المحض، وعلم العدد المشهور منه، وأما معرفة طبيعة العدد، من حيث هو عدد، فليس لذلك العلم. والقسم الثالث هو العلم الإلهى. وإذ الموجودات في الطبع على هذه الأقسام الثلاثة، فالعلوم الفلسفية النظرية هى هذه. وأما الفلسفة العملية: فإما أن تتعلق بتعليم الآراء التي تنتظم باستعمالها المشاركة الإنسانية العامية، وتعرف بتدبير المدينة، وتسمى علم السياسة، وإما أن يكون ذلك التعلق بما تنتظم به المشاركة الإنسانية الخاصية، وتعرف بتدبير المنزل؛ وإما أن يكون ذلك التعلق بما تنتظم به حال الشخص الواحد في زكاء نفسه، ويسمى علم الأخلاق. وجميع ذلك إنما تحقق صحة جملته بالبرهان النظرى، وبالشهادة الشرعية، ويحقق تفصيله وتقديره بالشريعة الإلهية.
والغاية في الفلسفة النظرية معرفة الحق، والغاية في الفلسفة العلمية معرفة الخير .
وماهيات الأشياء قد تكون في أعيان الأشياء، وقد تكون في التصور، فيكون لها اعتبارات ثلاثة: اعتبار الماهية بما هى تلك الماهية غير مضافة إلى أحد الوجودين وما يلحقها، من حيث هى كذلك؛ واعتبار لها، من حيث هى في الأعيان، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك؛ واعتبار لها، من حيث هى في التصور، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك، مثل الوضع والحمل، ومثل الكلية والجزئية في الحمل، والذاتية والعرضية في الحمل، وغير ذلك مما ستعلمه؛ فإنه ليس في الموجودات الخارجية ذاتية ولا عرضية حملا، ولا كون الشئ مبتدأ ولا كونه خبرا، ولا مقدمة ولا قياسا، ولا غير ذلك. وإذا أردنا أن نتفكر في الاشياء ونعلمها، فنحتاج ضرورة إلى أن ندخلها في التصور، فتعرض لها ضرورة الأحوال التي تكون في التصور فنحتاج ضرورة إلى أن نعتبر الأحوال التي لها في التصور، وخصوصا ونحن نروم بالفكرة أن نستدرك المجهولات، وأن يكون ذلك من المعلومات. والأمور إنما تكون مجهولة بالقياس إلى الذهن لامحالة، وكذلك إنما تكون معلومة بالقياس إليه.والحال والعارض الذي يعرض لها حتى ننتقل من معلومها إلى مجهولها، هو حال وعارض يعرض لها في التصور، وإن كان مالها في ذاتها أيضا موجودا مع ذلك، فمن الضرورة أن يكون لنا علم بهذه الأحوال، وأنها كم هى، وكيف هى، وكيف تعتبر في هذا العارض. ولأن هذا النظر ليس نظرا في الأمور، من حيث هى موجودة أحد نحوى الوجودين المذكورين، بل من حيث ينفع في إدراك أحوال ذينك الوجودين، فمن تكون الفلسفة عنده متناولة للبحث عن الأشياء، من حيث هى موجودة، ومنقسمة إلى الوجودين المذكورين، فلا يكون هذا العلم عنده جزأ من الفلسفة؛ ومن حيث هو نافع في ذلك، فيكون عنده آلة في الفلسفة؛ ومن تكون الفلسفة عنده متناولة لكل بحث نظري، ومن كل وجه، يكون أيضا هذا عنده جزأ من الفلسفة، وآلة لسائر أجزاء الفلسفة. وسنزيد هذا شرحا فيما بعد.
والمشاجرات التي تجري في مثل هذه المسألة فهى من الباطل ومن الفضول: أما من الباطل، فلأنه لاتناقض بين القولين، فإن كل واحد منهما يعنى بالفلسفة معنى آخر؛ وأما من الفضول، فإن الشغل بأمثال هذه الأشياء ليس مما يجدى نفعا.
وهذا النوع من النظر هو المسمى علم المنطق، وهو النظر في هذه الأمور المذكورة، من حيث يتأدى منها إلى أعلام المجهول، وما يعرض لها من حيث كذلك لاغير.
الفصل الثالث فصل في منفعة المنطق
مخ ۳
لما كان استكمال الانسان - من جهة ما هو إنسان ذو عقل - على ماسيتضح ذلك في موضعه، هو في أن يعلم الحق لأجل نفسه، والخير لأجل العمل به واقتباسه، وكانت الفطرة الأولى والبديهة من الإنسان وحدهما قليلى المعونة على ذلك، وكان جل ما يحصل له من ذلك إنما يحصل بالاكتساب، وكان هذا الاكتساب هو اكتساب المجهول، وكان مكسب المجهول هو المعلوم، وجب أن يكون الإنسان يبتدئ أولا فيعلم أنه كيف يكون له اكتساب المجهول من المعلوم وكيف يكون حال المعلومات وانتظامها في أنفسها، حتى تفيد العلم بالمجهول، أي حتى إذا ترتبت في الذهن الترتب الواجب، فتقررت فيه صورة تلك المعلومات على الترتيب الواجب، انتقل الذهن منها إلى المجهول المطلوب فعلمه. وكما أن الشئ يعلم من وجهين: أحدهما أن يتصور فقط حتى إذا كان له إسم فنطق به، تمثل معناه في الذهن، وإن لم يكن هناك صدق أو كذب، كما إذا قيل: إنسان، أو قيل: افعل كذا؛ فإنك إذا وقفت على معنى ماتخاطب به من ذلك، كنت تصورته. والثاني أن يكون مع التصور تصديق، فيكون إذا قيل لك مثلا: إن كل بياض عرض، لم يحصل لك من هذا تصور معنى هذا القول فقط، بل صدقت أنه كذلك. فأما إذا شككت أنه كذلك أو ليس كذلك، وقد تصورت مايقال؛ فإنك لاتشك فيما لاتتصوره ولا تفهمه، ولكنك لم تصدق به بعد؛ وكل تصديق فيكون مع تصور، ولا ينعكس. والتصور في مثل هذا المعنى يفيدك أن يحدث في الذهن صورة هذا التأليف، وما يؤلف منه كالبياض والعرض. والتصديق هو أن يحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها، والتكذيب يخالف ذلك. كذلك الشئ يجهل من وجهين: أحدهما من جهة التصور، والثاني من جهة التصديق؛ فيكون كل واحد منهما لايحصل معلوما الإ بالكسب، ويكون كسب كل واحد منهما بمعلوم سابق متقدم، وبهيئة وصفة تكون لذلك المعلوم، لأجلها ينتقل الذهن من العلم بها إلى العلم بالمجهول. فها هنا شئ من شأنه أن يفيد العلم بالمجهول تصوره، وشئ من شأنه أن يفيد العلم بالمجهول تصديقه. ولم تجر العادة بأن يفرض للمعنى الجامع - من حيث علمه يفيد علم تصور شئ - اسم جامع، أو لم يبلغنا؛ لأن منه حدا، ومنه رسما، ومنه مثالا، ومنه علامة، ومنه اسما، على ما سيتضح لك، وليس لما يشترك فيه اسم عام جامع. وأما الشئ الذي يتريب أولا معلوما، ثم يعلم به غيره على سبيل التصديق، فإن ذلك الشئ يسمى - كيف كان - حجة؛ فمنه قياس، ومنه استقراء، ومنه تمثيل، ومنه أشياء أخرى.
مخ ۴
فغاية علم المنطق أن يفيد الذهن معرفة هذين الشيئين فقط؛ وهو أن يعرف الإنسان أنه كيف يجب أن يكون القول الموقع للتصور، حتى يكون معرفا حقيقة ذات الشئ؛ وكيف يكون، حتى يكون دالا عليه، وإن لم يتوصل به إلى حقيقة ذاته؛ وكيف يكون فاسدا، مخيلا أنه يفعل ذلك، ولا يكون يفعل ذلك، ولم يكون ذلك، وما الفصول التي بينها؛ وأيضا أن يعرف الإنسان أنه كيف يكون القول الموقع للتصديق، حتى يكون موقعا تصديقا يقينيا بالحقيقة لايصح انتقاضه؛ وكيف يكون حتى يكون موقعا تصديقا يقارب اليقين؛ وكيف يكون بحيث يظن به أنه على إحدى الصورتين، ولا يكون كذلك، بل يكون باطلا فاسدا؛ وكيف يكون حتى يوقع عليه ظن وميل نفس وقناعة من غير تصديق جزم؛ وكيف يكون القول حتى يؤثر في النفس ما يؤثره التصديق والتكذيب من إقدام وامتناع، وانبساط وانقباض، لا من حيث يوقع تصديقا، بل من حيث يخيل، فكثير من الخيالات يفعل في هذا الباب فعل التصديق؛ فإنك إذا قلت للعسل إنه مرة مقيئة، نفرت الطبيعة عن تناوله مع تكذيب لذلك ألبتة، كما تنفر لو كان هناك تصديق، أو شبيه به قريب منه، وما الفصول بينها ؟ ولم كانت كذلك ؟ وهذه الصناعة يحتاج متعلمها القاصد فيها قصد هذين الغرضين إلى مقدمات منها يتوصل إلى معرفة الغرضين؛ وهذه الصتاعة هي المنطق. وقد يتفق للإنسان أن ينبعث في غريزته حد موقع للتصور، وحجة موقعة للتصديق، إلا أن ذلك يكون شيئا غير صناعي، ولا يؤمن غلطه في غيره؛ فإنه لو كانت الغريزة والقريحة في ذلك مما يكفينا طلب الصناعة، كما في كثير من الأمور، لكان لا يعرض من الاختلاف والتناقض في المذاهب ما عرض، ولكان الإنسان الواحد لا يناقض نفسه وقتا بعد وقت إذا اعتمد قريحته؛ بل الفطرة الإنسانية غيركافية في ذلك ما لم تكتسب الصناعة، كما أنها غير كافية في كثير من الأعمال الأخر، وإن كان يقع له في بعضها إصابة كرمية من غير رام. وليس أيضا إذا حصلت له الصناعة بالمبلغ الذى للإنسان أن يحصل له منها كانت كافية من كل وجه، حتى لا يغلط ألبتة؛ إذ الصناعة قد يذهب عنها ويقع العدول عن استعمالها في كثير من الأحوال، لا أن الصناعة في نفسها غير ضابطة، وغير صادة عن الغلط، لكنه يعرض هناك أمور: أحدها من جهة أن يكون الصانع لم يستوف الصناعة بكمالها؛ والثاني أن يكون قد استوفاها، لكنه في بعض المواضع أهملها، واكتفى بالقريحة؛ والثالث أنه قد يعرض له كثيرا أن يعجز عن استعمالها، أو يذهب عنها. على أنه وإن كان كذلك، فإن صاحب العلم، إذا كان صاحب الصناعة واستعملها، لم يكن ما يقع له من السهو مثل ما يقع لعادمها؛ ومع ذلك فإنه إذا عاود فعلا من أفعال صناعته مرارا كثيرا تمكن من تدارك إهمال، إن كان وقع منه فيه؛ لأن صاحب الصناعة، إذا أفسد عمله مرة أو مرارا، تمكن من الاستصلاح، إلا أن يكون متناهيا في البلادة؛ فإذا كان كذلك فلا يقع له السهو في مهمات صناعته التي تعينه المعاودة فيها، وإن وقع له سهو في نوافلها . وللإنسان في معتقداته أمور مهمة جدا، وأمور تليها في الاهتمام. فصاحب صناعة المنطق يتأتى له أن يجتهد في تأكيد الأمر في تلك المهمات بمراجعات عرض عمله على قانونه. والمراجعات الصناعية فقد يبلغ بها أمان من الغلط، كمن يجمع تفاصيل حساب واحد مرارا للاستظهار، فتزول عنه الشبهة في عقد الجملة.
فهذه الصناعة لابد منها في استكمال الإنسان الذي لم يؤيد بخاصية تكفيه الكسب. ونسبة هذه الصناعة إلى الروية الباطنة التي تسمى النطق الداخلي، كنسبة النحو إلى العبارة الظاهرة التي تسمى النطق الخارجي، وكنسبة العروض إلى الشعر؛ لكن العروض ليس ينفع كثيرا في قرض الشعر، بل الذوق السليم يغنى عنه، والنحو العربي قد تغنى عنه أيضا الفطرة البدوية، وأما هذه الصناعة فلا غنى عنها للإنسان المكتسب للعلم بالنظر والروية، إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله،فتكون نسبته إلى المروين نسبة البدوي الى المتعربين.
الفصل الرابع فصل في موضوع المنطق
مخ ۵
ليس يمكن أن ينتقل الذهن من معنى واحد مفرد إلى تصديق شئ؛ فإن ذلك المعنى ليس حكم وجوده وعدمه حكما واحدا في إيقاع ذلك التصديق؛ فإنه إن كان التصديق يقع، سواء فرض المعنى موجودا أو معدوما، فليس للمعنى مدخل في إيقاع التصديق بوجه؛ لأن موقع التصديق هو علة التصديق، وليس يجوز أن يكون شئ علة لشئ في حالتى عدمه ووجوده. فإذا لم يقع بالمفرد كفاية من غير تحصيل وجوده، أو عدمه في ذاته، أو في حاله، لم يكن مؤديا إلى التصديق بغيره؛ وإذا قرنت بالمعنى وجودا أو عدما فقد أضفت إليه معنى آخر. وأما التصور فإنه كثيرا ما يقع بمعنى مفرد، وذلك كما سيتضح لك في موضعه، وذلك في قليل من الأشياء، ومع ذلك فهو في أكثر الأمر ناقص ردئ، بل الموقع للتصور في أكثر الأشياء معان مؤلفة، وكل تأليف فإنما يؤلف من أمور كثيرة، وكل أشياء كثيرة ففيها أشياء واحدة، ففي كل تأليف أشياء واحدة. والواحد في كل مركب هو الذي يسمى بسيطا، ولما كان الشئ المؤلف من عدة أشياء يستحيل أن تعرف طبيعته مع الجهل ببسائطه، فبالحرى أن يكون العلم بالمفردات قبل العلم بالمؤلفات. والعلم بالمفردات يكون على وجهين: لأنه إما أن يكون علما بها، من حيث هي مستعدة لأن يؤلف منها التأليف المذكور، وإما أن يكون علما بها، من حيث هى طبائع وأمور يعرض لها ذلك المعنى. ومثال هذا أن البيت الذي يؤلف من خشب وغيره يحتاج مؤلفه إلى أن يعرف بسائط البيت من الخشب واللبن والطين؛ لكن للخشب واللبن والطين أحوالا بسببها تصلح للبيت وللتأليف، وأحوالا أخرى خارجة من ذلك. فأما أن الخشب هو من جوهر فيه نفس نباتية، وأن طبيعته حارة أو باردة، أو أن قياسه من الموجودات قياس كذا، فهذا لايحتاج إليه باني البيت أن يعلمه، وأما أن الخشب صلب ورخو، وصحيح ومتسوس، وغير ذلك، فإنه مما يحتاج باني البيت إلى أن يعلمه. وكذلك صناعة المنطق فإنها ليست تنظر في مفردات هذه الأمور، من حيث هى على أحد نحوى الوجود الذي في الأعيان والذي في الأذهان، ولا أيضا في ماهيات الأشياء، من حيث هى ماهيات، بل من حيث هى محمولات وموضوعات وكليات وجزئيات، وغير ذلك مما إنما يعرض لهذه المعانى من جهة ما قلناه فيما سلف.
وأما النظر في الألفاظ فهو أمر تدعو إليه الضرورة، وليس للمنطقى - من حيث هو منطقى - شغل أول بالألفاظ إلا من جهة المخاطبة والمحاورة. ولو أمكن أن يتعلم المنطق بفكرة ساذجة، إنما تلحظ فيها المعاني وحدها، لكان ذلك كافيا، ولو أمكن أن يتطلع المحاور فيه على ما في نفسه بحيلة أخرى، لكان يغنى عن اللفظ ألبتة. ولكن لما كانت الضرورة تدعو إلى استعمال الألفاظ، وخصوصا ومن المتعذر على الروية أن ترتب المعانى من غير أن تتخيل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الروية مناجاة من الإنسان ذهنه بألفاظ متخيلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعانى حتى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن، فاضطرت صناعة المنطق إلى أن يصير بعض أجزائها نظرا في احوال الألفاظ؛ ولولا ما قلناه لما احتاجت أيضا إلى أن يكون لها هذا الجزء. ومع هذه الضرورة، فأن الكلام على الألفاظ المطابقة لمعانيها كالكلام على معانيها، إلا أن وضع الألفاظ أحسن عملا.
وأما فيما سوى ذلك، فلا خير في قول من يقول إن المنطق موضوعه النظر في الألفاظ، من حيث تدل على المعانى، وإن المنطقى إنما صناعته أن يتكلم على الألفاظ، من حيث تدل على المعانى؛ بل يجب أن يتصور أن الامر على النحو الذي ذكرناه. وإنما تبلد في هذا من تبلد، وتشوش من تشوش، بسبب أنهم لم يحصلوا بالحقيقة موضوع المنطق، والصنف من الموجودات الذى يختص به، إذ وجدوا الموجود على نحوين: وجود الأشياء من خارج، ووجودها في الذهن، فجعلوا النظر في الوجود الذي من خارج لصناعة أو صناعات فلسفية، والنظر في الوجود الذى في الذهن وأنه كيف يتصور فيه لصناعة أو جزء صناعة، ولم يفصلوا فيعلموا أن الأمور التي في الذهن إما أمور تصورت في الذهن مستفادة من خارج ، وإما أمور تعرض لها، من حيث هي في الذهن لا يحاذى بها أمر من خارج. فتكون معرفة هذين الأمرين لصناعة، ثم يصير أحد هذين الامرين موضوعا لصناعة المنطق من جهة عرض يعرض له. وأما أى هذين الأمرين ذلك، فهو القسم الثاني، وأما أى عارض يعرض، فهو أنه يصير موصلا إلى أن تحصل في النفس صورة أخرى عقلية لم تكن، أو نافعا في ذلك الوصول، أو ما يعاوق ذلك الوصول.
فلما لم يتميز لهؤلاء بالحقيقة موضوع صناعة المنطق، ولا الجهة التي بها هى موضوعه، تتعتعوا وتبلدوا، وأنت ستعلم بعد هذا، بوجه أشد شرحا، أن لكل صناعة نظرية موضوعا، وأنها إنما تبحث عن أعراضه وأحواله، وتعلم أن النظر في ذات الموضوع قد يكون في صناعة، والنظر في عوارضه يكون من صناعة أخرى. فهكذا يجب أن تعلم من حال المنطق.
الفصل الخامس في تعريف اللفظ المفرد والمؤلف وتعريف الكلي والجزئي، والذاتي والعرضي، والذي يقال في جواب ما هو والذى لا يقال
مخ ۶
وإذ لا بد لنا في التعليم والتعلم من الألفاظ، فإنا نقول: إن اللفظ إما مفرد وإما مركب. والمركب هو الذى قد يوجد له جزء يدل على معنى هو جزء من المعنى المقصود بالجملة دلالة بالذات، مثل قولنا: الإنسان وكاتب، من قولنا: الإنسان كاتب؛ فإن لفظة الإنسان منه تدل على معنى، ولفظة كاتب أيضا تدل على معنى، وكل واحد منهما جزء قولنا: الإنسان كاتب، ومعناه جزء المعنى المقصود من قولنا: الإنسان كاتب، دلالة مقصودة في اللفظ، ليس كما نقول: حيوان، فيظن أن الحى منه مثلا دال إما على جملة المعنى، وإما على بعض منه، لو كان من غير أن كان يقصد في إطلاق لفظة الحيوان أن يدل الحي منه تلك الدلالة.
مخ ۷
وأما المفرد فهو الذى لا يدل جزء منه على جزء من معنى الكل المقصود به دلالة بالذات، مثل قولنا " الإنسان " ، فإن " الإن " و " السان " لا يدلان على جزأين من معنى الإنسان، منهما يأتلف معنى الإنسان. ولا يلتفت في هذه الصناعة إلى التركيب الذى يكون بحسب المسموع، إذا كان لا يدل جزء منه على جزء من المعنى، كقولنا: عبد شمس، إذا أريد به اسم لقب ولم يرد عبد للشمس. وهذا وأمثاله لا يعد في الألفاظ المؤلفة، بل في المفردة. والموجود فى التعليم الأقدم من رسم الألفاظ المفردة أنها هى التى لا تدل أجزاؤها على شىء. واستنقص فريق من أهل النظر هذا الرسم، وأوجب أنه يجب أن يزاد فيه: أنها التى لا تدل أجزاؤها على شىء من معنى الكل، إذ قد تدل أجزاء الألفاظ المفردة على معان، لكنها لا تكون أجزاء معاني الجملة. وأنا أرى أن هذا الاستنقاص من مستنقصه سهو، وأن هذه الزيادة غير محتاج إليها للتتميم بل للتفهيم. وذلك أن اللفظ بنفسه لا يدل ألبتة، ولولا ذلك لكان لكل لفظ حق من المعنى لا يجاوزه، بل إنما يدل بإرادة اللافظ؛ فكما أن اللافظ يطلقه دالا على معنى، كالعين على ينبوع الماء، فيكون ذلك دلالته، ثم يطلقه دالا على معنى اخر ، كالعين على الدينار، فيكون ذلك دلالته. كذلك إذا أخلاه في إطلاقه عن الدلالة بقى غير دال، وعند كثير من أهل النظر غير لفظ فإن الحرف والصوت - فيما أظن - لا يكون، بحسب التعارف عند كثير من المنطقيين، لفظا، أو يشتمل على دلالة. وإذا كان ذلك كذلك، فالمتكلم باللفظ المفرد لا يريد أن يدل بجزئه على جزء من معنى الكل، ولا أيضا يريد أن يدل بجزئه على معنى اخر من شأنه أن يدل به عليه، وقد انعقد الاصطلاح على ذلك. فلا يكون جزؤه ألبتة دالا على شىء - حين هو جزؤه - بالفعل، اللهم إلا بالقوة، حين نجد الإضافة المشار إليها، وهي مقارنة إرادة القائل دلالة به. وبالجملة فإنه إن دل، فإنما يدل، لا حين ما يكون جزءا من اللفظ المفرد، بل إذا كان لفظا قائما بنفسه؛ فأما وهو جزء فلا يدل على معنى ألبتة. واللفظ إما مفرد وإما مركب، وقد علم أن النظر فى المفرد قبل النظر في المركب. ثم اللفظ المفرد إما أن يكون معناه الواحد الذى يدل عليه لا يمتنع في الذهن، من حيث تصوره، اشتراك الكثرة فيه على السوية، بأن يقال لكل واحد منهم إنه هو، اشتراكا على درجة واحدة، مثل قولنا: الإنسان؛ فإن له معنى في النفس، وذلك المعنى مطابق لزيد ولعمرو ولخالد على وجه واحد؛ لأن كل واحد منهم إنسان. ولفظة الكرة المحيطة بذى عشرين قاعدة مثلثات، بل لفظ الشمس والقمر، وغير ذلك، كل منها يدل على معنى لا يمنع تصوره فى الذهن من اشتراك كثرة فيه، وإن لم يوجد مثلا بالفعل، كالكرة المذكورة، أو كان يمتنع ذلك بسبب خارج عن مفهوم اللفظ نفسه كالشمس. وإما أن يكون معناه بحيث يمتنع في الذهن إيقاع الشركة فيه، أعنى في المحصل الواحد المقصود به، كقولنا زيد؛ فإن لفظ زيد، وإن كان قد يشترك فيه كثيرون، فإنما يشتركون من حيث المسموع؛ وأما معناه الواحد فيستحيل أن يجعل واحد منه مشتركا فيه؛ فإن الواحد من معانيه هو ذات المشار إليه، وذات هذا المشار إليه يمتنع فى الذهن أن يجعل لغيره، اللهم إلا أن لا يراد بزيد ألبتة ذاته، بل صفة من صفاته المشترك فيها. وهذا القسم، وإن لم تمتنع الشركة في مسموعه، فقد يمتنع أن يوجد فى المعنى الواحد من المدلول يه عليه شركة. فالقسم الأول يسمى كليا، والثانى يسمى جزئيا. وأنت تعلم أن من الألفاظ ما هو على سبيل القسم الأول، ومن المعانى ما هو على سبيل معنى القسم الأول، وهو المعنى الذى المفهوم منه فى النفس لا تمتنع نسبته إلى أشياء كثيرة تطابقها نسبة متشاكلة. ولا عليك - من حيث أنت منطقى - أنه كيف تكون هذه النسبة، وهل لهذا المعنى - من حيث هو واحد مشترك فيه - وجود في ذوات الأمور التى جعلت لها شركة فيه؛ وبالجملة وجود مفارق وخارج غير الذى في ذهنك أو كيف حصوله في الذهن؛ فإن النظر في هذه لصناعة أخرى أو لصناعتين. فقد علمت أن اللفظ إما أن يكون مفردا، وإما أن يكون كليا، وإما أن يكون جزئيا. وقد علمت أنا أوجبنا تأخير النظر في المركب.
واعلم أيضا أنا لا نشتغل بالنظر فى الألفاظ الجزئية ومعانيها، فإنها غير متناهية فتحصر، ولا - لو كانت متناهية - كان علمنا بها - من حيث هى جزئية - يفيدنا كمالا حكميا، أو يبلغنا غاية حكمية، كما تعلم هذا فى موضع العلم به، بل الذى يهمنا النظر في مثله، هو معرفة اللفظ الكلى.
وأنت تعلم أن اللفظ الكلى إنما يصير كليا، بأن له نسبة ما، إما بالوجود، وإما بصحة التةهم، إلى جزئيات يحمل عليها.
مخ ۸
والحمل على وجهين: حمل مواطأة، كقولك: زيد إنسان؛ فإن الإنسان محمول على زيد بالحقيقة والمواطأة؛ وحمل اشتقاق، كحال البياض بالقياس إلى الإنسان؛ فإنه يقال: إن الإنسان أبيض أو ذو بياض، ولا يقال: إنه بياض. وإن اتفق أن قيل: جسم أبيض، ولون أبيض، فلا يحمل حمل المحمول على الموضوع؛ وإنما غرضنا ها هنا مما يحمل هو ما كان على سبيل المواطأة. فلنذكر أقسام الكلى الذى إنما ينسب إلى جزئيات مواطأة عليها، ةيعطيها الاسم والحد، لكنه قد تضطرنا إصابتنا لبعض الأغراض أن لا نسلك المعتاد من الطرق في قسمة هذه الألفاظ فى أول الأمر، يل نعود إليه ثانيا. فنقول: إن لكل شىء ماهية هو بها ما هو، وهى حقيقته، بل هى ذاته. وذات كل شىء واحد ربما كان معنى واحدا مطلقا ليس يصير هو ما هو بمعان كثيرة، إذا التأمت يحصل منها ذات للشىء واحدة. وقلما تجد لهذا من الظاهرات مثالا، فيجب أن يسلم وجوده. وربما كان واحدا ليس بمطلق، بل تلتئم حقيقة وجوده من أمور ومعان إذا التأمت حصل منها ماهية الشىء، مثال ذلك الإنسان، فإنه يحتاج أن يكون جوهرا، ويكون له امتداد في أبعاد تفرض فيه طولا وعرضا وعمقا، ةأن يكون مع ذلك ذا نفس، وأن تكون نفسه نفسا يغتذى بها ويحس ويتحرك بالإرادة، ومع ذلك يكون بحيث يصلح أن يتفهم المعقولات، ويتعلم صناعات ويعلمها - إن لم يكن عائق من خارج - لا من جملة الإنسانية؛ فإذا التأم جميع هذا حصل من جملتها ذات واحدة هى ذات الإنسان. ثم تخالطه معان وأسباب أخرى، يتحصل بها واحد واحد من الأشخاص الإنسانية، ويتميز بها شخص، مثل أن يكون هذا قصيرا وذاك طويلا، وهذا أبيض وذاك أسود. ولا يكون شىء من هذه بحيث لو لم يكن موجودا لذات الشخص، وكان بدله غيره، لزم منه أن يفسد لأجله؛ بل هذه أمور تتبع وتلزم. وإ نما تكون حقيقة وجوده بالإنسانية، فتكون ماهية كل شخص هى بإنسانيته، لكن إنيته الشخصية تتحصل من كيفية وكمية وغير ذلك. وقد يكون أيضا له من الأوصاف أوصاف أخرى غير الإنسانية، يشترك فيها مع الإنسانية، بل تكون بالحقيقة أوصافا للإنسان العام مثل كونه ناطقا، أى ذا نفس ناطقة، ومثل كونه ضاحكا بالطبع. لكن كونه ناطقا أمر هو أحد الأمور التى، لما التأمت، اجتمع من جملتها الإنسان، وكونه ضاحكا بالطبع هو أمر، لما التأمت الإنسانية بما التأمت منه، لم يكن بد من عروضه لازما؛ فإن الشىء إذا صار إنسانا بمقارنة النفس الناطقة لمادته، أعرض للتعجب الموجب في مادته هيئة الضحك، كما أعرض لأمور أخرى: من الخجل والبكاء والحسد والاستعداد للكتابة وقبول العلم، ليس واحد منها لما حصل، أعرض الشىء لحصول النفس الناطقة له، فيكون حصول النفس الناطقة إذن سابقا لها، ويتم به حصول الإنسانية؛ وتكون هذه لوازم بعدها، إذا استثبتت الإنسانية لم يكن بد منها.
مخ ۹
فقد لاح لك من هذا أن ها هنا ذاتا حقيقية للشىء، وأن له أوصافا بعضها تلتئم منه ومن غيره حقيقة الشىء، وبعضها عوارض لا تلزم ذاته لزوما في وجوده، وبعضها عوارض لازمة له في وجوده. فما كان من الألفاظ الكلية يدل على حقيقة ذات شىء أو أشياء، فذلك هو الدال على الماهية؛ وما لم يكن كذلك فلا يكون دالا على الماهية؛ فإن دل على الأمور التي لا بد من أن تكون متقدمة في الوجود على ذات الشىء، حتى يكون بالتئامها يحصل ذات الشىء، ولا يكون الواحد منها وحده ذات الشىء، ولا اللفظ الدال عليه يدل على حقيقة ذات الشىء بكمالها، بل على جزء منه؛ فذلك ينبغي أن يقال له اللفظ الذاتي الغير الدال على الماهية. وأما ما يدل على صفة هى خارجة عن الأمرين، لازمة كانت أو غير لازمة، فإنه يقال له لفظ عرضي، ولمعناه معنى عرضى. ثم ها هنا موضع نظر: أنه هل يجب أن يكون معنى اللفظ الذاتي مشتملا على معنى اللفظ الدال على الماهية اشتمال العام على الخاص أو لا يكون ؟ فإن قولنا: لفظ ذاتي، يدل على لفظ لمعناه نسبة إلى ذات الشىء، ومعنى ذات الشىء لا يكون منسوبا إلى ذات الشىء، إنما ينسب إلى الشىء ما ليس هو. فلهذا بالحرى أن يظن أن لفظ الذاتى إنما الأولى به أن يشتمل على المعاني التي تقوم الماهية، ولا يكون اللفظ الدال على الماهية ذاتيا ، فلا يكون الإنسان ذاتيا للإنسان، لكن الحيوان والناطق يكونا ن ذاتيين للإنسان. فإن لم يجعل الإنسان ذاتيا للإنسان، بما هو إنسان، بل لشخص شخص، لم يخل إما أن تكون نسبته بالذاتية إلى حقيقة ماهية الشخص، وذلك هو الإنسان أيضا؛ وإما أن تكون نسبته بها إلى الجملة التى بها يتشخص، فيكون ليس هو بكماله، بل هو جزء مما هو منه، من حيث هو جملة. فحينئذ يعرض أن لا يكون الحيوان الناطق والإنسان وما يجرى مجراها ذاتيا لشخص شخص فقط ، بل الأمور العرضية أيضا، مثل لونه، وكونه قصيرا، وكونه ابن فلان، وما يجرى هذا المجرى قد تكون ذاتية، لأنها أجزاء مقومة للجملة. فحينئذ لا يكون للإنسان ، من حيث هو ذاتى للشخص، إلا ما لهذه.
فهذه الأفكار تدعو إلى أن لا يكون الذاتي مشمتلا على المقول في جواب ما هو؛ لكن قولنا ذاتى، وإن كان بحسب قانون اللغة يدل على هذا المعنى النسبى، فإنه بحسب اصطلاح وقع بين المنطقيين يدل على معنى آخر. وذلك لأن اللفظ الكلى، إذا دل على معنى - نسبته إلى الجزئيات التى تعرض لمعناه نسبة يجب، إذا توهمت غير موجودة، أن لا يكون ذات ذلك الشىء من الجزئيات موجودا، لا أن ذات ذلك الشىء يجب أن يكون يرفع أولا، حتى يصح توهم رفع هذا، بل لأن رفع هذا موجب رفع ذلك الشىء، سواء كان لأن هذا المرفوع هو حقيقة ذاته، أو كان هذا المرفوع مما تحتاج إليه حقيقة ذاته ليتقوم - فإنه يقال له ذاتى. فإن لم يكن هكذا - وكان يصح في الوجود أو في التوهم أن يكون الشىء الموصوف به حاصلا مع رفعه، أو كان لا يصح في الوجود، ولكن ليس رفعه سبب رفعه، بل إنما لا يصح ذلك في الوجود لأن رفعه لا يصح إلا أن يكون ذلك، ارتفع أولا في نفسه، حتى يكون رفعه بالجملة ليس سبب رفعه - فهو عرضى . فأما المرتفع فى الوجود فكالقيام والقعود، وذلك مما يسرع رفعه، وكالشباب فإنه يبطؤ رفعه وكغضب الحليم فإنه يسهل إزالته، وكالخلق فإنه يصعب إزالته. وأما المرتفع في الوهم دون الوجود فكسواد الحبشي. وأما الذي لايرتفع، ولا يرفع رفع السبب، فككون الإنسان بطبعه معرضا للتعجب والضحك، وهو كونه ضحاكا بالطبع، فإنه لايجوز أن يرفع عن الإنسان في الوجود؛ فإن توهم مرفوعا، فإن الإنسانية تكون مرفوعة، لا أن رفع الأعراض بالطبع لهذا المعنى هو سبب رفع الإنسانية، بل لأنه لايتأتى أن يرفع، الإ أن تكون الإنسانية أولا مرفوعة، كما أنها ليست سببا لثبوت الإنسانية، بل الإنسانية سبب لثبوتها.
فقد بان اختلاف ما بين نسبة الحيوان والناطق والإنسان إلى الأشخاص، وبين نسبة الأعراض إليها؛ فإن النسبة الأولى إذا رفعتها، أوجب رفع الشخص؛ وأما النسبة الثانية فنفس رفعها لايوجب رفع الشخص، بل منها مايرتفع، ومنها ما لايجوز أن يرتفع أو يرتفع الشخص؛ وأما رفعها فلا يرفع الشخص ألبتة. وإذا كان الأمر على هذه الجهة، فالذاتى يشتمل على الدال على الماهية.
فقد اتضح لك أن اللفظ المفرد الكلى منه ذاتى يدل على الماهية، ومنه ذاتى لايدل على الماهية، ومنه عرضى.
الفصل السادس في تعقب ما قاله الناس في الذاتي والعرضي
مخ ۱۰
قد قيل في التمييز بين الذاتى والعرضى: إن الذاتى مقوم والعرضى غير مقوم ، ثم لم يحصل، ولم يتبين أنه كيف يكون مقوما، أو غير مقوم. وقيل أيضا: إن الذاتى لايصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشئ، والعرضى يصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشئ. فيجب أن نحصل نحن صحة ما قيل أو اختلاله، فنقول: أما قولهم إن الذاتى هو المقوم، فإنما يتناول ماكان من الذاتيات غير دال على الماهية، فإن المقوم مقوم لغيره. وقد علمت مايعرض من هذا، اللهم إلا أن يعنوا بالمقوم ما لايفهم من ظاهر لفظه، ولكن يعنون به ما عنينا بالذاتى، فيكونوا إنما أتوا باسم مرادف صرف عن الاستعمال الأول، ولم يدل على المعنى الذي نقل إليه، ويكون الخطب في المقوم كالخطب في الذاتى، وتكون حاجة كل واحد منهما إلى البيان واحدة. وأما اعتمادهم على أمر الرفع في التوهم، فيجب أن تتذكر ما أعطيناك سالفا: أن المعنى الكلى قد يكون له اوصاف يحتاج إليها أولا حتى يحصل ذلك المعنى، ويكون له أوصاف أخرى تلزمه وتتبعه، إذا صار ذلك المعنى حاصلا. فأما جميع الأوصاف التي يحتاج إليها الشئ حتى تحصل ماهيته، فلن يحصل معقولا مع سلب تلك الأوصاف منه. وذلك أنه قد سلف لك أن للأشياء ماهيات، وأن تلك الماهيات قد تكون موجودة في الأعيان، وقد تكون موجودة في الأوهام، وأن الماهية لايوجب لها تحصيل أحد الوجودين وأن كل واحد من الوجودين لايثبت إلا بعد ثبوت تلك الماهية، وأن كل واحد من الوجودين يلحق بالماهية خواص وعوارض تكون للماهية عند ذلك الوجود، ويجوز أن لاتكون له في الوجود الآخر. وربما كانت له لوازم تلزمه من حيث الماهية، لكن الماهية تكون متقررة أولا، ثم تلزمها هى، فإن الاثنينية يلزمها الزوجية، والمثلث يلزمه أن تكون زواياه الثلاث مساوية لقائمتين، لا لأحد الوجودين، بل لأنه مثلث. وهذه الماهية إذا كان لها مقومات متقدمة - من حيث هى ماهية - لم تحصل ماهية دون تقدمها؛ وإذا لم تحصل ماهية، لم تحصل معقولة ولاعينا. فإذن إذا حصلت معقولة، حصلت وقد حصل ماتتقوم به العقل معها على الجهة التي تتقوم به؛ فإذا كان ذلك حاصلا في العقل، لم يمكن السلب فيجب أن تكون هذه المقومات معقولة مع تصور الشئ،بحيث لايجهل وجودها له، ولا يجوز سلبها عنه، حتى تثبت الماهية في الذهن، مع رفعها في الذهن بالفعل. ولست أعني بحصولها في العقل خطورها بالبال بالفعل، فكثير من المعقولات لاتكون خاطرة بالبال، بل أعنى أنها لايمكن مع إخطارها بالبال، وإخطارها ما هي مقومة له بالبال، حتى تكون هذه مخطرة بالبال، وذلك مخطرا بالبال بالفعل، أن يسلبها عنه، كأنك تجد الماهية بالفعل خالية عنها مع تصورها، أعنى تصور الماهية في الذهن. وإذا كان كذلك، فالصفات التى نسميها ذاتية للمعاني المعقولة، يجب ضرورة أن تعقل للشئ على هذا الوجه إذ لاتتصور الماهية في الذهن دون تقدم تصورها. وأما سائر العوارض، فإذ ليست مما يتقدم تصورها في الذهن تصور الماهية فيه، ولا أيضا هي مع تصور الماهية، بل توابع ولوازم ليست مما يحقق الماهية، بل مما يتلو الماهية، فالماهية تثبت دونها، وإذا ثبتت دونها، لم يتعذر أن تعقل الماهية ، وإن لم تتقدم، أو إن لم يلزم تعقلها. وقد علمت أنى لست أعنى في هذا التعقل أن يكون، إذا تصورت الشئ بالفعل ملحوظة إليه، يكون مع ذلك تصورت أفراد المقومات له أيضا بالفعل، فربما لم تلحض الأجزاء بذهنك، بل أعنى بهذا أنك إذا أخطرت الأمرين معا بالبال، لم يمكنك أن تسلب الذي هو مقوم عن الذي هو مقوم له سلبا يصح معه وجود المقوم بماهيته في الذهن من دون وجود مايقومه فيه. فإذا كان كذلك، فيجب أن لايمكنك سلبه عنه، بل يعقل وجوده له لامحالة. وأما العوارض فلا أمنع صحة أستثباتك في الذهن معنى الماهية، ولايعقل وجودها للماهية، بل يسلبها سلبا كاذبا. ولا أوجب ذلك أيضا في كل العوارض، فإن من العوارض مايلزم الماهية لزوما أوليا بينا ليس بواسطة عارض آخر، فيكون سلبه عن الماهية مع استثبات الماهية وإخطارهما معا بالبال مستحيلا، إذا كان ليس هو له بسبب وسط بينه وبينه. وذلك مثل كون المثلث بحيث يمكن إخراج أحد أضلاعه على الاستقامة توهما، أو معنى آخر مما يشبه هذا مما هو عارض له. وقد يمكن أن يكون وجود العارض بواسطة، فإذا لم تخطر تلك الواسطة بالبال، أمكن سلبه، مثل كون كل زاويتين من المثلث أصغر من قائمتين. ولولا صحة وجود القسم الثاني لما كانت لوازم مجهولة؛ ولولا صحة القسم الأول لما كان ما نبين لك بعد من إثبات عارض لازم للماهية بتوسط شىء حقا. وذلك لأن المتوسط، إن كان لايزال يكون لازما للماهية غير بين الوجود لها، ذهب الأمر إلى غير النهاية؛ وإن كان من المقومات، صار اللازم المجهول - كما تعلم - لازما لهذا المقوم، لا مقوما، إذ مقوم المقوم مقوم، وكان لازما آخر الأمر بلا واسطة. فما كان من اللوازم غير بين للشىء صح في الذهن أن يتوهم الشىء مرفوعا عنه ذلك اللازم من جهة، ولم يصح من جهة. أما جهة الصحة فمن حيث أن تصوره قد يحصل في الذهن مع سلب اللازم عنه بالفعل، واعتبار هذه الصحة والجواز بحسب الذهن المطلق. وأما جهة الاستحالة فأن يتوهم أنه يجوز أن لو كان يحصل في الأعيان، وقد سلب عنه فيها اللازم، حتى يكون مثلا كما يصح أن لو كان يكون هذا الشخص موجودا، ولا الندب الذى لزمه في أصل الخلقة، فصار يصح أيضا أنه كان يكون هذا المثلث موجودا، ولا زاويتاه أقل من قائمتين؛ فإن هذا التوهم فاسد لا يجوز وجود حكمه، وليس كالمذكور معه. واعتبار هذه الصحة والجواز بحسب ذهن مطابق للموجود.
فقد بان لك من هذا أن من الصفات ما يصح سلبه وجودا، ومنها ما يصح سلبه توهما لا فى الوجود، ومنها ما يصح سلبه توهما مطلقا، ومنها ما لا يصح سلبه بوجه وهو عارض، ومنها ما لا يصح سلبه وهو ذاتى، لكن يتميز من العارض بأن الذهن لا يوجب سبق ثبوت ما الذاتى له ذاتى قبل ثبوت الذاتى، بل ربما أوجب سبق ثبوت الذاتى. وأما العرض فإن الذهن يجعله تاليا، وإن وجب ولم ينسلب.
فقد اتضح لك كيف لم يحصل معنى الذاتى والعرضى من اقتصر على البيانين المذكوريين.
الفصل السابع في تعقب ما قاله الناس في الدال على الماهية
مخ ۱۲
إن الدال على الماهية قد قيل فيه: إنه هو الدال على ذاتى مشترك كيف كان، ولم يبلغنا ما هو أشد شرحا من هذا. فلننظر الآن هل المفهوم من هذه اللفظة، بحسب التعارف العامى، هو هذا المعنى أولا، وهل ما تعارفه الخاص واتفقوا عليه بسبيل النقل يدل عليه ؟ فإنا إذا فعلنا هذا، اتضح لنا غرض كبير. أما المفهوم بحسب التعارف العامى فليس يدل عليه؛ وذلك لأن الدال على ماهية الشىء هو الذى يدل على المعنى الذى به الشىء هو ما هو. والشىء إنما يصير هو ما هو بحصول جميع أوصاف الذاتية المشترك فيها، والتى تخص أيضا؛ فإن الإنسان ليس هو ما هو بأنه حيوان، وإلا لكانت الحيوانية تحصل الإنسانية. نعم الحيوانية محتاج إليها في أن يكون هو ما هو، وليس كل ما يحتاج إليه في أن يكون شىء هو ما هو، يكون هو الذى يحصل بحصوله وحده الشىء هو هو. فإذا كان كذلك لم يكن الذاتى مشترك للشىء مع غيره وحده، ولا الخاص وحده هو ماهية الشئ بل جزء ماهيته. والعجب أن جماعة ممن يرى أن الذاتى والدال على الماهية واحد لايجعل الذاتى الخاص دالا على ماهية ماهو ذاتى له، وهو الذي نسميه بعد فصلا؛ فهذا هذا.
وأما تعرف الحال في الدال على الماهية على سبيل الوضع الثاني والتعارف الخاص، فهو أنا نجد الحيوان والحساس محمولين على الإنسان والفرس والثور، ثم نجد أهل الصناعة يجعلون الحساس وما يجرى مجراه من جملة أمور يسمونها فصولا لأمور يسمونها أجناسا ذاتية، ثم لايجعلونها من جملة مايسمونه أجناسا، ويجعلون كل ما يكون دالا على الماهية لعدة أشياء علوية مختلفة جنسا لها. وكذلك حال الإنسان والناطق بالقياس إلى أشخاص الناس، فيجعلون الإنسان يدل عليها بالماهية، ولايجعلون الناطق كذلك، ويجعلون الإنسان لذلك نوعا للحيوان دون الناطق. فإن الشئ الذي يقولون إنه دال على الإنية الذاتية المشتركة، يجعلونه شيئا غير الدال على الماهية الذاتية المشتركة، ولا يجعلون الشئ الواحد صالحا لأن يكون بالقياس إلى أشياء إنية وماهية، حتى يكون، من حيث يشترك فيه، هو ماهية لها، ومن حيث يتميز به عن أشياء أخرى هو إنية لها، حتى يكون الشئ المقول على الكثرة من حيث تشترك فيه الكثرة جنسا أو نوعا، ونم حيث تتميز به فصلا. فيكون ذلك الشئ لتلك الأشياء جنسا أو نوعا، ومع ذلك يكون لها فصلا، بل إذا وجدوا جنسا ارتادوا شيئا آخر ليكون فصلا يقوم الجنس، إن كان جنسا له فصل يقومه وكذلك إذا وجدوا نوعا طلبوا شيئا من ذاته هو الفصل، ولو كان الشئ إنما هو دال على الماهية، حتى هو جنس ونوع، لأنه دال على ذاتى مشترك فيه، لكان الأمر بخلاف هذه الأحكام.
مخ ۱۳
وهاهنا موانع أخرى عن أن يكون ما قالوه من كون الدال على ذاتى مشترك، دالا على الماهية حقا. فإن زاد أحدهم شرطا ليتخصص به مايسمونه جنسا ونوعا في كونه دالا على الماهية، وهو أنه يجب أن يكون أعم الذاتيات المشتركة مضمونا في الدلالة التى للذاتى المشترك، وذلك الأعم هو الأعم الذي لايدل على إنية أصلا، حتى يكون الفرق بين الأمرين أن الدال على الإنية هو الذي لكليته وكما هو يدل على الإنية. وأما هذا الذي يتضمن الدلالة على أعم الذاتيات المشتركة فإنما يدل على الإنية بالعرض، لأنه يدل بجزء منه دون جزء، كالحيوان فإنه وإن تميز به أشياء عن النبات، فإنه ليس ذلك بجميع مابحصوله الحيوان حيوان، بل بشئ منه؛ فإنه لايفعل ذلك بأنه جسم، بل بأنه حساس، وهذا هو الدال على الإنية أولا، ولأجله يدل الحيوان على التمييز والإنية.فيكون الحيوان ليس لذاته صالحا للتمييز، بل بجزء منه، ويكون الحساس كذلك لذاته، فنقول: إن هذا أيضا تكلف غير مستقيم. أما أولا فلأنه لو كان كذلك لكان إذا أخذنا أعم المعانى كالجوهر، وقرنا به أخص ما يدل على الشئ فقلنا مثلا: جوهر ناطق، لكان يكون دالا على ماهية، وكان يكون نوع الإنسان أو جنسه، وكان يكون حد الإنسان أو حد جنسه أنه جوهر ناطق. وليس كذلك عندهم، بل حده أنه حيوان ناطق، وليس الحيوان والجوهر واحدا؛ ومن المحال أن يكون للشئ الواحد حد تام حقيقي إلا الواحد. وإن تكلفوا أن يوجهوا مع المشترك الأول سائر التى في الوسط على الترتيب كله، فقد حصل ما نذهب إليه من أن الدال على الماهية يجب أن يكون مشتملا على كمال الحقيقة، فيكون حينئذ هذا التكلف يؤدي إلى أن لايحتاج إلى نقل هذه اللفظة عن الموضوع في اللغة إلى اصلاح ثان؛ فإنا سنوضح من بعد أن استعمال هذه اللفظة على ماهى عليه يحفظ الوضع الأول لها مع استمرار في الوجوه التي يتعوق معها ما يتعوق. وبعد هذا كله، فإن ذلك يفسد بوجوه أخرى، منها أن الحساس أيضا حكمه حكم الحيوان، وأنه أيضا محصل من معان عامة وخاصة، وأن المعانى العامة فيه، ككون الجسم أو الشئ ذا قوة أو صورة أو كيفية لاتمييز بها ، إنما تميز بما هو أخص منها، وهو كون الجسم أو الشئ ذا قوة دراكة للشخصيات على سبيل كذا. ومنها أن الحيوان وإن كان لايميز بجزء من معناه كالجسم، ويميز بجزء كالحساس، فليس سبيلنا في هذا الأعتبار هذا السبيل، ولا نظرنا هذا النظر. وذلك لأنا إنما ننظر في الحيوان من حيث هو حيوان؛والحيوان، من حيث هو حيوان شئ واحد؛ ومن حيث هو ذلك الوتحد لايخلو إما أن يميز التمييز الذي عن النبات أو لايميز، فإن لم يميز وجب أن يكون النبات يشارك الحيوان في أنه حيوان وهذا خلف؛ وإن ميز، فقد صدر عنه بما هو حيوان تميز، وإن كان قد يصدر أيضا عن جزء له، وكان الجزء علة أولى في ذلك التمييز ، وليس إذا كان للشئ علة بها يصير بحال، وللعلة تلك الحال، يجب أن تكون الحال له بالعرض، فكثير من الأشياء بهذه الصفة.
ثم لا أمنع أن يكون هاهنا شروط أخرى تلحق بالبيان الذي جعلوه للدال على الماهية، يتميز بها ما يسمى جنسا أو نوعا عن الفصل؛ وشروط أخرى تلحق بالتمييز يكون ذلك للحساس دون حيوان؛ إلا أن ذلك لايكون بحسب الوضع الأول، ولا بحسب نقل منصوص عليه من المستعملين لهذه الألفاظ في أول ما استعملوا ، بل يكون اضطرارات ألجأ إليها أمثال هذه. وإذا وجد في ظاهر المفهوم من لفظ ماهو مايقع به استغناء واقتصار، كان المصير عنه إلى غيره ضربا من العجز ومن اللجاج الذي تدعو إليه الأنفة من الإذعان للحق، والاعتراف بذهاب ذلك على من لم يخطر بباله ما أوردناه من المباحث إلى حين سماعها.
الفصل الثامن في قسمة اللفظ المفرد الكلى إلى أقسامه الخمسة
مخ ۱۴
نقول الآن: إنه قد تبين لك أن اللفظ المفرد الكلى إما ذاتى وإما عرضى، وأن الذاتى للشئ إما صالح للدلالة على الماهية بوجه، وإما غير صالح للدلالة على الماهية أصلا. والدال على الماهية إما أن يدل على ماهية شئ واحد أو أشياء لاتختلف أختلافا ذاتيا؛ وإما أن تكون دلالة على الماهية إنما هى بحسب أشياء تختلف ذواتها أختلافا ذاتيا. مثال الأول لفظة الشمس إذا وقعت على هذه المشار إليها؛ ولفظة الإنسان إذا وقعت على زيد وعمرو؛ ومثال الثاني دلالة لفظة الحيوان إذا وقعت على الثور والحمار والفرس معا، فسأل سائل مثلا: ما هذه الأشياء ؟ فقيل: حيوانات، فإن لفظة الحيوان تدل على كمال حقيقتها، من حيث هو مسئول عنها جملتها، ومطلوب كنه الحقيقة التي لها بالشركة. والفرق بين الوجهين أن الوجه الأول يكون دالا على ماهية الجملة، وماهية كل واحد؛ فإن لفظة الإنسان تدل أيضا على كمال الحقيقة الذاتية التي لزيد وعمرو، وإنما يفضل عليها ويخرج عنها ما يختص كل واحد منهما به من الأوصاف العرضية، كما قد فهمته مما قيل سالفا. وأما الوجه الثاني فإنك تعلم أن الحيوانية وحدها لاتكون دالة على ماهية الإنسان والفرس وحدها، فليس بها وحدها كل واحد منهما هو هو، وليس إنما يفضل عليها بالعرضيات بل بالفصول الذاتية؛ وأما الذي لها من الماهية بالشركة فلفظة الحيوان تدل عليه. وأما الحساس فيدل على جزء من جملة ما تشتمل عليه دلالة لفظ الحيوان، فهو جزء من كمال حقيقتها المشترك فيها دون تمامها؛ وكذلك حال الناطق بالقياس إلى الإنسان. لكن لقائل أن يقول: إنه لا دلالة للحيوان إلا ومثلها للحساس، وكما أنه لايكون الحيوان إلا جسما ذا نفس، كذلك لايكون الحساس إلا جسما ذا نفس. فنقول في جوابه: إن قولنا إن اللفظ يدل على معنى ليس على الوجه الذي فهمته، أعنى أن يكون إذا دل اللفظ لم يكن بد من وجود ذلك المعنى، فإنك تعلم أن لفظ المتحرك إذا دل، لم يكن بد من أن يكون هناك محرك، ولفظة السقف، إذا دلت، لم يكن بد من أن يكون هناك أساس، ومع ذلك لا نقول إن لفظة المتحرك مفهومها ودلالتها المحرك، ولفظة السقف مفهومها ودلالتها الأساس؛ وذلك لأن معنى دلالة اللفظ هو أن يكون اللفظ اسما لذلك المعنى على سبيل القصد الأول، فإن كان هناك معنى آخر يقارن ذلك المعنى مقارنه من خارج. يشعر الذهن به مع شعوره بذلك المعنى الأول، فليس اللفظ دالا عليه بالقصد الأول؛ وربما كان ذلك المعنى محمولا على ما يحمل عليه معنى اللفظ، كمعنى الجسم مع معنى الحساس؛ وربما لم يكن محمولا كمعنى المحرك مع المتحرك. والمعنى الذي يتناوله اللفظ بالدلالة أيضا يكون على وجهين: أحدهما أولا والآخر ثانيا؛ أما أولا فكقولنا الحيوان، فإنه يدل على جملة الجسم ذي النفس الحساس، وأما ثانيا فكدلالته على الجسم، فإن معنى الجسم مضمن في معنى الحيوانية ضرورة، فما دل على الحيوانية اشتمل على معنى الجسم، لا على أنه يشير إليه من خارج، فيكون هاهنا دلالة بالحقيقة إما أولية وإما ثانية، ودلالة خارجية، إذا دل اللفظ على ما يدل عليه، عرف الذهن أن شيئا آخر من خارج يقارنه، وليس داخلا في مفهوم اللفظ دخول اندراج ولا دخول مطابق.
فإن أردنا أن نختصر هذا كله ونحصله، جعلنا الدلالة التي للألفاظ على ثلاثة أوجه: دلالة مطابقة، كما يدل الحيوان على جملة الجسم ذي النفس الحساس؛ ودلالة تضمن، كما تدل لفظة الحيوان على الجسم؛ ودلالة لزوم كما تدل لفظة السقف على الأساس. فإذا كان ذلك فلنرجع إلى مانحن فيه فنقول: إن المفهوم من الحساس هو أنه شئ له حس تم من خارج ما، نعلم أنه يجب أن يكون جسما وذا نفس، فتكون دلالة الحساس على الجسم دلالة لزوم. وأما الحيوان فإنما نعنى به بحسب الاصطلاح الذي لأهل هذه الصناعة، أنه جسم ذو نفس حساس فتكون دلالته على كمال الحقيقة دلالة مطابقة، وعلى أجزائها دلالة تضمن. وأما دلالة الحساس على سبيل المطابقة، فإنما هي على جزء فقط، وأما الكل وسائر الأجزاء، فإنما تدل عليها على سبيل اللزوم.
مخ ۱۵
ولسنا نذهب هاهنا في قولنا لفظ دال، إلى هذا النمط من الدلالة؛ فقط تقرر أن اللفظ الدال على الماهية ماهو وكيف هو، ومن هاهنا تزول الشبهة المذكورة. فأما اللفظ الذاتى للشئ الذي لايدل على ماهية مااعتبر ذاتيته له، لابسبيل شركة ولاخصوص، فانه لايجوز أن يكون أعم الذاتيات المشتركة وإلا لدل على الماهية المشتركة بوجه، فهو إذن أخص منه، فهو صالح لتمييز بعض ماتحته عن بعض، فهو صالح للإنية؛ فكل ذاتى لايدل بوجه على ماهية الشئ فهو دال على الإنية. فإن قال قائل: إن الذي يصلح للإنية هو بعينه يصلح للماهية، فإن الحساس، وإن رذلت كونه دالا على ماهية الإنسان والثور والفرس، بحال خصوص أو شركة، فإنك لاترذل دلالته على ماهية مشتركة للسميع والبصير واللامس؛ فليس يجب أن يكون الذاتي ينقسم إلى مقول في جواب ماهو، ومقول في جواب أى شىء، انقساما على أن لايدخل أحدهما في الآخر، ولذلك لم يتبين لك أنه إذا كان الشىء دالا على الماهية، فليس بدال على الإنية، بل يلزمك ما ألزمت القوم، فنقول له: أما التشكك المقدم فينحل بأن تعرف أنا لانمنع أن يكون ماهو دال على إنية أشياء دالا على ماهية أشياء أخرى، بل ربما أوجبنا ذلك؛ إنما نمنع أن يكون الحساس مثلا دالا على ماهية خاصة أو مشتركة للإنسان والفرس والثور، كدلالة الحيوان مع مشاركة الحيوان الحساس في الذاتية للإنسان والفرس والثور؛ فإن الحساس ذاتى مشترك لعدة أشياء، كما أن الحيوان ذاتى مشترك لها؛ إنما تمنع حكما آخر فنقول: إنهما بعد الاشتراك في الذاتية المشترك فيها، يفترقان فيكون الحيوان وحده منهما دالا على ماهية مشتركة للأمور التي هما ذاتيان لها.
ويجب أن تعلم أنا إذا قلنا: لفظ ذاتي، عنينا ذاتيا لشىء، ثم نقول: ماهية أو غير ماهية، فنعني بذلك أنه كذلك لذلك الشىء لاغيره. وإذا خلينا عن هذا فيكون ماهو أبعد من هذا، فإن الذاتي للشىء، كاللون للبياض، قد يكون عرضيا لشىء آخر، كما هو للجسم، وهذا لايوجب منع قولنا: إن الذاتي لايكون عرضيا؛ فإن غرضنا يتوجه إلى أنه لايكون عرضيا لذلك الشىء الذي هو له ذاتي.
وأما التشكك الآخر فينحل بأن نقول: إنا نعني بالدال على الإنية ما إنما صلوحه للإنية فقط دون الماهية، حتى إنه لاتكون دلالته على معنى مقوم يتمم ما هية مشتركة أو خاصة، بل على معنى مقوم يخص؛ فإذا قلنا: الدال على الإنية عنينا هذا المعنى. فإن تشكك متشكك، واستبان حال قول الحيوان على السميع والبصير واللامس، هل هو قول في جواب ماهو أو ليس، وكيف يجوز أن يكون مقولا في جواب ماهو، فتكون هذه أنواع الحيوان وأمورا مختلفة متباينة أيضا، فحينئذ لايكون الحساس مقولا عليها في جواب ماهو، لأن الحيوان أتم دلالة. وكيف لايكون كذلك وهو أكمل محمول على مانحمله علية بالشركة ؟ فيجب أن ينتظر هذا المتشكك أصولا وأحوالا نعطيها إياه في حمل الجنس على الفصل، وذلك بعد فصول. فإذ قد تبين هذا فنقول: إن الذاتى الدال على الماهية يقال له: المقول فى جواب ما هو؛ والذاتى الدال على الإنية يقال له: المقول فى جواب أى شىء هو في ذاته، أو أى ما هو.
وأما العرضى فربما كان خاصا بطبيعة المحمول عليه لا يعرض لغيره كالضحاك والكاتب للإنسان، ويسمى خاصة؛ وربما كان عارضا له ولغيره كالأبيض للإنسان ولغيره ويسمى عرضا عاما. فيكون كل لفظ كلى ذاتى إما دالا على ما ماهية أعم، ويسمى جنسا ، وإما دالا على ماهية أخص، ويسمى وإما دالا على إنية ويسمى فصلا. وأما الكلى العرضى فيكون إما خاصيا ويسمى خاصة، وإما مشتركا فيه ويسمى عرضا عاما.
فكل لفظ إما جنس وإما فصل، وإما نوع، وإما خاصة، وإما عرض عام. وهذا الذى هو جنس ليس جنسا فى نفسه، ولا بالقياس إلى كل شىء، بل جنسا لتلك الأمور التى تشترك فيه. وكذلك النوع ليس هو نوعا فى نفسه، ولا بالقياس إلى كل شىء، بل بالقياس إلى الأمور التى هو أعم منها. وكذلك الفصل إنما هو فصل بالقياس إلى ما يتميز به فى ذاته. والخاصة أيضا إنما هى خاصة بالقياس إلى ما يعرض لطبيعته وحده. وكذلك العرض إنما هو عرض عام بالقياس إلى ما يعرض له لا وحده.
فلنتكلم الآن فى كل واحد منها بانفراده، ثم لنبحث عن مشاركاتها ومبايناتها، على حسب العادة الجارية، سالكين في مسلك الجماعة.
الفصل التاسع في الجنس
مخ ۱۶
فنقول: إن اللفظة التى كانت في لغة اليونانيين تدل على معنى الجنس، كانت تدل عندهم بحسب الوضع الأول على غير ذلك، ثم نقلت بالوضع الثانى إلى المعنى الذى يسمى عند المنطقيين جنسا. وكانوا أولئك يسمون المعنى الذى يشترك فيه أشخاص كثيرة جنسا ، مثل ولديتهم كالعلوية ، أو بلديتهم كالمصرية. فإن مثل العلوية كانت تسمى عندهم باسم الجنس بالقياس إلى أشخاص العلويين، وكذلك المصرية كانت تسمى عندهم جنسا بالقياس إلى أشخاص المولودين بمصر، أو الساكنين بها؛ وكانوا أيضا يسمون الواحد المنسوب إليه الذى تشترك فيه الكثرة جنسا لهم، وكان على مثلا عندهم يجعل جنسا للعلويين ، ومصر جنسا للمصريين؛ وكان هذا القسم أولى عندهم بالجنسية، لأن عليا سبب لكون العلوية جنسا للعلويين، ومصر سبب لكون المصرية جنسا للمصريين. ونظن أن السبب أولى بالاسم من المسبب إذا وافقه فى معناه، أو قاربه. ويشبه أيضا أنهم كانوا يسمون الحرف والصناعات أنفسها أجناسا للمشتركين فيها، والشركة نفسها أيضا جنسا. فلما كان المعنى الذى يسمى الأن عند المنطقيين جنسا هو معقول واحد له نسبة إلى أشياء كثيرة تشترك فيه، ولم يكن له فى الوضع الأول أسم ، نقل له من اسم هذه الأمور المتشابهة له اسم، فسمى جنسا، وهو الذى يتكلم فيه المنطقيون ويرسمونه بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو. وقبل أن نشرع في شرح هذا التحديد، فيجب أن نشير إشارة خفيفة إلى معنى الحد والرسم، ونؤخر تحقيقه بالشرح إلى الجزء الذي نشرح فيه حال البرهان فنقول: إن الغرض الأول في التحديد هو الدلالة باللفظ على ماهية الشئ، فإن كان الشئ معناه معنى مفردا غير ملتئم من معانى، فلن يصلح أن يدل على ذاته إلا بلفظ يتناول تلك الذات وحدها، ويكون هو اسمها لاغير، ولايكون له ما يشرح ماهيته بأكثر من لفظ هو اسم؛ وربما أتى باسم مرادف لاسمه يكون أكثر شرحا له. لكن دلالة الاسم إذا لم تفد علما بمجهول، احتيج إلى بيان آخر لايتناول ذاته فقط، بل يتناول نسبا وعوارض ولواحق ولوازم لذاته، إذا فهمت تنبه الذهن حينئذ لمعناه منتقلا منها إلى معناه، أو يقتصر على العلامات دون الماهية، فلا ينتقل إليها، وعلى ماهو أقرب إلى فهمك في هذا الوقت. فمثل هذا الشئ لاحد له، بل له لفظ يشرح لواحقه من أعراضه ولوازمه.
مخ ۱۷
وأما إن كان معنى ذاته مؤلفا من معان، فله حد، وهو القول الذي يؤلف من المعانى التي منها تحصل ماهيته حتىتحصل ماهيته، ولأن أخص الذاتيات بالشئ إما جنسه، وإما فصله، على مايجب أن نتنبه له مما سلف ذكره؛ فأما فصل الفصل، والجنس الجنس، وما يتركب من ذلك، فهو له بواسطة، فهو في ضمن الجنس والفصل. فيجب أن يكون الحد مؤلفا من الجنس والفصل؛ فإذا أحضر الجنس القريب، والفصول التي تليه، حصل منها الحد، كما نقول في حد الإنسان: إنه حيوان ناطق. فإن كان الجنس لااسم له، أتى أيضا بحده، كما لو لم يكن للحيوان اسم أتى بحده فقيل: جسم ذو نفس حساس، ثم ألحق به ناطق. وكذلك من جانب الفصل. فالحد بالجملة يشتمل على جميع المعانى الذاتية للشئ، فيدل عليه إما دلالة مطابقة، فعلى المعنى الواحد المتحصل من الجملة، وإما دلالة تضمن، فعلى الأجزاء. وأما الرسم فإنما يتوخى به أن يؤلف قول من لواحق الشئ يساويه، فيكون لجميع ما يدخل تحت ذلك الشئ لالشئ غيره، حتى يدل عليه دلالة العلامة. وأحسن أحواله أن يرتب فيه أولا جنس، إما قريب وإما بعيد، ثم يؤتى بجملة أعراض وخواص، فإن لم يفعل ذلك كان أيضا رسما، مثال ذلك أن يقال: إن الإنسان حيوان عريض الأظفار، منتصب القامة، بادى البشرة، ضحاك، أو تذكر هذه دون الحيوان. فالمقول في شرح اسم الجنس هو كالجنس للشئ الذي يسمى جنسا، فمن المقول ما يقال على واحد فقط، ومنه مايقال على كثيرين، فيكون المقول على كثيرين كالجنس الأقرب. وأما المقول لا على كثيرين، فلا يتناول الجنس. ثم المقول على كثيرين الخمس المذكورة، الإ أنا لما قلنا: مختلفين بالنوع في جواب ماهو، اختص بالجنس؛ ونعنى بالمختلفين بالنوع المختلفين بالحقائق الذاتية ، فإن النوع قد يقال لحقيقة كل شئ في ماهيته وصورته غير ملتفت إلى نسبته إلى شئ آخر، خصوصا إذا كان يصح في الذهن حمله على كثيرين، تشترك فيه بالفعل أو لاتشترك فيه بالفعل بل بالقوة، أو احتمال التوهم؛ وليس يحتاج في تحقيق الجنس إلى أن يلتفت إلى شئ من ذلك. وإذا كانت أشياء مختلفة الماهيات، ثم قيل عليها شئ آخر هذا القول، كان ذلك الشئ الآخر جنسا. فافهم من قولنا: إن هذا الشىء يقال على هولاء الكثيرين فى جواب ما هو، أن ذلك بحال الشركة كما علمت.
وأما الفصل، فإنه غير مقول في جواب ما هو بوجه. وأما النوع، فإنه ليس، من حيث هو نوع، مقولا على شىء قولا بهذه الصفة، بل مقولا عليه، فإن اتفق أن قيل هو بعينه هذا القول، فقد صار جنسا. فإنا يلزمنا أن نعلم فى الحدود التي للأشياء الداخلة في المضاف، أنا نريد بها كونها لشىء، من حيث هى لها معنى الحدود، كأنا لما قلنا هذا الحد للجنس، استشعرنا في انفسنا زيادة يدل عليها قولنا: من حيث هو كذلك، لو صرحنا بها. وأما الشىء الذي يخص من بعد باسم النوع ، فستعلم أنه لايقال على كثيرين مختلفين بالنوع، بل بالعدد.
وأما العرضيات، فلايقال شىء منها في جواب ماهو، فلا شىء غير الجنس موصوفا بهذه الصفة، وكل جنس موصوف بهذه الصفة، لأنا حصلنا معنى هذا الحد، وجعلنا لفظ الجنس اسما له.
مخ ۱۸
وقد يعرض هاهنا شبه: من ذلك أنه إذا كان للجنس شىء كالجنس، وهو المقول على كثيرين، كان للجنس جنس، إذا قيل الجنس على المقول على الكثيرين الذي هو جنسه وكان الجنس مقولا على الجنس نفسه، فنقول في جوابه: إن المقول على الكثيرين يقال على الجنس كقول الجنس، والجنس يقال عليه لاكقول الجنس بل كقول العرض له؛ إذ ليس يقال: إن كل مقول على كثيرين جنس، وكل ماهو جنس، فإنما يقال على كل ماهو له جنس، بل المقول على كثيرين تعرض له الجنسية عند اعتبار ما، كما تعرض للحيوان الجنسية باعتبار ما، وهو اعتبار العموم بحال، وكما نشرح لك كل هذا عن قريب، من غير أن تكون الجنسية مقومة للحيوان ألبتة. ولايمنع أن يكون المعنى الأخص قد يقال على الأعم، لاعلى كله؛ ولو كان الجنس يقال على المقول على الكثيرين قول المقول على الكثيرين لكان شططا محالا. ومما يشكك هاهنا أستعمال لفظة النوع في حد الجنس. فإنك إذا أردت أن تحد النوع، يشبه أن لاتجد بدا من أن تدخل فيه اسم الجنس، كما يبين لك بعد إذ يقال لك إن النوع هو المرتب تحت الجنس، وكلاهما للمتعلم مجهول، وتعريف المجهول بالمجهول ليس بتعريف ولا بيان؛ وكل تحديد أو رسم فهو بيان. وقد أجيب عن هذا فقيل: إنه لما كان المضافان إنما تقال ما هية كل واحد منهما بالقياس إلى الآخر، وكان الجنس والنوع مضافين، وجب أن يؤخذ كل واحد منهما في بيان الآخر ضرورة إذ كان كل واحد منهما إنما هو هو بالقياس إلى الآخر .فهذا الجواب هو زيادة شك في أمور أخرى غير الجنس والنوع، يشكل فيها ما يشكل في الجنس والنوع. وزيادة الإشكال ليست بحل، فإن المحقق يقول: ورد حدود المضافات على حد الجنس والنوع، وعرفنى أنها إذا كانت مجهولة معا، فكيف يعرف الواحد منها بالآخر ؟ وأيضا فإن من شأن الحل أن تقصد فيه مقدمات.الشك فتنكر جميعها، أو واحدة منها. وليس في الحل الذي أورده هذا الحال تعرض لشئ من تلك المقدمات؛ فإنه لم يقل إن الجنس والنوع ليسا معا مجهولين عند المبتدئ المتعلم، ولم يقل إنه إذا عرف كل واحد منهما بالآخر وهو مجهول، فليس هو تعريف مجهول بمجهول، فإن هذا لايمكن إنكاره؛ ولا أيضا يسوغ إنكار الثالثة وهي أن تعريف المجهول بالمجهول ليس ببيان، ولا الترتيب الذي لهذه المقدمات غير موجب لصحة المطلوب بها؛ فإذا كان هذا الحال لم يتعرض لمقدمة من قياس الشك ولا لتأليفه، فلم يعمل شيئا. وأيضا فقد وقع فيه غلط عظيم: أنه لم يميز فيه الفرق بين الذي يعرف مع الشئ، وبين الذي يعرف به الشئ؛ فإن الذي يعرف به الشئ هو مما يعرف بنفسه ويصير جزءا من تعريف الشئ، إذا أضيف إليه جزء آخر توصل إلى معرفة الشئ، ويكون هو قد عرف قبل الشئ. وأما الذي يعرف مع الشئ فهو الذي استتمت المعرفة بتوافي المعرفات للشئ معا عرف الشئ وعرف هو معه، ولا تكون المعرفة به تسبق معرفة الشئ حتى يعرف به الشئ، فذلك لايكون جءا من جملة تعريف الشئ؛ فإن أجزاء الجملة التي تعرف الشئ ما لم تجتمع معا، لم تعرف الشئ، والواحد منها يكون دالا على جزء من المعنى الذي للشئ فقط. فما دامت الأجزاء تذكر ولم تستوف جميعها، يكون الشئ بعد مجهولا؛ فإذا توافت عرف الشئ حينئذ، وعرف ما يعرف مع الشئ. والمضافات إنما تعرف معا، ليس بعضها يعرف بالبعض فتكون معرفة بعضها قبل معرفة البعض فتكون معرفة البعض لامع معرفته. وبالجملة ما يعرف مع الشئ غير الذى يعرف به الشىء؛ فإن الذى يعرف به الشىء هو فى المعرفة قبل الشىء. وكذلك فإنا نقول: إن المتضايقات لا تحد على هذه المجازفة التى أومأ إليها من ظن أنه يحل هذا الشك، بل في تحديدها ضرب من التلطف يزول به هذا الانغلاق؛ ولهذا موضع بيان آخر. وأما مثاله فى العاجل، فهو أنك أذا سئلت: ما الأخ ؟ لم تعمل شيئا إن أجبت؛ أنه الذى له أخ، بل تقول: إنه الذى أبوه هو بعينه أبو إنسان آخر الذى يقال إنه أخوه، فتأتى بأجزاء بيان ليس واحد منها متحددا بالمضاف الآخر؛ فإذا فرغت تكون قد دللت على المتضايفين معا. وإذ قد تقرر أن هذا الحل غير مغن، فلنرجع نحن إلى حيث فارقناه فنقول: إن تحديد الجنس يتم، وإن لم يؤخذ النوع فيه نوعا من حيث هو مضاف إليه، بل من حيث هو الذات؛ فإنك إذا عنيت بالنوع الماهية والحقيقة والصورة، وقد يعنى به ذلك كثيرا في عادتهم، لم يكن النوع من المضاف إلى الجنس. وإذا عنيت بالمختلفين بالنوع المختلفين بالماهية والصورة، تم لك تحديد الجنس. فإنك إذا قلت: إن الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق والماهيات والصور الذاتية في جواب ما هو، تم تحديد الجنس، ولم تحتج إلى أن تأخذ النوع من حيث هو مضاف فتورده فى حده، وإن كانت الإضافة تندرج فى ذلك اندراجا لا يكون معه جزء الحد متحددا بالمحدود بالحد. أما الاندراج فلأنك إذا قلت: مقول على المختلف بالماهية، جعلت المختلف بالماهية مقولا عليه، وهذه إشارة إلى ما عرض لها من الإضافة. وأما أنك لم تجعل جزء الحد متحددا بالمحدود بالحد، فلأن جزء الحد هو الماهية، أو كلية تخالف بالماهية؛ والماهية من حيث هى ماهية، والكلية المخالفة بالماهية غير متحددة بالجنس، فتكون قد حددت. متحددة بالجنس، فتكون قد حددت.
المقالة الثانية من الفن الثاني
الفصل الأول فصل (1) في حال مناسبة الأجناس وفصولها المقسمة والمقومة، وتفهيم هذه الأجناس العشرة العالية، وحال قسمة الموجود إليها، وابتداء القول فى أنها عشرة لا تدخل تحت جنس ولا يدخل بعصها فى بعض ولا جنس خارج عنها.
إن الأجناس العالية لا يوجد لها فصول مقومة بل تنفصل بذواتها، وإنما كان يكون لها فصول مقومة لو كانت لها أجناس فوقها، وبالجملة معان أهم منها داخلة فى جوهرها، فتحتاج أن تنفصل في جواهرها عنها بغيرها، كما تبين فى صناعة أخرى؛ ولكن إنما توجد لها الفصول المقسمة.
والأنواع السافلة لا توجد لها فصول مقسمة. نعم، قد يكون لها أعراض وخواص مقسمة. وإنما كان يكون لها فصول مقسمة لو صلح أن يكون لها أنواع تحتها. وأما الأجناس والأنواع المتوسطة فإنها هى التى يوجد لها فصول مقومة وفصول مقسمة. ففصولها المقومة هى التى تقسم أجناسا فوقها؛ وفصولها المقسمة هى التى تقوم أنواعا تحتها؛ وكل ما قوم جنسا هو فوق فإنه يقوم كل ما تحته؛ لكن تقويمه الأولى لما قسم إليه الجنس قسمة أولى؛ وكل ما قسم جنسا أو نوعا هو تحت فإنه يقسم ما فوقه.
ولا يبعد أيضا أن يكون الأقدم هو المعنى الآخر؛ فلما كان هذا المعنى يلزمه أن يكون نوع الأنواع، ويختص في إضافاته بالنوعية فقط من غير جنس، جعل أولى باسم النوعية، وسمى من حيث هو ملاصق للأشخاص نوعا أيضا. وهذا شئ ليس يمكننى تحصيله، وإن كان أكثر ميلى هو إلى أنض أول التسمية وقع بحسب اعتبار النوع المضايف، لكنه يجب علينا أن نعلم أن النوع الذي هو أحد الخمسة في القسمة الأولى، هو بأى المعنيين نوع، فنقول: إنه قد يمكن أن تخرج القسمة المخمسة على وجه يتناول كل واحد منهما دون الآخر، فإنه إذا قيل: إن اللفظ الكلى الذاتى، إما أن يكون مقولا بالماهية أو لايكون، والمقول بالماهية إما أن يكون مقولا بالماهية المشتركة لمختلفين بالنوع، أو لمختلفين بالعدد دون النوع، كان قسمة المقول بالماهية تتناول الجنس والنوع الملاصق للأشخاص، فيضيع اعتبار النوع بالمعنى الذي يكون بالاضافة إلى الجنس في القسمة الأولى، بل ينقسم بعد ذلك ماهو مقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو إلى ما هو كذلك، ولا يقال عليه مثل ذلك، فيكون الذي يسمى جنسا فقط، وإلى مايكون مقولا على كثيرين، ويقال عليه آخر هذا القول فيصير هذا الاعتبار نوعا. لكن هذه القسمة لاتخرج طبيعة النوعية بالمعنى المضاف مطلقا، بل تخرج قسما من هذه النوعية بهذا الاعتبار، وهو ماكان جنسا وله نوعية، وتخرج طبيعة النوع بالاعتبار الخاص سالما صحيحا. وقد يمكن أن يقسم بحيث يخرج النوع بمعنى الأعم، فيكون النوع بالمعنى الخاص في القسمة الثانية، حتى يكون ماهو نوع : إما الذي هو نوع الأنواع الذي يعرض له أن يكون النوع بالمعنى الذي يجعله أخص، وإما الذي هو نوع يتجنس.
مخ ۲۰
لكنك إذا قسمت الكلى - من حيث هو كلى - فأولى الاعتبارات به أن تقسمه قسمة تكون له بالقياس إلى موضوعاته التي هو كلى بحسبها، فهنالك يذهب النوع الذي بالمعنى الأعم؛ وإنما يحصل من بعد باعتبار ثان، وهنالك يصير النوع المشعور به أولا هو النوع بالمعنى الخاص. وإن لم يراع هذا - بل روعى أحوال الكليات وعوارضها فيما بينها من حيث هي كلية، مثل الزيادة في العموم والخصوص التي لبعضها عند بعض، لاعند الجزئيات - خرج لك النوع المضاف، على مانورده عن قريب. وليبس يجب أن يكون هذا التخميس مشتملا على كل معنى تكون إليه قسمة الكلى؛ فإن الشئ قد ينقسم أقساما قسمة تامة، وتفلت منها أقسام له أخرى إنما تأتى سليمة بقسمة أخرى؛ فإن الحيوان، إذا قسمته إلى ناطق وأعجم، لم يكن إلا قسمين، وأفلت المشاء والطائر، واحتاج إلى ابتداء قسمة. وليس يجب أن تنعسر ونقول: إن هذه القسمة المخمسة يجب أن تشتمل على كل معنى يكون من أقسام الكلى واعتباراته، بل يجب أن تعلم أنه إنما يحمل على هذا التعسر اشتراك قسمين متباينين في اسم وهو اسم النوع، بل الأحرى أن نقول: إن هذه الخمسة إذا تحصلت، حصل من المناسبات التي بينها أمر آخر، هو حال الأخص من المقولات في جواب ماهو عند الأعم، حتى يكون ذلك نوعية الأخص، وكما يعرض مثل ذلك أيضا شخصية وجزئية، ولكن تلك قد تركت إذ لا التفات إليها. فإن آثره أن نجعل القسمة مخرجة للنوع بالمعنى المضاف الذى هو أعم، وجب أن نقول: إن اللفظ الذاتى إما مقول في جواب ماهو، وإما غير مقول؛ ونعنى بالمقول في جواب ماهو، ما يصلح أن يكون - إذا سئل وهذه الأمثلة التي أوردناها ليست تدل التسع منها على المقولة دلالة الاسم على المعنى، بل دلالة الاسم على ذي المعنى، إذ كان هذا أعرف. ثم ننتقل منه إلى المعنى؛ وذلك لأن قولنا أبيض ليس اسما للكيفية بل اسما لشئ هو ذو كيفية، وهو الجوهر. لكن من ههنا تنبيه على وجود الكيفية؛ فإن الأبيض كزيد وككرباس أعرف عند التخيل من البياض الذي هو مجرد الكيفية، والتخيل أسبق إلينا في هذه الأمور من العقل. فإذا أخطرت ببالك الأبيض، فكان شيئا ذا بياض، دلك هذا على البياض دلالة المعنى على المعنى والأمر على الأمر. فالمقولة ليست هي الأبيض، بل البياض. وكذلك ليست الكمية هي شيئا ذا ذراعين، بل نفس الذراعين. وكذلك الحال في البواقي.
فالألفاظ التي تدل على الجواهر تدل على ذات فقط دلالة الاسم؛ ولا تدل على أمر تنسب إليه هذه الذات، دلالة الاسم ولا دلالة المعنى. وأما إذا قلت بياض، فإن هذا اللفظ يدل لك على معنى البياض دلالة الاسم ويدلك على معنى آخر؛ وذلك أنك كما تسمع لفظ البياض وتفهم،يبادر بك ذهنك في أكثر الأمر إلى أن تخطر بالبال شيئا آخر هو الأبيض. وكذلك الحال في كل واحد من التسعة. فالمقولات التسع هى مايدل عليه البياض والمقدار والعدد والأبوة والكون في المكان، كقولك الإنجاد والإتهام، والكون في الزمان، كقولك العتاقة والحداثة، والوضع كقولك القيام والجلوس، وأيضا ما يدل عليه التسلح، وصدور الفعل كالقطع، وقبوله كالانقطاع مادام ينقطع.
مخ ۲۱
والمباحث في أمر هذه العشرة كثيرة. منها أنه هل يمكن أن تستند كلها إلى جنس واحد، كما ظن أن الموجود جنس لها ؟ ومنها أنه إن لم يمكن ذلك فيها، فهل يمكن أن يفرد الجوهر جنسا ويجعل العرض جنسا واحدا يعم التسعة ؟ ومنها أنه إن لم يمكن هذا، فهل يمكن أن تجمع في أكثر من اثنتين وأقل من عشرة ؟ ومنها أن هذه هل تشتمل على جميع الموجودات، فلا يشذ منها شئ، أو لاتشتمل، بل ههنا أمور أخرى لا تدخل في شئ من المقولات ؟ ومنها أن الموجود كيف يتشعب إلى هذه العشرة مع كون أمور أخرى خارجة عنها أو مع لاكون أمور أخرى خارجة عنها ؟ فنقول: أما البحث الأول، وهو حال نسبة الموجود إلى هذه العشرة فإن المشهور من النظر فيه أن يعدوا وجوه قسمة الواحد إلى الكثرة، فيبطلوا وجها وجها منها حتى يبقى مايؤثرون بقاءه. وليس في تعديدنا ذلك كله فائدة؛ إذ من المعلوم أن الموجود مقول على هذه العشرة، وأنه إنما يتكثر فيها تكثير المقول، لاتكثير وجوه أخرى مما يطولون به كلامهم. وتكثير المقول يكون على وجوه ثلاثة: إما أن يتكثر تكثر المتواطئ في موضوعاته أو تكثر المتفق الصرف الذي يشمل التشابه والاشتراك، أو تكثر المشكك. ثم من امتنع أن يعقل أن للموجود معنى واحدا في هذه العشرة، فقد فارق الفطرة؛ وخصوصا إذا قال: إن الدليل على اختلاف هذه العشرة في معنى الوجود أن الجوهر موجود بذاته والعرض موجود بغيره، وأن الجوهر موجود لايحتاج في وجوده إلى وجود آخر، والعرض موجود يحتاج في وجوده إلى ذلك، فقد أشرك هذين الشيئين في شئ وهو لفظ الموجود، ثم فرق بعد ذلك بأنه بذاته أو بغيره وأنه محتاج أو غير محتاج. فهذا الموجود المستعمل، أن كان يدل على معنى يجتمع فيه العرض والجوهر ثم يفترقان من بعد، فقد حصل معنى جامع؛ وإن لم يدل على معنى جامع، فكيف فارق أحدهما الآخر؟ بل لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر، وأحدهما بذاته والآخر بغيره؛ وقد يفرق أيضا بين النوع والفصول التي تقال على كثيرين مختلفين بالنوع؛ مثال هذا الفصل المنقسم بالمتساويين فإنه فصل الزوج في ظاهر الأمر، وقد يقال على الخط والسطح والجسم في ظاهر الأمر؛ فليس الزوج وحده منقسما بمتساويين في ظاهر الأمر؛ فإنه إذا أضيف إلى العدد الذي هو كالجنس، كان مساويا للزوج، ولا يفرق بين النوع والفصل الذي هو خاص بالنوع فالناطق، أعنى الذي له مبدأ قوة التمييز، فإنه هذا الإنسان وحده. وأما الذي يقال للملك فهو بمعنى آخر ليس يشارك الإنسان الملك فيه؛ ولكن قد يمكن لبعض المتشحطين أن يخرج من هذا الحد من هذه الجهة وجها يفرق بين النوع والفصل، وذلك الوجه هو أن طبيعة النوع بهذا المعنى تقتضي أن لايقال إلا على كثيرين مختلفين بالعدد، وطبيعة الفصل لاتقتضى ذلك؛ وهو وجه متكلف. لكن قوله: " في جواب ماهو " يفرق بين الفصل وبينه تفريقا مطلقا، ويفرق بين الخاصة وبين النوع أيضا؛ فإن الخاصة لامدخل لها في جواب ماهو. فهذا الرسم متقن محقق مطابق للمعنى الذى يقال عليه النوع، الذي لايطابق إلا نوع الأنواع. وأما رسوم النوع بالمعنى الذي فيه الإضافة فذلك عندهم رسمان: أحدهما قولهم: إنه المرتب تحت الجنس، والثاني: إنه الذي يقال عليه الجنس من طريق ماهو. فيجب أن ننظر في حاله فنقول: إنه إن عنى بالمرتب تحت الجنس مايكون أخص منه حملا، أنى يكون حمله على بعض ما يحمل عليه مما هو تحته، فإن الشخص والنوع والفصل والخاصة تشترك جميعها فيه، وإن عنى بذلك ماكان كليا وحده دون الشخص، فقد عنى ماهو خارج عن مقتضى اللفظ؛ ومع ذلك فإن الفصل والنوع والخاصة تشترك فيه. وإن لم يعن بالمرتب هذا، بل عنى به ماهو أخص وملاصق لايتوسط شئ بينهما، وهو مايتلوه في المرتبة، خرج الشخص ودخل الخاصة والفصل؛ وإن عنى بالمرتب ما كان ملاصقا ليس في ترتيب العموم فقط، بل في ترتيب المعنى أيضا، خرج الخاصة ودخل الفصل؛ وإن عنى بالمرتب مايكون خاصا مدخولا في طبيعته، أعنى ما يكون ما فوقه مضمنا في معناه، اختص هذا الرسم بالنوع؛ فإن الجنس ليس داخلا في طبيعة الفصل ولا الخاصة، بل هو شئ كالموضوع لهما ليس داخلا فيهما، ونسبته إليهما نسبة الأمر اللازم الذي لابد منه، ليس نسبة الداخل في الجوهر، على ما علمت. لكن لفظة " المرتب " ليس تدل على هذا المعنى المحدد بكل هذه الاشتراطات، لابحسب الوضع الأول، ولا بحسب النقل، فليس يذكر في موضع من كتب أهل هذه الصناعة أنه إذا قيل: مرتب تحت كذا، عنى هذا المعنى.
وأما الرسم الثاني، وهو أنه الذي يقال عليه جنسه من طريق ماهو - إن عنى بالمقول من طريق ماهو ما حققناه نحن - فيجب أن يزاد عليه أنه الذي يقال عليه وعلى غيره جنسه من طريق ماهو، أو يقال: هو الذي يقال عليه جنسه من طريق ماهو بالشركة، فيكون هذا خاصا للنوع؛ فإن الفصل لايقال عليه الجنس من طريق ماهو ألبتة، وكذلك الخاصة والعرض. وأما الشخص فلا تتم ماهيته بالجنس. وأما إن عنى بذلك ما يعنونه، وبين الفصل بل تكون الماهية موجبة له ومقتضية إياه. وأما ماتكون الماهية لاتوجبه ويجوز أن يكون من شئ خارج يفيده فليس مقوما للماهية. والجنس إنما يكون من المعانى التي تشبه الشكل مما يصير به المعنى معنى والماهية ماهية. وأما الوجود فأمر يلحق الماهية تارة في الأعيان وتارة في الذهن.
مخ ۲۲