شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
ژانرونه
إن القوانين عنده مجرد «مواضعات» قد تخطئ وقد تصيب. والأسس والمناهج والمبادئ النظرية قد تتعارض وتتضارب. المهم عنده هو النتيجة العملية أو الوضعية، هو القوة والقدرة المكتسبة. بكلمة واحدة هو النجاح. هذا هو الذي يهم رجل العلم الحديث. ولهذا لا تفصل معرفته أبدا عن الفعل وأدوات التحقيق والتحكم والتنفيذ. إن عقله يتحرك دائما بين تجربتين، تجربة معطاة وأخرى متوقعة. ولهذا فكل معرفة تصدر عن القول أو تتحرك نحو الأفكار لا قيمة لها عنده. - ماذا تفعل الفلسفة وهي تفاجأ كل لحظة بعواصف الاكتشافات العلمية الحديثة؟ ماذا تفعل الميتافيزيقا وهي ترى نفسها مهجورة مخلوعة عن العرش، تندب حظها وتبكي فجيعتها في أبنائها (كأنها «هيكوبا» زوجة بريام ملك طروادة التي رأت أبناءها يذبحون أمام عينيها؟) ما مصير مشكلاتها العنيدة العريقة؟ ماذا تصنع ب «أنا أفكر» و«أنا موجود»؟ بفعل «الوجود» أو الكينونة الغامض الذي يدور منذ القدم في الفراغ بكل المشكلات والأسئلة التي تمخضت عنه؟
الجواب عسير. وقد كانت ردود فعل الفلسفة - ممثلة في أمها العجوز المحتجة أبدا المهانة على الدوام (الميتافيزيقا) - على الاكتشافات العلمية مدهشة أو غامضة أو مضحكة: أليس من الخير للفيلسوف أن يجعل فكره مستقلا عن جميع المعارف التي يمكن أن يقوضها الكشف عن تجربة جديدة، أي أن يكون فكرا يدور في فلك الممكن لا الواقع، ويحمل غايته وهدفه في ذاته؟ لكن هل يمكن أن يتحصن الفيلسوف في قلعة الفكر المحض أو يحبس نفسه في قفصه البلوري الصافي دون أن تحين منه نظرة إلى الواقع؟ - لو استطعنا أن نتحرر من عاداتنا الفكرية، أن نرتفع فوق تنوع الاتجاهات الفلسفية المعاصرة وفوق ضجيجها أيضا، لأمكننا أن نتفق بسهولة على أن الفلسفة - كما يحددها تراثها العريق المكتوب - نوع «أدبي» خاص، يتميز بموضوعات وأشكال واصطلاحات معينة تتردد فيه. هي نوع من العمل العقلي و«الإنتاج» اللغوي يطمح دائما إلى النظر الكلي العام، سواء في مواقفه وغاياته أو في صيغ التعبير عنه. ولما كان بطبيعته بعيدا عن كل تحقق في الخارج، ولا يهدف إلى أن يتمثل في قوة أو سلطة قائمة - باستثناء بعض الفلسفات التي حاولت تغيير الواقع بالعلم والتخطيط أو الخرافة العنصرية أو الثورة السياسية والاجتماعية - فإن هذا النظر الكلي العام ينبغي ألا يكون مؤقتا، ولا أن يكون وسيلة أو أداة، ولا تعبيرا عن نتاج، قابلة للتحقق، أعني أن تكون له غاية في ذاته. من هنا يمكننا أن نضعه غير بعيد من الشعر والفن . - غير أن المشكلة هي أن هؤلاء الفنانين الذين ذكرتهم من قبل - أي الفلاسفة - يجهلون أنهم فنانون ولا يريدون أيضا أن يكونوا فنانين. لا شك أن فنهم يختلف عن فن الشعراء. فهم لا يفكرون كثيرا في رنين الكلمات، وسحرها الخفي، وقراباتها الحميمة، بل يبدءون عادة من الإيمان بوجود قيمة مطلقة مستقلة عن حواسهم وإحساساتهم. الفيلسوف يسأل: ما الواقع؟ ما الوجود؟ ما الخير؟ ... إلخ، إنه لا يعني نفسه كثيرا بأصول هذه الكلمات وجذورها الممتدة في عروق الأسطورة والصورة والاستعارة، وفي حياة المجتمعات والشعوب، ولا يهتم بمعانيها الدقيقة العسيرة التي اكتسبتها على مر العصور، وعلى مختلف الشفاه، ولا بمجدها أو تماسكها وهي تنتقل من قلم إلى قلم، ومن لسان إلى لسان. إنها تصبح بالتأمل والتفكير والجدل أدوات عجيبة قادرة على تعذيب مجموعات ومجموعات من الأفكار، مفاتيح سحرية مخيفة صنعتها رءوس لحل مشكلات الوجود والواقع والإدراك، حفر واسعة عميقة على استعداد لابتلاع كل شيء، وتصور كل شيء. - ولكن هذا التعميم، هذا الاستخدام الكلي للكلمات، ألا يخفى وراء مظهره الشمولي هذا روح الفن؟ ألا ينطوي مع ذلك على وجه شخصي أو فردي يحاول أن يتنكر وراء قناع الكلي العام؟ أليس عمل الفيلسوف الذي يرى في «التعبير الشائع» آلاف الصعوبات التي لا يلحظها الرجل العادي، ويخلق آلات المشكلات والمتاعب والمتناقضات التي لا تراها عينه، ويبلبل العقول، ويزرع فيها أشواك الحيرة والاندهاش والاستغراب، حيث لا يحس الناس غير الطمأنينة والأمن والوضوح ... أليس هذا عملا شخصيا وفرديا، وإن ارتدى مسوح الشمول والتعميم؟ - وإذا كانت الكلمة هي أداة الفيلسوف وغايته، إذا كانت هي مادته التي ينفخ فيها ويعذبها ويستخلص أحشاءها، ويثبت عليها أجنحة التعميم، فإن الفنان ينظر إليها نظرة أخرى. إنه يعذب الكلمة، ويتعذب بها، وهي أيضا وسيلته وغايته، ولكنه يحس فيها إحساسات، ويرى ظلالا وأطيافا، ويسمع نبضات لا يراها الفيلسوف ولا يسمعها ولا يهتم بها. إن الكلمة هي مادته التي يشكلها ويصنع من «عدمها» مخلوقات حية. شعرا أو قصة أو مسرحا، ونحتا أو موسيقى (فكلاهما لغة أيضا) لهذا يمكننا القول بأن الكلمة هي أخطر أدواته وأقلها في نفس الوقت، هي الشيء الوحيد الذي يملكه ويريد من خلاله أن يصل إلى ما لا يملك. - فلنتأمل حال فنان عظيم من عصر النهضة ليوناردو دافنشي (1452-1519م) هناك (كما ذكرت لك) أمور تجمعه بالفلاسفة وتميزه عنهم. أهمها أن الرسم هو فلسفته. وهو نفسه يقول هذا. إنه يعبر بالرسم كما يعبر غيره بالفلسفة. أي إن الرسم عنده هو كل شيء. قد يرى غيره أن الرسم فن خاص بالنسبة للفكر، أو أنه أبعد ما يكون عن إرضاء كل رغبات العقل، ولكن ليوناردو يفكر تفكيرا آخر. فالرسم في نظره غاية أخيرة، هدف نهائي لجهد عقلي كلي. باختصار: إنه يفعل بالرسم ما يفعله الفيلسوف، بل يزيد عليه أنه يتعمق الأشياء بكل وسيلة، طبيعتها وتكوينها العضوي ونفسيتها، هندستها وتشريحها وبنيتها الخفية ولغتها السرية - الرسم عنده عمل يستلزم كل المعارف وجهد يحتضن كل الأساليب على وجه التقريب: الهندسة، والديناميكا، والجيولوجيا، والفسيولوجيا - تصوير معركة حربية يقتضي منه معرفة قوانين حركة الأعاصير وحركة الغبار المتطاير، تصوير شخص يستلزم منه بحوثا في تحليل حركاته وتشريح ملامحه وقسماته الفسيولوجية والنفسية، ودراسة التوافق بين العضو ووظيفته. - إن العلم والفن والفكر تمتزج في أعماله امتزاجا تاما. فالرسم عنده معرفة بكل شيء، تعبير عن جميع الظواهر، حتى الظواهر غير المنظورة. الصنعة عنده ملازمة للمعرفة، الفعل ضمان للفكر، العمل لا ينفصل عن الكلمة. اللغة عنده أداة مثلها مثل غيرها من الأدوات، كالعدد مثلا أو التخطيط الكروكي، إنه لم ينته أبدا إلى ما انتهت إليه معظم الفلسفات في عصرنا، فصارت كلمات بلا فعل، إنه باختصار يجد في العمل الفني المرسوم كل المشكلات التي يمكن أن يوحي بها للعقل نظام فكري أو فلسفي عن الطبيعة. - هل ليوناردو فيلسوف أم ليس فيلسوفا؟
المسألة ليست مسألة اختيار أو تردد في إطلاق هذا الوصف الجميل على هذا الرسام الذي اشتهر بأعمال عديدة غير مكتوبة. إنها مسألة تتصل بعلاقة النشاط الكلي لعقل ما بوسيلته التي اختارتها للتعبير أو بنوع الأعمال التي تجعله يحس بقوته أعمق إحساس وأشده. وحالة ليوناردو الخاصة - التي تجعلنا نلمح الفيلسوف وراء اللوحة - تقتضي منا إعادة النظر في كثير من عاداتنا العقلية، وتدعونا للانتباه إلى الأفكار التي تطل من وراء الخط والظل وبقعة اللون. وإذا كانت الفلسفة تقاس في حياة العقل بمدى ما تشهد عليه من عمق النظرة، والميل إلى التعميم وعدد الظواهر التي تتمثلها وتحتويها، والعطش الدائم للبحث عن الأسباب الخفية، فإن رسوم ليوناردو تنطوي على هذا كله. - لعل مثال ليوناردو أن يدعونا إلى مراجعة تفرقتنا المألوفة بين الفلسفة والفن، بين الفكر والشعر. ولعله أن يصحح نظرتنا القديمة في تقسيم الطبيعة الإنسانية، وكأن الفلاسفة بلا أيد ولا عيون، وكأن الفنانين رءوس خلت من كل شيء إلا من الغرائز والانفعالات؛ لأننا لو تشبثنا بهذه النظرة العرجاء، لأصبح رجال مثل ليوناردو أشبه بكائنات خرافية وحوش أو قنطورات (كائنات خرافية تقول الأسطورة اليونانية إن نصفها إنسان والنصف الآخر حصان). - لو قصرنا أنفسنا على النظر إلى الظواهر الحميمة الباطنة، على لحظات الحياة النفسية المتدفقة الدافئة، فلن نقدر على التمييز بين فيلسوف وفنان، إن الفروق بينهما ستكون غير محددة، بل قد لا تكون موجودة.
أما إذا التفتنا إلى الجانب الموضوعي من التعبير عند كل منهما، فسيكون الفارق هائلا. سنجد الفلسفة لا تنفصل عن اللغة التي هي غاية كل فيلسوف ووسيلته، ولهذا سنحكم بأنه ليس فنانا، وسنجد أن الرسم هو كل ما عند الرسام، فنحكم بأنه لا يمكن أن يكون فيلسوفا. وبهذا نظلم الاثنين معا. مع أن الإحساس المباشر يدلنا على الفن عند كثير من الفلاسفة، ويهدينا إلى الفلسفة عند كثير من الفنانين. - قد نرى هذا لأول وهلة، وقد ننساق مع النظرة السطحية فلا نشك في أن الفيلسوف يصف ما فكر فيه. والمذهب الفلسفي يمكن تلخيصه في تصنيف للكلمات أو قائمة من التعريفات. والمنطق هو طريقة استخدام هذه القائمة، أو هو الإطار الذي يضم الأنفع والأكمل من التفكير العادي، إن التفكير الأعمق لا بد أن يجرنا إلى أبعد من اللغة. ونحن لا نستطيع أن نفكر أو نحافظ على فكرنا، أو نوجهه، أو نتنبأ به بغير اللغة. اللغة هي وجودنا نحن. غير أننا لو نظرنا للمسألة عن قرب لوجدنا الأمر مختلفا. فكلما حاول فكرنا أن يتعمق نفسه وموضوعه، وأن يقترب من موضوعه - لا من الرموز والاصطلاحات التي تثير أفكاره عن هذا الموضوع - عشنا هذا الفكر، وأحسسنا أنه ينفصل بنفسه عن كل لغة متواضع عليها. هنالك نحس أن الكلمات تنقصنا، أو لا تستجيب لنا، أو تحاول أن تتدخل بيننا وبين الموضوع، أو تنوب عنا. صحيح أنها تخدمنا خدمة لا تقدر حين تقربنا من الموضوع الذي نفكر فيه ومن فكرنا نفسه حين تنظم هذا الفكر وتكرره، ولكن التفكير، التفكير «العميق» ليس هو التفكير الأدق. إن الفكر المعاش - الحميم والصميم - يحس أن اللغة تبعده عن نفسه، أنها عاجزة في ميدانه، إنها تثبت ما لا يثبت، إنها تستبدل شيئا بشيء، تستبدل الجامد البارد المحدد العام بالحي الشخصي الدافئ. - أترانا نظلم الفلاسفة؟ لا شك أنهم حاولوا دائما أن يربطوا لغتهم بأعماق فكرهم وحياتهم. وحاولوا دائما أن يعيدوا تنظيمها، أن يكملوا نقصها لتستجيب لحاجات تجربتهم الوحيدة، أن يجعلوا منها أداة أدق وألطف، وأقدر على المعرفة، بل على معرفة المعرفة! ربما استطعنا أن نتصور الفلسفة موقفا، أو اتجاها، أو وجهة نظر، أو وعدا، أو انتظارا، أو قيدا يقسر به بعض الناس أنفسهم على أن يفكر حياته أو يحيا فكره، في نوع من التعاون أو الانعكاس بين الوجود والمعرفة، إنهم يحاولون أن يوقفوا كل تعبير تقليدي أو مصطلح عليه لدى شعورهم بأن «الواقع» يقدم نفسه لهم، أو بأنهم سيستقبلونه، وأنه سينتظم ويتضح في تأليف أو مركب جديد أثمن وأدق من كل مركب آخر مطروق أو مسبوق إليه (وفي هذا العناء يشاركهم الشاعر والكاتب والرسام ويزيد عليهم). - غير أن طبيعة اللغة (التي خلقت أصلا للإشارة إلى الأشياء الثابتة والكائنات المحددة) لا تمكن من إنجاح هذا الجهد الذي يبذله كل الفلاسفة (وإن كان إحساسهم بخيبة الأمل فيها لا يبلغ من العمق والألم قدر إحساس الشاعر والأديب!) إن أقدر القادرين منهم قد استنفد جهده في محاولة دائبة لترجمة فكره، أو جعله ينطق ويتكلم. من هنا يضطر أغلبهم إلى نحت كلمات جديدة من كلمات قديمة أو تحويل معانيها عن المألوف المعتاد (لهذا يصدم الرجل العادي دائما في لغتهم. وهذا أمر طبيعي، فهم لا يستخدمون لغة أخرى غير لغته؛ إذ إن هذا محال، فلا بد أن تأتي لغتهم من نفس الطبيعية حتى يتمكنوا من فهم أنفسهم وإفهام غيرهم. ولكنهم يحولون بعض الكلمات عن معناها المألوف، يرتفعون بها إلى مستوى آخر. خذ مثلا كلمات كالوجود أو العدم أو الواقع أو الأنا أو المثال أو الفكرة ... إلخ، وستجدها في لغة الفيلسوف، وقد تحولت تحولا تاما، وإن لم تفقد بطبيعة الحال كل صلتها بالأصل الذي نبعت منه) لكن معظم جهودهم تذهب في النهاية هباء. فهم لم يستطيعوا نقل «حالاتهم» إلينا. إن أفكارهم التي يحدثوننا عنها كالطاقة أو الإمكان (ديناميس) أو الوجود أو النومين (الشيء في ذاته) أو الكوجيتو (أنا أعرف أو أفكر) ... إلخ ليست إلا «شفرات» لا يحدد معانيها إلا السياق الذي وردت فيه. وينبغي على القارئ أن يلجأ إلى قدرته على الإبداع الشخصي؛ لينفض أنفاس الحياة في أعمال تلوي عنق اللغة العادية للتعبير عن أشياء لا يستطيع الناس أن يتبادلوها فيما بينهم، أشياء لا وجود لها في المجال الذي تتردد فيه الكلمة الجارية (تأمل ما سبق هل يختلف موقف القارئ من عبارات الفلاسفة عن موقفه من قصائد الشعراء إلا من حيث الدرجة؟ ألا يشارك الفيلسوف والشاعر في الخلق والإبداع؟) - معنى هذا أن قصر اللغة على صيغ التعبير اللغوي - الذي يتميز به الفلاسفة بطبيعة الحال عن غيرهم من أصحاب القول - سيظلم الفلسفة ويحرمها ألوانا من الحرية، بل ألوانا من المتاعب التي تتمتع بها مختلف الفنون. ولكي نتصور هذا الظلم نقول إننا لن نشهد أبدا، ولا يمكن أن نتصور فلسفتين متطابقتين تمام التطابق. ولم نشهد ولا يمكن أن نتصور تفسيرا وحيدا خالدا لأي مذهب أو نسق فلسفي. ما من مشكلة أمكن التعبير عنها بطريقة «نهائية» أو بطريقة تقضي على الشك حتى في وجودها (من هنا تبقى الفلسفية صورة الفكر الإنساني الحر المتغير، كما تنعكس على صفحة نهره المتدفق أبدا أو بالأحرى تعكسه ... من يملك القدرة على تثبيت الصورة على الماء؟ من يملك تثبيت الماء في صورة أو إطار؟) - الفلسفة تواجه الآن خطرا جديدا: اكتشاف أبعاد جديدة للغة، بل اكتشاف لغات عديدة أصبحت تضيق من حدود آفاقها التقليدية (لغة الشكل التي تجرب ثورات التجريد الجسورة، لغة الموسيقى التي كانت وستظل أدق اللغات وأنقاها وأقدرها على التعبير عن أمواج العواطف والأفكار والأحاسيس، لغة الحساب والرياضة التي تقاوم التباس اللغة العادية وغموضها) بيد أن الفلسفة قد حاولت دائما، وستحاول باستمرار أن تؤكد أنها لا تسعى إلى هدف لفظي بحت. صحيح أن العلوم انتزعت منها آفاقا عديدة كانت طيورها ترفرف فيها على هواها، لكن الفنون أصبحت تجرب التعبير المجسم عن كثير من مشكلاتها المجردة. ولهذا نشهد غلبة المزاج الفني على العديد من الفلاسفة المعاصرين، سواء في الموضوع أو الأسلوب. كما نجدهم يطرقون ميادين شاسعة ومناطق مظلمة ويتغلغلون في دروب خطرة لم يكن يحلم بها الأقدمون. إن «الوعي بالذات» (الذي كان دائما - على اختلاف أسمائه وصفاته - وسيلتها الأساسية إلى الوجود، كما كان كذلك سبب انزلاقها إلى الشك والضياع والضلال) يدلها اليوم على حيويتها المتجددة، وضرورتها الباطنة والملازمة لوجود الإنسان، ولكنه يدلها في نفس الوقت على مصدر عجزها وكل ضعفها، ألا وهو الاعتماد على القول، بل على نوع معين منه. لهذا نلاحظ حرص جميع الفلاسفة على وجه التقريب على تمييز فكرهم عن كل فكر تقليدي أو مألوف كما نجد بعضهم - وبالأخص المهتمين بعالمهم الداخلي، ورصد تحولاته وحالاته - يتطلعون إلى ما وراء اللغة، إلى تلك الأرض البكر المجهولة التي يسميها بعضهم «الحدس» أو «الوجدان»، وينفذون إليها أو تنفذ إليهم بطريقة تلقائية، فتهديهم «نورا» مباشرا، وإجابات مفاجئة، وقرارات وذبذبات وإيحاءات غير متوقعة. وبعضهم الآخر يوجه انتباهه إلى ما يبقى ويثبت، ويحاولون أن يلتمسوا في اللغة نفسها سندا يؤيد مواقفهم الفكرية . إنهم يثقون في القوانين الصورية والعلاقات المنطقية الخالصة، يرون فيها بناء المعقول أو العقل نفسه، يكتشفون فيها الأشكال الأولية التي تستمد منها بقية اللغات أنماطها المختلفة في التعبير (لنذكر المحاولة الطموح التي بدأها ليبنتز لاكتشاف لغة رياضية كلية أو علم كلي، ومحاولات المحدثين لتكوين نسق صوري محكم يلخص الهيكل الخالد للفكر!)
الفريق الأول تجذبهم ميولهم «الباطنة» إلى طرق الفن، إنهم فلاسفة شعراء أو فلاسفة موسيقيون. والفريق الثاني يفرض على اللغة طوق العقل الجاد، ويخضعها لنير الاستدلال المحدد. إنهم فلاسفة «مهندسون»، يبنون قصورا شامخة؛ ليسكنها كل إنسان، ولا يسكنها أي إنسان (وغالبا ما ينزوون - كما يقول كيركجورد عن هيجل - في كوخ بائس مجاور لذلك القصر الساحر المخيف).
ترى ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الفريقين استلهما نموذج ليوناردو دافنشي الذي استبدل الرسم بالفلسفة؟
هذا العبقري الذي رسم الفلسفة وفلسف الرسم؟! (1974م)
ما التنوير؟
تقديم
هذه مقالة مشهورة لكانط - أعظم فلاسفة العصر الحديث - يحدد فيها معنى التنوير الذي عاش هو نفسه في عصره، وكان بفلسفته النقدية الحرة الشامخة أنضج تعبير عن ذروة نضجه وازدهاره. وقد ظهرت هذه المقالة في عدد ديسمبر سنة 1784م من «مجلة برلين الشهرية»، ردا على ملاحظة جاءت في هامش مقال دافع فيه قس بروتستنتي مغمور من أهالي برلين (ويدعى يوهان فريدريش تسولنر 1753-1804م) عن الزواج الديني ضد الأصوات التي يبدو أنها كانت قد ارتفعت - باسم التنوير - للدعوة إلى الاكتفاء بالزواج المدني والاستغناء عن بركة الكنيسة. وقد ظهر المقال الأخير بما حواه من هجوم شديد على التنوير وأدعيائه في عدد ديسمبر سنة 1783م من المجلة المذكورة، وكان أهم ما فيه هو تعبير ذلك القس عن حيرته إزاء مفهوم التنوير، وبحثه عبثا عن إجابة على هذا السؤال المهم: ما هو التنوير؟! وانبرى الفيلسوف اليهودي موسى مندلسون (1729-1786م) للرد عليه بمقال نشر في عدد سبتمبر سنة 1784م من المجلة نفسها تحت هذا العنوان: «حول السؤال: ما هو التنوير؟» وقبل الحديث عن هذا المقال الأخير نود أن ننبه القارئ إلى أن كانط كتب مقاله قبل أن يطلع على مقال صديقه مندلسون، وأن التشابه في عنوان المقالين لم يأت بمحض المصادفة، وإنما كان تعبيرا عن قضية شغلت العقول في ذلك العصر، ألا وهي قضية تحديد معنى التنوير ومفهومه، ومن ثم الدفاع عن القضية الأساسية التي عاش لها عصر التنوير كله، ودعا إليها مفكروه وأدباؤه وعلماؤه ومصلحوه، وهي قضية حرية الإنسان وتفكيره المستقل الخالص من كل قيد، بجانب الإيمان بانتصار العلم، بعد الانتصار الذي حققه العقل في تأسيس المنهج العلمي (الطبيعي الرياضي)، وترسيخه والوصول إلى قوانين واكتشافات مهمة أحس رجل الشارع نفسه بأهميتها، وخطرها على حياته - والتفاؤل بمستقبل البشرية الحرة العاقلة التي خلصتها أنوار التنوير - التي أشعها العقل النقدي الحر الذي بنى المذاهب الفلسفية الشامخة والنظم العلمية المتسقة من ظلمات الخرافة والجهالة والخوف والاستعباد.
ناپیژندل شوی مخ