شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
ژانرونه
أما الشمالي فقد أكره على أن يكون رجلا عاقلا قبل أن ينضج فيه الإنسان. إن «الشمال» يجبره على العودة إلى نفسه، والانغلاق عليها قبل أن يستكمل عدته للسير على درب الحياة. إنه يطالب بالعقل قبل أن ينضج شعوره، ويحمل مسئولية الرجل قبل أن ينضج الطفل بين جوانحه. لم يترك له أحد الفرصة لتزدهر فيه الإنسانية، وينضج الإحساس بالجمال والوحدة. فالعقل، والعقل الخالص وحده هو الملك المتوج على عرش الشمال، ولكن العقل وحده لا ينتج عنه شيء عاقل، والفهم الذي لا يقترن بجمال الروح والقلب والشعور أشبه شيء ب «الصبي»، الذي ينجر سورا من الخشب كما لقنه معلمه ليقام حول الحديقة. إن عمل العقل كله نابع من الضرورة والحاجة، فهو ينظم ويرتب، وبذلك يحمينا من الخروج على المعقول أو الافتئات على الحق والعدل، ولكن الحماية من الطيش أو الأمان من الجور ليس هو أسمى ميزة يتحلى بها الإنسان. وما العقل بدون القلب والروح، إلا كرجل عينه رب البيت؛ ليراقب عبيده، ويشرف على حسن أدائهم للعمل. فهو كالعبيد أنفسهم، يجهل الغاية من هذا العمل، وكل همه أن يصرخ في وجوههم ، ويستحثهم على بذل الجهد والنشاط. وما من فلسفة تأتي من العقل وحده؛ لأن الفلسفة تزيد عن مجرد المعرفة المحدودة بالواقع الموجود. وما من فلسفة تخرج من الفهم الخالص؛ لأن الفلسفة أكبر من المطالبة العشواء بالتقدم المطرد في تناول المادة الممكنة بالتحليل والتفريق أو التأليف والتركيب.
لا بد إذن أن يجتمع العقل والقلب، ويتعانق الفهم والشعور، ويتحد النظام والجمال. فإذا تجلى مثال الجمال للعقل، إذا سطع عليه نور هذا المبدأ الإلهي الذي ألهم الإنسان ذات يوم أن الواحد متفرق في ذاته، وأن الكل ثابت ومتحرك، متشابه ومختلف مع نفسه، كف هذا العقل عن مطالبه العمياء، وعرف لماذا يعمل ولأية هدف أو غاية. وإذا أشرقت شمس الجمال على العقل كما يشرق نور الربيع على مرسم الفنان، لم يحلق بعيدا، ولم يترك عمله الضروري، بل أمكنه أن يفكر في يوم يحتفل فيه بالعيد، ويتجول مرحا شابا في نور الربيع يوم يتذكر طبيعته الإلهية، ويتذكر القرابة الحميمة التي كانت تؤلف بينه وبين الآلهة والطبيعة والبشر، وتجعل الإنسان مركز العالم، والكأس التي في خمرها يذوب الآلهة والبشر، والسماء والأرض، والأبطال والرجال، والحاضر والخلود. •••
يتضح من العبارات السابقة أننا أمام شاعر غير بعيد عن الفلسفة. فماذا كانت علاقة هذا الشاعر بالفلسفة نفسها؟ وماذا كان موقفه من أضخم بناء عقلي في تاريخ الفكر الحديث، وهي المثالية الألمانية التي عاش في خضمها وعاصر رجالها وتأثر بها، وأثر فيهم بغير جدال؟ لقد اتصل ب «فشته»، وسرعان ما تمرد عليه، وصب اللعنات على الطغيان والطاغية اللذين تمثلا له في صورة الفلسفة والفيلسوف، وجمعت الصداقة بينه وبين «هيجل» و«شيلنج» بضع سنوات من حياته قبل أن يتفرقوا كل في طريق. لنبدأ بصداقته لهيجل وشيلنج قبل الحديث عن صلته بفشته.
دخل هلدرلين المعهد الديني في مدينة توبنجن في شهر أكتوبر سنة 1788م. واستطاع بعد سنتين أن يحصل على شهادة الأستاذية «الماجستير» في اللاهوت. وكانت دراسته الأولى في هذا المعهد تشمل المنطق والفلسفة العملية، وما بعد الطبيعة، والتاريخ، والرياضة، والفيزياء، واللغتين اليونانية، والعبرية . ثم اتجه إلى اللاهوت الخالص، فأخذ يتعلم الأصول والجدل والأخلاق وتفسير النصوص، وأصبح من حقه أن تصرف له كل يوم قنينة من النبيذ، بشرط أن يصرف وقته كله للاهوت.
وكان هذا المعهد في صرامته وجهامته أشبه بالدير، بل أشبه بالسجن. فأسواره كأسوار السجون، وحجراته الرطبة الخشنة كالزنزانات التي ينفذ المطر والريح والثلج من سقوفها المتداعية، ونوافذها الخربة. وكانت وجبات الطعام دروسا يومية في الصبر على التقشف والجوع، وعيون الرقباء تتجسس على الطلبة، وترصد حركاتهم وسكناتهم، فلا يملكون إلا أن يتكوموا على بعضهم البعض؛ ليتقوا البرد، ويتعلموا دروس اللاهوت المرة. كان كل شيء في هذا المعهد يثير ثائرة الشاعر الرقيق، ويجرح كبرياءه. ولولا توسلات أمه المسكينة، ولولا أن الأقدار ساقت إليه زميلين سيلمع نجماهما بعد ذلك في سماء الفلسفة لما احتمل هذه الحياة التي لا تطاق، ولا صبر على تزمت أساتذة اللاهوت أو حفاري القبور في توبنجن كما كان يحلو له أن يسميهم.
كان أحد هذين الزميلين هو «هيجل» الذي قاسمه حجرته في المعهد. وكان الآخر هو «شيلنج» الذي يصغرهما بأربع سنوات، ويلفت إليه الأنظار بنبوغه المبكر، وقصر قامته، وضآلة حجمه، واعتداده الشديد بنفسه، وتباعده عن زملائه. وقد سعى إليه هلدرلين، فتعرف عليه وقربه منه، وجمعت بينهما صداقة حميمة امتدت من خريف سنة 1790 إلى سنة 1793م، حين تفككت عراها، وحل محلها نوع من التقدير والاحترام، الذي لا يخلو من الجفوة والكبرياء. أما الصداقة التي ألفت هلدرلين وهيجل، فقد كانت أشد عمقا وأكثر دفئا وأطول عمرا من صداقته لشيلنج (إذ استمرت حتى نهاية القرن). ولم يكن السبب في ذلك هو تشابههما في السن، بل لعله يرجع إلى اختلاف موهبتهما وطباعهما - والضد يسعى إلى ضده كما يقال - كما يرجع إلى نشأتهما في بلد واحد غرس فيهما مزاجا واحدا وتقاليد مشتركة، وإلى عاطفة الحب الجارف الذي كان يحمله كل منهما لصاحبه.
ألف الحب والأمل والطموح بين قلوب الأصدقاء الثلاثة. كانوا يجتمعون في حجرة هلدرلين، فيقرأ عليهم شعره أو يتحدثون عن مبادئ الثورة الفرنسية التي ألهبت نفوسهم شوقا إلى تحرير بلادهم من الفساد والطغيان، أو يطالعون أفلاطون وكانط ورسائل ياكوبي عن مذهب اسبينوزا. وكان من قدر هذه الصداقة الحميمة - وفي كل صداقة عظيمة قدر - أن تؤثر على روح العصر كله، كما أثرت على الحياة الشخصية والعقلية لكل واحد منهم.
كانت بالنسبة لهيجل أكثر الصداقات دفئا في شبابه. وكان هلدرلين يحس الراحة والهناء كلما قابل هيجل. وليس أجمل من تواضعه حين يعترف بذلك فيقول: «إنني أحب رجال العقل الهادئين؛ إذ يستطيع الإنسان أن يهتدي برأيهم كلما التبس عليه الأمر في علاقته بنفسه وبالعالم.» وليس من المبالغة أن يقال إن الأساس الوجودي الذي تقوم عليه فلسفة هيجل، ويكثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة - لا يمكن أن يفهم، إلا إذا فهمت صلته الشخصية بهلدرلين. أما هلدرلين نفسه، فيعترف في رسالة له إلى هيجل بعد خروجهما من المعهد بأنه على يقين من استمرار صداقتهما إلى الأبد. ثم يضيف في حسرة: «كثيرا ما كنت روحي الملهم. أشكرك جزيل الشكر. إني أشعر بهذا شعورا تاما منذ فراقنا. لا زلت أتمنى أن أتعلم منك أشياء، وأخبرك في بعض الأحيان بأحوالي ... يجب علينا من حين إلى حين أن ننتبه إلى أن لكل منا عند صاحبه حقوقا واجبة.»
وقد يدهش القارئ إذا عرف أن الفيلسوف - الذي لا يكاد يقرأ له حتى يتصبب العرق على جبينه، وربما تشكك في قواه العقلية - قد أهدى صديقه الشاعر قصيدة تحمل من الرقة والدفء والحنان ما يندر أن نصادقه قبل كتاباته المخيفة. استمع إليه وهو يقول له:
أقبل المساء، السكون من حولي وفي وجداني.
ناپیژندل شوی مخ