شعر و فکر: د ادب او فلسفې په هکله مطالعات
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
ژانرونه
لقد ظلت تحلم بالمستقبل وتصوره في «يوتوبيات» (مدن مثالية) على لسان أدبائها ومفكريها منذ عهد أفلاطون، وربما قبله إلى يومنا الحاضر. ولكن هل عاشت في حضور المستقبل الذي يتجلى في السرمدية، أم ظلت تحلم بحالة مقبلة تبدو عليها الأشياء في صورة أكمل، سواء أكانت دنيوية أو لاهوتية، علمية أو اقتصادية؟
لقد بدأ الحلم بالخلود مع أواخر عهد الديانة اليهودية، وتبعته الرؤى المختلفة عن الكايروس،
36
أو لحظة الخلاص عند نهاية التاريخ أو بدئه من جديد كما تبعته رؤاها عن نهاية العالم، والحساب الأخير، والخلق الجديد.
فلما تبددت هذه الأحلام ولم ينته العالم ولا اكتمل، ظهرت من جديد في صورة فكرة التقدم التي تحولت أشكالها منذ فلاسفة التنوير حتى المذاهب الفلسفية والاقتصادية المعاصرة. وابتعد الإنسان عن الطبيعة، وأوغل في الصنع والتصنيع، وفقد القديم خلوده، وزالت عن الماضي قداسته. •••
رأينا من تجربة الإنسان الأولية في الشعر والأسطورة والحس الفطري أن الماضي لا يزال حاضرا، وأن حضوره يتخذ صورة الوجود الذي يحوطه الشرف والجلال. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المستقبل. فهو حاضر على الدوام في وجود عجيب يظهر في أشكال وظواهر لا حصر لها، تفطن أعين البشر إلى بعضها، ويختص قليل منهم بكشف السر عن بعضها الآخر. ولقد عرفت الشعوب القديمة أن العلم بالمستقبل يحتاج لموهبة أو إلهام مخصوص، فراحت تغدق على أصحاب الرؤية ألوان التكريم والتعظيم. وهدتها الخبرة الطويلة إلى أساليب مختلفة للملاحظة والتفسير والكشف والتنبؤ بما يأتي به الأيام. ومراقبة أسراب الطير (زرقاء اليمامة) وظواهر الخسوف والكسوف والرعد والبرق وأحشاء الذبائح والأضاحي والأوبئة والحروب والمجاعات ... إلخ عند العرب والإغريق والرومان أشهر من أن نتحدث عنها. والدور الذي يشغله الكاهن والمتنبئ والعراف والمنجم والساحر والرائي عند هذه الشعوب أو غيرها ولا يزال يحتل مكانه في أعماق شعورنا أشهر من التعرض له. ومهما يكن من أمر التفسيرات والشواهد، فإنها جميعا تقوم على هذه الظواهر الأولية أو هذه التجربة الأصلية للمستقبل علامات وإشارات تسبقه، ولا يستطيع فهمها وقراءة حروفها إلا الموهوبون من أصحاب الرؤية والبصيرة. وحتى ظواهر «الكشف» المختلفة التي يدرسها اليوم علماء النفس تشهد بأن المستقبل حاضر بالفعل، وقد ترك آثاره حولنا، مهما تكن ضآلة هذه الآثار.
إن تجربة اللقاء بالمستقبل تثير في النفس شعورا عجيبا. ليس من الضروري أن يكون هذا المستقبل المتوقع خطيرا، ولا أن يحمل في أحشائه النعمة أو النقمة. فالمهم أن يصبح حقيقة حية. وكلنا يشعر أن فرحة الانتظار أصفى وأجمل من سعادة التحقق. وكلنا يدعو الله في سره أن يحميه من ألم الرغبات المتحققة، ويحييه على أمل الوعد والرجاء ...
وسعينا الدائب إلى المعرفة يستمد حرارته وإخلاصه من وجود المستقبل. والأمل في العدالة والسعادة والمحبة والخير، تجربة يعيش عليها الأدب والفن والفكر والحياة اليومية؛ لأن الإنسان بطبيعته حيوان آمل، ولو فرض أن تحققت هذه المثل والقيم والآمال لتوقف الزمن، وامتنعت الحياة. وستظل كلمة الأديب الناقد الألماني «ليسنج» تتردد في الآذان ككل الكلمات الصادقة: «ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي إليها. فليس تملك الحقيقة هو الذي ينمي قواه وطاقته، وإنما البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولا ساكنا مغرورا. ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وترك الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه، ومد نحوي يديه المضمومتين وهو يقول: «اختر بينهما» لركعت أمامه في خشوع وهتفت وأنا أشير إلى يسراه، رب أعطني هذه، فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!»
غير أن وجود المستقبل لا ينطوي على الأمل والوعد فحسب، بل قد ينذر بالهول والدمار. هنالك يسيطر على كيان الإنسان، بحيث يصبح بصورة من الصور هو هذا الوجود نفسه. كذلك كان العرافون والعرافات (السبيلا) والمتنبئون وأصحاب الرؤية، بل كذلك يكون العبقري الذي وصفه «هلدرلين» في أنشودته عن «روسو»: «فروحه تطير كالنسور
لتسبق الرياح والأنواء
ناپیژندل شوی مخ