شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
ژانرونه
لا بد إذا من إخراج هذه الأعماق الدفينة إلى نور الشمس. فهي نفسها الأخطاء العريقة التي شكلت وعي الأجداد، وعلى الأحفاد أو أحفاد الأجداد أن يتمثلوها ويجعلوها جزءا لا يتجزأ من كيانهم. وليست هذه الأعماق أو الأخطاء إلا غريزة القطيع الذي يتحتم على القلة أن تخطو فوق جثته لتستقبل القادم المنتظر، وتتبعه إلى شواطئ عالم جديد.
ولكن من الذي يشعر بالمحنة ويرى الجثث والأنقاض في كل مكان؟ من الذي أحس بليل العدم المطبق على الغرب، فراح يوجه شراع سفينته نحو شاطئ بعيد وشرق جديد؟ هم القلة التي اختارت ألم الروح والجسد، وجربت جرح العصر الذي سيولد منه فجر الإنسان الموعود: «نحن الجدد الذين لا أسماء لهم، والذين يصعب فهمهم، نحن المواليد المبكرون لمستقبل لم يتأكد بعد - إننا بحاجة من أجل الهدف الجديد إلى وسيلة جديدة، أعني إلى صحة جديدة، أكثر قوة وذكاء وعنادا وبسالة ومرحا من كل ما عرف الناس حتى اليوم - من تعطش إلى هذه الصحة العظيمة، وجرب كل ما كان يعد ذا قيمة حتى الآن، وطاف بسفينته على شواطئ هذا «البحر المتوسط» المثالي، من دفعته مغامرات تجربته إلى الإحساس بمشاعر الفاتح ومكتشف المثل الأعلى فضلا عن الفنان والقديس والمشرع والحكيم والعالم والمتنبئ والعابد المتنسك من الطراز القديم، من فعل هذا فهو في أشد الحاجة إلى الصحة العظيمة ... تلك التي لا يملكها المرء فحسب، بل يكتسبها ولا بد له أن يكتسبها على الدوام؛ لأنه سيضحي بها، ولا بد أن يضحي بها بصفة مستمرة ...»
لماذا يحتاج هؤلاء الجدد إلى الصحة العظيمة أو الشجاعة الخارقة؟ لأنهم يواجهون - كما رأينا - عالما فظيعا من الحطام والأنقاض، ويرون مجتمعا دينيا اهتز وزلزل فيه الإيمان من أساسه، وانهارت فيه الكنيسة حتى أصبحت قبرا ل «الإله الميت» و«موت الإله» هي الصيحة المرعبة التي أطلقها المتنبئ بالإنسان الأعلى في نهاية القرن التاسع عشر، والحدث الأكبر الذي راح يدق له الأجراس، وهو يردد كلمته المخيفة المتناقضة إلى أبعد حدود التناقض. وليس أدل على هذا التناقض من تضارب أسلوبه في التعبير عن هول هذا الحدث. فهو مرة شاعر يرسم صور الانهيار والظلام والدمار والكسوف. ومرة أخرى نبي أو متنبئ يعلن بصوته الغامض المتهدج عن إشراقة عصر جديد تفقد فيه كل المعايير والقيم التقليدية قيمتها، ويبشر بضياء غريب يشع بالسعادة والطمأنينة والمرح والشجاعة. ومرة ثالثة متشكك في قدرة أغلبية الناس على استيعاب مغزى الحدث الضخم وتقدير نتائجه الرهيبة. وهو في كل الأحوال مضطرب الوجدان، مثقل بالشعور بالذنب، فلم يعد الأمر يقتصر على تغير الوعي الفردي، بل أصبح مسألة تحول في وعي البشرية كلها، وزلزلة تقتلع التراث الأفلاطوني-المسيحي من جذوره العتيقة، وانتظار للخلاص على يد جيل من الأبطال المبدعين يقهر ليل العدمية، ويتجاوز إنسان العصر العفن، ويحقق معنى الأرض والحضارة والوجود.
لتستمع إليه في هذا النص الذي يهلل فيه بالفجر الجديد: «إننا نحن الفلاسفة وأحرار الروح نشعر عند سماع نبأ موت الإله العجوز بأن فجرا جديدا يشع علينا نوره، وأن قلوبنا تفيض بالعرفان والدهشة والرجاء والتوقع، أخيرا يبدو لنا الأفق حرا من جديد، وأخيرا تعاود سفننا الانطلاق لتواجه كل الأخطار، ويتغلب العارف على تردده ويقدم على المغامرة، ويمتد البحر - بحرنا - وينفتح أمامنا، ونحس أن هذا البحر المفتوح لم يوجد أبدا قبلنا.»
ثم لنقرأ هذا النص المشهور عن المجنون الذي راح يلقي على أبناء جيله مسئولية الحدث الهائل المهول، ويحملهم ويحمل نفسه ذنب الجريمة التي لم يسبق لها نظير: «هل سمعتم عن ذلك المجنون الذي أشعل مصباحا في الضحى، ومشى في السوق وهو يصرخ صراخا لا ينقطع: إني أبحث عن الإله! أبحث عن الإله! وتجمع حوله عدد كبير من الكافرين الذين راحوا يهزءون به، ويتعجبون منه، وهم يتصايحون ويتضاحكون: هل تاه هذا الرجل كما يتوه الأطفال؟ أم كان مهاجرا ثم عاد؟ وقفز المجنون وسط الجمع الغفير، وراح يسلط عليهم نظراته الثاقبة، وهو يهتف قائلا: أين ذهب الإله؟ أنا أتولى الجواب عنكم: لقد قتلناه أنتم وأنا. نحن جميعا قتلته! لكن كيف فعلنا هذا؟ كيف استطعنا أن نعب البحر؟ ماذا فعلنا لكي نفصل هذه الأرض عن شمسها؟ وإلى أين تتحرك الآن؟ إلى أين تتحرك؟ بعيدا عن كل الشموس؟ ألا نتخبط باستمرار في كل اتجاه؟ هل بقي هناك ما هو أعلى وما هو أسفل؟ ألا نضل فيما يشبه العدم؟ ألا يلفح الفراغ وجوهنا؟ ألم تزدد البرودة، ويجن علينا الليل والمزيد من الليل؟ مات الإله، ونحن الذين قتلناه. فكيف نعزي أنفسنا ونحن أعتى القتلة؟ أقدس ما ملكت البشرية وأقواه قد سقط تحت سكاكيننا مضرجا في دمائه، فمن يمسح عنا هذا الدم؟ أين الماء الذي يطهرنا؟ أليست عظمة هذا الفعل أعظم منا؟ ألا يتحتم أن نصبح نحن آلهة كي نكون جديرين به - لا لم يوجد أبدا فعل أعظم من هذا الفعل - وكل من سيولد بعدنا سيدخل بسببه في تاريخ أسمى من كل تاريخ عرفه الإنسان!»
كابوس غريب يدور في ذهن مجنون حالم يتجول في نومه ينتهي بأن يصمت ويتبادل من حوله نظرات الذهول، ويلقي بمصباحه على الأرض فيتحطم وينطفئ! لقد جاء قبل الأوان، كما يقول على لسان الشاعر الفيلسوف الذي صوره، وهذا الأخير يقول كذلك عن نفسه إنه «آخر العدميين»، والطائر الذي يسبق العاصفة، وهو - مثل غيره من رواد القرن القادم - ينتظر فوق الجبال، في قلب التناقض بين اليوم والغد، ويلمح الظلال الزاحفة التي توشك أن تلتف على أوروبا، إنه كما تقول العبارة الأخيرة من النص السابق ينتظر تاريخا أسمى من كل تاريخ سابق، ويعقد الأمل على إنسان أعلى من كل إنسان حاضر.
كيف نفسر هذه الكلمات الفظيعة والرؤى المضطربة؟ كيف نفهمها كالألغاز التي تستعصي على الأفهام؟ هل نلهث وراء التأويلات التي لا حصر لها لتلك الرؤيا المختلطة عن «موت الإله»، فنقول مع البعض إنها تعبير عن انهيار التراث الغربي، وتداعي الميتافيزيقا والأخلاق والأفلاطونية-المسيحية؟ أم نقول إنها محاولة لتأسيس ديانة جديدة تؤله الأرض والإنسان وإرادة الحياة؟ أم نقول على العكس من ذلك إنها محاولة يائسة من مسيحي صادق الإيمان في عصر فقد فيه المؤمنون إيمانهم كما فقد الإيمان الحقيقي من يؤمنون به؟ أم تراها في النهاية هي الصورة الميتافيزيقية-الشعرية التي تعكس مذهب التطور الطبيعي عند داروين وترتفع به؟
كثيرة هي التفسيرات التي قدمت ولا تزال تقدم لهذه الكلمة المخيفة التي تعد مفتاحا أساسيا لتفكير هذا الفيلسوف ذي المائة باب! وأكثر منها اللعنات أو البركات التي ما لبثت تنزل على رأسه الذي تعذب وجن واحترق في أتون أفكاره الغامضة الغاضبة. والذي يهمنا الآن أن كلمته المخيفة المتناقضة التي أعلنها في «العلم المرح»، ثم صرخ بها في زرادشت قد تمخضت عنها كلمات وأفكار أخرى لا تقل عنها تناقضا وإلغازا. ولسنا نريد أن ندخل في متاهة التأويلات المختلفة للإنسان الأعلى وإرادة القوة وعودة الشبيه الأبدية. فالواضح مما سبق أن الشاعر المفكر - الذي يقف على مفترق الطرق أو على قمة الجبل بين اليوم والغد - يتوجه ببصره إلى المستقبل، وينتظر «النموذج الأصلي» الذي يجسد أحلام اللاوعي الجمعي لبشرية نضجت للموت وللبعث الجديد. هذا النموذج المنتظر هو التجسيد الحي «للتجلي الديونيزي» الذي أشرق بنوره وإلهامه عليه والديونيزي نسبة للإله الإغريقي الأسطوري «ديونيزيوس»، الذي تتمثل فيه مأساة الوجود وبهجته، وعذابه ونشوته، ودورته الأزلية الأبدية بين البداية والنهاية، إنه الإنسان الأعلى الذي «يصعد إلى الأعماق» من أجل أولئك الذين يريد أن يهديهم بسخاء، كشمس الغروب التي تغوص في الأفق، بينما تغرق العالم نورها الذهبي. هو «معنى الأرض» التي ينبغي على الإنسان أن يمحضها الحب والولاء، يعلنه المعلم والنبي الملهم زرادشت الذي تجسدت فيه إرادة القوة والعلو على الإنسان: «إنني أعلمكم الإنسان الأعلى. فالإنسان شيء ينبغي تجاوزه. ماذا فعلتم لكي تتجاوزوه؟ كل الكائنات السابقة قد أبدعت شيئا تخطاها، أتريدون أن تكونوا جزر هذا المد العظيم، وتؤثروا النكوص إلى الحيوان على تخطي الإنسان؟»
ما القرد بالقياس إلى الإنسان؟ سخرية مضحكة أو شيء مخجل أليم. وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان بالقياس إلى الإنسان الأعلى سخرية مضحكة أو شيئا مخجلا أليما. لقد قطعتم الطريق من الدودة إلى الإنسان، ولا يزال فيكم من الدودة شيء كثير. كنتم قرودا في يوم من الأيام، ولا يزال الإنسان إلى اليوم قردا أكثر من أي قرد.
انظروا، إنني أعلمكم الإنسان الأعلى! والإنسان الأعلى هو معنى الأرض! فلتقل إرادتكم: ليكن الإنسان الأعلى معنى الأرض، أستحلفكم يا إخوتي أن تتعهدوا بالوفاء للأرض، وألا تصدقوا أولئك الذين يكلمونكم عن آمال علوية. خالطوا السموم هم سواء عرفوا أم لم يعرفوا. محتقرون للحياة هم، منقرضون وهم أنفسهم مسمومون، تعبت من حملهم الأرض، فليذهبوا عنها!
ناپیژندل شوی مخ