الفن الثالث من الطبيعيات فى الكون والفساد وهو مقالة واحدة فى خمسة عشر فصلا
الفصل الأول فصل فى اختلاف آراء الأقدمين فى الكون والاستحالة وعناصرهما
مخ ۷۷
قد فرغنا من تحديد الأمور العامة للطبيعيات وتعريفها، وفرغنا من تحديد الأجسام التى هى أجزاء أولية للعالم، ومنها ينتظم هذا الكل الذى هو واحد، والأجزاء الأولية للعالم بسايط لا محالة؛ وبينا أن بعض هذه البسايط لا يقبل الكون والفساد، وهى البسايط التى فى جواهرها مبادئ حركات مستدىرة. ولم يتضح لنا من حال الأجسام المستقيمة الحركة أنها قابلة للكون والفساد أو غير قابلة. نعم قد أوضحنا أن الأجسام التى فى طباعها أن تقبل الكون والفساد فى طباعها أن تتحرك على الاستقامة. فيجب من ذلك لمن حسن النظر أن بعض الأجسام المتحركة على الاستقامة يقبل الكون والفساد فيكون بعض الأجسام البسيطة قابلة للكون والفساد.
وأما أن ذلك كيف يجب فلأن الأجسام المستقيمة الحركة لا مبدأ للحركة المستديرة فيها، وهى فى أمكنتها الطبيعية ساكنة فى الأين والوضع، جميعا، واختصاص الجزء المفروض بجهة مفروضة يكون إما لأمر عارض قاسر وإما للطبع. والأمر العارض القاسر إما أن يكون قد اتفق ابتداء الحدوث هناك، أو بالقرب منه، فاختص به؛ أو اتفق أن نقله ناقل إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك الأمر بالطبع، فقد عرفته.ولا يجوز أن يكون ذلك كله لنقل ناقل، حتى لو لم يكن ناقل لما كان لجزء منه اختصاص البتة
وبالجملة فأن القسرى يعرض على طبيعى .فلو كانت الأرض أو غيرها من الاسطقات أزلية لم يجب أن يكون مصروفة الأجزاء كلها دائما تحت نقل قاسر، ووجب أن يكون لها وضع يقتضيه أمر غير القاسر الناقل؛ بل يجوز أن يكون ذلك فى بعض الأجزاء، فبقى أن يكون العمدة فيه أن الجزء إن كان، فى ابتداء تكونه، حاصلا فى حيز يخصص حدوثه فيه عن بعض العلل لوجود ما يكون عنه به فلما كان أول حدوثه فى ذلك الحيز، أو فى حيز يؤديه التحريك الطبيعى منه إلى ذلك الموضع من موضع كليته، صار ذلك الموضع مختصا به ما علمته سالفا.
مخ ۷۸
وأما المركبة فلا شك أنها من حيث هى مركبة فقد تكونت بعد ما لم تكن، فيجب أن يكون فى طباعها، لا محالة، أن تفسد؛ إذ قد بىنا لك أن كل كائن جسمانى فاسد.
فقد اتضح من هذا أن الكون والفساد موجود. وقد كان اتضح لك قبل ذلك الفرق بىن الكون وبين الاستحالة، وبين النمو والذبول فى ماهياتها. وإنما بقى لك الآن تعرف وجود كل واحد منها.
فمن الناس من منع وجود جميع ذلك؛ بل منع وجود الحركة. أما من أبطل الحركة المكانية والوضعية فلا كثير فائدة لنا فى الاشتغال بمناقضته، وإن كانت العادة قد جرت بها. فإن لنا، بمناقضيه آراء قيلت فى أمور ليس الحكم فيها يبين، شغلا شاغلا عن تكلف ما بيان وجوده يغنى عن إبانته. وأما هذه الباقية فإن الشغل فى إبانة وجودها مما ينبغى أن ىعتد به.
فقد منع قوم الكون، وزعموا أن البسائط، مثل الأرض والنار والهواء والماء، فإن جواهرها لا تفسد، بل لاشىء منها يوجد صرفا فى طبيعته، بل هو مركب من الطبيعة التى ينسب إليها ومن طبايع أخرى. لكنه إنما يسمى بالغالب .فلا أرض صرفا ولا نار صرفا، ولا ماء صرفا ولا هواء صرفا؛ بل كل واحد منها مختلط من الجميع، و يعرض له فى وقت ملاقاة غيره إياه مما الغالب فيه غير الغالب فيه، أن يبرز ويظهر فيه ما هو مغلوب لملاقاة الذى من جنس المغلوب فيه غالب، وظهوره بأن يتحرك إلى مقاومة ما غلبه وعلاه، فيستعلى عليه. وإذا تحرك إلى ذلك عرض للنظام الذى كان يحصل باجتماع الغوالب والمغلوبات أن يحيل ويستحيل.
مخ ۷۹
والحس إنما يشاهد من جملة ذلك غالب الأجزاء التى تبرز وتظهر فيحسب أن جميعه استحال إلى الغالب، بأن صارت مثلا، الخشبة أو غيرها نارا. ولا يشاهد الأجراء التى تتفرق من الجوهر الآخر كالدخان مثلا، نعم إنما يشاهد بقية بقيت من الأول بحالها، أو يشاهد ما يتبقى من الأول - وقد تفرق وتشتت ، أو بطلت تلك الصورة التى كانت له - بقاء الرماد.
وأما جوهر الماء فلن يصير نارا البتة، ولا جوهر النار يصير ماء البتة، بل يتفرق، ويغيب عن الحس فيرى ما يظهر ويبرز للحس، فيظن أنه بجملته استحال.
فهؤلاء الطبقة يرون أن النار لا تكون من شىء بل الكائن منها يبرز ويستعلى للحس ليس على أنه حدث، بل على أنه ظهر، ويرون أنه لا استحالة ألبيه، وأن الماء ليس يسخن بالحقيقة من النار، بل تخالطه أجزاء فإذا لقيها إليه فى أول ما يظنها يستحيل لقاء أجزاء محرقة وأجزاء مبردة لقاء لا يميز الحس بين أفرادها، فيتخيل هناك أمرا بين الحر الشديد والبرد الشديد، وهو الفتور .فان كثرت الأجزاء النارية بلغ الأمر إلى أن يحرق.
قالوا: وليست الشعرة الواحدة تسود بعينها وتبيض، بل مرة تجرى فيها، ومن غذائها، أجزاء يغلب عليها فى ظاهرها سواد يخالطها ويعلوها فيبيضها. وإن الدكنة ليست لونا متوسطا بين السواد والبياض، بل مختلطا فيها، بل تكون أجزاء تسود
مخ ۸۰
وأجزاء بيضا فيختلطان ويبرزان، فلا يميز الحس بينهما، وإذا لم يميز الحس تخيل المجتمع لونا واحدا.
ومن هؤلاء من يرى أن الجزء الحار مثلا ليس فيه حامل ومحمول، حتى يكون هناك جوهر وحرارة محمولة فيه؛ بل يجعل الحرارة جزءا بنفسها.
ومنهم من يرى أن هناك حاملا ومحمولا، لكنه ليس من شأن الحامل أن يفارقه المحمول ألبتة البتة .
ويشبه أن يكون بإزاء هؤلاء قوم يرون ما يسمى كونا، ولا يرون للاستحالة وجودا ألبتة البتة ، حتى يمنعوا أن يكون الماء يسخن، وهو ماء، ألبتة البتة ؛ بل إذا سخن فقد استحال ذاته، وأنه مادام ماء، ويرى أنه سخن، فهو مختلط.
وقد ألجأ بعض المطالبات واحدا من المتفلسفة، على مذهب نصارى بغداد، إلى أن قال بذلك.
وهنا قوم يرون الاستحالة، ولا يرون كونا ألبتة البتة ، وأكثر هؤلاء هم الذين يقولون بعنصر واحد، إما نار. وإما ماء، وإما هواء، وإما شىء متوسط بين هواء ونار وماء.
مخ ۸۱
فإن رأوا أن العنصر نار مثلا كونوا عنه الأشياء بالتكاثف فقط؛ حتى أنه إذا تكثف حدا من التكاثف صار هواء. فإن تعداه إلى حد آخر صار ماء. وإن تعداه إلى آخر حدود التكاثف صار أرضا، ولا يجوزون، مع ذلك، أن تكون جوهرية النارية الذاتية تبطل؛ بل عندهم أن الأرض نار محفوظة فى جوهرها مسلوب عنها عارض التخلخل المفرط.
وإن رأوا أن العنصر أرض أقاموا التخلخل بدل التكاثف، وعملوا بالعكس. وإن رأوه شىئا آخر عملوا فىه الضدين من التكاثف و التخلخل، فجعلوه بحيث، إذا تكاثف، عنصرا أكثف منه، و إذا تخلخل صار عنصرا ألطف منه وأخف، من غير بطلان جوهريته.
وههنا أيضا قوم ينكرون وجود الكون ويثبتون الاستحالة، مع فرضهم عناصر فوق واحد. فمنهم من يفرض العنصر الأرض والنار؛ ومنهم من يفرضه الأرض والماء؛ ومنهم من يفرضه الأرض والهواء والنار، ويلغى الماء، فأن الماء عنده ليس إلا هواء قد تكاثف.
ومنهم من يقول بالأربع و مع ذلك فيقول بالاستحالة: ولا يرى العناصر تقبل كونا البتة.
لكن القائلين بهذا القول قد ينقضون قول أنفسهم؛ إذ يبدو لهم أن يجعلوا القوة المسماة عندهم محبة وألفة قوة من شأنها أن تتسلط مرة على العناصر الأربعة فتوحدها جسما متشابه الجوهر يسمونه الكرة. ثم إذا عاد سلطان القوة المضادة لها، وهى التى يسمونها تارة عداوة وتارة غلبه، وتارة بغضه، فرقها طبايع أربع، فتكون العناصر الأربعة إذا حصلت فى سلطان المحبة قد فسدت صورها التى بها هذه الأربع، وقد منع من ذلك.
مخ ۸۲
وبالجملة فإن طبيعة قوة الانسلاخ وهذا اللبس موجودة فى العناصر، وموقوفة، فى الخروج إلى العقل، على غلبة من محبة موجودة، أو غلبة مفرقة. وهذا شأن القابل للكون والفساد.
وأكثر من قال بالعناصر الكثيرة يلزمه أن ينكر الاستحالة فى الكيفيات الفاعلة والمنفعلة، لأن منهم من لا يرى لها وجودا، ومنهم من يراها نفس العناصر أو لازمة للعناصر لا تفارقها، فكيف تستحيل فيها، وهو لا يرى أن شيئا من العناصر يستحيل؟
وههنا قوم يريدون أن يميزوا بين الكون والاستحالة بوجه لا يتميز؛ وذلك لأنهم يضعون مبادئ الأجسام كلها أجراما، وغير متجزئة، أو سطوحا.
فأما جاعلوها أجراما غير متجزئة فيقولون إنها غير متخالفة إلا بالشكل، وإن جوهرها جوهر واحد بالطبع، وإنها لاتنقسم، لا لأنها لا تقبل القسمة الإضافية؛ بل لا تقبل قسمة الانفصال لصلابتها التى هى عدم تخلل الخلاء عندهم؛ إذ الانفصال بين الملاء والملاء إنما هو عندهم بالخلاء.
قالوا، وإن هذه إنما تصدر عنها أفعال مختلفة لأجل أشكال مختلفة. لكن ليس من شأن شىء منها أن ينسلخ عن شكله. ولا يتحاشون أن يجعلوها مختلفة بالصغر والكبر. ثم منهم من يرى الأشكال متناهية، ومنهم من يراها غير متناهية، ويفتنون فى أن الأجزاء غير متناهية، وأنها تتحرك حركات كيف اتفق.
مخ ۸۳
فمنهم من يرى حركاتها حادثة عن حركات قبلها بلا نهاية، كل حركة عن صدمة عن حركة عن صدمة، وأنها ربما ارتبكت واجتمعت فتحابست عن الحركة.
ومنهم من يرى لبعض أشكالها خفة، ولبعضها ثقلا. وكلهم لا يرون لطبائع هذه الأجرام كونا ولا فسادا. ولكنهم يرون أن للمركبات منها كونا وفسادا، وأن كونها عنها وفسادها إليها، وأن الكون هو باجتماعها، و أن فسادها بافتراقها، وأن استحالتها باختلاف الوضع والترتيب لتلك الأجزاء فى المجتمع منها.
أما الترتيب فمثاله أن هذه الأجزاء لو كانت حروفا مثلا، فوقع منها ترتيب فى الجهات على مثال هجاء مليك، ثم حال التركيب، فصار على هجاء كليم. فحينئذ
لم يكن عندهم قد فسد؛ إذ لم يتفرق. ولكن يكون عندهم قد استحال. وأما الوضع فأن يكون مثلا كلاهما مليكا، لكن أحدهما قد كتب فيه الحروف على الترتيب المكتوب وجهات رءوس الحروف تلك الجهات لها، والآخر إن حرفت أوضاع الحروف عن ذلك، فكتب مثلا هكذا م يك، حتى صارت اللام جهتها إلى غير جهة الكاف.
وهؤلاء قد تعدوا هذا إلى أن جعلوا الاستحالة أمرا بالقياس إلى الإدراك والإحساس، لا على أنها موجودة فى طبائع الأمور .وقالوا، وذلك كاللون المحسوس فى طوق الحمامة. فأنه إذا كان على وضع ما من الناظر إليه رؤى اسود، وإذا صار له منه وضع آخر رؤى أرجوانيا، وأنه ليس فى نفسه سوادا ولا أرجوانية؛ بل ذلك له بالقياس إلى الناظر.
مخ ۸۴
فهؤلاء أصحاب الأجرام غير المتجزئة .وأما أصحاب السطوح فأنهم يرون الكون باجتماعها و الاستحالة لشىء قريب مما يقوله هؤلاء. و يجعلون مبادئ السطوح سطوحا مثلثة.
فهؤلاء بالجملة يرون أنهم اثبتوا كونا، ولم يثبتوه. وذلك لأن الطبائع إذا كانت محفوظة فى البسائط متشاكلة فى الجواهر، فلا يفعل الاجتماع و الافتراق أمرا غير زيادة حجم وعظم ومخالفة هيئة شكل .وذلك إما تغير فى الكم أو فى الكيف.
وأما النمو فلم يبلغنا فيه مذهب نذكره خارج عن مذهب الفرقة المنكرة للحركة أصلا، وإن كان النمو من حقه أن تنبعث فيه شكوك.
ويكفينا فى عرضنا هذا من تعديد هذه المذاهب ما عددناه. فبالحرى أن نشتغل الآن بتعديد القياسات الفاسدة التى دعت هؤلاء الى اعتقاد هذه المذاهب، ثم نقبل على فسخها وفسخ نتائجها من أنفسها.
مخ ۸۵
الفصل الثاني فصل فى فى اقتصاص حجة كل فريق
أما أصحاب الكمون فقد دعاهم إلى ذلك أنه من المستحيل أن يتكون شىء من لا شىء، إذ اللاشىء لا يكون موضوعا للشىء. فإذا كان كذلك فالمتكون، إن كان موجودا، فتكونه عن شىء. فقد كان الشىء قبل تكونه. والمتكون هو ما لم يكن قبل تكونه. فالمتكون غير متكون، هذا خلف.
وإذ قد صح بالعيان أنه قد يكون شىء عن شىء فليس التكون ما يذهب إليه؛ بل هو البروز عن الكمون. وحسب بعضهم أن الاستعداد لأكوان بلا نهاية يحوج إلى أن يكون العنصر المستعد له بغير نهاية، فجعل الأجزاء المتشابهة عنده لما يكون عنه أجزاء بلا نهاية، كيلا يضطر تناهى المادة إلى انقطاع الكون.
وأما أصحاب الأسطقس الواحد فإن جميعهم اشتركوا، أول شىء، فى حجة واحدة. فقالوا: لما رأيناه الأشياء الطبيعية يتغير بعضها إلى بعض، وكل متغير فإن له سببا ثابتا فى التغير هو الذى يتغير من حال إلى حال، فيجب من ذلك أن يكون لجميع الأجسام الطبيعية شىء مشترك محفوظ، وهو عنصرها.
مخ ۸۶
ثم مال كل واحد منهم إلى اختبار عنصر واحد. فيشبه أن يكون أقدمهم من رأى أن العنصر الواحد هو الماء. ودعاه إلى ذلك ظنه أن العنصر ينبغى أن يكون مطاوعا للتشكل والتخليق حتى يكون منه ما هو عنصر له. فكل ما هو اشد مطاوعة لذلك فهو أولى بالعنصرية. ثم وجد هذه المطاوعة كأنها فصل خاص بالرطوبة؛ والناس كلهم يعتقدون أن الرطوبة ماء، أو شىء الغالب عليه الماء فجعل الماء البسيط هو العنصر.
قال ولهذا ما نرى الحيوانات لا تتخلق إلا من الرطب، وهو المنى.
والذىن رأوا أن الاسطقس هو الأرض، وهم قليل وغريب، فقد دعاهم إلى ذلك وجود جل الكائنات الطبيعية مستقرة على الأرض إلى مكان الأرض بالطبع، فحكموا من ذلك أن الأرضية هى جوهر الكائنات كلها.
وأما الذىن رأوا أن الاسقطس نار فقد دعاهم إلى ذلك ما ظنوه من كبر جوهره، كأنهم استحقروا حجم الأرض والماء والهواء فى جنبته؛ إذ السموات المشعة والكواكب المضيئة كلها عندهم نارية. وحكموا بأن الجرم الأكبر مقدارا هو الأولى أن يكون عنصرا، وخصوصا ولا جسم أصرف فى طبيعته من النار، وأن الحرارة هى المدرة فى الكائنات كلها، وما هو الهواء إلا نار مفترة ببرد البخار، وما البخار إلا ماء متحلل. وما الماء إلا نار مكثفة، وهواء مكثفا ماء. ولو كان للبرد عنصر يتصور به، ولم يكن البرد أمرا عرضيا يعرض لذلك العنصر الواحد، لكان فى العناصر بارد، برده فى وزن شدة حر النار.
مخ ۸۷
وأما القائلون بالهواء فقد دعاهم إلى ذلك مثل ما دعا القائلين بالماء إلى القول به. وقالوا إن معنى الرطوبة أثبت فى الهواء منه فى الماء، وذلك لأن مطاوعته للمعنى المذكور أشد. وما الماء إلا هواء متكاثف، والمتكاثف أقرب إلى اليبس منه إلى التخلخل. وأما الأرض فهى ما عرض له التكاثف الشديد، كما نراه من انعقاد كثير من المياه السائلة حجارة. وأما النار فليست إلا هواء اشتدت به الحرارة، فرام سموا.
وأما القائلون بالبخار فدعاهم إلى ذلك أنهم رأوا جرما نسبته إلى العناصر نسبة الوسط، وأنه تفضى به درجة من التخلخل إلى الهوائية، ودرجة أخرى إلى النارية، ثم تفضى به درجة من التكاثف إلى المائية، ودرجة أخرى إلى الأرضية، وأنه ليست هذه الخاصية لغيره، وأن الذى تتساوى نسبته إلى غيره لا غير. وهؤلاء كلهم فقد اشتركوا فى حجة واحدة هى التى ذكرناها.
وأما القائلون بالأرض والنار فدعاهم إلى ذلك أن سائر الأسطقسات تستحيل آخر الأمر إلى هذين الطرفين، والطرفان لا يستحيلان إلى اسطقسات أخرى خارجة عنهما. فهما اللذان ينحل سائرهما إليهما، ولا ينحلان إلى شىء آخر. فهما الأسطقسان. ولذلك هما البالغان فى طبيعة الخفة والثقل، والآخران يقصران عنهما. وإذا لا حركة أسطقسية إلا اثنتان فالأغلب فى الاثنين هو الأسطقس. والنار والأرض بالقياس إلى غيرهما أغلبان، ولا شىء أغلب معها. ثم الهواء نار خامدة مفترة مثقلة بالماء المتبخر، والماء أرض متحللة سيالة خالطتها نارية، فهى أخف من الأرض.
مخ ۸۸
وأما القائلون بالأرض والماء فقد دعاهم إلى ذلك تساوى حاجة المركبات إلى الرطب واليابس .فكلما أنها تحتاج إلى الرطب لتقبل التخليق، كذلك تحتاج إلى اليابس ليحفظ التخليق .فإن الرطب كلما أنه سهل القبول لذلك فهو أيضا سهل الخلع له. واليابس كما أنه صعب القبول لذلك فهو أيضا صعب الخلع له. وإذا تخمر اليابس بالرطب استفاد المركب من الرطب حسن مطاوعته للتخليق، ومن اليابس شدة استحفاظه له. و اليابس و الرطب فى المشاهدة هما الأرض و الماء لا غير. وإما الهواء فبخارى مائى. وأما النار فهواء أسخنته الحركة.
وأما القائل بالأربعة مع الغلبة والمحبة فقد دعاه إلى القول بالأربعة أنه لاشىء منها أولى بأن يجعل عنصرا لصاحبه من صاحبه أن يجعل عنصرا له، وأن القوى الأولى هى الأربع، والمزاوجات الصحيحة منها هى أربع، على ما سنحقق القول فيه بعد.
مخ ۸۹
ثم هذه الأربعة لا تتكون منها الكائنات ولا تفسد إليها إلا باجتماع من أجزائها إلى المركب، وافتراق من المركب إليها. ولن يجتمع منها المركب إلا بافتراق يقع فيها؛ وأنه لا سبيل إلى الظن بأن شيئا ينفعل بنفسه إلى اجتماع أو افتراق؛ إذ كل منفعل فإنما يخرجه من القوة إلى الفعل فاعل؛ وأنه من المستحيل أن تكون طبيعة واحدة بسيطة يصدر عنها فى موضوعات بأعيانها جمع وتفريق معا، وإن كانت الطبيعة المركبة لا يبعد أن يصدر ذلك عنها. ولكن إنما يصدر حينئذ كل واحد منهما عن جزء من المركب خاص، فيكون الجمع يصدر عنه عن جزء، والتفريق عن آخر. ويكون المصدران الأوليان لذينك الفعلين هما الجزءان اللذان يجب أن يكونا مختلفين فى الطباع، لأن فعليهما مختلفان فى الطباع، ويكون كل واحد إما قوة مجردة، وإما قوة فى جسم. وأحرى ما تسمى به القوة الجماعة هى الألفة والمحبة، وأولى ما تسمى به القوة المفرقة المشتته الموجبة تباعدا بين المتشاكلات هو الغلبة والبغضة والعداوة.
قالوا فيجب ضرورة أن يكون ههنا اسطقسات أربعة تتصرف فيها الغلبة والمحبة، وإذ التصرف إنما هو بالجمع والتفريق، وذلك لا يوجب تغيرا فى الجوهر، فلا يسبب لإيقاع تغير فى جوهر العناصر. فلذلك مالا يرى هذا القائل أن العناصر يستحيل بعضها إلى بعض البتة، ولا يراها تقبل كونا وفسادا. وليس يقتصر من فصولها على الكيفيات الأربع فقط؛ بل يرى لها فى ذواتها الفصول من جميع الكيفيات الأخرى. لكنه يراها أربعا لا غير. فهى عنده متناهية العدد والمقدار.
مخ ۹۰
وأما أصحاب السطوح فيشبه أن يكون داعيهم إلى ذلك هو ما اعتقدوه من أن تكون الأشياء عن العناصر إنما هو بنوع التركيب، وذلك التركيب إنما هو نتيجة الفعل والانفعال، وأن ذلك الفعل والانفعال باللقاء والتماس؛ وأن التماس الأول للأجسام إنما هو بالسطوح. فيكون أول فعل وانفعال عند التركيب إنما هو للسطوح. وما كان أول ذينك فيه فهو العنصر. فالسطوح هى العناصر. ولأن العناصر ينبغى أن تكون بحيث تتركب منها الكائنات تركيبا لا يؤدى الى المحال، والسطوح التى تحيط بها غير الخطوط المستقيمة يؤدى تأليفها لا محالة إلى فرج تبقى بينها، فينبغى أن يكون السطوح الأولى مستقيمة الضلوع. وليس فى المستقيم الأضلاع شىء أقدم من المثلث. ويمكن أن يؤلف من المثلث سائر الأشكال المستقيمة الخطوط، كما يمكن أن يحل إليها، فتكون السطوح العنصرية هى السطوح المثلثة، ثم يؤلف منها تأليف يكون منه شكل مائى، وشكل هوائى، وشكل نارى، وشكل أرضى.
فأما النارى فهو الذى يحيط به أربع قواعد ومثلثات، فتكون صنوبرية نفاذة قطاعة مستعدة للحركة.
وأما الهوائى فالذى يحيط به عشرون قاعدة مثلثات، فكون شديد الانبساط للإحاطة.
وأما المائى فالذى يحيط به ثمانى قواعد مثلثات.
وأما الأرضى فهو مكعب، والمكعب أضلاعه مربعات تأتلف بالقوة من مثلثات، وهو لتكعيبه غير نافذ، ولا ثاقب. فلذلك هو غير مسخن.
فإن جعلوا تأليفه بالفعل أيضا من مثلثات وجب أن يوجدوا للنار جزءا من الأرض. وكذلك إن جعلوا هذه السطوح منقسمة، وجب أن يمكنوا من إيجاد كل عنصر فى العنصر الآخر.
قالوا: وأما السماوى فيحيط به اثنتا عشر قاعدة مخمسات، كل مخمس مؤلف من خمسة مثلثات.
مخ ۹۱
ويشبه أن يكون داعيهم إلى ذلك شدة حرصهم على العلوم الرياضية وإيضاح المذاهب فيها لهم، وانغلاق الطبيعة عليهم؛ إذ كان نظرهم فى الطبيعيات، والزمان ذلك الزمان والفلسفة فى الابتداء نظر المبتدى والشادى. والذى لم يتمرن فهو بعد فى الأمانى، فراموا أن يتأولوا المشكل من الواضح.
وهذه المخمسات الخمسة ستقف عليها فى إحدى الجمل الرياضية فى هذا الكتاب. ويشبه أن يكون فى تكثير العناصر وتوحيدها مذاهب كثيرة غير ما ذكرناها لم تحضرنا فى الحال.
وأما أصحاب الأجرام الغير المتجزئة فأن الفيلسوف الذى هذب مبادئ هذه الصنائع فقد أسهب يثنى عليهم، ويقرظهم، على تخطئته إياهم، ويقدمهم على سائر الطوائف، وخصوصا على أصحاب السطوح، قائلا إنهم أخذوا مبادئ محسومة مقرا بها ونسقوا عليها القول نوعا من النسق، ثم حافظوا على أصولهم، ولم يزيغوا عنها فى أكثر الأمر. وذلك لأنهم اعترفوا بوجود الحركة، ثم صاروا إلى إثبات الخلاء، لا كالذين أخذوا أخذا مسلما أن لا خلاء، وأوجبوا منه أن لا حركة .وذلك أن هؤلاء ساعدوا أولئك على ما وضعوه مسلما من أن الحركة والقسمة متعلقة بالخلاء. ثم كان وجود الحركة أظهر وأعرف من عدم الخلاء؛ لأن هذا لا شك فيه صحيح الرأى، وفى ذلك موضع شك كثير. فتشبث هؤلاء إنما هو بجنبته أوضح من جنبة تشبث أولئك .فقد فاقوا أولئك فى هذا الاختبار.
مخ ۹۲
ومن هنا قالوا: إن مالا خلاء فيه فلا يتكثر، ولا ينقسم. فكل جزء لا ينقسم، وفاقوا أصحاب السطوح بأن أصحاب السطوح قد تذبذبوا، وانبتوا فى الوسط: وذلك لأن نسبة الأجرام إلى السطوح هى كنسبة السطوح إلى الخطوط، وكنسبة الخطوط إلى النقط، وإنه إن صح تركيب الأجسام من السطوح فلا مانع من تركيب السطوح من الخطوط والخطوط من النقط. فإما أن يبطل تركيب المتصل من الغير المتجزئات، وإما أن يقال بالتركيب من النقط. فإن بطل التركيب من النقط، فقد بطل التركيب من سائر مالا يتجزأ، من النحو الذى تركب عليه. وبقى أن الجسم يتناهى فى القسمة إلى أجسام لا تتجزأ، وإن صح ذلك النحو من التركيب فالنقط هى الأوايل لا السطوح. ولأن تؤلف الأجسام من أجسام لا تتجزأ صلابة، لا فقدان اتصال ومساحة، أقرب إلى الصواب من أن تؤلف عما لا اتصال له فى جهة التأليف.
وهؤلاء أيضا فقد بذوا عنده سائر الآخرين فى أن كان لهم سبيل إلى التفرقة بين الكون والفساد والاستحالة، ولم يكن لأولئك المذكورين.
فأما حجة هؤلاء فقد ذكرناها فيما سلف، وأومأنا إلى سبب الغلط فيها.
مخ ۹۳
الفصل الثالث فصل فى نقض حجج المخطئين منهم
قد بقى الآن أن نشير إلى سبب الغلط فى حجة حجة من الحجج المقتضية. أما القائلون بالكون والتداخل، وأن الكون ظهور الكامن، فالسبب فى غلطهم هو ظنهم أنه إذا كان مسلما أن الشىء لا يكون عن لاشىء فقد صح أن كل شىء يكون عن مشابهة فى الطبع، وأنه إذا كان مسلما أن لاشىء لا يكون موضوعا لشىء استحال أن يكون الشىء عن لاشىء.
أما الأول فلنضعه مسلما، فيجوز أن يكون الشىء لم يتكون عن لاشىء، ولكن تكون عن الشىء، لكن عن شىء ليس مثله فى النوع ولا مشابهة فى الطبع، ويكون مع ذلك لم يتكون عن لاشىء.
مخ ۹۴
وما قوله فى اليد والرجل وفى البيت وفى الكرسى؟ هل هذه الأشياء متكونة عن لاشىء؟ فإن كانت عن لاشىء فقد بطلت المقدمة. وإن كانت عن شىء. فهل ذلك الشىء مثل أم ليس بمثل؟ وليس يمكن أن يقال إن الوجه متكون عن الوجه، والكرسى عن الكرسى، تكونا بالحقيقة إلا بالعرض، وعلى أن الشىء عن الشىء يقال كما يقال إن الكرسى عن الخشب، وهو غير شبيه. وكيف يكون الموضوع شبيها بالمركب منه ومن الصورة، وقد تكون كما تكون عن شىء قبله بطلت صورته لقبول صورة هذا، كما يتخذ من الباب كرسى، فيكون ليس أيضا عن الشبيه.
وأما المقدمة الأخرى، وهى أن لاشىء موضوعا للشىء فإنما يصح هذا إذا قيل إنه كان عنه، وهو موجود فيه. وأما إذا كان الوضع أن الشىء كان من لاشىء، أى بعد لاشىء لم يصر لا شىء موضوعا للشىء، والأولى أن يقال حينئذ لا عن شىء، حتى لا تقع هذه الشبهة. على أنه ليس نقيض قولنا إن الشىء كان عن الشىء هو أن الشىء كان لا عن شىء، أو كان لا عن شىء؛ بل إن الشىء لم يكن. وهذا إذا كان الشىء مرادا به أمرا بعينه. وأما إن كان مهملا فلا نقيض حقيقيا له، وإن كان بمعنى العموم، حتى يكون كأنه قال كل شىء يكون عن شىء، فليس نقيضه أن الشىء لا يكون عن شىء. وذلك لأن معنى هذا أن كل شىء لا يكون عن شىء. وهذه المقدمة ضد الأولى، لا نقيضها.
وأما الحجة التى يشترك فيها مثبتوا اسطقس واحد، وهى أن هذه المسماة بالأسطقسات يتغير بعضها إلى بعض، فلا بد من شىء ثابت، فإنما أثبتت لهم أن شيئا مشتركا، ولم تثبت أنه جسم طبيعى ذو صورة مقيمة إياه بالفعل، حتى يطلب بعد ذلك انه أى الأجسام، وترجم فيه الظنون؛ بل يجوز أن يكون ذلك الشىء جوهرا قابلا لصورة واحد من العناصر يصير جسما طبيعيا بتلك الصورة، وإذا سلخها اكتسب أخرى.
مخ ۹۵
ثم مرجح الماء من بينهم، لما فيه من قبول الشكل ، يفسد اختياره الماء لما فيه من التخلية عن الشكل. فإن جعل تكاثفه حافظا للشكل فقد جعل تكاثفه مزيلا عنه الصفة التى لها صلحت للأسطقسية، ومرجح الهواء مخاطب بمثل ذلك. ومرجح الأرض يفسد مقدمته لما فى الأرض من امتناع الاجتماع بعد الافتراق والامتناع عن قبول الشكل، وأنه ليس كل متكون فإنما الأرضية غالبة عليه.
فههنا متكونات هوائية ومتكونات مائية. وكثير من المتكونات لا يرسب فى الماء، ولو كانت الأرضية غالبه لرسب جميعها. ومع ذلك فليس إذا رسب كل متكون دل على ذلك اكثر من أن الأرضية غالبة فيه؛ ولم يدل على أن لا خليط للأرض فيه. فإن الغالب غير المنفرد فربما كان امتزاج من عدة، وواحد منها غالب بالقوة أو بالكمية.
مخ ۹۶