184

شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

ژانرونه

إرادة القوة إذا شأنه شأن غيره من كتبه قد وضع ليفكر فيه الناس. إنه قول ميتافيزيقي يتحدث عن العالم ككل، ويتجاوز كل ما يضمه من أحوال وأشياء. ويصدق الشيء نفسه عن أفكاره الكبرى - التي تعرضت دائما لسوء الفهم - عن الإنسان الأعلى وإرادة القوة - أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة - وعودة الشبيه الأبدية. فهي أفكار فلسفية وميتافيزيقية قبل كل شيء، وصاحبها الذي طالما تفاخر بعدائه للميتافيزيقا والمنطق والجدل والعقل النظري أو السقراطي هو في رأي معظم الدارسين (وبخاصة هيدجر وتلاميذه) أشد الميتافيزيقيين تطرفا في تاريخ التفكير الغربي، بل إنه في رأيهم منتهى غايتها وآخر حلقة من حلقات تطورها منذ أفلاطون، ومن قبله من المفكرين قبل سقراط.

بيد أن هذا كله لا يتنافى مع الحقيقة التي وصف بها نفسه حين قال إنه «خبير بالنفس» لم يتوقف عن سبر أغوارها، وإنه كما قال في كتابه «إنساني، إنساني جدا» قد استفاد من «مزايا الملاحظة النفسية»، وراح في كل كتاباته يحلل نفسه وينقدها، وينطق بلسان «السيكولوجي» حين ينطق عن حاله. يقول على سبيل المثال في كتابه «نيتشه ضد فاجنر»: «كلما ازدادت خبرة المرء بالنفس، واتجه كعالم نفس بالفطرة والضرورة إلى الحالات الاستثنائية والأنماط المختارة من البشر زاد الخطر الذي يتهدده بالاختناق شفقة عليها ...» ولكن ما حاجتنا للجوء إلى مثل هذه العبارات وكتابات الفيلسوف تنطق بخبرته بالنفس، وتعمقه في طبقاتها الدفينة، ومتاهاتها المظلمة؟ إن المطلع على هذه الكتابات ابتداء من «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى» حتى شذراته الأخيرة وخطاباته التي كتبها في ليل جنونه، ووجهها إلى قيصر والمسيح وبعض أصدقائه، كل هذه الكتابات تشهد شهادة كافية على تحليلاته النافذة، ونظراته النفسية الثاقبة، بل إنها لتشهد بأنه سبق مؤسس التحليل النفسي في هذا المضمار، وأنه أراد طريق علم النفس التحليلي وعلم النفس الفردي - كما سنرى بعد قليل - وأثر عليها جميعا بحدوسه، وخواطره الملهمة تأثيرا مباشرا أو غير مباشر - وصل في بعض الأحيان إلى حد استباق النظريات - كاللاوعي وما تحت الوعي وما فوقه ووراءه، وكذلك اللاوعي الجمعي النماذج أو الأنماط الأولية، بل لقد بلغ حد التطابق في المصطلحات كما سنرى مثلا مع كلمة «الإعلاء» التي تتكرر في كتبه أكثر من اثنتي عشرة مرة.

الواقع أن نيتشه قد تجاوز علماء النفس «المدرسيين» في عصره، وتخلص من لغتهم التصورية الجافة، وسبقهم إلى كثير من المعارف والأنظار التي لم يدروا عنها شيئا. نظر في خفايا النفس الفردية وما تنكره خجلا أو تحجبه خوفا من نفسها ومجتمعها، كما نظر في العلاقات الوثيقة بين الحضارة والدين، وبين المجتمع والأخلاق، وتتبع التطورات الحضارية التي كونت ما نسميه الوعي إلى الأجداد وأجداد الأجداد، وأثبت أن هذ الوعي ليس إلا حصيلة أخطاء عريقة، وأن الضرورة تقتضي الغوص إلى ما تحته في متاهة الدوافع المستعرة، كما تقتضي التطلع إلى ما بعده في «رعي جمعي» يحمله جيل من أصحاب الأرواح الحرة المريدة الخلاقة، جيل راح ينتظره، ويعد له ويبشر به بأعلى صوته. وهو لم يكتف في كل هذا بأن يكون خبيرا بالنفس يقتفي آثار منابعها الذاتية الحقة، ولم تقف تجاربه ومحاولاته عند البحث عن هذه المنابع الأصيلة (يقول في إحدى القطع التي كتبها عن زرادشت: الانتظار والتأهب. انتظار أن تنبثق منابع جديدة. أن ينتظر المرء عطشه ويتركه، حتى يصل إلى أقصى مداه؛ لكي يكتشف منبعه) لم يقف الأمر عند هذا، بل عرف أن «السيكولوجية» التي يقصدها «سوماتية» أو ممتدة الجذور في الجسد. ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل عنوان إحدى حكمه التي كتبها ضمن شذرات كتابه الأكبر الذي سبقت الإشارة إليه: «الاهتداء بالجسد»، وأن يقول فيها: «على فرض أن «النفس» كانت فكرة جذابة غنية بالأسرار الغامضة، ولم يستطع الفلاسفة - والحق معهم - أن ينفصلوا عنها إلا مرغمين، فربما كان ذلك الذي بدءوا يتعلمون كيف يستبدلونه بها أكثر منها جاذبية وأحفل بالغوامض والأسرار»، ولا شك أن نيتشه - بعد شوبنهور وفويرباخ - قد اكتشف أن الجسد فكرة أكثر إثارة للدهشة من فكرة النفس «العتيقة». وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا باختصار يحتمه ضيق المقام أن هؤلاء الثلاثة قد عملوا على تحول الفكر الحديث من ميتافيزيقا العقل - الذي انهار وخلع عن عرشه بعد موت هيجل - إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع. ولعل نيتشه أن يكون أشدهم من هذه الناحية تأثيرا على تيارات عديدة من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود إلى علم النفس الوجودي إلى الأنثروبولوجيا الفلسفية إلى مدارس التحليل النفسي المختلفة.

هل يعني هذا أن نجعل من نيتشه «عالم النفس»، كما أصر على وصف نفسه في بعض نصوصه؟ وهل يصح أن نشق على أنفسنا، فنوازن موازنة دقيقة بين نصوصه التي تتجلى فيها «إنجازاته السيكولوجية»، وبين نصوص أخرى نستقيها من علماء النفس التحليليين (كما فعل فيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس (1872-1956م) في كتابه إنجازات نيتشه السيكولوجية

2

مبينا سبقه لهؤلاء في العديد من مناهجهم ونظراتهم ومصطلحاتهم )؟ إن البحث العلمي لا يعرف حدا يقف عنده، ولا يتهيب بابا يطرقه ولا طريقا يقتحمه. وكل ما سبقت الإشارة إليه أمور مشروعة لا غبار عليها، ولكن المشكلة أن جوانب نيتشه متعددة - مثله في ذلك مثل كل مفكر حقيقي ضخم، فهو «سيكولوجي» أراد - على حد قوله - أن يجعل من علم النفس «طريقا إلى المشكلات الأساسية الكبرى» بحيث يصبح «سيد العلم»، ويسخر سائر العلوم لخدمته والإعداد له. وهو بجانب ذلك «فسيولوجي» أراد أن يعرف «الفيزيس» في الطبيعة وفي حياة الإنسان وجسده الخاص، و«فيلولوجي» ضاق بمناهج فقهاء اللغات القديمة في عصره - وقد كان أستاذا لها - وبضيق أفقهم وقصور تفسيراتهم اللغوية المرهقة. ثم هو قبل كل شيء وبعد كل شيء مفكر ميتافيزيقي وفيلسوف حضارة عدمية غاربة، وأخرى مقبلة في مستقبل يبشر به، ويعلن عنه، ويدعو إلى خلقه وإبداعه.

وتبقى في النهاية مشكلة نصوصه نفسها. إن هذه النصوص المجنحة المتوهجة بنار الغضب أو النشوة، تحير كل من يحاول الاقتراب منها. فهل يمكن أن نقف منها موقفا موضوعيا باردا يقتضيه التحليل العلمي، وهل نستطيع من ناحية أخرى أن نقي أنفسنا خطر الانجذاب لدوامتها والانجراف مع حماسها وجموحها؟ إن نيتشه يصف نفسه بأنه ليس بشرا، وإنما هو ديناميت، وهو يؤكد باستمرار أنه قدر وأن قدرا لم تسمع عنه البشرية قد ارتبط به. ومن يطلع على صفحة واحدة من كتاباته لا ينجو من زلزلة تصيبه أو حمم تتناثر من بركانه. ولن ينسى أحد وصفه لنفسه في هذه الأبيات التي جعل عنوانها «هو ذا الإنسان» من كتابه الذي يحمل نفس العنوان:

حقا! إني أعرف أصلي.

نهم لا أشبع

أتوهج، آكل نفسي

ناپیژندل شوی مخ