شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
ژانرونه
ونسأل أخيرا: ما هي هذه الزلزلة؟ وما هو هذا الفجر الجديد؟ ليس من السهل أن نحدد ما يقصده نيتشه بهاتين الكلمتين أو بغيرهما من كلماته ومصطلحاته الغنية بالإيحاءات والإشعاعات، ولكن ليس من الصعب كذلك أن نرى - على ضوء ما سبق وما سيأتي بعد - أن نيتشه يمثل «صدعا في تاريخ البشرية» (والتعبير لفيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس الذي تقدمت الإشارة إليه). ولقد أكد تأكيدا لا مزيد عليه أنه «آخر العدمين»، وأن رسالته هي الكشف عن تصدع عصره «البرجوازي»، وانهياره على رءوس رجاله الجوف، وتعرية وعيه الكاذب بأسره، وتغيير ألواح قيمه التي فقدت قيمتها بعد أن تداعى عامود النظام الميتافيزيقي الذي كان يستند عليه، ولكن من الذي سيطلع هذا الفجر الجديد؟ من الذي سيحول القيم من اللوجوس (المنطق والجدل العقلي) إلى البيوس (الحياة وإرادة المزيد من الحياة)؟ وأخيرا من الذي سيبدع هذا العالم الجديد؟ إنه جيل المبدعين من أفراد الإنسان الأعلى. وليس الإنسان الأعلى على الإنسان المبدع. ومن أجل هذا الإنسان الذي اشتدت حاجتنا إليه كتب هذا البحث، تحية للمبدعين الحقيقيين، ولكل من يساعدهم على فهم أسرار الإبداع.
القسم الثاني
أ
يطرح نيتشه سؤاله عن الذات الحقة ويحدد الطريق إلى هويتها ووحدتها في القطعة الثالثة من كتابه «تأملات لغير زمانها» (1873-76). فالإنسان يحيا حياته مستسلما للكسل والنوم، غارقا في بحر العادات والرغبات ومشاغل كل يوم. وفجأة يناديه صوت آت من أعماق ضميره: كن نفسك. كل ما تفعله الآن وتفكر فيه وتتوق إليه شيء مختلف عنك. وتصحو «النفس الشابة» من غفوتها وتحاول أن تسترد ذاتها. ها هي ذي تناجي نفسها قائلة: حقا لست شيئا من هذا كله. ما من أحد يمكنه أن يتولى عنك بناء الجسر الذي يتحتم عليك أن تعبريه فوق نهر الحياة، ما من أحد غيرك. صحيح أن هناك طرقا وجسورا وأنصاف آلهة لا حصر لها تريد أن تحملك عبر النهر، لكن ذلك سيكلفك الثمن الباهظ، والثمن الباهظ هو أن ترهني نفسك وتضيعيها. لا يوجد في العالم غير طريق واحد، ولا أحد يمكنه أن يسير عليه سواك. لا تسألي إلى أين يؤدي هذا الطريق؟ عليك أن تقطعيه. «كل نفس شابة تسمع هذا النداء ليل نهار فترتجف؛ لأنها تشعر بالقدر المقسوم لها من السعادة منذ الأزل عندما تفكر في تحررها الحقيقي، غير أنها لن تبلغ هذه السعادة ما بقيت مأسورة في أغلال الخوف والآراء الشائعة. وكم تصبح الحياة مجدبة من كل معنى ومن كل عزاء إذا حرمت هذا التحرر، فليس في الطبيعة مخلوق أولى بالرثاء أو أدعى للنفور والاشمئزاز من إنسان تهرب من روحه الحارس، وراح يطوف بعينيه فيما حوله، ويتلفت مرة ناحية اليمين وأخرى لليسار أو الخلف. إن مثل هذا الإنسان لا يستحق حتى أن نهاجمه؛ لأنه مجرد قشرة خارجية منزوعة اللب، ثوب بال منتفخ ملطخ بالألوان، شبح بائس لا يستطيع حتى أن يثير فينا الخوف، وهو يقينا لا يستثير فينا العطف أو الإشفاق.»
11
هذا الإنسان الذي تحول إلى قشرة خارجية منزوعة اللب إنسان يخدع نفسه بنفسه. التصق قناع المنصب أو الوظيفة التي يؤديها في المجتمع بجلده، حتى أخفى وجهه الحقيقي وتوحد ب «الدور» الذي يقوم به، فاستبدله بذاته الأصيلة. وإذا كان هذا الدور ضرورة تحتمها الحياة الاجتماعية، ويفرضها التعامل مع العالم والناس، فإنه يصبح في الحالات المرضية قناعا تتخفى وراءه الشخصية أو بالأحرى تختفي فيه.
12
ولا شك في أن نيتشه قد سلط نيران غضبه على الأقنعة الكاذبة التي ارتداها الناس في عصره، واستطاع أن يعري حضارته، ويكشف عن العفن والفساد والانحلال والعدمية التي فغرت هاويتها المخيفة لتتردى فيها. فعل ذلك ليحمي «النفس الشابة» من لعنة الأقنعة والأدوار المتشابهة إلى ما لا نهاية، من السقوط والضياع وسط الجماهير المجهولة كما سيقول هيدجر فيما بعد من إنكار الذات الأصيلة، وتسليم قيادها للناس والرأي العام، فعل ذلك لكي تقسو على نفسها وتقول لها: كوني نفسك!
ولكن كيف يعرف الإنسان نفسه وهي شيء مظلم يلفه الغموض؟ كيف تجد الذات ذاتها، وتعثر على المعنى الأصلي والمادة الأولية لكيانها؟ أتكون هذه الذات كامنة تحت قناع «الأنا» اليومية أم تكون متعالية فوقها؟ أيمكن أن تصل في بحثها إلى شيء يجعلها تهتف فرحة: ها أنت ذي حقا، لقد اختفت القشرة!
إن كل شيء يتوقف في نظر «الخبير بالنفس» على أن يقوم الإنسان بتحرير نفسه وتربية نفسه بنفسه. وليس معنى هذا أن «اللب» الإنساني شيء يقبل الصياغة والتشكيل، أو أن المربي صاحب نظريات يعلنها أو معلومات وتوجيهات يقدمها، فالذات الحقة تمتنع على «التربية»، اللهم إلا إذا فهمنا التربية بمعنى الخلاص والتحرير، وعرفنا أن المربي هو المحرر، وأن الفرد وحده هو الذي يمكنه أن يجد نفسه، وهو الذي يتحمل مخاطر الطريق إلى لقاء ذاته.
ناپیژندل شوی مخ