187

شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرونه

6

ربما أوحى إلينا هذا كله بأن مذهب آدلر صورة نفسية من فلسفة نيتشه. غير أن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الظن، بل ربما جاز القول بأن علم النفس الفردي يسير في اتجاه مضاد لأفكار فيلسوف القوة. ولا يرجع هذا إلى أن آدلر قد تأثر به كما تأثر بغيره، فالتأثيرات مهما اشتدت وتنوعت لا تصنع - كما قدمنا - شخصية ولا فكرا متميزا، وإنما يرجع إلى الفروق الموضوعية الدقيقة بينهما. فإرادة القوة التي تصورها نيتشه تختلف عن الطموح إلى القوة الذي يفسح له آدلر مكانا مهما في نظريته عن العصاب. وبينما يعبر الأول بفكرته عن إنسانية أعلى، ويجعل منها وسيلة تخطي الإنسانية الحاضرة وغايتها، نجد آدلر يعتبر الفكرة نفسها وموقف نيتشه بأكمله تعبيرا عن اليأس والقلق ونزعة التعويض التي تدفع بصاحبها إلى السيطرة على الآخرين، وإثبات القوة والغلبة عليهم (ولا ننسى بهذه المناسبة أن فيلسوف القوة كان فاسد المعدة ، مضطرب الأعصاب، مصابا بالأرق المزمن وشقيا بتجاهل العصر وجحوده)، بحيث يمكننا أن نقول مع بعض الباحثين إن علم النفس الفردي هو أبلغ اتهام لإرادة القوة وأقسى تعرية لخداع صاحبها لنفسه وتدميره لها. وكما وضع فرويد التصميم الواعي والتدبر والحكم العقلي الواضح في مقابل الدوافع اللاواعية، كذلك أقام آدلر من الشعور بالجماعة سدا يحمي الحياة النفسية عن عواصف الطموح إلى القوة والسيطرة الأنانية. صحيح أن آدلر قد سلم بوجود ثنائية نفسية تذكرنا بما قاله فرويد عن مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، أو دوافع الحب والحياة ودوافع التدمير والموت، ولكن الواقع أن علم النفس الفردي يحاول تحقيق التوازن بين النزوع الفردي إلى القوة وبين الشعور بالجماعة أو المجتمع. فإذا كانت إرادة القوة تمثل الدافع الأصلي وتعبر عن غريزة الحياة الأساسية والمحور الذي يدور حوله الوجود، فإن الشعور بالجماعة هو الأصل والأساس في حياة الإنسان، وما النزوع إلى القوة إلا حركة نفسية نابعة من عقدة الشعور بالنقص (أو ضآلة القيمة) مفسدة للإنسان مدمرة لكيانه.

وليس الإنسان في نظر علم النفس الفردي مجرد حالة فردية أو استثنائية تطمح إلى القوة والسيطرة، ولا تعرف شيئا عن الحب كما زعم فرويد عن تلميذه المنشق، وإنما يقاس الفرد دائما بمقياس الإنسان المثالي الذي يتبع قواعد اللعبة التي يسنها المجتمع ويسير - على هدي التربية وعلم النفس - إلى تحقيق الحياة الإنسانية المشتركة مع إخوته في الجماعة الإنسانية. •••

ونصل أخيرا إلى العلم الثالث من أعلام «علم نفس الأعماق»، وهو كارل جوستاف يونج (1875-1961م) لنعرف إلى أي حد تأثر ب «الخبير بالنفوس». والحق أن يونج يسلم بهذا التأثير بجوانبه الإيجابية والسلبية. ونستشهد على هذا برسالة كتبها قبل موته بشهور قليلة إلى أحد رجال الدين الأمريكيين، وقال فيها: «إن تقديم تقرير مفصل عن تأثير أفكار نيتشه على تطوري العقلي لمهمة طموح تتخطى حدود قدرتي. فقد أمضيت شبابي في المدينة التي كان نيتشه قد عاش فيها فترة من حياته، وعمل في تدريس اللغات القديمة في جامعتها، وبذلك شببت في جو لا يزال يرتجف تحت سطوة مذهبه، على الرغم من أن هجماته كانت تلقى مقاومة شديدة. لم أستطع أن أتجنب الأثر الذي أحدثه إلهامه الأصيل على نفسي، وشدني إليه بقوة. فقد كان يتميز بالإخلاص والصدق الذي لا يمكن أن يدعيه عدد غير قليل من الأساتذة الأكاديميين الذين يهتمون بمظاهر الحياة الجامعية أكثر مما يهتمون بالحقيقة. والأمر الذي أثر في أعظم تأثير هو لقاؤه بزرادشت ونقده ل «الدين»، هذا النقد الذي أفسح في الفلسفة مكانا للعاطفة المتوقدة، من حيث هي دافع أصيل على التفلسف. شعرت أن «التأملات لغير أوانها» قد فتحت عيني، أما «تسلسل الأخلاق» و«العود الأبدي»، فكان حظهما من اهتمامي أقل، واستطاعت أحكامه السيكولوجية النفاذة أن تبصرني تبصرة عميقة بما يمكن أن يحققه علم النفس.

وعلى الجملة كان نيتشه بالنسبة إلي هو الإنسان الوحيد الذي قدم لي في ذلك العصر إجابات كافية عن بعض الأسئلة والمشكلات الملحة التي كنت أشعر بها أكثر مما أفكر فيها» (رسائل يونج، الجزء الثالث، ص370 وما بعدها).

هذا الاعتراف الصريح من مؤسس علم النفس التحليلي لا يحتاج إلى تعليق. ويمكن أن نضيف إليه اعترافا آخر يسجله بكل العرفان عن سنوات الطلب والتحصيل في شبابه. فقد أقبل على قراءة نيتشه في نهم وحماس، ثم قرأ «هكذا تكلم زرادشت»، فكانت قراءته لهذا الكتاب - بجانب فاوست لجوته - أقوى تجربة مر بها في شبابه (راجع ليونج: ذكريات وأحلام وأفكار، نشرتها أنييلا جافيه، زيورخ وشتوتجارت، 1963م، ص109 وما بعدها).

7

ولعل أول أثر لهذه القراءة قد ظهر في رسالته الجامعية عن «سيكولوجية الظواهر المسماة بالظواهر الخفية وتشخيص أمراضها» (1902م)، فقد درس فيها حالة من حالات «الكريبتومنيزيا» التذكر الخفي واللاشعوري التي صادفها عند نيتشه.

ولم تمض سنوات قليلة حتى رجع إلى نفس الموضوع، وحاول أن يتحسس طريقه إلى «شيطان اللاوعي» الذي وقع الفيلسوف تحت تأثيره السحري عند تدوينه لكتابه عن زرادشت: «إن هذه الاهتزازات الراجفة العميقة للمشاعر، وهي التي تتخطى مجال الوعي وتتجاوزه، هي القوى التي أظهرت للنور أقصى التداعيات تطرفا وخفاء.» هنا اقتصر الوعي على القيام بدور العبد الخادم لشيطان اللاوعي الذي طغى على الوعي، وراح يغمره بالخواطر الغريبة، وما من أحد استطاع أن يصف حالة الوعي بمركب لا واع مثل نيتشه نفسه (الكلريبتومنيزيا، في المجلد الأول من مؤلفات يونج الكاملة، ص113 وما بعدها) ويحاول الطبيب النفسي الشاب أن يتابع هذا الموضوع الشائك عن «الأرواح»، والأرباب عند الإغريق، وبخاصة عن شخصية ديونيزيوس مع الإشارة الصريحة إلى تأثيرها على نيتشه ابتداء من كتابه «ميلاد التراجيديا»، فيقول في رسالة وجهها سنة 1909م إلى فرويد: «يبدو أن نيتشه قد أحس بهذا إحساسا قويا، ويخيل إلي أن «الديونيزي» كان يمثل موجة ارتداد جنسية لم تقدر قيمتها التاريخية حق قدرها، وقد تدفقت بعض عناصرها الجوهرية إلى المسيحية، وإن طبقت تطبيقا آخر يتسم بالاعتدال والتصالح» (رسائل يونج، الجزء الأول، ص35).

ولا يقف الأمر عند هذه النصوص وأشباهها لبيان تأثير نيتشه على يونج. فالواقع أن خيوط هذا التأثر بشخصية نيتشه و«نمط» حياته وتفكيره، بل وأحلامه ورؤاه تتخلل كتاباته من بداية حياته إلى نهايتها. ولا شك أنه كان صادقا كل الصدق عندما قال في كتابه المشهور عن سيكولوجية اللاوعي 1912م (وطبع طبعات منقحة بعد ذلك) أنه قد بدأ حياته طبيبا نفسيا وعقليا، ولكن نيتشه هو الذي أعده إعدادا لعلم النفس الحديث (سيكولوجية اللاوعي، المجلد السابع من المؤلفات الكاملة، ص128)،

ناپیژندل شوی مخ