242

شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرونه

تأمل الاسم وفكر فيما قلت منذ قليل.

لأترك الحكم على حياتي للآخرين، فلا بد أن ما انجرفت إلى قوله غرور يقشعر منه حتى النور، ولأحكم بمقياس هذا النور على أعمالي. هل انعكس منها شعاع واحد على وجدان واحد من الناس؟ ولكن ها أنا ذا أقع في الدور من جديد. فلأترك هذا أيضا للناس، لأقل مباشرة وليؤيدني النور وواهب النور أنني كتبت معظم ما كتبت بصدق النور وعفته وصفائه. لم أطلب - علم الله - من ورائه مالا ولا شهرة ولا اسما، ولا زلت لا أتمنى منها شيئا. انسكب نور في داخلي من مؤلفين عديدين من أموات أحياء (من الكلاسيكيين) أحببت عشرتهم وأنست لهم أكثر من كثير من الأحياء الأموات الذين يعذبونني ويحاصرونني ليل نهار. وكنت ساعي الخير الذي يحاول أن يعكس قبسا من هذا النور في وعي القارئ المجهول ووجدانه. هذا تفسيري لمعظم ما كتبت حتى الآن للشعراء الذين فاض نورهم علي، من سافو شاعرة اليونان إلى جوته وهلدرلين وبرخت ومعظم شعراء الغرب المعاصرين، للكتاب الذين أحببتهم وتمليت نورهم من جوته أيضا إلى تشيكوف وبيراندللو وبشنر والتعبيريين وكامي، ولكن ماذا أقول عن الفلاسفة، من أفلاطون وأرسطو إلى ليبنتز وكانط وهيدجر؟ وهل كان الأمر هنا وهناك مسألة أداء واجب ثقافي ودفع ضريبة لغة نادرة تصادف أن عرفتها وتقيد بها اسمي ومصيري لبلائي أو لعزائي كما سبق أن قلت؟! ثم ماذا أقول عن النور الذي يفيض من النبع الداخلي أو شمس الباطن الحقة، ولا يتدفق علي من شلال خارجي أو من شمس يمكن أن تغيم وتحجبها أسراب الغربان؟

هنا ألمس قلب سؤالك وجرح وجودي كله. لا أدري لماذا تعلقت عيني بالنور الوافد ولم تغترف من النور الباطن، أكان ذنبا موروثا أكفر عنه؟ قضاء خفيا بأن أصبح مرآة تعكس وصدى يردد أصواتا أخرى؟ أم هو طريق الدرس والبحث والتعليم الذي تعثرت في حفره ولا زلت أتعثر؟ صحيح أنني استجبت للصوت الباطن عندما فرض نفسه علي - في خجل وعلى استحياء - مرات قليلة متقطعة في العمر، ولكنها كانت مرات قليلة وضئيلة الشأن ثلاث مجموعات قصصية نشرت في مجلات أدبية على مدى ربع قرن أو يزيد، بضع مسرحيات تزيد قليلا عن عدد أصابع اليد الواحدة، ولا زالت مطمورة في المجلات، أشعار تناثرت هنا وهناك ولا يزال بعضها طي الأوراق والكتمان.

3

الصراع يستمر ويتأجج، وعلى جمره أتقلب في فراشي كل ليلة وفي حياتي وعملي كل لحظة. والانتظار يطول لأمل يبدو مع الأيام شبه مستحيل، انتظار تفرغ للتأليف الحر ضنت علي به الدولة، وبخلت به لقمة العيش وضيق الحال. وعشرات المشروعات تنتظر وتثور وتهجم في الليل أشباحا وكوابيس، وقصص ومسرحيات وروايات أخطط لها، وأبدأ فيها، وأدفئها في عشي سنين، فتحط عليها أفعى العمل اليومي فتلتهمها أو تفلت منها فتطير وتنسى للأبد ... وأنا أسأل نفسي كل صباح: ماذا أفعل؟ وأخرج أحيانا عن شكي وترددي فأستجيب وتكون بكائيات لم يضمها بعد كتاب. وتكون رواية قصيرة تحتاج لمراجعة واستكمال، وقصائد عديدة تنتظر أن تسلك في عقد قصصي، وتحط الأفعى، و«الأجدل المنهوم»، فيخطفان الأفراخ ويسحقان البيض. ويشتد الصراع، ويحمر الجمر، فتتلوى المعدة، وتذبل العين، ويتكاثر الثلج على الفودين، والأيام تخترم الجسد المتعب وتنهبه، وخيول اللحظات الواعدة تحيي وتقف وتنتظر، ثم تشيح برءوسها الجميلة، وتمضي بلا التفات ... وأعزي نفسي أحيانا المهم أن تكون أنت نفسك، في كل ما تقول وما تكتب وما تفعل. سواء أكان قصة أو محاضرة أو مقالا أو ترجمة، لا بأس المهم أن تكون أنت نفسك، وتتوالى الكوارث العامة (وها نحن نعيش آخرها الغزو الوحشي المجنون للبنان)، فتكتب النفس، وتثور على نفسها، وتسقط في صندوق التفاهة كل همومها وأشواقها. وتمر خيول اللحظات ... وتمر بلا عودة، وها أنت تستدرجني للبوح والكلام، مع أن الفن يحب الإخلاد لعش الكتمان، وتقول إنني أكتب الشعر والقصة؟

أما القصة القصيرة فنعم، وسأظل أكتبها وأحاول أن تكون كل واحدة منها مخلوقا لا يشبه غيره. ما أكثر المتعة والعذاب في القصة القصيرة، لكنني أتحول بالتدريج نحو البناء المعقد المترامي الأطراف، ولهذا اتجه نحو المسرحية والرواية، وأتمنى أن أشرع فيهما عن قريب. أما الشعر فأشهد رباته وشياطينه أنني لا أقوله ولا أدعي قوله ولن أدعيه. إنما أدرسه وأترجمه لقومي (وحسبك بما في ترجمة الشعر من جناية أو خيانة لا يغفرها إلا علام القلوب) وإذا تصادف أن سلس معي الإيقاع، فإنما يأتي ذلك صدفة أو استجابة لشعر مقروء أو لروح قديم سكن ضلوعي زمنا، ثم خرج بلا عودة! لست شاعرا يا صديقي. لا أملك الموهبة الحقيقية، ولا الصوت المتميز الأصيل، ولا القدرة الفطرية على التفكير بالصورة ونسج البناء الموحد الحي الرقيق. ربما لاحظت «شاعرية» في نثري المكتوب. ألا تترك الأسماء المنقرضة آثار حياتها الماضية على الصخر؟ أسرع وطمئن أصدقاءك الشعراء، فلم يزعج مملكتهم متطفل جديد! أجل أحب الشعر، وهو الأقرب للنفس وللقلب. اقرأه ولا أكف عن قراءته، بل ربما كنت أحياه وفي حركاتي وسكناتي أجسده، لكن معرفة الحد أولى. وأنا رجل يعرف الحد ولا يتخطاه، طمئن نفسك وأصدقاءك. يكفيني أن أسمع منكم ما يخضر له غصني اليابس، أو تبتل به صحرائي، يكفيني أن يعجبكم أو يرضيكم أو يلهمكم ما ترجمت من الأشعار، يكفيني أني تركت لكم ثورة الشعر الحديث الذي طويت فيه ستا من أفضل سنوات العمر. حبا للشعر وللشعراء، وحبا في صلاح عبد الصبور وليبقى جزائي أو غفران ذنوبي عندك يا ربي. أيدني يا نور النور، فالعالم وحل وظلام.

ج4 : يستحيل علي أن أتحدث عن صلاح. وتصبح الاستحالة غصة خانقة حين أسمع من يتحدثون عنه، وكأنه «كان» أو «غاب». إنه بعض مني، من دمي وحياتي ومئات من ليالي عمري وأيامه، تجسيد شعري لأشواقي وأحزاني التي أعجزني ضعف الموهبة عن البوح بها. إن الموت كما نعلم حقيقة ثابتة، تغرز شوكتها الدموية والمنطقية في الوقت نفسه في كل حي، وما كذب من قال إننا نولد لكي نموت، أو نموت منذ لحظة الميلاد؛ لأن هذا السر العادل الرهيب يحيط بكل شيء وكل لحظة، وليس مجرد محطة نهائية توقف عندها حين يحم الأجل. أسلم بهذا كله، فهو المنطق القاسي الذي لا مفر منه، ولكن صدقني أيضا إذا قلت إنني لا أسلم بأن صلاح عبد الصبور قد مات، أو بأنه غاب ولن يعود. يخالجني الإحساس (وليس مجرد عزاء) أنه مسافر، وإنني سألقاه وأقبله وأنظر في عينيه العميقتين وأسمع صوته الخشن الطيب، ودعاباته الحلوة المرة. ولكم سافر وسافرت، وغاب وغبت، وبقي الإحساس بأنه موجود كما توجد الشمس والنهر والليل والقمر والنجوم والجبال. هل جربت مرة فقد عزيز؟ ألم تشعر أن غياب جسده - على قسوته - لا يعني الغياب المطلق؟ ألم تحس أن له حضورا يخترق حواجز المكان والزمان (الوهمية في عين الوعي الأبدي الشامل)، وأنه «هناك» في منطقة سرمدية، نتصل به ويتصل بنا؟ هذا هو شعوري، ولهذا أرفض التسليم بالموت، وأكره فعل «كان».

تعارفنا في أواخر الخمسينيات، بالتحديد سنة 1957م كنا زملاء في الفرقة الأولى بكلية آداب القاهرة، نحيلين فقيرين حالمين. ربما لم ألاحظ وجوده، أو يلاحظ وجودي، حتى كان يوم لا أنساه. كنت كعادتي متجها إلى المكتبة العامة للجامعة. ووضعت قدمي على أول سلالم الدرج والخجل الفطري يمنعني من التلفت إلى مجموعة صاخبة من الشباب تضحك وتدخن وتستعرض الثقافة والذكاء. ورن في أذني اسم نيتشه، وكنت أيامها غارقا فيه وفي كافكا وكامي وغيرهم من فرسان الوجودية الوافدة بضجيجها وغموضها. ولم تلبث الكلمة المخيفة عن «موت الله» أن طرقت سمعي. وتدخلت لأصلح ما بدا لي سوء فهم لفيلسوفي المفضل. ودار حوار أدركت من ضحكاته العذبة القوية، ولمحاته الشاعرية أننا لن نفترق بعد ذلك أبدا. وتعرفت بعدها بأيام على صديقنا المشترك فاروق خورشيد، ثم على بعض رفاق الحياة والجمعية الأدبية المصرية في الندوة التي كانت تقام في الكلية، ويحضرها فرسان الشعر والقصة المحزونون وأحفاد «جيل الديوان»، وأبوللو وعشاق علي محمود طه، ورواة محمود حسن إسماعيل وناجي ومقلديهما ... كنت أحضر ولا أشارك. وكان من أهم ما استلفت نظري «كمان» صديقنا الروائي والمسرحي الأسمر عبد الرحمن فهمي. فقد كان - ولا يزال - يقرأ قصصه ويعزف كمانه، ولا زلت إلى اليوم أحرص على زيارته وسماع كل جديد يكتبه على أنغام العود والكمان.

وعرض علي صلاح وفاروق أن أحضر لقاء في بيت أستاذنا محمد كامل حسين أستاذ الأدب الفاطمي، عليه رحمة الله، سبقه لقاء في ندوة الأمناء حضرته كالطيف المعتذر، ورأيت وسمعت ذلك الفارس العظيم والمعلم الذي طالما ربى العقول، وحطم الأصنام والأوهام، أمين الخولي الذي صنع جيلا من «الأمناء» يتوسطهم كالقمر الذي تلتف حوله النجوم. وبدأت أواظب على حضور اللقاءات، وأسمع قصص الأصدقاء وقصائدهم، وأتحرر شيئا فشيئا من الغيبوبة الفلسفية وأحلامها وكوابيسها الأكاديمية، وألمس ذاتي الأدبية المطمورة تحت ركام أشكال القياس ونظرية المثل وكوجيتو ديكارت ونقد كانط، وأتنفس قبل كل شيء عطر المحبة والوفاء والصعلكة الفنية التي ستجمع بيننا لأكثر من ثلاثين عاما. في هذه اللقاءات في بيت المرحوم محمد كامل حسين، ثم في قاعة صغيرة من قاعات نادي المعلمين بميدان الأوبرا (أهدانا إياها ذلك الأب والمعلم القادر على الحب قدرة رجال ذلك الزمان، وهو محمد فريد أبو حديد رحمه الله) في هذه اللقاءات سمعت معظم قصائد صلاح عبد الصبور الأولى، وهي تخرج دافئة كالأرغفة الطازجة الفواحة بعبير الأرض والشمس لحن وأبى وهجم التتار ورحلة في الليل وغيرها من قصائد «الناس في بلادي». كما سمعت قصص فاروق خورشيد وعبد الرحمن فهمي وأحمد كمال زكي وقصائد عز الدين إسماعيل التي لم يحرص للأسف أبدا على جمعها في ديوان حتى الآن، وتعقيبات شكري عياد وعبد الحميد يوسف وحسين نصار مد الله في عمرهم جميعا. فتحت عيني على عالم نقي ظللت وفيا له وظل وفيا لي أكثر من ثلاثين سنة تعلمت منهم، وشاركت ببعض قصصي، وأرغمت على تحضير تعقيباتي، والغوص قليلا في بحر الأدب العربي الذي كنت ولا زلت أقف على شاطئه، وأشغل نفسي عنه بأدب الغرب والشرق. هل أصف لك جلساتنا الصاخبة أو الهادئة أمام ألواح الشطرنج في نادي المعلمين وندوة أمين الخولي ومقر الجمعية الأدبية في الدور الأول من بيت قديم بسلالم متآكلة في شارع قولة بحي عابدين، ثم في الدور الثامن من بيت من شارع عرابي أمام قهوة أم كلثوم؟ أم أحدثك عن مئات الليالي التي التأم فيها شمل الجمعية ومئات الندوات والمحاضرات والمناقشات التي أقبل عليها أدباء اليمين واليسار، وسهراتنا في مكتب صديقنا فاروق خورشيد «موتور» الجمعية، وقلبها النابض، أم عن تولينا إصدار الأعداد السبعة الأخيرة من مجلة «الثقافة» المحتجبة (سنة 1952م)، ومشاركتنا في «الأدب» التي كان يصدرها أستاذنا أمين الخولي وفي غيرها من المجلات؟ إن الأهم من ذلك النشاط العملي هو الحب النادر الذي لم شملنا وشد أزرنا طوال العمر، ولا يزال هو النور الذي لا ينطفئ من ذكرى شبابنا المظلم التعس، وحياتنا التي حرمت الحرية والديمقراطية، وجوعنا الذي لا يشبع للقراءة والدرس والفهم والإبداع والتجريب.

تاريخ مشترك ورحلة عمر مشتركة. كيف تصلح الكلمات لاحتواء لحظات الحب والشوق والغضب المتكررة كل ليلة، أو على الأقل ليلة كل أسبوع؟ فلأتركها لمجال آخر، فما أكثر ما فيها من أفراح وأحزان، وعتاب وخصام وفراق ولقاء من حياة لم تتوقف ولن تتوقف إلا بعد أن نغيب جميعا بخيرنا وشرنا.

ناپیژندل شوی مخ