198

شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرونه

كل ذلك يثوي تحت الأرض، ويدخل في اللعبة.

والحديث عن شعر فاليري - أبو الأحرى شعر الشعر - طويل لا يتسع له هذا المجال. والحديث كذلك عن صمته الطويل عن كتابته - وقد قارب العشرين سنة - يمكن أن يفيد بعض شعرائنا المكثرين بغير داع. ولهذا أود أن أحيلك إلى الدراسة القيمة التي قدم بها الأستاذ شفيق مقار لمختارات من شعره، (وتجدها في كتابه «شيء من الشعر»، من صفحة 137 إلى 172. وإلى دراستي عنه في الجزء الأول من كتابي عن ثورة الشعر الحديث، من صفحة 274 إلى 292. والقصائد التي اخترتها له - ومن بينها هذه القصيدة العسيرة - في الجزء الثاني من نفس الكتاب، ص163-172)، ويكفي أن أنقل إليك هذه السطور التي لخص فيها فاليري أسلوبه في الشعر الذي تأثر فيه بأسلوب مالارميه، ومنهج دافنشي، واختلف عنهما في آن واحد: «عند الشاعر تتكلم الأذن، وينصت الفم، إن العقل واليقظة هما اللذان يخلقان ويحلمان، والنوم هو الذي يرى رؤية واضحة، إن الصورة والخيال هما اللذان ينظران، والفقد والفراغ هما اللذان يبدعان.» كما أنقل إليك عبارة أخرى من اعترافاته الحكيمة عن نظرته إلى فعل الخلق: «إنني أفضل أن أكتب شيئا هزيلا، وأنا في حالة وعي تام ونصوع كامل على أن أخلق تحفة رائعة من أجمل الروائع، وأنا في حالة جذب تضعني خارج نفسي.» وكلتا العبارتين تبينان أن هذا الشاعر العسير الذي ألزم نفسه بقوانين العقل والشكل قد أبدع - رغم أنف هذه القوانين - شعرا محترقا بلهيب الإلهام الذي لا يتحكم فيه إلزام.

مهما يكن من شيء، فقد تعين الصفحات التالية على إبراز بعض قسمات هذا الوجه الفلسفي المتلألئ بنور الوضوح والشك والحزن النبيل. إن صاحبه يرفض المذهب، ويؤكد - كما يفعل المعاصرون - أنه لو كانت له فلسفة لكان موضوعها الأوحد هو الممكن، ولحاولت أن تنفذ إلى منابع الطاقة الخلاقة الفعالة في أغوار الإنسان. و«الأنا» هي المحور الذي تدور حوله خواطر هذا المفكر، والأنا من كل زواياها وجوانبها المتناقضة المتصارعة (لدى الفنان والعالم والفيلسوف والطاغية، في الإبداع الفني، والتأمل الكوني، والاستماع الموسيقي، والتفكير في الفكر، ونقد النقد، وشعر الشعر، ولغة اللغة)، ولهذا لا يصح أن تتصور أن الخواطر التي ستقرؤها الآن تدور حول ليوناردو وحده، فليس هذا العبقري الإيطالي ولا الميسيو تست وفاوست وغيرهم من الشخصيات إلا رموزا تومئ للمثل الأعلى، وهو الإنسان الذي يملك طاقة غير عادية على الخلق غير العادي، أي على التعبير عن أقصى سهام الممكن التي تقدر عليها قوس الإنسان.

إليك إذا هذه السطور التي يتحد فيها عقل المفكر الشاخص إلى الكمال والجمال والمثال وقلب الفنان المضطرب بغرائب الواقع، ومتناقضات الفرد وعذابات الجسد، ومصادفاته ومفاجآته. - بين الطبيعة والأعمال (الفنية)، بين شهوة الرؤية وشهوة القدرة، علاقات لا نهاية لها، سرعان ما يتوه التحليل فيها. - إن العقل الذي يحاول باستمرار أن يعيد تنظيم الموجودات، وترتيب رموز جميع الأشياء حول بيت المجهول يستنفذ جهده في هذه المحاولة، وييأس في هذا المجال الذي تسبقه فيه الأجوبة والأسئلة، وتلد النزوة قوانين، ويؤخذ الرمز مأخذ الشيء، والشيء مأخذ الرمز، ويستغل هذه الحرية للوصول إلى نوع من الدقة التي لا سبيل إلى تفسيرها. - الجمال متعة وإغراء هائل لا يقاوم - مشاهدة الجميل تغري كل إنسان بتعمقه - ولعلها هي التي تهدي العقل هداية خفية، لعلها هي مبدؤه. - الفيلسوف هو نوع من المتخصص في الكلي العام، وهي صفة يعبر عنها بنوع من التناقض. ثم إن هذا «الكلي» لا يظهر إلا في صورة لغوية أو لفظية. - لم يعدم الفلاسفة الشعور بالقلق من العواطف والانفعالات. وقد انتبهوا إليه بطريقتهم المنهجية، فأخذوا يبحثون عن أسبابه، وآليته، ومعناه، وماهيته. - إن الجهد الأكبر للفلسفة - حتى لو نظرنا إليه في قلب الفيلسوف - يتألف قبل كل شيء من محاولة تحويل ما نعرفه إلى ما ينبغي علينا معرفته. وهذه المحاولة تقتضي أن تقدم في نظام معين. هذا هو الذي يجعلنا نضع الفيلسوف بين الفنانين، لكن المشكلة هي أن الفيلسوف نفسه لا يستريح لهذا الوضع. من هنا كانت مأساة الفلسفة أو ملهاتها. - بينما يتجادل الفنانون، ويختلفون حول مكانة كل منهم من فنه، يتجادل الفلاسفة، ويختلفون حول مشكلة «الوجود». لعل الفيلسوف يعتقد بينه وبين نفسه أن «الأخلاق» (لاسبينوزا) أو «المونادولوجيا» (مذهب الكائنات الفردة أو الأحادات لليبنتز) أهم وأكبر خطرا من سويت أو سوناته من مقام «ري» الصغرى؟! - حقا إن بعض الأسئلة التي تطرحها عقول الفلاسفة والمشكلات التي يحطمون بها رءوسنا قد تكون «أعم»، وأقرب إلى الطبيعة والفطرة من الأعمال الفنية، ولكن ما من شيء يثبت أن هذه الأسئلة والمشكلات ليست ساذجة (بل إن معظم المشكلات الفلسفية الكبرى نشأت عن أسئلة تبدو في غاية السذاجة: ما الوجود؟ ما الموت؟ ما معنى الحياة؟ ما غايتها ومصيرها؟ ماذا أفعل؟ ... إلخ). - إن نظام الأسئلة هو الذي يميز الفلسفات المختلفة؛ لأن رأس الفيلسوف لا يمكن أن تحتوي على أسئلة منفصلة أو معزولة تماما. بل إننا لنجد فيها نغمة كامنة قد تكون بعيدة أو قريبة، تربط بين جميع الأسئلة والمشكلات التي تضمها هذه الفلسفة. والشعور بهذا الارتباط العميق، هو الذي يوصي بالنظام وبفرضه. ونظام الأسئلة يؤدي بالضرورة إلى أب الأسئلة جميعا، وهو السؤال عن المعرفة. - ولكن بمجرد أن ينتهي الفيلسوف من وضع مشكلة المعرفة أو تأسيسها وتبريرها - سواء بالغ من شأنها بتركيبات منطقية أو حدسية قوية، أو امتحنها بمقاييس النقد، أي بمقاييسه هو نفسه - فإنه يجد نفسه مضطرا إلى التفسير - أي إلى أن يعبر في المذهب أو النظام الذي وضعه - وهو نظامه الشخصي في الفهم - عن النشاط الإنساني بوجه عام، الذي لا يمكن أن تكون المعرفة البشرية في نهاية الأمر سوى وجه واحد من وجوهه، أو حالة واحدة من حالاته، وإن كان هو الذي يمثل مجموعها الكلي وإطارها العام. هنا تجد كل فلسفة نفسها في وضع حرج ... فكل فكر بحت أو كل فكر محوري يسعى على اختلاف مضمونه ونتائجه إلى تحقيق المثل الأعلى لترتيب الأفكار والتصورات حول اتجاه محوري أو فكرة مركزية تشغل المفكر نفسه أو تميزه عن غيره. مثل هذا الفكر لا بد أن يرجع بالضرورة إلى التنوع والتفرق واللانظام واللامتوقع في الأفكار الأخرى، وأن يحاول إضفاء النظام على ما يبدو غير منظم. بعبارة أوضح: إنه يحاول أن يعيد تركيب التنوع والتعدد والاستقلال الذي يجده عند الآخرين، وأن يخلع عليه وحدته هو ونظامه هو. إنه مضطر إلى تبرير وجود أشياء اتهمها بالخطأ أو التناقض أو الشر، مضطر أن يعترف بحيوية المحال أو غير المعقول، ويسلم بخصوبة المتناقض والسلبي. بل إنه بعد استبعاد كل ما هو جزئي وواقعي وفردي لا بد أن يحس بينه وبين نفسه أنه في حاجة لأن ينتبه إلى اتجاه معين، أو إنتاج خاص، أو حالة شخصية معينة. هذا الرجوع الاضطراري من الكلي إلى الجزئي، من العام إلى الخاص، من شمول المنطق إلى تنوع الواقع وتناقضه وتمرده على كل ترتيب ذهني ذكي، هو بداية الحكمة وغروبها في وقت واحد. - الحق أن وجود الآخرين شيء يقلق أنانية المفكر، ويزعج استعلاءه على الدوام، فلا يسعه إلا أن يصدم بلغز الآخر، لغز شخصيته وسر إرادته، حتى أقرب الناس إلينا وأعزهم علينا، نحاول أن نبرر تصرفاتهم أو نفهمها أو نقول إنها كانت ضرورية لكي ننزع منها شوكة التعسف والإرادة المستقلة التي تستثير غيظنا، لكن الآخر موجود في النهاية. ولغز وجوده يضغط علينا، يتحدانا ويحصرنا ويربكنا بمسلكه وتصرفاته وطبعه الذي يختلف عن مسلكنا وتصرفاتنا وطبعنا، وقراراته ومواقفه في كل ما يتصل بالمحافظة على البدن أو على الاستمتاع الحسي والمادي مختلفة عنا. الآخر يظهر اختلافه عنا تنوع ذوقه وتعبيره وما يبدعه أو يخلقه بحساسيته. - الفيلسوف يضيف بهذا كله: بالتنوع والاختلاف والتفرد. إنه يجاهد؛ لكي يغرق كل هذا الواقع، أو كل هذه الوقائع في نوره الخاص؛ لكي يحيطها بإطاره الفكري الصارم أو يردها إلى إمكانات تتعلق به هو نفسه. باختصار: إنه يحاول أن يفهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من محاولة التفسير والتبرير. - من هنا يحاول أن يبني علما لقيم التعبير أو الإبداع - أي علما للأخلاق أو الجمال - وكأن قصر الفكر يبدو له ناقصا بغير هذين الجناحين المتجانسين. ففي هذين الجناحين تحاول ذاته المجردة أو «أناه» المتعالية أن تأسر العاطفة والفعل والانفعال والخلق. لهذا يرجع كل فيلسوف في النهاية - شاء هذا أو لم يشأه - إلى البشر الآخرين وإلى أعمالهم، بعد أن ينتهي إلى الله أو الذات أو المكان أو الزمان أو المقولات أو الماهيات. لا بد له من الهبوط من أعلى السلم إلى سفح الواقع الملون المتنوع، الخير أو الشرير، ومن ثم كانت كل فلسفة مسألة «شكل» أو «نظام» أو «إطار»، حتى الفلسفات الذاتية أو الوجودية التي تحاول أن تقصر نفسها على مشكلات الذات والوجود الحميم الصميم لا تخلو في النهاية من فرض الشكل على ما لا شكل له. كل فلسفة هي في آخر المطاف أشمل شكل يمكن لفرد معين أن يضفيه على تجاربه الباطنة أو تجاربه المختلفة عن تجارب غيره. كل هذا بصرف النظر عن المعارف التي يمكن أن يملكها مثل هذا الفرد، الذي كثيرا ما ينسى أنه شخص أو فرد.

والغريب أنه كلما اقترب في صياغة هذا الشكل العام لفلسفته من التعبير عنه تعبيرا فرديا أو تعبيرا مناسبا بدت الأشكال والأفعال والأعمال التي يقوم بها غيره غريبة عنه. من هنا كان إحساس كل فيلسوف بتميزه وتفرده عن غيره. من هنا كانت كل فلسفة أشبه بجزيرة منعزلة وسط جزر منعزلة في بحر المعرفة أو المجهول. - كما خلق الفيلسوف «الحق» أو «الحقيقة»، فقد خلق كذلك «الخير» و«الجمال». وكما ابتدع القواعد التي يتفق بها الفكر المستقل مع نفسه (على يدي أرسطو) راح يشغل نفسه بتحديد القواعد التي يمكن أن يتطابق بها الفكر والتعبير مع مثل ونماذج وقواعد خالصة من نزوات الأفراد وشكوكهم، وأن يوحدها في إطار مبدأ كلي عام عن كل تجربة، وعن كل فرد (كما حاول كانط في أخلاقه مثلا أو في مبادئ معرفته). - ودخول المثل إلى مجال الفكر يعد من أهم الأحداث التي تمت في تاريخ العقل البشري. هو حدث أوروبي بالأصالة، وضعف هذا المثل منذ عهد أفلاطون إلى اليوم يسير جنبا إلى جنب مع ضعف الفضائل الأوروبية المتميزة جيلا بعد جيل. - من الواضح أن «الخير» و«الجمال» قد أصبحا بدعة «مودة» قديمة، أما «الحق» فقد بينت الفوتوغرافيا (التصوير الشمسي) طبيعته وحدوده. أوشك تسجيل الظواهر تسجيلا أمينا ألا يحتاج للإنسان إلا في أضيق الحدود. - ومع ذلك فمن فضل هذه «المثل» الراسخة في ضمير الإنسان، أننا لا زلنا نتعلق بفكرة «العلم البحت» الذي ينتقل من حقائق جزئية إلى حقائق جزئية، محاولا أن يصل إلى المثل الأعلى للمعرفة الخالصة الموحدة المطلقة. وما زلنا - لحسن الحظ - على اقتناع بوجود قيم أخلاقية وجمالية ومعرفية مستقلة عن تغير الأزمان والأماكن والأجناس والأشخاص ، نقول لحسن الحظ على الرغم من كل جهود الوضعيين والماديين في طعن هذه المثل أو إخضاعها لنير «النسبي» و«المتغير» و«المشروط». - ومع هذا، فكل يوم يمر ينظر بعين الاتهام إلى أنقاض هذا البناء المعماري النبيل. ونكاد نشهد هذه الظاهرة العجيبة كل يوم، إن تطور العلوم نفسها يتجه إلى التقليل من فكرة المعرفة (كأنما تتحقق نبوءة إليوت الحزينة عن المعرفة التي ضاعت مع العلم، والكلمة التي ضيعتها الكلمات، والحكمة التي طمستها كثرة المعلومات ...) أي إن ذلك الجانب العلمي الذي كان يبدو أنه باق وخالد، وأنه يجمع بين منهج العلم وروح الفلسفة (الإيمان بالمعقول، والاعتقاد في القيمة الخالصة للعقل) قد تخلى عن مكانه بالتدريج لأسلوب جديد في تصور دور المعرفة وقيمتها. فلا يمكن الزعم بأن جهود العقل تتجه اليوم إلى ذلك الحد العقلي النهائي الذي نسميه «الحقيقة». يكفي أن نواجه أنفسنا بالصدق، ونسألها بأمانة لنحس في أنفسنا جميعا هذا الاقتناع الحديث بأن كل معرفة لا تقابلها القدرة والقوة المؤثرة لم تبق لها أية أهمية تذكر، اللهم إلا الأهمية التي يضفيها عليها التقليد أو التعسف. كل معرفة أوشكت أن تصبح «وصفة» لقوة يمكن تحقيقها. لهذا انفصلت كل ميتافيزيقا، وكل نظرية للمعرفة أيا كان نوعها انفصالا مؤلما عما يشعر الجميع - عن قصد أو غير قصد - بأنه المعرفة الوحيدة الحقة؛ أي المعرفة التي تتحول إلى قوة وذهب ... هكذا تفككت الأخلاق والجمال من تلقاء نفسها إلى الأوهام الضائعة التي ننسى معها روح الأخلاق والجمال. - هل ما زال في إمكاننا أن نتحدث عن «استطيقا»، عن علم «الجمال» ...؟ وهل من المعاصرين من يذكر هذه الكلمة؟ يبدو أنهم لا يذكرونها إلا باستخفاف عابر، كأنها قد أصبحت أثرا من آثار الماضي. الجمال نفسه أصبح أشبه بالميت. حلت محله الجدة، الطرافة، والغرابة، والحدة، والإثارة؛ أي كل قيم الأشياء التي تصدم وتفاجئ. الإثارة الفجة أصبحت لها السيطرة على النفوس الحديثة، والأعمال التي توصف اليوم ب «الجمال» أصبحت مهمتها أن تنتزعنا بعيدا عن حالة التأمل الهادئ والسعادة المطمئنة التي لم تكن تنفصل أبدا عن فكرة الجمال. لقد تغلغلت فيها أساليب النفس القلقة، ونفذت إليها صور الحس العابرة. يكفي أن تقرأ هذه الكلمات الجارية: اللاوعي، اللامعقول، اللحظي المباشر، وكلها كما تدل عليها أسماؤها ألوان من النفي لصور الفعل العقلي الثابت المستقر، ونماذج الفكر الخالص المحض. أصبح من النادر أن تجد إنتاجا يدل على رغبة في «الكمال»، كادت هذه الرغبة «المتخلفة»، الكامنة وراء الأعمال العظيمة التي خلدها تاريخ الفن والفكر والأدب أن تختفي أمام العطش الذي لا يروى، والفكرة المتسلطة عن «الأصالة»، وكأن الأصالة أصبحت لا تعني إلا «الإغراب» و«الشذوذ»، والخروج على قواعد العقل، وعلى بنائه النبيل وميزانه العدل. وكأن المرء لا يمكنه اليوم أن يكون «وضعيا» أو عمليا في حياته، أي لا يمكنه أن يكون «معاصرا»، إلا إذا سعى إلى التأثير المباشر المفاجئ، وتخلى عن كل «عمل جميل» بالمعنى العريق الخالد. ألسنا نشهد بهذا أفول شمس الخلق المبدع الأصيل لتحل محلها شهب الإثارة السريعة والتجديد بأي ثمن؟! - أصبح الطموح إلى الكمال مختلطا بالرغبة في أن يكون العمل الفني مستقلا عن كل عصر وزمان، لكن الحرص على الجديد يريد أن يجعل منها حدثا مهما يلفت الأنظار؛ لأنه ضد اللحظات نفسها. الأول يسلم بالموروث والمحاكاة والتقليد، بل يقتضيها؛ لأنها درجات السلم التي يتحتم عليه أن يصعد عليها ليصل إلى المطلق الذي يحلم به. والثاني يستبعدها جميعا، وإن كان في نفس الوقت يتضمنها بصورة أدق؛ لأنه ماهيته تكمن في «اختلافه» عن الموروث. - تعريف «الجمال» في عصرنا لا يمكن إذا أن يخرج عن كونه وثيقة تاريخية أو لغوية. هذه الكلمة الشهيرة - إذا أخذناها بمعناها العريق - ستلحق حتما ب «عملات» لفظية أخرى لم يعد أحد يستعملها. - ومع ذلك فهناك عديد من المشكلات التي لا يمكن أن تندرج تحت أي علم محدد، ولا أن تنشأ من أي صنعة (تكنيك) خاصة، مشكلات يبدو أن الفلاسفة جهلوها أو تجاهلوها، وإن كانت تظهر على الدوام، أو تعود إلى الظهور فيما ينتاب الفنانين من شك وقلق، وفيما يعبرون به عن أنفسهم تعبيرا غامضا أو غريبا.

لنفكر مثلا في مشكلات التأليف والبناء بوجه عام (أي في العلاقات القائمة بين أجزاء العمل الفني وبينها وبين الكل)، أو في المشكلات التي تنشأ عن تعدد وظائف كل عنصر من عناصر العمل، أو في مشكلات الصياغة التي تتصل في وقت واحد بعلوم الهندسة والفيزياء والمورفولوجيا (علم البنية)، ولا تثبت في واحد منها، بل تكشف عن القرابة بين صور توازن الأجسام والأشكال المتجانسة، ومحاسن الكائنات الحية، وأوجه النشاط الإنساني التي تصدر عن حالة الوعي أو اللاوعي، وتحاول أن «تغطي» المكان والزمان الحر، وكأنها تخضع لنوع من الخوف من الفراغ. - مثل هذه المشكلات لا تفرض نفسها على الفكر الخالص. إنها تنشأ وتستمد قوتها من غريزة الخلق، وحين ترتفع هذه الغريزة إلى ما وراء «التنفيذ اللحظي» المباشر. تلتمس من التأمل حلولا وتتخذ شكل التجريد أو شكل التفلسف لكي تثبت شكل الخلق الواقعي الحي وتقيم بناءه. ويبدو في هذه الحالة كأن الفنان يصعد على طريق الفيلسوف؛ لكي يصل إلى مبادئ تبرر أهدافه الفنية أو تدعمها أو تضفي عليها سلطة فوق السلطة الفردية، ولكنه سيظل مختلفا عن الفيلسوف؛ لأنه مهما صعد مع الأفكار المجردة، فإنما ليبحث عن نتائج خاصة بعمله الفني. وبينما يكون الكائن أو الموجود هو الحد الأقصى الذي يسعى إليه الفيلسوف الحق، والغاية التي ينتهي إليها من كل عملياته العقلية، يحيا الفنان، ويعمل في مجال الممكن، ويسعى لما سوف يكون. إنه حين يقدم على عمل ضخم، أو مركب جديد عليه هو نفسه، ويرى أن رسائله وتخطيطه لا تتحدد مباشرة على أساس التناسب المتبادل بينها، يحاول أن يبحث له عن نظرية عامة، وأن يلتمس في لغة الفكر المجرد سلطة يقيمها ضد نفسه تيسر له المضي في مشروعه، وتخلق له «شروطا» كلية عامة. يكفي أن يكون الإنسان قد عايش الفنانين ليعرف أن السلطة التي يلجأ إليها الفنان شيء، وسلطة الفلسفة نفسها شيء آخر. فربما كان الفارق الأساسي بين «الاستطيقا الفلسفية»، وبين تأملات الفنان هو أن الأولى تصدر عن تفكير يعتقد أنه غريب على الفنون، وأن ماهيته تختلف عن فكر الشاعر أو الموسيقى أو الرسام. إن أعمال الفن بالنسبة لها (أي للاستطيقا أو علم الجمال) حالات عارضة أو خاصة، آثار حساسية نشيطة تبحث بطريقة عشوائية عن مبدأ لا تمتلكه ولا تعرف إلا الفلسفة فكرته الخالصة. هذه الحساسية الفعالة لا تبدو للفيلسوف ضرورية؛ لأنه يرى أن موضوعها الأسمى ينبغي أن ينتمي للفكر الفلسفي، ويكون في متناوله مباشرة عن طريق الاهتمام بمعرفة المعرفة أو بنظام أو نسق للعالم المحسوس والمعقول. إن الفيلسوف لا يشعر بضرورتها الخالصة الفريدة. إنه يسيء فهم الوسائل المادية، وأساليب تنفيذ العمل وقيمه؛ لأنه يميل إلى تمييزها عن الفكرة. إنه لا يستطيع أن يفكر معه في تلك العلاقات الخفية الصميمة المتبادلة في داخل العمل الفني بين ما يريده الفنان وما يقدر عليه، بين ما يراه عرضيا وما يراه أساسيا، بين الشكل والعمل والصورة والمضمون والروح والوعي والتنفيذ. إن الفيلسوف يفتقر إلى الإحساس بهذا المقياس الخفي الذي يقيس به الفنان عناصره المتباينة في طبيعتها كما يفتقد الشعور الذي يملكه الفنان، أو بالأحرى يملك الفنان في كل لحظة من لحظات الخلق، وكل فعل من أفعاله بالتعاون والتآزر بين الإرادي والضروري، بين المتوقع والمفاجئ، الشعور بالجسم الذي يعالجه بمادته، برغباته، بحضوره بل بغيابه، وهو ما يسمح له بالاتصال بالطبيعة نفسها بوصفها المنبع الخصب الذي لا ينضب للموضوعات والنماذج والوسائل والأساليب. وكل هذا موضوع لا يمكن تبسيطه أو رده إلى فكرة مجردة بسيطة؛ لأنه يصدر عن نظام مستقل عنه، ولا يخضع للتحكم العقلي. إن مشكلات الفنان لا يمكن تلخيصها على نحو ما يلخص الفيلسوف «عالمه». والدليل على هذا أن تلخيص أي موضوع فكري، يمكن أن يحافظ على فكرته الجوهرية. أما تلخيص العمل الفني فيضيع جوهره. من هنا كانت تحليلات «الاستطيقي» للعمل الفني في نهاية الأمر وهما كبيرا. إنه يحاول - ويا للجهد الضائع في الشروح والتحليلات - أن يستخلص من العمل الفني بعض خصائصه الجمالية؛ لكي يرتفع إلى صيغة عامة عن الأشياء الجميلة. وتلخيص العمل في بعض الخصائص العامة يفقده قيمه العاطفية أو فضيلته الانفعالية. - لا يستطيع الفيلسوف أن يفهم بسهولة أن الفنان ينتقل بصورة تلقائية من الشكل إلى المضمون، ومن المضمون إلى الشكل، ولا يفهم أن الشكل يأتيه قبل المعنى الذي سيضفيه عليه، وأن فكرة الشكل مساوية عنده للفكرة التي تتطلب شكلا. - بكلمة واحدة: لو أمكن قيام «الاستطيقا» لاختفت الفنون من أمامها؛ أي اختفت أمام ماهيتها. - ترى كيف كان يبدو الحال لو أن الفلاسفة كانوا فنانين؟ أكان الفيلسوف الذي يصنع التمثال أو يبدع الصورة أو يخلق القصيدة أقدر على تذوق أسرار الإبداع الجمالي في النحت أو الرسم أو الشعر؟ - ربما كان الإنسان أقدر على تصور ما يبدعه بنفسه تصورا أفضل. - لقد قال لنا باسكال إنه لم يبدع فن الرسم. واعترف صراحة - وكل أفكاره وخواطره الخالدة اعترافات - بأنه لا يرى ضرورة في مضاعفة الأشياء التافهة العقيمة، وبذل العناء في إيجاد صور لها - ومع ذلك فكم كان هو نفسه فنانا كبيرا، وكم أجاد رسم اللوحات الناطقة عن كلماته - لكن يبدو أنه وصل في النهاية إلى طرح كل شيء في سلة التفاهة، واعتبار كل شيء - ما عدا الموت - من قبيل الرسوم الوهمية. - من أسهل الأمور أن يثبت الإنسان - بالتأمل البحت - أن كل شيء عبث وباطل. هذا نوع من البلاغة الرخيصة التي استطاع باسكال أن يكشف عنها النقاب. وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على مزاج مريض، أو عيب فسيولوجي، أو محاولة للتأثير على العقول من أيسر الطرق.

ما أسهل أن يثير الكاتب في قرائه الرعب من الحياة والتقزز من الوجود، أن يصور لهم تفاهتها وعبثها وبؤسها وحمقها. ما أسهل أن يثير فيهم النزعات الشبقية أو الشهوات الحسية . يكفي أن يغير الكلمات، يكفي أن يجيد اللعب بها. غير أن عدم الانخداع بالكلمات فن. إنه نوع من الشعر المحض.

لنتأمل أمر الفلاسفة قليلا، ماذا فعل رجل مثل كانط عندما أسس أخلاقه واستطيقاه على أسطورة الكلي العام، على التسليم بوجود عالم ضروري مشترك موجود بالقوة في كل نفس تأتي إلى هذا العالم ؟ وماذا فعل كل فلاسفة الخير والجمال؟ أليسوا كذلك فنانين من طراز خاص؟ أليسوا مبدعين جهلوا أنفسهم؟ ألم يعتقدوا أنهم استبدلوا بالفكرة السطحية الفجة عن الواقع فكرة أكمل وأدق؟ ماذا فعلوا بتحليلاتهم العميقة، وتفريقاتهم الدقيقة، بشوقهم الدفين إلى حالة معينة، وحبهم العميق لما يمكن أن يكون وما ينبغي أن يكون، ألم يكونوا خالقين مبدعين؟ ألم يكونوا فنانين على طريقتهم عندما أضافوا مشكلات إلى مشكلات، وموجودات إلى موجودات، ورموزا إلى رموز، وصورا إلى صور، فأثروا كنز العقل وتركيباته الحرة بثروة جديدة؟ - لقد دخل الفيلسوف منذ الأزل في معركة ل «احتواء» الفنان واستغراقه، ول «تفسير» ما يحسه الفنان وما يعمله، لكن النتيجة كانت عكس ما أراد. فالفلسفة لم تسطع أن تتمثل كل مجال الحساسية المبدعة، أو تدرج كل أسرار النشاط المبدع تحت فكرة الجميل. إنها لم تستطع أن تفسره أو تفهم «أعماقه»، فراحت تفتش عن بنائه وتركيبه، عن الحرية الكامنة في شعره المجرد، عن المبادئ والمسلمات الخفية أو المعلنة التي يقوم عليها، عن العناصر التي تتألف منها لغته أو منطقه أو روحه؛ أي راحت تفتش عن أطلال ميتافيزيقية دارسة. - هل يمكننا - بوصفنا فنانين - أن نجرب التفكير في مشكلات لم يبحثها حتى الآن إلا «الباحثون عن الحقيقة»؟ هل يمكن أن نغير العادة المألوفة منذ قرون وقرون، فنتأمل أفكار الفلاسفة، وكأنها أكاذيب جميلة وأوهام مجردة وخيالات وأحلام مجسدة؟ لنصور هذا بمثل من تاريخ النحت القديم. كان الناس في وقت من الأوقات لا ينظرون فحسب إلى تمثال إنسان أو حيوان على أنه شبيه بالإنسان أو الحيوان الحي، بل كانوا يتصورون أنه يملك قوى روحية خارقة تفوق القوى الطبيعية. كانوا يصنعون من الحجر أو الخشب آلهة لا تشبه البشر في شيء. وكانوا يقدمون الطعام والقرابين لهذه «الأصنام»، ويقدسون هذه «الصور» التي لم تكن «صورا» إلا من بعيد جدا. والعجيب أنهم كانوا يزدادون عبادة وتقديسا لها كلما ازدادت بعدا عن الشكل أو الصورة (وهو شيء تلاحظه في علاقة الأطفال بعرائسهم أو المحبين بمحبوباتهم؛ إذ يبدو أننا نعتقد أننا لا نتلقى الحياة من شيء إلا بقدر ما نسخو في إعطائها له). ثم ضعفت هذه الحياة التي كان يضفيها «المخلوق» على «خالقه» الوهمي بالتدريج، ورفض أن يعبد الصورة الفجة أو التمثال الغليظ، وتحول معبوده إلى «صنم جميل»، وفقد هذا الصنم - تحت ضغط النقد - تأثيره الخيالي على الأحداث والكائنات، وصار له تأثير واقعي على من ينظر إليه أو «يتذوقه». وصار التمثال حرا، أصبح هو نفسه. - هل يمكننا - بغير أن نصدم العاطفية الفلسفية صدمة قاسية - أن نشبه كل هذه الحقائق العريقة المعبودة - هذه المبادئ والمثل، والماهيات والمقولات والحقائق في ذاتها، هذا الوجود وهذا العالم، هذا الحشد الهائل من التصورات والأفكار التي كانت تبدو أهميتها لكل عصر وجيل - هل يمكن أن نشبهها بالأصنام التي تحدثنا عنها الآن؟ - أجل! إن كل تجريدات الفلسفة التقليدية تبدو أعمال بدائيين. إن أفكارها ومشكلاتها التي تعبر عنها تنطوي - إن جاز هذا القول - على نوع من السذاجة البالغة، وفكرة الواقع والسببية تبدو بوجه خاص من أشد الأفكار غلظة وأكثرها فجاجة، أليس تقديم الأفكار المجردة بغير تعريف دقيق لها نوعا من الخلط بين هذا الفعل الشعري الخالص وبين لغة تقنية (فنية) تحاول إخضاعه لها؟ - ربما يسأل اليوم سائل: ما هي الفلسفة التي يمكن أن تكون بالقياس للفلسفة القديمة مثل تماثيل القرن الخامس بالقياس إلى أصنام الآلهة المجهولين في القرون السحيقة المجهولة؟ - ربما بدت التركيبات المجردة والتأليفات الفكرية القديمة أكثر إنسانية وإغراء وخصوبة من كثير من المذاهب والأنظمة الحديثة القائمة على أوهام التفسير والتحليل والنقد المحكم الدقيق. وربما استطاع عقل حديث بروح جديدة وطموح مختلف أن يواصل العمل السامي الذي قامت به الميتافيزيقا القديمة، بعد أن يوجهها إلى الغايات التي أضعفها النقد إضعافا شديدا. - لقد استطاعت الرياضة منذ القدم أن تستقل بنفسها عن كل غاية غريبة عنها، وأن تجد تصورها الصحيح عن طريق التطور الخالص لأسلوبها والوعي بقيمة هذا التطور، والكل يعلم كيف أدت بها حريتها إلى إكسابها مرونة خارقة، وجعلها سلاحا يستعين به عالم الطبيعة. - فن مؤلف من الأفكار، فن نظام الأفكار أو فنون أنظمتها المختلفة، أهذا تصور عقيم؟ إن البناء المعماري ليس مجرد واقع، والموسيقى ليست مجرد أصوات. هناك عاطفة أو شعور بالأفكار يبدو أن من الممكن تربيته في النفس كما يربي الشعور باللون أو الصوت، بل إن الفيلسوف - إن جاز لنا أن نقدم تعريفا له - يتميز بتفوق هذا الشعور أو هذه الحساسية وسيطرتها على كيانه. - إن الإنسان يولد فيلسوفا كما يولد نحاتا أو موسيقيا. هذه الموهبة الفطرية إذا تعهدها صاحبها، وأخذ يستعين بها في تقصي حقيقة أو واقع معين يمكن أن تثق بنفسها فتخلق وتبدع أكثر مما تبحث وتتقصى. هناك يستطيع الفيلسوف أن يستخدم طاقاته بحرية كاملة، وأن يستغل ملكته الطبيعية في أساليب وصور لا حصر لها. هنالك يصبح ذلك الفيلسوف الحق الذي «يرى» المجرد رأي العين، ويبعث الحياة والحركة في الأفكار والمعاني الخالصة. - لهذا فإن تعليم الفلسفة يصبح أعدى أعداء الفلسفة إن لم يعلم الطالب حرية العقل المطلقة، لا بإزاء المذاهب فحسب، بل إزاء المشكلات نفسها. لا بد لهذا التعليم أن يخلق عند المبتدئ شهوة التفلسف. - وهذا هو الذي يسمح بإنقاذ الحقائق في ذاتها (أو النومين بتعبير كانط). إذا استطعنا أن نحس التجانس الداخلي القائم بينها.

يظهر أن الأعمال الفلسفية تؤدي عند المهتمين بها نفس الدور، وتترك نفس الأثر الذي تتركه الأعمال الفنية في نفوس المتذوقين لها، والمهتمين بها. هناك عشاق لديكارت واسبينوزا وليبنتز وكانط كما أن هناك عشاقا لباخ وبيتهوفن وموزارت. وهناك أمثلة للتقارب بين الجانبين. خذ مثلا فاجنر ونيتشه. - هل تريد دليلا ناصعا على ما سقناه الآن على سبيل الظن والترجيح؟ فكر في المصير الذي انتهت إليه مذاهب كبار الفلاسفة. بأية عين نطلع اليوم على هذه النفائس التي تضم بين دفتيها نظاما لن يتحقق؟ هل نلتمس فيها شيئا غير المتعة العقلية الخالصة؟ أنمارس فيها حرية غير حرية العقل في أسمى ألعابه؟ أينتظر أحد منها شيئا غير هذا؟ أيتصور أحد منا إمكان تحقيق جمهورية أفلاطون في الواقع أو إمكان بلوغ الروح المطلق أو الحقيقة الكاملة؟ ألسنا ندخل إلى المذاهب القديمة كما ندخل في معبد جليل، ونتقدم منها كما نتقدم من أثر عريق؟ هل ننتظر منها إلا متعة اللعب الجميل؟ هل نقبل عليها لغير هذه اللذة المؤلمة؟ أصحيح أنه لن يبقى شيء من أفلاطون أو اسبينوزا إذا رفضهما العقل؟ وهل كانا يطمعان في أكثر من هذا؟ - هناك أفراد ممتازون كانوا بعيدين عن الفلسفة. ومع ذلك فقد كانت لديهم كل مزايا التفكير المجرد، وكل دقائقه وأعماقه. لقد استطاعوا أن «يصوروا» تفكيرهم المجرد، أن يطبقوه في أشكال واقعية ويثبتوه ببراهين حسية. (كان لديهم هذا العلم الدفين بالعلاقات المستمرة بين «الإرادي» و«الضروري»). - ليوناردو دافنشي هو نموذج هؤلاء الأفراد الممتازين. - أغرب شيء أن يستبعد من لوحة الفلاسفة الذين يعترف التراث بهم. لا شك أن السبب في هذا يرجع إلى أنه لم يكتب نصوصا فلسفية بالمعنى الشكلي لهذه الكلمة. إن ملاحظاته ومذكراته ومخطوطاته التي تركها وراءه تذهلنا بتنوع الموضوعات والمشكلات التي اهتم بها. لكأنما أخذ على عاتقه أن يطيع جميع ربات الفن والفكر ويكون رهن إشارتهن! - إذا كان الفيلسوف هو الذي يبني نظاما مرتبا من الأفكار ويضمن بذلك لنفسه مكانا في تاريخ الفلسفة (وهو تاريخ يعتمد على الاصطلاح أو الاتفاق، وهذا الاتفاق يستند بدوره إلى تعريف تعسفي للفلسفة والفيلسوف)، وإذا كان من الصعب أن نلخص أفكاره أو نرتب مشكلاته، بحيث نقارن مذهبه بغيره من المذاهب، فلا بد أن نستبعد ليوناردو دافنشي من قائمة الفلاسفة. - بيد أنه يتميز عن الفلاسفة، ويقارن بهم في نفس الوقت لأسباب أخرى أهم.

فإذا كان هدف الفيلسوف هو التعبير عن تأملاته بالقول، وإذا كان كل همه ينحصر في تكوين معرفة يمكن نقلها عن طريق اللغة ، فلا يمكن أن يكون ليوناردو فيلسوفا بهذا المعنى الضيق. - فاللغة ليست كل شيء بالنسبة إليه، والمعرفة ليست في نظره كل شيء، بل ربما لم تكن عنده سوى وسيلة. إنه يرسم ويحسب ويبني ويزين ويستخدم جميع الوسائل المادية التي تستطلع الأفكار، وتكشف عنها في نفس الوقت، ويتيح لها أن تثبت على الأشياء وتصطدم بها، وتخلق لها المصاعب الغريبة التي تقاومها في وجهها وتضعها في عالم آخر لا يمكن أن تحيط به معرفة أولية أو يتنبأ به جهد عقلي مسبق. - إن المعرفة لا تشع هذه الطبيعة المعجزة، بل هذه الطبائع المتنوعة. القدرة هي هم صاحبها وطموحه ومجاله. وهو لا يفصل «الفهم» عن «الخلق»، ولا النظر عن العمل، ولا التأمل عن القوى الحية التي تنمو في الخارج، ولا الحق عن المتحقق بكل صوره وأشكاله التي يتجسد فيها من آلات وأعمال وإنشاءات. - هنا كان ليوناردو هو «الجد» الأصيل للعلم الحديث والمعاصر. فأهم ما يميز العلم ويحدد ماهيته أنه «مجموع العمليات والوصفات التي تنجح باستمرار»، وأنه يتقدم على الدوام وفي يده لوحة من «التطابقات» بين أفعالنا وبين الظواهر، وهي لوحة تزداد بالتدريج دقة واقتصادا وإحكاما. العلم بمعناه الحديث يخضع «المعرفة» للقدرة (وهو بهذا يسير في الطريق الذي رسمه بعد ذلك فرانسيس بيكون، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا أرجعناه إلى أول يوناني فكر تفكيرا نظريا مجردا، وصاغ فكره في هذا السؤال: ما الموجود؟) وهو يصل في هذا إلى حد أن يجعل المعقول تابعا للتحقق، أو لما يقبل التحقيق ويحتمله. (وهذه العبارة تلخص مذاهب الواقعيين في الحقيقة سواء أكانوا وضعيين أو براجماتيين أو تحليليين ... إلخ) إن إيمان العلم وثقته يستندان على التأكد من القدرة على استعادة ظاهرة معينة أو تكرارها على أساس أفعال معينة ومحددة. إن قضاياه صيغ أفعال. ومعيار القيمة لديه هو «عدم الخطأ» في التنبؤ. وكل ما عدا ذلك من نظريات وتفسير للظواهر ووصف لها أمر يمكن الخلاف حوله، هو شيء من الأدب مجرد وسائل وأدوات.

ناپیژندل شوی مخ