208

شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرونه

السلام على الأرض، والمسرة والمحبة للناس أجمعين. لا لشعب من الشعوب، أو دولة من الدول فحسب. هكذا كان أيضا رأي فلاسفة القرن الثامن عشر، هؤلاء الذين انفصلوا عن التراث المسيحي، وراح بعضهم - مثل فولتير وكوندورسيه - يهزءون بالكنيسة ويناصبونها العداء. المهم أن التأمل في التاريخ ككل، في منشأه وحركته وهدفه، صار أمرا ممكنا بعد المسيحية ومن بعدها الإسلام، ولم يزل كذلك إلى اليوم (والكتابة عن تصور المؤرخين المسلمين لفكرة الزمن يستحق دراسة مستقلة).

بلغ الوعي التاريخي ذروته الأولى في أوروبا في القرن الثامن عشر، أراد الإنسان أن يعرف مكانه في التاريخ، أراد أن يفهم إلى أين تسير البشرية. حاول أن يعرف سر الأحداث التي تجري حوله : كيف أصبحت فرنسا قوة ضخمة، كيف ظهرت روسيا على مسرح السياسة الأوروبية، كيف توغل الأوروبيون في العالم الأمريكي، كيف نشأ النظام البرلماني في إنجلترا. من هنا الإقبال على دراسة التاريخ الروماني (مونتسكيو وجيبون)، من هنا الاهتمام بدراسة الحضارات البعيدة كالحضارة الصينية. ومن هنا الخلاف الذي بدأ في القرن السابع عشر: لمن التفوق؟ للإغريق والرومان أم للمحدثين؟ وأخيرا هذا النشاط الهائل في جمع الوثائق وتفسير الوقائع التاريخية بشكل لم يسبق له نظير. وكم يدهشنا اليوم أن ننظر في التاريخ الذي كتبه فولتير عن عصر لويس الرابع عشر! لم يقتصر هذا الكاتب الكبير على تدوين تاريخ سياسي، بل راح يضيف إليه التاريخ الحضاري والسياسي، ويربط بينها جميعا.

صحيح أن فولتير - ومعه عدد كبير من معاصريه - قد وقفوا من الماضي موقف الرفض والاحتقار. كان من رأيهم أن ساعة الإنسانية الحقة قد بدأت، أو ستبدأ في مستقبل أفضل، ولكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى معرفة الماضي معرفة تامة؛ لكي يستطيعوا التحرر من خرافاته وأنظمته البالية. لذلك فقد يدهشنا أن هؤلاء الكتاب الثائرين قد أسهموا في تجميع قدر كبير من المعلومات والحقائق التاريخية الحية، على الرغم من ازدرائهم للعصور الوسطى المسيحية، وتجنيهم عليها بصورة تبدو لنا اليوم ظالمة بعيدة عن الإنصاف.

على أن غرورهم واحتقارهم للماضي لم يبق بغير أثر. فإذا كان فولتير قد أسرف في السخرية بالعصور المظلمة، وخرافات رجال الدين، وإذا كان العصر الوسيط لم ينج من هجوم رجل حكيم مثل كانط الذي وصفه بأنه «ضلال غير مفهوم للعقل البشري»، فقد كان هناك من أنصف الماضي، وأحس بقيمته وجماله. كذلك فعل «جوته» في شبابه، وكذلك فعل الرومانتيكيون الإنجليز. من هذه الاتجاهات المتعارضة المتباينة من حركة «عصر التنوير»، التي أسرفت في ثقتها بالعقل، وفي عدائها للماضي، من الحركة الرومانتيكية التي أحبت ذلك الماضي، وعكفت على إحياء أدبه وجمع تاريخه، ومن الأحداث المهمة التي اضطرب بها العصر، انتصارات بروسيا على عهد فردريك الأكبر، حصول أمريكا على الاستقلال، الإصلاحات التي تمت في النمسا، وأخيرا تلك الكارثة الرائعة - الثورة الفرنسية - من هذا كله انبثق عدد كبير من المؤلفات التي حددت الوعي التاريخي الأوروبي في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، نذكر منها كتاب «هردر» أفكار في فلسفة تاريخ الإنسانية، ومقال كانط «أفكار عن تاريخ عام من وجهة نظر عالمية»، ورسالة «شيلر» معنى التاريخ العام والغاية من دراسته، وأخيرا أعمال ذلك الرجل الذي عرف هذه المؤلفات كلها، وأفاد منها وحقق في فلسفة التاريخ شيئا لم يسبق إليه، وقد لا يلحق فيه، ونعني به هيجل.

كل هؤلاء المفكرين يتفقون في إيمانهم بمعنى التاريخ وبرسالة الإنسانية. ومع أنهم يختلفون في موقفهم من المسيحية، فلولا التراث المسيحي لما كان من الممكن أن يصلوا إلى هذا الإيمان، ولا إلى هذا الوعي التاريخي، إنهم جميعا - وهردر يقل عنهم بعض الشيء - يعتقدون أن الحضارة الأوروبية هي الحضارة التي ألقى عليها القدر العبء التاريخي الأكبر، وهي التي ينبغي أن تنهض به في المستقبل. •••

في سنة 1784م ألف «كانط» مقاله الرائع السابق الذكر «أفكار عن تاريخ عام من وجهة نظر عالمية» (وقد ترجمه أستاذنا عبد الرحمن بدوي في كتابه عن النقد التاريخي)، ثم عالج الموضوع بصورة أوسع في كتابه عن السلام الدائم (وقد ترجمه أستاذنا عثمان أمين). والمقال والكتاب يتناولان مشكلة التاريخ البشري العام، ويبدو أن شيئا غريبا لا يكاد الإنسان يصدق أنه صدر عن مفكر وحيد وبعيد عن صراع المصالح ومشكلات السياسة والسياسيين في عصره، ولكنهما مع ذلك يبدوان لنا اليوم معاصرين إلى أقصى حد، حتى ليوشك الحكيم الطيب العجوز الذي لم يغادر مدينته كونجسبرج أن يكون قد تنبأ بمشكلتنا الكبرى التي نعاني منها صباح مساء. ويقوم المقال والكتاب على افتراض - لا مجرد حسن نية - أن الإنسان قادر على أن يصل بنفسه إلى الكمال الذي تحدث عنه شيلر والمثاليون الإنسانيون من قبل، كما يقوم على الثقة في الانتصار النهائي للإنسان، باعتباره الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يحكم عقله. اقترح كانط في مقاله أن يكون الهدف من تاريخ الإنسانية هو تحقيق الإنسان نفسه بكل ملكاته ومواهبه النبيلة ، في ظل اتحاد أو عصبة أمم، ولغاية كبرى هي ضمان سلام دائم منظم وطيد الأركان. ولا تتحقق هذه الغاية إلا إذا توفرت للإنسان فكرة عن ماضيه بالمعنى الشامل، الذي لا يقف عند حدود الأمم والجماعات. وكانط يمهد لهذا التاريخ حين يبين الخط الصاعد، الذي سار فيه العقل الإنساني إلى مزيد من الوضوح، ومزيد من الإنجازات العلمية.

غير أنه يلاحظ - في حزن لا يستغرب من الحكماء - أن هذا التطور في الحضارة والمدنية لم يصاحبه تطور في الضمير والأخلاق نفس العلة التي نشكو منها اليوم، وتكاد تدفع بالشرية إلى حافة الهاوية. ولذلك فإن واجب الإنسان في المستقبل هو الوصول بالأخلاق إلى مستوى العلم، وإلا جاء اليوم الذي تضطره فيه الطبيعة أو على الأصح يضطره التاريخ إلى شيء كان من الممكن أن تعلمه إياه الأخلاق أو العقل العملي كما يسميه، أي يأتي اليوم الذي تتطور فيه أساليب الحرب المهلكة إلى الحد الذي تجد فيه الدول نفسها أمام اختيار واحد لا مناص منه، فأما فناء الحضارة وانتحار البشرية جمعاء، أو تنظيم الدول ذات السيادة على أساس العقل في عصبة أمم ترعى السلام العالمي.

ولكن ما هو موقف كانط من عذاب البشرية المتصل على مر التاريخ؟ ما رأيه في الكوارث والأزمات التي ألمت بها، وألوان الخراب والدمار التي لم تكف عن تدبيرها لنفسها؟ الجواب أنه ينظر إلى الإنسانية «ككل»، بحيث تبدو كل الكوارث والأزمات أشياء مؤقتة أو محلية. أما التقدم والتطور - تقدم العقل وتطوره - فهو ثابت ومستمر، بل إن العناية الإلهية قد شاءت أن تكون ألوان الدمار والعذاب التي عانتها الإنسانية وتعانيها هي الطريق الذي يصل بها إلى التبصر والتعقل، لا بل يفرضها عليها فرضا، ولكن هل تقطع هذه الثقة في العقل كل أسباب الشك واليأس؟ هل صحيح أن الإنسان يتطور وينضج جيلا بعد جيل؟ وما العمل إذا احتكم لغريزته الأصلية كما فعل في كل العصور؟ وما العمل إذا كانت الهوة لا تزال سحيقة بين العلم والسلوك، بين العقل والضمير، بين التقنية والأخلاق؟ الغريب أن هذه الشكوك ليست جديدة. لقد ثارت في نفوس الناس في حياة كانط. ففي سنة 1800م رد أحد الصحفيين من أهالي برلين، ويدعى فريدريش جنس، على كانط بكتاب من تأليفه سماه «عن السلام الدائم»، وحاول أن يرد فيه على تفاؤله، فقال بالحرف الواحد: «... وحتى لو استطاع الجنس البشري بأسره أن يصل إلى أكمل دستور شرعي بين أعضائه، فإن المادة العدوانية الكامنة في الدوافع الغريزية الغلابة سوف تزعج هذا النظام في كل لحظة، وسوف تبقي على التناقض الأبدي بين قانون العقل الذي يوحي دائما بالسلام، وبين قانون الطبيعة والفطرة الفجة الذي يريد الحرب على الدوام.»

هذا التناقض القائم بين العقل والطبع أو بين العلم والخلق مسألة قديمة، وإن كان وعينا بها اليوم قد ازداد حدة. وتاريخ الحضارات المعروفة ليس في الحقيقة إلا سجلا عامرا بالضعف والتهور والكذب والشر والغدر والاضطراب. وليس هذا كله كامنا في الطبيعة أو الغريزة الفطرية وحدها كما يقول الصحفي البرليني، بل المشكلة أن «الدودة» كامنة في العقل نفسه منذ البداية ... مهما يكن من شيء، فلا يسع المتأمل للظروف التي نمر بها اليوم إلا الإعجاب بهذه الفكرة التي تعد من أعمق وأصدق ما عبر عنه حكيم كونجسبرج الطيب العظيم. •••

فإذا انتقلنا إلى «شيلر» وجدناه يسير في أفكاره التاريخية في نفس الخط الذي سار فيه «كانط». لقد كان في شبابه أشد حماسة من هذا «الحكيم العالمي»، كما كان يسميه في نظرته إلى الحاضر السعيد، بل كان من رأيه أن الماضي كله لم يكن له هدف إلا الوصول إلى هذا الحاضر المنعم بالحرية والكرامة والأمل. فلما بدأ يكتب التاريخ بنفسه بدلا من الاكتفاء بتأمله من بعيد، شغله الواقع الحي عن فكرته الكانطية الأولى، وأخذ يصور الناس والأحداث كما كانوا في الواقع، دون أن يعني نفسه بالأهداف والنتائج البعيدة. لم يكن كانط مؤرخا. أما شيلر، فكان يملك الحاسة الدرامية القوية بالتاريخ، بالصراع الرهيب بين الدول، بالعواطف الرفيعة أو الوضيعة التي تتحكم في الأفراد، وربما استغرقه هذا الإحساس الدرامي بالماضي، فأنساه تأملاته المثالية في التاريخ العام. ويكفي أن نقرأ مسرحياته التاريخية - وفي مقدمتها ثلاثيته الكبرى عن فالنشتين - لنعرف أنه شاعر التاريخ الأكبر بغير نزاع. •••

ناپیژندل شوی مخ