186

شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرونه

ولا يتسع المجال لتناول علاقة فرويد بنيتشه بصورة مفصلة، ويكفي أن نشير - تأكيدا لهذه العلاقة التي حاول مؤسس التحليل النفسي أن ينفيها أو يقلل من شأنها - إلى أن مؤرخ حياة فرويد - وهو العالم الإنجليزي إرنست جونز - يذكر في كتابه عن حياة أستاذه خطابا مؤرخا في سنة 1900م يقرر فيه أنه «مشغول بقراءة نيتشه»، ولا بد أنه لم يفته أن يطلع عليه من قبل وإن لم يبدأ العكوف عليه إلا في السنة المذكورة. ونضيف واقعة أخرى لا تخلو من دلالة على العلاقة غير المباشرة بينهما. فقد حضرت صديقة نيتشه لوسالومي (وهي التي حاول عبثا أن يخطب ودها) مؤتمر التحليل النفسي الثالث الذي انعقد في شهر سبتمبر سنة 1911م في مدينة قيمار. والمعروف أنها انضمت بعد ذلك إلى مدرسة فرويد الذي اعتبرها من تلاميذه، كما حاولت في مذكراتها التي كتبتها بعنوان «من مدرسة فرويد» أن نربط نظريات التحليل النفسي ، وتعبيرات نيتشه وصيغه النفسية المختلفة، وأخيرا نشير باختصار إلى الرسائل المتبادلة بين فرويد والكاتب الروائي الاشتراكي أرنولد تسفايج

4 (1887م-...) في فترة امتدت من سنة 1927م حتى سنة 1939م. فقد أخبره تسفايج أنه يزمع وضع كتاب أو رواية طويلة عن نيتشه، ثم أرسل إليه في الثاني من ديسمبر سنة 1930م من مدينة فينا خطابا يقول فيه إنه - أي فرويد - قد حقق كعالم نفس تلك الرسالة التي شعر نيتشه بوجدانه الملهم أنه مكلف بأدائها، وإن كان قد عجز عن تحويل رؤاه الشعرية إلى حقائق علمية. وأخذ الكاتب الروائي يعدد «إنجازات» فرويد التي سبقه الفيلسوف إلى الإحساس بها وصياغتها: «لقد حاول نيتشه أن يصور «ميلاد التراجيديا»، وأنت قد فعلت هذا في كتابك عن «الطوطم والمحرم (التابو)»، وعبر عن شوقه على عالم يقع وراء الخير والشر، وقد استطعت عن طريق التحليل النفسي أن تكتشف مملكة تنطبق عليها عبارته، وأن تقلب قيمه كل القيم، وتتجاوز المسيحية، وتصوغ «خصم المسيح» الحقيقي، وتحرر مارد الحياة المتصاعدة من الزهد الذي كانت تعتبره المثل الأعلى. ولقد استطعت كذلك أن ترد «إرادة القوة» إلى الأساس الذي تقوم عليه، وأن تتناول بعض المشكلات الجزئية التي اهتم بها نيتشه عن الأصل اللغوي للمفاهيم الأخلاقية، فتتطرق منها إلى مشكلات أعظم وأهم عن الكلام والإفصاح والربط بين الأفكار وتبليغها، ونتوصل إلى حلها. أما الروح المنطقية أو السقراطية التي رفضها، فقد قصرتها على مجالات الوعي، ووضعتها في حدودها بصورة أدق. «ولما كنت باحثا طبيعيا وعالما نفسيا يتقدم خطوة خطوة، فقد أتممت ما تمنى نيتشه أن يتمه، ألا وهو الوصف العلمي للنفس البشرية، وجعلها مفهومة، ثم زدت على ذلك فبينت - بحكم كونك طبيبا - سبل تنظيمها وعلاج أمراضها. إنني أعتقد كذلك أن هناك قدرا كبيرا من الملاحظات الفردية التي تتصل بفرويد «الكاتب»، وتمد جسورا بينه وبين نيتشه، كما أعتقد أن بسالة «المتفلسف بالمطرقة» قد فاقتها بسالة الباحث بأسلوب موضوعي خالص عن الدوافع «الأورفية والديونزية»، واكتشاف تأثيرها وفعلها في كل واحد منا ...»

ماذا كان رد فعل مؤسس التحليل النفسي على كل هذا التمجيد والإشادة بدوره؟

العجيب حقا أنها لم تحوله عن تحفظه تجاه الفيلسوف، بل لعلها قد زادته إصرارا عليه، فهو ينصح الكاتب الروائي بالعدول عن فكرة تأليف الكتاب، بل يضيف في خطاباته التالية أننا لا نعرف إلا أقل القليل عن تكوين نيتشه الجنسي، وهذا القليل القليل لا يساعدها على تطبيق أدوات التحليل النفسي لإلقاء الضوء على حياته وقدره، ويبدو أن الكاتب لم يقتنع بالحجج التي تذرع بها فرويد، فأرسل إليه هذا الأخير - في خطاب مؤرخ في السابع من ديسمبر من السنة نفسها 1930م - هذه العبارة الدالة: «اكتب عن العلاقة بين تأثير نيتشه وتأثيري بعد أن أموت» (راجع الرسائل المتبادلة بين نيتشه وأرنولد تسفايج، نشرها إرنست فرويد ، فرانكفورت على الماين، 1969م، ص35 وما بعدها).

لعل هذا الموقف المتحفظ أن يرجع - كما تقدم - إلى خشية فرويد أن يستقر في الأذهان سبق نيتشه، وأن يضر ذلك بريادته وأصالته. والرد على هذا بسيط: فليس نيتشه هو الوحيد الذي أثر على تفكير فرويد، سواء اعترف به أم أنكره (فثمة تأثيرات مؤكدة من أسماء أخرى مثل ليبنتز وجوته وشوبنهور وكاروس الفيلسوف الطبيعي الرومانتيكي المعروف بكتابه عن النفس وبحديثه عن اللاوعي) كما أن عشرات المؤثرات لا تصنع عبقرية، والاطلاع على مئات الحكم والأفكار الملهمة لا يغني عن ضرورة تشكيلها، ولا ينال من أصالة اكتشاف المنهج، وسبل الفحص والعلاج. هل نقول إذا مع باحث مثل هنري ف إلينبرجر (في كتابه اكتشاف اللاشعور، الجزء الأول عن نيتشه نبي عهد جديد، ص73-385 من الترجمة الألمانية، 1973م)

5

إن تأثير نيتشه يتغلغل في مدرسة التحليل النفسي بأكملها؟ إن الحكم الموضوعي النزيه يقتضي المقارنة بين النصوص مقارنة دقيقة. وهو جهد مشروع كما قلت، وسنخرج منه في النهاية بما لا يمس رائد التحليل النفسي في أصالته، ولا يحول فيلسوف إرادة الحياة والقوة إلى عالم نفس. وفي تقديري أن هذه المقارنة الدقيقة - التي نفتقدها حتى الآن - ستنتهي إلى النتيجة التي أشرت إليها، ولكنها ستؤكد فضلا عن ذلك أوجه تشابه عديدة بين فكر المفكر وعلم العالم (بغض النظر عما أثير حول علمه من ظنون، وعما بذل من محاولات لتدعيم أفكاره بالتجارب و«التقنيات» أو الأساليب العلمية والطبية الدقيقة). سوف نلاحظ مثلا أن الفيلسوف وعالم النفس يشتركان في الاعتقاد بأن كل تفكير الإنسان وفعله وكل أشكال التعبير عن الحياة البشرية عند الفرد والجماعة إنما هي مظاهر أو ظواهر معبرة عن «عمق» باطن، وأن «اللاوعي» هو الذي يقوم في ذلك بالدور الأول لا «الوعي»؛ إذ تكون السيطرة لقوى الدوافع التي تأتي من مناطق لا واعية في النفس، وهي قوى أو طاقات تعد أقدم من الوظيفة العقلية، كما تكشف عن الجانب الأكبر من شخصية الإنسان الذي يحاول بطبيعته أن يتستر خلف أقنعة من كل نوع ، ويتم هذا الكشف حتى في أحلامه (حسب نظرية فرويد عن الأحلام). ولهذا يؤكد نيتشه في مواضع كثيرة من نصوصه أننا نستطيع أن نستخلص من التعبيرات الانفعالية لأي إنسان ما يفوق في حقيقته ودلالته كل ما يمكن أن نستخلصه من العقل الذي يعمد دائما إلى الوزن والقياس والحساب والتخطيط.

ولقد اعترف فرويد - كما سبق القول - بأن كتابات نيتشه تنطوي على نظرات حدسية نجدها في كثير من الأحيان متطابقة مع النتائج التجريبية للتحليل النفسي. والواقع أن هذه الكتابات تتناثر فيها مفاهيم وأفكار لا شك في أهميتها وقيمتها التحليلية والنفسية، ناهيك عن مصطلحات يمكن أن توصف بأنها بذور نمت منها بعض المصطلحات التي استقرت في التحليل النفسي (مثل مصطلح «الهو» الذي يقابلنا أكثر من مرة في الكتاب الأول من هكذا تكلم زرادشت)، وتبقى النظرات الحدسية - كما وصفها فرويد بحق - هي الأجدر بالاهتمام؛ إذ لا نستبعد أن تكون قد أثرت على رائد التحليل النفسي مهما أنكر ذلك التأثير أو تنكر له. ولنذكر بعض هذه النظريات باختصار: التصور الدينامي للنفس مع تصورات أخرى مرتبطة به كالطاقة النفسية، ومقادير الطاقة الكامنة أو المعوقة، وتحويل الطاقة من دافع إلى آخر، تصور أن النفس نظام أو نسق من الدوافع التي يمكن أن تتصادم وتتصارع أو تندمج وتذوب في بعضها، تقدير أهمية الدافع الجنسي، وإن لم يجعله الدافع الأول والأهم كما فعل فرويد قبل أن يتكلم عن عزيز الموت في كتاباته المتأخرة؛ إذ إنه يأتي عنده بعد دوافع العدوان والهدم، فهم العمليات التي سماها فرويد «آليات دفاعية»، وبخاصة عملية الإعلاء والتعويض، التعطيل أو التعويق - والذي يسميه فرويد الكبت - واتجاه الدوافع وجهة مضادة للذات نفسها. كذلك نجد بعض الأفكار المهمة متضمنة في نصوص الفيلسوف مثل صورة الأب والأم، وأوصافه للإحساس بالحقد والضمير الكاذب والأخلاق الفاسدة التي سبقت أوصاف فرويد للإحساسات العصابية بالذنب كما سبقت وصفه للأنا الأعلى. أضف إلى هذا كله أن كتاب فرويد المشهور «الضيق بالحضارة» يكاد أن يوازي كتاب نيتشه عن «تسلسل الأخلاق» موازاة دقيقة في نقد العصر والحضارة، ولعل كليهما قد تأثر بما قاله الفيلسوف والكاتب الفرنسي ديدرو (1713-1784م) من أن الإنسان الحديث مصاب بمرض عجيب مرتبط بالمدنية؛ لأن المدنية تتطلب منه أن يتخلى عن إشباع دوافعه. وغني عن الذكر أن الاثنين قد عاشا متعاصرين، وأنهما قد «مرضا» بزمانهما وحضارتهما، وحاولا أن يعرياهما من أقنعتهما الزائفة. والفرق الأساسي بينهما أن عالم النفس قد اهتم بالتطور الذي يبدأ من الماضي، بينما تطلع الفيلسوف بكل غضبه وحماسه إلى المستقبل. •••

ويأتي دور ألفرد آدلر (1870-1937م) مؤسس علم النفس الفردي الذي يدور حول قضية أو فكرة تبدو شديدة القرب من تفكير نيتشه. فالمعروف أن آدلر قد اعتبر الشعور بالنقص أو الضآلة من أهم حقائق الحياة النفسية، كما استخلص منه نتائج مهمة تتعلق بتحديد شخصية ألفرد وبطابع الحياة الاجتماعية. وهو يذهب إلى حد القول بأن الإنسان هو الكائن الذي يسعى سعيا دائبا لإكمال شخصيته، وذلك ب «فضل» إحساسه بنقصه وضآلة قيمته، فإذا عاق هذا السعي إلى الكمال عائق، وحيل بينه وبين الطموح إلى القوة وإثبات الذات ظهرت عليه أعراض المرض العصابي.

ولا شك أن العبارات السابقة تغرينا بالتقريب بين فلسفة نيتشه وبين مذهب آدلر الذي يحركه الطموح إلى القوة أو «إرادة القوة». وقد نسرع إلى الظن بأن هذا المذهب يردد تنويعات مختلفة على لحن أساسي من ألحان نيتشه. وربما يؤيدنا في هذا الظن أن آدلر نفسه - في كتابه عن الشخصية العصبية (1912م) - يوافق على أن «إرادة القوة» تصلح للتعبير عن مسعاه، وأن هذه الفكرة الموجهة - كما يقول في التمهيد للجزء النظري في الكتاب المشار إليه - «يندرج تحتها اللبيدو والدافع الجنسي والميل للانحراف أيا كان مصدرها جميعا. إن «إرادة القوة» و«إرادة المظهر» عند نيتشه تنطوي على جوانب كثيرة من رأينا الذي يقترب بدوره في بعض النقاط من آراء فيريس وغيره من المؤلفين القدامى.» ولا يكتفي آدلر بهذه العبارات التي تشهد باطلاعه الواسع على فلسفة نيتشه، واعترافه بتأثيرها عليه، بل يضيف قوله في كتاب آخر نشره بالاشتراك مع زميله كارل فورتميلر تحت عنوان «العلاج والتربية»: «إذا ذكرت اسم نيتشه، فقد كشفت عن أحد الأعمدة الشامخة التي يقوم عليها فننا. إن كل فنان يطلعنا على خبايا نفسه، وكل فيلسوف يعرفنا بطريقته في توجيه حياته وجهة عقلية، وكل معلم ومرب يشعرنا بانعكاس العلم على وجدانه، كل هؤلاء يهدون بصرنا وإرادتنا في أرض النفس الواسعة» (راجع كتاب يوسف راتنر عن ألفرد آدلر، 1972م، ص82، سلسلة كتب روفلت المصورة عن شخصيات الأدباء والفنانين والمفكرين، العدد 189).

ناپیژندل شوی مخ