240

شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرونه

لا أعرف ماذا تريد «ببعض العناصر الحرفية». لست كاتبا حرفيا بأي معنى من المعاني. واشتغالي بتعليم الفلسفة ودراسة الأدب الغربي والترجمة لم يكن احترافا، ولا حتى تخصصا. الكتابة عندي عشق وبكاء، زهد وفناء، هي - كما يقول القرآن الكريم - نسكي ومحياي. والفن معبود جشع للدماء. إنه يطلب ما يسمى «بذبح الذات» في الطقوس القديمة، عندئذ يمكن أن يسمح لك بالمثول لحظات بين يديه. إن أعطيته كل شيء، فربما أعطاك شيئا. وإن تخليت عن عرش العالم، فربما يمنحك نعمة الرضا عن النفس. لهذا أشفق على الذين يمتطون صهوة حصان الأدب أو العلم سعيا وراء الشهرة أو السلطة أو المال أو الإعجاب أو الظهور تحت الأضواء. أشفق عليهم وعلى الفن والمجتمع منهم كما أرثى لهم. هل هربت من السؤال ؟ لا شك أن في القصة القصيرة كما في كل الفنون حرفيات. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتكلم النقاد العرب عن «صنعة» الشعر، وأن يسمى الفن عند اليونان «تيخني» (صنعة ومهارة). ومن يشأ الاطلاع على هذه «الحرفيات» المختلفة يجدها في كتب النقد، ولكن هل سيجد نفسه أو يجد القصة أو الشعر ... إلخ؟ لا بد أن تصبح هذه الحرفيات المتطورة عبر الزمان وتحت تأثير الظروف الحضارية والاجتماعية والسياسية ... إلخ طبيعة ثانية. إن اكتفى بتطبيقها فهو مهما ادعى أو زعم مجرد حرفي بارع، معد أو مقتبس أو متأثر أو ناقل ... إلخ، إن الحقيقة لا تغتصب. وإذا لم تصبح دقائق الصنعة طبيعة أخرى فستكشف اللعبة. ربما كنت أملك بعض العناصر التي تتحدث عنها، لكنني أصارحك بأنني لا أعرفها، ولا أتذكرها عند الكتابة. ولا بد أنني اكتسبت من قراءاتي لمختلف الكتاب ومختلف الأعمال والأشكال الفنية بعض هذه العناصر، لكن لماذا أختار أحدها دون الآخر (كأسلوب المناجاة أو المونولوج مثلا) ولماذا يحرك الرمز والحكاية الشعبية والأسطورة ومشاهد التعاسة وصور الانهيار والاحتضار ... إلخ، لماذا تحرك مائي الراكد؟ لا بد أن الأمر أكبر من الصنعة والحرفة، ولا بد أن يكون الصدق مع النفس ومع الفن أخطر وأولى بالنظر. اعذرني إن لم أستطع أن أحدد لك هذه العناصر، لكن يسعفني عند الكتابة ما سبق أن حدثتك عنه: الحضور والامتلاء، النضج والاستواء. وتسعفني قراءاتي السابقة (وربما تسللت خفية لما أكتب) ونظرتي الكونية المفعمة بالشحن، وخيبة الأمل، وربما ساعدت الفلسفة أيضا بطريقة غير مباشرة على ما يوصف بالعلو والنظرة الكلية والقدرة على تحليل المشاعر والمواقف والأفكار والتركيز على ما يسميه بعض فلاسفة الوجود بالمواقف الحدية، كالعذاب والإخفاق والفراق والموت والذنب. حاشاي أن أقصد بهذا أن قصصي المتواضعة تملك هذه الخصائص. إنما أردت أن أقول إن روح التفلسف ربما تسللت إلى بعضها وإعارتها جناحا تحلق به قليلا فوق تفاصيل الواقع، أو تغوص به في قلبه. (8)

لا أظن أن الأمر أمر اهتمام أو عدم اهتمام، فتعمد المغزى أو الهدف الاجتماعي أو الفلسفي أو السياسي ... إلخ، لا يمكن أن يصنع فنا. قد يصنع مقالة أو درسا أخلاقيا أو اجتماعيا متنكرا في ثياب قصة أو مسرحية أو قصيدة، ولكننا سنفضل عليها المقالة أو الدرس. تأمل أقاصيص فولتير الفلسفية (مثل زاديج وكانديد)، وانظر فيما كان يكتب باسم الواقعية الاشتراكية عندنا أو عند غيرنا، وستجد أنها قد ظلمت الفن والحقيقة (الفنية والإنسانية). لا أريد أن أدخل في متاهة الأسئلة العقيمة: هل الفن للفن أم الفن للمجتمع، فهي في رأيي قد أسيء طرحها، ولم تكن دائما لوجه الحقيقة. لا يمكن أن يوجد عمل فني لا يطمح إلى أن يكون فنا، وما من عمل فني يمكنه أن ينكر أصوله الاجتماعية أو دوره الاجتماعي، حتى لو حطم كل القواعد المعترف بها من الجماعة. وفي استطاعة الفنان أن يضمن عمله المغزى الذي يشاء، بشرط أن يسري فيه سريان الدم في عروق الكائن الحي، تعرف أنه موجود وإن كنت لا تراه. إنني - مثل غيري - أعيش «هنا والآن»، وأكتب لقارئ يحيا هنا والآن. حتى كاتب القصة التاريخية يفعل هذا من وراء الأقنعة التاريخية. وأي كتابة في الأدب أو الفلسفة أو العلم تصدق عليها هذه الحقيقة البسيطة، نحن لا نكتب للموتى ولا للخلود، ولكننا مثل من نكتب لهم، أبناء لحظتنا التاريخية والاجتماعية والحضارية، مؤقتون وعابرون ككل شيء يصنعه الإنسان. أين إذن ذلك الذي «يبقى مما يؤسسه الشعراء» على حد تعبير هلدرلين؟ يبقى منها ما يقترب من دائرة الحقيقة أو يدخل فيها، وإن كان قد كتبه إنسان فان مثلنا، لأناس فانين مثلنا من هنا «وآن» مختلفين، فأثبتا على مر الزمان أنهما لكل هنا وكل آن ... لهذا بقي «أوديب» و«هاملت» و«فاوست» ونماذج ألف ليلة وليلة، وكل الشخصيات والأعمال التي لا تزال حية تعبر عن حقيقة الإنسان فينا، وسائر الحقائق التي يرتبط بها ويسعى للاقتراب منها في حياته وموته، وعذابه وفرحه، وشقائه وسعادته. الاستطراد مغر، ولكنني أقطعه وأقول إنني قبل كتابة أي عمل قصصي أو غير قصصي أحاول جهد طاقتي أن يجمع ثلاث دلالات تعبر عن ثلاثة مستويات، أو ثلاث دوائر متداخلة: الدلالة الشخصية (وإلا ما وجدت الدافع لكتابتها) والاجتماعية (وإلا فلمن أكتب؟) والكونية (وإلا فما قيمة عمل لا يفتح نافذة على المطلق، أو لا ينبعث منه شعاع ينفذ في ظلماته؟).

لست أيديولوجيا، بمعنى الانتماء إلى نظام مغلق من الأفكار والقيم والمعتقدات. ولست كذلك ضد الأيديولوجية. لا أنا متعصب لها ولا ضدها. علمتني الفلسفة أن أضع كل شيء موضع السؤال. علمني الإيمان بالحرية أن أقف موقفا حرا من كل شيء وكل إنسان. أحاول أن أستفيد من كل المذاهب بقدر جهدي، لكني لا أسمح لواحد منها أن يستعبدني. ولأني طائر وحيد، لا يستطيع أي قفص أن يأسرني. ربما كتبت قصة تحمس لها الأيديولوجي، وربما كتبت قصة أخرى فلعنني، وتمنى أن يقتلني! ليس معنى هذا من جهة أخرى إنني خاو من الرأي والحلم. إنني ثائر محبط، شأني شأن معظم أبناء جيلي. في ضميري يعيش اشتراكي محزون خائب الأمل، أشبه بالناسك المعدم أو القديس العدمي. إحساسي بعذاب الإنسان وتعاسته يجعلني قدريا، وحلمي المستحيل بمدن المستقبل المستحيلة يجعلني جدليا، بين القطبين يهتز وترى المشدود ويلتقط الأصوات والصور والأحداث التي تحركه. كم تمنيت أن أنشد على هذا الوتر، لكنني كما قلت لا أملك موهبة الشاعر. لهذا قنعت في كثير مما كتبته بأن أكون صدى وظلا. إذا تعرفت بأحد أسرع قليلا أنت الذي ترجم كذا وكذا. وتهوي السكين في قلبي. إن كنت قد ترجمت فهي ترجمة أديب لأدباء. وإن كنت قد كتبت في الفلسفة فبقلب أديب، أو في الأدب فبعقل فيلسوف. هل يصدق ما قاله عني أحد المعذبين (بكسر الذال المشدودة) في الأرض، وما أكثرهم: أديب بين الفلاسفة وفيلسوف بين الأدباء؟ أي لا شيء عن الإطلاق! ويبقى على فيما يبقى من سني العمر أو شهوره أو أيامه أن أحدد ملامح وجهي. (9)

أحيانا يكون مدخلي إلى القصة كلمة أسمعها صدفة، أو صورة، أو موقفا أراه، أو فكرة استلهمها من قراءاتي. تحرك هذه كلها أو إحداها بذرة كامنة، تبعث حياة منسية، تكسو جسما عريانا بثوب مناسب كان يفتش عنه. ما أعظم ثراء المنجم الذي يطويه كل منا في داخله، وما أقل ما نفطن إليه! أظن أن الحدث هو الذي كان يلفتني في البداية. ثم اهتممت بالشخصية أو بالأحرى فرضت نفسها علي (وقصصي مزدحمة بالشحاذين والدراويش والمجانين والمهرجين والممثلين الفاشلين، والعصاميين الذين يكلمون أنفسهم، والموتى، والحيوانات، وخصوصا القطط التي أكاد أعبدها، وأتمنى لو تناسخت روحي في واحد منها متكبر وصامت ووحيد) أصبحت الآن أميل إلى الموقف المعبر عن مفارقة، وإحلال الأسطوري أو الرمزي أو الماورائي في الحياة اليومية. أظن أن ما بقي حيا في ذاكرتي من قصصي القديمة يصور موقفين أو خطين أو مستويين متوازيين ومتصادمين في آن واحد. وغالبا ما يكون أحد الموقفين أو الشخصيتين ذا بعد مفارق للواقع، أسطوري أو كابوسي (يونس في بطن الحوت، الحصان الأخضر بموت على شوارع الأسفلت، التابوت ... على سبيل المثال). لكن الأمر هنا أيضا لا يخضع لقاعدة. فقد تجر الكلمة أو الصورة شخصياتها ومواقفها المناسبة، وربما لغتها أيضا، وقد يفعل الحدث أو الموقف أو الرمز نفس الشيء. ألم أقل أن كل قصة يجب أن تكون كائن متجددا وجديدا؟ أعتذر لأني قلت «يجب» حيث لا وجوب، اللهم إلا للحضور الحي والنضج والامتلاء، لكن ما أندرها وما أفقر حظي منها. (10)

ليس في يدي أن أعين المكان أو الزمان أو أتركهما بلا تعيين. إنما القصة كيان حي مستقل عني تعين زمانها ومكانها بنفسها. وربما اختارت أن تكون بلا زمان ولا مكان ولا أسماء محددة. أكتفي بأن أقول أن للحكاية أو الحدوتة التي أحبها دخلا في هذا البعد عن التحديد. وكذلك الميل إلى استلهام الماضي والتاريخ. وربما كان للتعبيرية (التي شغلت بها وقتا طويلا، ووضعت عنها كتابين) أثر على بعض القصص التي تجنح للتجريد والمباشرة والصراخ. (11)

الإجابة على هذا السؤال متضمنة في الإجابات السابقة، ثم إنها من شأن القراء. كل ما يشغلني الآن أن تكون قصصي القادمة مختلفة عما سبقها. أيكون «تطورا» بالمعنى الذي تقصده؟ وإلى الأسوأ يكون أم إلى الأفضل؟ هذا ما لا أحكم عليه. كل ما أتمناه أن تواتيني اللحظة، وأن تترفق بي الطاحونة. (12)

لم أنصرف عنها، هي التي انصرفت عني. فعندما وجدتني مشغولا عنها بالطموح العلمي العقيم، أشاحت بوجهها زمنا طويلا. أنا الآن أسترحمها لتعود، فهل تستجيب؟ في السنوات الأخيرة شغلتني بكائياتي على نفسي وجيلي ووطني الأكبر الممزق المنهار. كانت آخرها بكائيتي على صديق العمر صلاح عبد الصبور. والقصة تؤكد نفسها حتى في هذه البكائيات التي لا أعرف لها شكلا محددا. لم أكتب قصة بالمعنى المتعارف عليه منذ سنوات طويلة. ومع ذلك فإنني أثق بالموجة القادمة وأنتظرها. ربما توردت خدود العزم فجأة، فأقبلت على مشروع مجموعة قصص تختمر في باطني منذ أكثر من عشر سنوات. واعذرني إن لم أبح لك بشيء أكثر من هذا. أولا تعلم أن الفن يحب الكتمان، أولا تسمع صوت الطرقات على باب الوجدان؟! (13)

إذا كنت بطبعي متشائما فيما يخص حياتي الخاصة، فإنني كبير الأمل في مستقبل الفن والوطن والإنسانية. من يأتي بعدنا يجب أن يكون خيرا منا. هذا شيء لا يحتمل الشك. وعدم إيماننا به يساوي الكفر بالتقدم، وبقدرة الشعب على الإبداع. وقد ذكرت فيما سبق أنني أحرص بقدر طاقتي على كتابعة أعمال الشباب، وأسعد بالتعلم منهم. وأقع في التكرار الممل إذا قلت أن الجيل الذي جاء بعدنا قد أضاف - خصوصا في ميدان القصة القصيرة - إضافات واضحة وثمينة، لكن القصة القصيرة نفسها إغراء خطر. والنجاح في واحدة أو أكثر لا يبيح لأحد أن يزهو كالطاوس (تكفينا الطواويس الزائفة في كل مجال) لهذا أتمنى أن يجربوا الأشكال الأخرى. فيخيل إلي أن إتقان القصة القصيرة أو التوفيق فيها ينطوي بالضرورة على القدرة على إتقان الرواية. وهذه تهيئ إشباعا أكبر وثقة أوطد بالنفس. وبعض الشباب قد نجح بالفعل - لا بالقوة وحدها - في المجالين. يكفي أن أسماء نخبة منهم قد انضمت إلى أسماء الجيل السابق فيما ترجم من قصص مصرية وعربية إلى بعض اللغات الحية، ولكن هذه الترجمات والانتشار في الصحف والمجلات وأجهزة الإعلام لا يقدم أدنى مبرر للغرور. إن الغرور بداية السقوط كما يقول المثل المعروف، بل هو السقوط نفسه كما تشهد الحقيقة. تعففوا واعكفوا. هذا قولي لكم. إن تفاني الفنان في فنه هو واجبه الأقدس، اكتشاف نفسه ورؤيته وأسلوبه، إتقان أدواته، تعميق وعيه بالواقع من حوله، وبالتراث القومي والعالمي ... أهناك أولى من هذا كله؟ ستغريكم الأضواء، فاحذروها. لقمة العيش يمكن أن تدفعكم لطرق أبواب الكسب، فحاولوا أن تكسبوا أنفسكم أولا (لأن العالم كله لن يغني عنها كما تقول كلمة السيد المسيح) ركزوا ولا تتشتتوا، فالتركيز هو أب الفضائل جميعا. كم في تاريخ الأدب من أسماء عكفت عشرين سنة من عمرها أو عمرها كله على عمل واحد. جيلي تشتت بين الكتابة الحرة والدراسة والترجمة والإعداد لأجهزة الإعلام. حتم علينا قدرنا التاريخي أن يقوم الواحد منا بأدوار متعددة توزع في البلاد المتحضرة على أفراد عديدين. وإذا تحتم عليكم أن تطرقوا أبواب أجهزة مختلفة فلا تنسوا أنكم أدباء، أي إنكم تخدمون الحقيقة قبل أن تخدموا الأجهزة ... وخدمة الحقيقة تتطلب أن يكون ما تنتجون أدبا جميلا وصادقا قبل كل شيء، ومهما اضطررتم لصبه في الأشكال المرئية أو المسموعة التي لا مفر من تطويعه لها، فلا يمنع هذا أن يظل في خدمة الحقيقة، وأن يبقى أدبا جميلا وصادقا. الصدق هو كل شيء. ما لا يصدر من القلب لا يصل إلى القلب. ومن الصعب أن نحافظ على الصدق في عالم يتنفس الكذب ويبيعه ويشتريه، ولكن لا مناص من الصراع في سبيله والموت تكريما له. لتكن أيامكم أسعد حظا من أيامنا. لقد تعذبنا من أجل الحرية والعدل والصدق، وسنغمض عيوننا قبل أن نشهدها. وإذا نجوتم من الطوفان الذي أغرقنا فاذكرونا وسامحونا. فلا تنسوا أننا تعذبنا ومتنا من أجلكم، لا تنسوا أننا كنا صادقين. (1984م)

وحوار ...1

س1 : ما هي أبرز المؤثرات في نشأتك وحياتك الاجتماعية والفكرية؟

ناپیژندل شوی مخ