شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
ژانرونه
كيف يتسنى له أن يجدها؟ هل يحفر في نفسه ويهبط إلى أغوارها مع ما في ذلك التغلغل في الأعماق من خطر وعذاب؟ إن نيتشه لا ينصح بذلك، لا لأنه يقلل من شأن الأعماق التي غاص فيها أصحاب التحليل النفسي (فكم نظر في هاويتها وتاه في متاهتها)، ولكن «لأن كيانك أو جوهرك الحق لا يختفي في أعماقك، وإنما يعلو فوقك علوا لا حد له، أو هو على الأقل يعلو فوق ما تتصور عادة أنه «أناك». وهنا يعلمك مربوك الحقيقيون أن ذاتك تحرر ولا تربى، وأن التربية الحقيقية هي تحرير الذات الحقيقية من كل زيف، وتخليصها من الأعشاب والأوساخ والديدان التي تؤذي براعمها الرقيقة ... هي انسكاب النور والدفء، انهمار المطر الليلي، محاكاة الطبيعة والتضرع إليها حيثما كانت رحيمة كالأمهات، وهي كذلك إكمال للطبيعة عندما توقف نوباتها الفظيعة القاسية، وتوجهها إلى الخير، وعندما تسدل حجابا يخفي ظواهرها الغادرة وغباءها المحزن.» وينصح الفيلسوف بما يشبه العلاج النفسي عندما يطلب من «النفس الشابة» أن تدير «أهم استجواب» مع نفسها، وتنظر إلى الحياة التي عاشتها متسائلة: ما الذي أحببته حقا حتى الآن؟ ما الذي جذب روحك إليه، وسيطر عليها وأسعدها في آن واحد؟ تأمليها مجتمعة ووازني بينها، فربما كشفت لك طبيعتها وتتابعها عن القانون الأساسي لذاتك الحقيقية. انظري إليها كيف يكمل بعضها بعضا، ويتفوق بعضها على بعض، وكيف تكون السلم الذي صعدت عليه حتى الآن لترتفعي إلى ذاتك.
وماذا يجد المرء إذا ارتفع إلى الذات الحقة؟ سيجد أن التفرد المنتج الخلاق هو لب كيانه. وإذا ما تم لديه الوعي بهذا التفرد جللته هالة غريبة من الضوء، هي الهالة التي تحيط بكل ما هو خارق للمألوف. ولن يطيقها معظم الناس؛ لأنهم بطبعهم كسالى، ولأن ذلك التفرد تطوقه سلسلة من المتاعب والأعباء. لا شك أن هذا المتفرد الشامخ، الذي ينوء بحمل السلسلة الثقيلة، سيضحي بكل ما تشتاق إليه الحياة الشابة من مرح أو أمن أو رفعة شأن، سيكون التوحد هو نصيبه من الناس، وسيجد نفسه يعيش في الصحراء والمغارة حيثما شاء أن يعيش عليه عندئذ أن يكون حذرا فلا يستعيده شيء، صامدا قويا لا يصيبه حزن أو اكتئاب.
لقد شق طريقه بنفسه، وتحمل كل المخاطر حتى وجد ذاته المتفردة، فهل كثير عليه أن يتمسك بهذا الوجود الذي لا يستبدل غيره؟ أليس من الطبيعي أن يتقبل كل ما يفرضه عليه من أعباء وأقدار كأنه جزء لا يتجزأ من «لب كيانه»؟ بيد أن الوعي بالتفرد لا يعني إلا التوحد، وتجربة الإنسان على طريق النضج ومعرفة النفس تجربة لا تنقل للآخرين؛ إذ يتحتم على كل فرد أن يخوضها بنفسه. ولهذا أيضا تخلق رغما عنه مسافة بعد تقصيه عن الناس. وقد تنمو الأشواك، فيزداد توحده. وقد يكو من سوء حظه أن يعيش في ظل حكومة مستبدة ومجتمع أو رأي عام شديد البطش، فلا يكون له ملجأ إلا وحدته. إن من عادة الطغيان أن يحقد على الفيلسوف الوحيد؛ لأن الفلسفة هي الملجأ الذي يلوذ به، ولا يقوى الطغاة على النفاذ إليه، ولكنه لا يستطيع أن يلازم كهفه الباطن، حتى لا يتعرض لأعظم الأخطار، فهو مضطر للظهور بين الناس، والارتباط معهم بالصلات التي يفرضها المولد والنشأة والتربية والمصادفة وتطفل الآخرين، ولكن الناس تتشكك في أنه يظهر غير ما يبطن، ويرتابون في وحدته، فيلقون شباك ظنونهم وسوء فهمهم على حركاته وسكناته، ويتحيرون في تأويل سلوكه، وهو الذي لا يبتغي غير الحقيقة والأمانة. عندئذ تتبلد سحب الاكتئاب فوق جبهته، وتتكاثف المرارة في نفسه، فيصبح كالبركان الذي يهدد بالانفجار. إن الظهور ضرورة تفرضها عليه الحياة، ولكنه يكره هذه الضرورة كراهة الموت. ولذلك يثأر من وقت لآخر من هذه الوحدة التي فرضها على نفسه، فيخرج من كهفه بملامح مفزعة، وتتفجر كلماته وأفعاله، وربما أهلك نفسه بنفسه.
هل كان نيتشه يتنبأ بالصراع الذي سيخوضه مع عصره وحضارته، أم كان يعبر عن تجربته وقدره الشخصي الذي جعله يحطم نفسه بنفسه؟ إنه يصف حالة الإنسان الذي يلوذ بكهف الباطن. وربما تصورنا أنه سبق علم النفس التحليلي إلى وصف النمط الانطوائي أو المنطوي. غير أنه يهدف في الحقيقة إلى شيء أبعد من ذلك. فالتوحد والاتجاه إلى الباطن صفتان يطلقهما على أصحاب الذات المتفردة أو «أحرار الروح»؛ لأنهما علامة على التحرر الذي بلغوه بكدحهم ومعاناتهم، وعلى الأخطار التي تتهددهم بعد أن رأوا أبعد مما رأى غيرهم، وعرفوا أكثر مما عرفوا.
ولكن كيف تتحقق هذه الذات المتفردة؟ في أي شكل من أشكال الوجود الفريد تكون؟ متى يتخلص الإنسان من أسر الطبيعة وضروراتها؟ وما هي الخطوات التي يمكن أن تسير به على الطريق إلى الذاتية الحقة والعقبات التي تحول بينه وبينها؟
ليس الإنسان واقعة بيولوجية، ولا يمكن أن يفهم من خلال المقولات الطبيعية والحيوية، صحيح أنه يتكاثر باستمرار، ولكن المهم أن يتصاعد هذا التكاثر إلى أعلى، وأن يواصل عملية التفرد وتحقيق الذات، ولو كان ذلك في لحظات نادرة من ديمومته الممتدة. فالطبيعة لا تهتم بغير الإنسان، وهي في اندفاعها نحوه تؤكد حاجتها إليه لتخليصها من لعنة الحيوانية. والوجود بأسره يجعل من الإنسان مرآة ينظر فيها ليدرك أن الحياة لم تعد خالية من المعنى، وأنها تظهر في صورته البشرية بكل دلالتها الجمالية والميتافيزيقية.
ولكن أين يتوقف الحيوان وأين يبدأ الإنسان؟ إننا نعيش الجزء الأكبر من حياتنا دون أن تتجاوز نظرتنا أفق الحيوان. وما دمنا نسعى إلى الحياة كما نسعى إلى السعادة، فنحن لم نتميز عنه إلا بأننا نطلب عن وعي ما يطلبه بدوافعه العمياء. ونظل أفرادا وشعوبا نضطرب في دوامة الحياة، وتضطرب بنا دون أن نتخطى الحيوانية، بل نظل نحن أنفسنا الحيوانات التي تتعذب بلا معنى، وتأتي لحظات ندرك فيها أن الطبيعة بأسرها، ونحن معها، تشرئب إلى الإنسان كشيء يعلو فوقها وفوقنا. وتتبدد السحب وينهمر الضوء الساطع، ونتلفت حولنا ووراءنا: لا زالت الوحوش المفترسة تتجول في كل مكان، ولا زالت حركات البشر فوق الأرض الموحشة - من بناء مدن ودول أو انهيارها وسحقها، من حرب وزحام وتجمع وتفرق، من تآمر أو تعاون وصراخ في المحنة أو هتاف في النصر - لا زالت كلها استمرارا للحيوانية. وكأن الإنسان قد نكص على عقبيه، وأنكر فطرته الميتافيزيقية، أو كأن الطبيعة التي اشتاقت إليه، وعملت دهورا على ظهوره قد ارتجفت رعبا منه وآثرت الرجوع إلى دوافعها اللاواعية.
وأخيرا تأتي لحظة «التجربة الكبرى»، والمعرفة القصوى. لحظة تعرف الطبيعة أن الإنسان هو هدفها، ويعرف الإنسان ضرورة أن يمتلك ذاتها ويحققها، ويعي - مرة أخرى في لحظات فريدة - أن كل ما نأتي وندع في حياتنا، كل لهاثنا إلى المنصب والمكسب ومخالطة الناس، بل كل سعينا إلى العلم نفسه ليست سوى ألوان من التهرب من مهمتنا الأصلية، والخوف من لقاء ذواتنا الحقيقية، والفرار كل لحظة مما تريد كل لحظة من عمرنا أن تهمس به، والتستر وراء أقنعة السخرية اليومية، حتى لا تلمحنا عين من عيون الضمير المائة، ثم الرعب من السكون إلى أنفسنا، حتى لا نطفو فوق الموج ولا ننتبه من الكابوس. وهكذا تستبد بنا ظاهرة الخوف من لقاء ذواتنا، فتشدنا قوى ترجع بنا إلى حالة اللاوعي التي تميز الدافعية الحيوانية، ثم لا تلبث الشوكة أن تؤرق نومنا فجأة، وتنبهنا إلى ضرورة الارتفاع فوق أنفسنا صعودا إلى صيرورتنا الذاتية الحقة.
هل يمكن أن نرتفع بأنفسنا، أم أن هناك من يساعدنا على العلو والارتفاع؟ هل يشير نيتشه بطريقته الحدسية الملهمة إلى نوع من المعرفة الصوفية التي طالما أشار إلى أسرارها وطقوسها في موكب الاحتفال برب النشوة والخلق المتجدد ديونيزيوس، أم يوحي إلينا بضرورة الدخول في مدارس التدريب الروحي (الذي يمارسه رهبان «الزن»، ويوصي به رودلف شتاين)،
13
ناپیژندل شوی مخ