215

شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرونه

وتسأل: وهذه الرتابة التي يتحدث عنها الزائر الغريب، هذا الركود والملل الخانق المحيط بنا إحاطة السور الشائك بالسجين؟ ماذا نفعل فيه؟ أهو من طبيعتنا المستوية التي لا تعرف شيخوخة الشتاء ولا أعراس الربيع؟ أهو من حياتنا المطردة المنسابة انسياب نيلنا الطيب العجوز؟ أهو من الروتين - هذا الداء القديم قدم بلادنا نفسها - الذي أوشك أن يحولنا إلى جيش من السخرة؟ أهو من غياب كل مغامرة وكل تجربة تهز شجرة حياتنا الساكنة. إن السكون هو طابعنا منذ القدم، فهل يتعارض حقا مع الوجد والعذاب؟ وإذا كنا - في المدينة المزعجة على الأقل - قد فقدنا هذا السكون، فهل الضجيج المزعج والصخب الأجوف والثرثرة والاستعراض والتظاهر والبطولات الزائفة التي منينا بها في كل مجال وصناديق الضوضاء - التي نسميها باسم مهذب هو أجهزة الإعلام - من أسباب هذا الملل الأزلي؟ كيف يمكن أن تعود الحياة حياة؟ كيف نندهش لها ونبتهج بها ونعمل على تطويرها ونتعذب منها، فتأتي الدهشة والبهجة والعمل والعذاب من أعماقنا نحن، ولا نسمح لشيء أن يهبط علينا من أعلى؟

سبق الجواب، بالحرية حين نفهم الحرية بمعنى التحرر الذي يأتي من الباطن، ولا يأتي هبة من أحد. وحين تفهم بمعنى المشاركة في الرأي والفعل، لا من أحل نفسي، بل من أجل الأغلبية الساحقة ، لانتشالها من ليل الفقر والجهل والتعاسة والتخلف الأزلي. (وهذه الأغلبية هي التي تؤكد في كل المحن ملامح وجهنا الأصيل، وفطرتنا التي كادت أن تتشوه، الشاب الذي لف حزام الديناميت حول جسده؛ لينسف تحصينات العدو جاء منها. الرجل الذي ألقى نفسه على دبابة العدو منها - الشهيد الذي أهدى دمه لرمال سيناء في صمت وصبر منها - ترى لو بعث واحد منهم، ورأى الذين يتاجرون باسمه، ويزيدون أرقام حساباتهم على حساب موته وجراحه، فماذا كان يقول؟) والحرية بكل هذه المعاني المسئولة لا بد أن تكون حرية «الشخص». وما أقل ما نهتم به في بلادنا، فهو إما مجهول في طابور، أو رقم في بطاقة، أو رسم على استمارة. (يندر أن تجد من يحس بك، من ينظر في عينيك) وكيف يتحقق وجود هذا الشخص؟ كيف ينتزع من فراغ «المجهول» وضباب «الناس»؟ كيف نحترمه في كل مكان ونقدره دائما وأبدا كغاية في ذاته لا كوسيلة كما تقول عبارة «كانط» الجليلة الخالدة؟ كيف نضعه أو بالأحرى كيف يضع نفسه في خضم التاريخ بعد أن انزوى عنه أجيالا بعد أجيال؟ كيف نعيد «الوعي التاريخي» إلى ضمير كل فرد منا قبل أن تسحقه طاحونة الخرافات والغيبيات، ويحاصره أخطبوط المجردات المتزمتة القاسية المتسلطة؟ كيف نجعل تراثه «الماضي» حاضرا يحياه في لحظته الراهنة، ومستقبلا «حاضرا» يشكله، ويعيد صياغته في كل يوم وكل ساعة بالعمل والأمل، بالثقة وحب النفس (وهو أصعب أنواع الحب كما قال أفلاطون في قوانينه)؟

لسنا بحاجة إلى تنبيه كل مصري وعربي إلى الخطر الأكبر الذي يهدد وجودنا الجسدي والمعنوي، ويريد أن يجتثه من جذوره، لسنا بحاجة إلى توجيه نظره إلى «التحدي البشع» الذي كتب على جيلنا وعلى أجيال أخرى أن تواجهه، فدولة السفاحين واللصوص التي تعيش في أوهام الخرافة والأسطورة والتعصب والكذب على التاريخ الحي من أهم الأسس التي يقوم عليها وعينا التاريخي، وتخلفنا العلمي والحضاري عنها من أهم حوافزه.

لكنني أشير إلى أساس آخر لا غنى عنه في هذا التحدي الذي لا بد أن يعمق وعينا بالتاريخ ، ويعلو بنا فوقه في آن واحد. وأقصد به باختصار أن «نحيي» تاريخ «الضمير» في أمتنا، منذ أن ولد في ظل الفراعنة (تذكر حكاية الساحر العجوز المعجز في قصة خوفو مع السحرة، لقد سمع عنه فرعون أنه يقدر على إعادة الرقبة المفصولة إلى مكانها. وأمر بالعبيد والمساجين فما كان منه إلا أن رفض وطلب أوزة! هل يمكن أن يولد الضمير أعظم من هذه الولادة؟) إلى ثورات المصريين المتجددة في الدولة الوسطى وشهداء المسيحية في العصر الروماني وثورة الصعيد في عهد المأمون وثوراتهم على التتار والصليبيين والعثمانيين والفرنسيين والإنجليز والصهاينة، وعلى استبداد الإقطاع والتخلف في ثورتنا الأخيرة. لا مفر من أن «تحضر ثورات الضمير» في نفس كل صبي وشاب وشيخ، وكل صبية وفتاة وعجوز.

2 (ترى ماذا نعلمهم اليوم من تاريخنا؟ وإذا استمر الحال على هذا فهل يبقى - بعد سنوات معدودة - من يذكر منهم اسم عرابي أو مصطفى كامل أو سعد أو محمد عبده أو النديم، ولا أقول اسم سقننرع أو أحمس أو الصالح أيوب؟ وكيف يتحقق لنا الوعي التاريخي - ومن ثم القدرة على التحدي التاريخي - إن لم نستوعب تاريخ ضميرنا، ونحمله أمانة في صدورنا وفوق أكتافنا، إن لم نتفتح - بحكم سماحتنا الفطرية - على كل وقفات القلب والضمير في تاريخ الإنسان؟)

الجواب فيما قلت. فما هذه كلها إلا أعضاء كيان حي واحد.

الحرية تؤكد التحرر من الباطن. والمسئولية هي صميم التحرر، والاتجاه إلى مشكلات أمتنا الكبرى هو لب المسئولية، والشخص الحي المشارك الواعي بتفرد لحظته التاريخية هو حامل هذا كله.

والطريق الوحيد - الذي اهتدينا إليه في الشعار الذي نردده، ولم يصبح بعد حقيقة حية متجددة - هو العلم والإيمان. العلم بمعنى الأسلوب المنظم الملتزم بالواقع، وهو وحده الكفيل بتخلصينا من مظاهر الارتجال والفوضى والتخبط، ومن أمراض التظاهر والاستعراض والثرثرة والإزعاج في كل مجالات حياتنا (بدأنا نعطي العيش لخبازيه، وليتنا نواصل هذا بكل ما نملك. وبدأنا نفطن لما فطن إليه أفلاطون في جمهوريته منذ أكثر من أربعة وعشرين قرنا، الملاحة للبحار لا للطبيب، والطب للطبيب لا للملاح) والإيمان بمعناه الحق النابع من أعماق الشخصية لا الهابط من أعلى كالألواح الأزلية - بهذا يمكننا أن نحقق بعض ما ألمحت إليه هذه الخواطر - الإنسانية التي تسترد معناها وأصالتها وحريتها من اهتدائنا بالعلم والوعي في حياتها العلمية وواقعها اليومي، ثم تجاوزها لهذا المستوى وترتفع إلى «العالي» من خلال علاقتها الأولية الأصيلة به. هل يمكن أن نحقق هذا؟ لن تجدينا اللوائح والقوانين والوصايا، فهي تجربة كما قلت، والتجربة بمعناها العميق لا يقوم بها سواك، ولا ينوب فيها أحد عنك. وكلما كابدتها وصبرت على مشاقها انفتحت لك مغاليق «المعنى» و«الحرية» و«الشخصية» و«الواقع» و«التاريخ»، واستطعت أن تشارك في الأبدية (لأن ذاتك الحقيقية المطمورة تحت ركام المشاغل والتوافه والرغبات والمنافع جزء منها، وهو - لو علمت - أخلد من النجوم وأبقى من كل النظم الكونية التي ستندثر وتنطفئ لا محالة في يوم من الأيام). هناك تشارك الآخرين وتحبهم وتجل «الأبدي» فيهم. وهناك تتعلم أن تكسب نفسك حين تفقدها، وأن تحررها حين تساعد على تحرير غيرك.

أسئلة وهموم كثيرة. انهمرت قطراتها - المثقلة بحزن الليل وهمس الفجر - على رأسي بلا نظام. وقد أثارتها خواطر أخرى انبثقت كالشلال النوراني من نبع تجربة بعيدة عميقة. لعلك تعذرني فيما قلت. فإنما الشجي يبعث الشجي. وما كان لي أن أنقل إليك هذه الخواطر عن روح مصر، ثم أغفل الهموم التي أثارتها في نفس مصرية تحمل أحزان الماضي والحاضر والمستقبل، وتحاول أن تصنع لحظة صدق، فلعل النور يكون ... (1974م)

للصادقين أنعاك

ناپیژندل شوی مخ