شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
ژانرونه
أم يأخذ بأيدينا على طريق «التفرد»، الذي وصفه «يونج» متأثرا به بغير شك؟ المهم أنه دعانا إلى ضرورة العلو إلى وجودنا الذاتي والارتفاع فوق أمواج الأنا اليومية التي تغرقنا صباح مساء، كما نبهنا إلى أولئك الذين يمكنهم أن يأخذوا بأيدينا على هذا الطريق الحتمي، أولئك الذين ارتفعت إليهم الطبيعة نفسها في نهاية صيرورتها نحو ذاتها المتحضرة المبدعة.
من هم؟ إنهم الفيلسوف والفنان والقديس. هم الأفراد العظام الذين أبدعتهم البشرية بعد عناء طويل، هم نماذج من «الإنسان الأعلى» قبل أن يرفع الفيلسوف صوته بالدعوة إليه في «هكذا تكلم زرادشت». ليسوا مجرد حالات استثنائية، بل هم نماذج تخلقها الحياة وتحقق فيها معنى وجود الإنسان، وتصوغ معها التفكير والشعور والإرادة على صورة جديدة. فالفيلسوف يجسد تعميق الوعي، والفنان يشكل الوجود الجديد، والقديس ينجز التحول. كلهم كامن بالقوة فينا، وكلهم أقرب إلينا مما نتصور، ومن يدري؟ لعل نيتشه بإلهامه العظيم قد استبق الاهتمام العلمي الحديث بأسرار الإبداع، دون أن يستطيع بطبيعة الحال أن يكون «عالم نفس» يحدد قوانينه وظروفه المواتية والانحرافات المرضية التي تعوقه ... لقد أسند هذه المهمة إلى الطبيعة التي تحتاج إلى الفيلسوف لكي يعرفها بنفسها، وتتمثل في صوره الخالصة ما لم تستطيع أن تراه بوضوح خلال صيرورتها القلقة، كما تحتاج إلى الفنان لكي يفصح عما عجزت عن الإفصاح عنه، ثم تحتاج إلى القديس ليحول الأنا اليومية من إحساسها الفردي إلى الشعور العميق بوحدتها مع كل ما هو حي؛ ليبلغ بمعجزة التحول إلى الغاية الأخيرة من لعبة الصيرورة، ألا وهي تحقيق الإنسان المبدع الذي تندفع إليه الطبيعة ليخلصها من نفسها.
ب
هل بدأ نيتشه نفسه يخطو على الطريق الصعب نحو ذاته الحقيقية؟ إذا كانت النصوص التي استوحيناها على الصفحات السابقة من كتابه «تأملات لغير زمانها» تشهد على عثوره على علامات هذا الطريق، وتبين بأسلوبها الخطابي والتعليمي أنه عقد العزم على تربية نفسه بنفسه، وخوض مشقة الكفاح على الدرب المفضي إلى ذاته، فإن كتابه التالي (إنساني إنساني جدا، الذي بدأه سنة 1876م وأتمه سنة 1878م) يسجل - كما يقول - في كل حكمة منه، بل في كل عبارة انتصارا حققه على طريق العذاب نحو الذات، بعد أن راح ينفض عنه كل ما هو غير أصيل وغير حقيقي. صحيح أنه لم يبلغ بعد مرحلة الإلهام المتدفق الذي سيفاجئه عند كتابة «هكذا تكلم زرادشت» (بين سنتي 1883 و1885م)، ولكنه قد شرع خلال الفترة التي قضاها في تدوين هذا الكتاب في التخلص من كثير من أعبائه وأغلاله، فقاطع صديقه القديم فاجنر قطعية نهاية «1878م»، وقدم استقالته من عمله المرهق البغيض كأستاذ للغات الكلاسيكية في جامعة بازل «1879م»، وراح يتابع رحلاته المضنية وجولاته الوحيدة على جبال الألب في إيطاليا وسيلز ماريا، ويقاسي الآلام التي لا تطاق من مرض عصبي وراثي أوشك أن يحطم رأسه، ويعمي عينيه قبل أن ينهار في «تورين»، وتبدأ كارثة جنونه في يناير 1889م. لا عجب بعد هذا أن نجد في هذا الكتاب كيف بدأت الأزمة، وبدأ معها الطريق إلى الذات الحرة المبدعة التي راحت تنضج شيئا فشيئا على نار الألم والوحدة، وتفوح إلى حد النشوة بشرارات الإلهام المنطلقة من قبس أو نبع مقدس كان يخشى عليه أن يخمد أو يغيض.
14 •••
النفس سر مغلق، هي عالم كامل من الأحوال الباطنة، و«الخبير بالنفوس» يلاحظها، ويحاول أن يسبر أغوارها كما يحاول أن يرتفع فوقها، ويرقى إلى «ذاتها» الحقة، ماذا هو صانع مع الاختيار العسير بين الطريق الهابط والطريق الصاعد؟ أيشفق على نفسه من الأول، وهو الذي تعذب على أشواكه وفي متاهاته كما لم يتعذب غيره؟ أم يشفق عليها من الثاني، وهو الذي طالما اجتاز الشعاب الوعرة، وتجول وحيدا فوق القمم؟ أم أن الطريق الهابط والطريق الصاعد طريق واحد في الحقيقة كما قال حبيبه ونظيره الإغريقي هيراقليطس؟!
النفس سر، والسر مفهوم ديني كان له شأن كبير من الحضارات القديمة. فقد حدد الناس أماكن مقدسة لا تطؤها إلا أقدام السالكين، وأحاطوها بأسوار التحريم الإلهي الذي كان يحظر على غيرهم دخولها، ويبث في صدورهم الرعدة والقلق إذا اقتربوا منها. وما لبث هذا التحريم أن انتقل إلى علاقات أخرى (كالعلاقات الجنسية التي ظلت وقفا على الكبار الناضجين وحراما على صغار السن الذين صور لهم أولئك الكبار أن الآلهة نفسها تقدسها وتحميها وتسهر في مخدع الزوجية على حراستها، وكذلك علاقات الملكية التي حددت أملاكها منذ البداية، ووضعت حولها الأسوار، وأحاطتها بهالة إلهية من القوة والسر، وقل الشيء نفسه عن مقر الحاكم أو الملك وعرشه وقصره وأعماله وكلماته ... إلخ) كل هذه كانت حرمات محرمة على الرعايا والأتباع دون السالكين. ولا زالت لها آثارها ورواسبها الباقية عند شعوب عديدة إن لم يكن عند كل الشعوب. وظلت النفس كذلك سرا محرما على غير الحكماء والعالمين ببواطن النفوس، سرا اعتقد الناس دهورا طويلة أنه من أصل إلهي ولا يليق بأحد غير الآلهة أن يتصل به، حرما مقدسا يثير في الناس مشاعر الرهبة والحيرة والحياء.
15
ولهذا بقي الإنسان حتى اليوم محصنا من نفسه أمام كل محاولة منه لمحاصرة نفسه، واستطلاع أسرارها، فهو في العادة لا يدرك منها أكثر مما يدرك من أعماله الخارجية: «إن الحصن الذي تعتصم به نفسه موصد الأبواب في وجهه، خفي ومختف عن بصره، اللهم إلا إذا تطوع الأصدقاء والأعداء بالقيام بدور الجواسيس لكي يرشدوه للطرق الخفية التي توصله إلى نفسه.»
ما الذي جعله ينشط هذا النشاط كله لتحصين نفسه من نفسه؟ المسئول عن هذا هو نشاطه نفسه! فهو يستغرقه، فيحكم حوله أغلال التعود، ويصنع قضبان سجنه دون أن يدري، ويزداد فعله ونشاطه، فتزيد عبوديته وسخرته. إنه الموظف النشط، والتاجر الذي لا يتوقف عن العمل، والعالم الذي لا يكل من البحث، هم أفراد النوع العامل كالنمل أو النحل، لكنهم ليسوا بالأفراد المتفردين من بني الإنسان (فهم من هذه الناحية كسالى!) من سوء حظ هؤلاء «الفعالين» أن فعلهم غير عقلي أو لا نصيب للعقل فيه. وتخطئ لو سألت أحد رجال المال والأعمال والبنوك من الذين لا يكفون عن جمع المال عن الهدف من فعلهم؛ لأنه خال من العقل، ولأنهم وأمثالهم يدورون كما يدور الحجر حسب «غباء الميكانيكا»، وليتهم يعرفون أن القليل من التفكير والإخلاد إلى السكينة يمكن أن يشفي جميع أمراض النفس، وأنهم لو عقدوا النية على استخدام هذا الدواء لاكتشفوا فائدته، وليت الأمر كان مقصورا على هؤلاء الفعالين بلا كلل ولا ملل. إنه طابع الحضارة الحديثة التي تحولت إلى حضارة الفعل والحركة والقلق، حتى لقد أوشكت الفصول نفسها أن تتدافع وتهرول آخذة بخناق بعضها. وتزداد هذه الحركة فيزداد معها القلق، وتتحول حضارتنا أو مدينتنا إلى بربرية جديدة. فلم يحدث أن طغت قيمة الفعل والحركة والنشاط كما طغت على هذا العصر. والنتيجة أن يفتقد الهدوء الضروري للتأمل، وأن تضيع في طاحونة الفعل العقيم قيمة فعل أسمى منه، ونعني به الفعل المتفرد الذي يهبط بنا إلى منابعنا المتفردة، أو يعلو بنا إلى ذواتنا الأرقى (والأمر هنا هو أمر مفارقة لا بد منه: هبوط إلى الأعلى، وعلو إلى الأدنى).
ناپیژندل شوی مخ