القرية في أمثالها
ليالي القرية ومواسمها
اللهجة العامية اللبنانية
الشعر العامي اللبناني
أطوار الزجل اللبناني
الطور الكلاسيكي
الشعر العامي
الطور الرومانطيقي الرمزي
من قلبي
جلنار
ياجوج وماجوج
القرية في أمثالها
ليالي القرية ومواسمها
اللهجة العامية اللبنانية
الشعر العامي اللبناني
أطوار الزجل اللبناني
الطور الكلاسيكي
الشعر العامي
الطور الرومانطيقي الرمزي
من قلبي
جلنار
ياجوج وماجوج
الشعر العامي
الشعر العامي
تأليف
مارون عبود
1886-1962
القرية في أمثالها
القرى أهراء المدن، فمنها تستمد القوت، من حنطة، وخضار، وفواكه وألبان، ولحوم وخمور، فكأنها معمل، دواليبه الرجال. وكما لا تقف المعامل إلا هنيهات، كذلك يظل الفلاح في حركة دائمة، فحياته زرع وقلع، وحلب ضرع، صيفه استغلال، إن جادت عليه الطبيعة بالأمطار في أوانها. وإن جاءت قبل الوقت المناسب أو بعده قعد حسيرا كئيبا، يعلل نفسه بحكمة الأمثال التي علمته إياها التجاريب، وأملتها عليه الأيام فيردد: «إن فاتك عام استبشر بغيره»، فالقروي صبور، جلود، لا يقنط ولا ييأس، ولا يكاد يسقط حتى يقوم.
لا أدري ماذا يحل بسكان المدن من حكام وعلماء، ومن صناعيين وتجار وعمال، إذا وقف هذا البائس عن العمل، أو قنط ويئس، ولم يحرث أرضه ويرب نعاجه؟!
أيأكلون البضائع التي تعج بها مخازنهم وحوانيتهم؟! وهل يطعمهم الدولاب خبزا وخضارا ولحما؟ ثم من يستهلك منتوجاتهم، وينفق بضاعتهم؟! أليس القروي هو المستهلك والمنتج في وقت معا؟! لقد تخيل الشاعر الفرنسي سولي برودوم هذه الحالة، ووصفها في إحدى قصائده، فرأى الموت على مقربة منه.
فلو لم تسخر الطبيعة أبناءها كلا لعمل، وتجعل أسلوب حياته رائقا في عينيه، لما كان ابن القرية يرضى بعزلته وخشونة عيشه، فإذا دخلت القرية نهارا فقلما تجد في بيوتها غير الشيوخ العاجزين، والنساء اللواتي لا يستطعن عملا، أو اللواتي يهيئن الطعام للرجال الكادحين في الحقول، حتى إذا دنت ساعة الغداء، حملن سلال الطعام في يد، وأباريق الماء في يد، وهرولن إلى الحقول حيث تنتظر الرجال الزاد.
إن أيام القروي مملوءة عملا في جميع الفصول، وهو لا يلجأ إلى بيته نهارا إلا إذا دهمه المطر شتاء، وكواه الحر صيفا، فلكل فصل من فصول السنة عمل لا بد من أن يتمه في حينه؛ لأن المثل يقول له: «الفلاحة يد.» فإذا تقاعس أو تماهل فاته الرزق، والرزق في نظره قسمة ونصيب، ولكن العمل واجب؛ فالله قال: «قم حتى أقوم معك.» فإذا تباطأ أو قصر كان هو المقصر، وصح فيه المثل: «اللي من ايده الله يزيده.» «الحركة فيها البركة»؛ لذا تراهم لا يستقرون، فإذا تركوا الحقل للاستراحة فلا بد من عمل ما حول البيت، فالزمان يخلص، والعمل لا ينتهي، والتعب وسخ.»
ليس كل أهل القرى يحرثون وينكشون، بل هناك فئة تستأجر عمالا، فيكون عملها مراقبتهم لكي يحسنوا العمل ولا يضيعوا الوقت. وكما يتمتع العمال المدنيون بالموسيقى الاصطناعية التي ينطق بها المعدن، كذلك لهؤلاء موسيقى طبيعية ترفه عنهم، فهنا حسون يغني، وشحرور يغرد، وحجل يتكلم، وهناك راع ينفخ في شبابته فيلطف من شقاء الفلاح، ويهون عليه مصيبته، فتصير «نصف مصيبة».
النهار - كما قلنا - للعمل الدائم، وكيفما التفت العابر تقع عينه إما على حطاب يقطع الحطب، ويحمله إلى بيته ليدخره للشتاء، كما يدخر مئونته تماما؛ لأن المثل يقول له: «في كانون كن، ومن المولود للمعمود يقف الماء عامود»، وإما على آخر يلم تينه ليدخره للشتاء، فإذا كانت «المئونة في الصيف على العود، فأيلول طرفه بالماء مبلول.» فليستعد له، «فالشتاء ضيق ولو كان فرجا.»
وقد ترى مكاريا يسوق بغله وحماره، وهو يغني ليخفف من مشاق الطريق، ويبلغ المكان المقصود، فإذا «جاء الليل جاء معه الويل.»
إذا كنت رأيتني - وكما ستراني - أكثر من ذكر الأمثال، فلا تنس أن ثقافة القرية في أمثالها، فالمثل هو أدب الشعب وعنوان ثقافته، والدليل على عقلية الأمة الخام، وأخلاقها الأولية، ونتيجة اختباراتها في الحياة. إن الأمثال القروية أحكام محكمة الوضع في جمل وجيزة يعرفها القروي الأمي، كما يعرف المحامي المتضلع مواد الحقوق الأصلية، فهو يحدثك دائما بالأمثال، ولا بدع في ذلك؛ فالمثل هو الثقافة البشرية الأصيلة. وكما يوجد فلسفة عامة يعرفها المكاري والمعاز والأكار، فيشترك فيها العقل البشري على اختلاف طبقاته، كذلك يوجد ثقافة شعبية تجمعها هذه الأمثال، فهي - كما قلنا - أشبه بالمواد الكلية في الحقوق المدنية من حيث إيجازها وبلاغتها وما ينطوي تحتها من معان. فكتب حقوق القروي تحت لسانه، وهو لا يحتاج إلى مراجعة المجلات والدساتير ليصدر أحكامه؛ فهذه الأمثال أحكام تتناول جميع الشئون الحياتية، وهي تجمع المحاسن والأضداد، والكفر والإلحاد، وفي الجملة، الشيء وضده في كل باب ومطلب.
المثل - في نظري - هو رفيق الأمية عبر العصور، وستظل هذه الأمثال حية خالدة، إذا مات منها واحد قام عشرات. وهي تتغير وتتبدل بتبدل أساليب العيش، وتتطور بتطور الحياة، ولا تحرم الإنسانية عقولا ثاقبة ترسل الأمثال وتضربها في كل مناسبة.
وبهذا التبدل فهي تحافظ على بقائها؛ لأنها تنبع من جميع طبقات الشعب، ولذلك أراها ملائمة لعقلية الشعوب أكثر من الشعر، بل هي أصدق من الشعر. أما هذا التناقض الذي نراه فيها، فهو عندي طبيعي جدا؛ لأن المثل يماشي الحياة التي لا تسير على نمط واحد، وفي سياق واحد.
وقد حرص الناس على أن يقولوا في كل غرض مثلا. فللزراعة، وهي تهمهم كثيرا، أمثال لا تعد، نذكر منها قولهم: «غير بذارك ولو من عند جارك.» و«بعد أختي عني وخذ غلتها مني.» هذا ما نطق به الزارع والدارس.
ولهم في الطب أمثال أيضا منها قولهم: «البذرة التي لا تعرف فيها، بالنار داويها.»
وكذلك يقولون في الاقتصاد: «على قدر بساطك مد رجليك.» ولهم في السياسة مثل يوهمك أنهم يكرهون السياسة مع أنهم غارقون فيها إلى آذانهم، قالوا: «الداخل بالسياسة مثل الداخل بتنكة الكناسة.»
والأمثال منها ما هو وليد الاختبار، ومنها ما هو وليد الوجدان والعواطف، ومنها ما هو وليد التمرد والحرمان. فهذا القروي الذي وصفته لك كادا جاهدا نفسه، لا تنس أن فيه روحا عاتية، يفكر كما يفكر حكامه، وإذا أكره وأثير، استحالت فأسه ومنجله ومسحاته ورفشه ومنخس ثيرانه عتادا حربية، يضحي ببنيه وثيرانه وكل ما يملك إذا ما استفزه البغي والظلم.
والفلاح - على بساطته - هو الذي يسقط الحكام، ويقوض العروش حين تستحيل منجل حصاده سيفا، وعباءته درعا وترسا، يهاجم الموت وهو يردد المثل القائل له: «مت ابن ... ولا تعش حزينا.»
فهو يقول لك حين يكون راضيا عن حكامه، أو ساخطا ولا تواتيه فرصة الفتك: «لا سلطة إلا من الله، وحاكمك وربك.» كما يستعين بالدهاء فيقول: «اليد التي لا تقدر أن تعضها بوسها وادع عليها بالكسر.» وعندما تأتي الساعة الملائمة يندفع كالنهر الجارف وعلى لسانه: «عيشة بالذل أنا ما أريدها.» حتى إذا ما ظفر بذاك الطاغية الذي كان يقول فيه: «لا سلطة إلا من الله»، يقول له بعد أن يسقط عن كرسيه أو يقتله: «على الباغي تدور الدوائر، ولا يحصد الإنسان إلا ما زرع.»
ثم يتنفش بعد هذا الفوز على ظالمه ويقول: «قالوا لعنتر: من عنترك؟ قال: ما لقيت حدا ردني.» نحن رددناه؛ لأن «الوعاء الذي لا يمتلي يكون معيوبا.»
أعتقد أن لبنان أغنى من غيره بالأمثال؛ وذاك لتشابك المدنيات فيه، بتواليها عليه، وبقدر ما تتشابك الحياة وتتعقد شئونها، يهب المثل من مكمنه ليعبر عنها، ويبقى رمزا إليها. إن القروي سياسي مطبوع، ولذلك قلما ترى قرية ليست منقسمة حزبين أو أحزابا. ولعل القروي، إذا ترك المحراث وقعد يستريح، يتحدث مع رفيقه عن السياسة العالمية على قدر ما يدرك منها، ثم يتطرق إلى المحلية منها. وهناك يجلي في ذلك المضمار، فهو ينتصر لرجل، وربما كان لا يعرفه، ولعل تحزبه له يكون نكاية بجاره أو بابن عمه أو أخيه، وكما يقول مثله: «من أخذ أمي صار عمي»، يقول أيضا: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.» ولكن لا، فكثيرا ما نرى القروي ينتصر للغريب ويعادي حتى أخاه ليحقق القول: «البغض بين القرايب، والحسد بين الجيران.»
وهذه الحزبية القروية كثيرا ما سفكت دماء وزهقت أرواح بسببها؛ فالقروي عات جبار، إذا استفز صغر الموت في عينيه وقتل خصمه كما يقتل الحية. وللثأر عندهم مكانة عليا؛ ولهذا تزول الأحقاد بينهم في تلك الساعة وينتصرون لبعضهم ويقولون: «ابن عمك حمال دمك .» حتى إذا ما مرت تلك الفترة عادوا إلى عنعناتهم وتنافرهم وتباغضهم.
وحب الزعامة والرئاسة متأصل في القرية؛ ولذلك قسم أبناؤها الجماعة درجات: فلان يأخذ القهوة قبل فلان، وزيد يجلس فوق يد خالد، وإذا أخل أحد بهذا الترتيب، كانت العاقبة غير محمودة، وقد تؤدي إلى قتل من تجاوز حده ولم يقف عنده.
أما العيشة في القرية فمشتركة، فمن عنده يهدي إلى الذي ليس عنده، وقد تكون عند فقير فاكهة ليست عند أبناء قريته، فهو لا يحجم عن أن يهديهم شيئا من ثمارها فيأكلون متمثلين: «سنة مباركة ورزق جديد.»
وأبغض شخصية في القرية هي شخصية البخيل الشحيح، وفيها يضربون الأمثال: «البخل كشاف العيوب وقاطع المحبة من القلوب»، و«البخيل بيموت عليل»، «البخيل بياكل من كيسه، والكريم بياكل من كيس غيره.» كما يقولون في الكريم: «الكرم مغطي كل عيب»، و«هين مالك ولا تهين حالك.»
وأحب الناس إليهم من كان جوادا، فالكريم المضياف: «كرم على درب، وبيته مفتوح»؛ وذلك لأن من عاداتهم أن المار يأكل عنبا وتينا من كل كرم يمر عليه، بشرط أن لا يأخذ معه شيئا، وإن أخذ أهين، وإن كبر رأسه ضرب.
إن الضيافة هي شعار القروي، ومن العار عليه ألا يقوم بواجب الضيف. قد تستخف بالقروي حين تراه وعليه ثوب العمل المهلهل، فيكاد يكون: «ما عليه من الخام ريحه.» ولكنه إذا لبس ثوب الاستقبال وأدخلك بيته البسيط النظيف، وقدم لك طعامه المعد أحسن إعداد ظننت أنك عند رجل لا صلة بينه وبين الحقول والمواشي. وإذا كان الضيف كبيرا ذبحوا له خروفا أو جديا، وإلا فدجاجة. وإن كان ممن لا يؤبه له قروه من حواضر البيت: الجبن واللبن والبيض، وكانت حلاوته التين. أما الذي يهرب من وجه الضيف فمثلهم يقول فيه: «الكلب لا يعرف بابه»، وإذا كان غنيا بخيلا قالوا فيه: «كلب محمل قروش.»
ومن أمثالهم: «الضيف له الكرامة»، و«ضيف المسا ما له عشا»؛ أي يقدم له من حيث كان، ويقام بواجبه على حقه في الغد؛ لأن الضيف: «أسير المحل»، فلا يبارح المضافة إلا مأذونا:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
كما قالوا: «الضيف المتعشي ثقلته على الأرض.» وإذا كان الضيف ثقيل الدم أو وقحا قالوا فيه: «ضيف وحامل سيف.»
أما الرجل الذي لا يرجى خيره ولا يتقى شره، فهذا عندهم لا منزلة له وفيه يقول مثلهم: «فلان لا يهش ولا ينش، وفشكة كر، لا بينفع ولا بيضر.» ولما كانوا - في ذلك الزمان - لا يعرفون صبغة اليود وغيرها من المضمدات قالوا في البخيل أيضا: «فلان لا يبول على أصبع مجروح.»
ومن قيمهم الأخلاقية المثلى عرفان الجميل؛ ولذلك قالوا في الذي يسيء إلى من أحسن إليه: «كل شيء تزرعه وتقلعه إلا ابن آدم، تزرعه فيقلعك.»
أما المحافظة على العرض فرأس مكارم الأخلاق عندهم، قد يقتل الرجل أمه أو أخته. وقد يتحمس شباب القرية فيقتلون واحدة أساءت السلوك؛ حفظا لكرامة الضيعة، لئلا يقال: في القرية الفلانية بنت أو امرأة عينها شاردة؛ ولهذا لا يسمحون للبنت بالاختلاء بمن يميل إلى تزوجها. وفي ذلك قال مثلهم: «اربط إيدك مليح تستريح.» والبنت ينصحها مثلهم بقوله: «عشيقك لا تأخذيه ومطلقك لا ترديه.» وإذا ماتت لهم بنت قالوا: «ماتت حرة ووفرت صرة.»
أما العلم - في القرية - فمنتشر جدا، وهم قديمو العهد به، فحد كل معبد مدرسة صغيرة تعلم القراءة والكتابة حتى يندر أن ترى أميين في القرية اللبنانية، وقد أضيف إليها حديثا مدارس حكومية، وديورة كثيرة استحالت مدارس عالية نشرت الثقافة منذ مئات السنين.
ليالي القرية ومواسمها
أشرنا إلى تعب القروي وكده في نهاره، ولا بد لنا من الإشارة إلى لياليه التي يحييها ليرفه عن نفسه. وهي تكون دائما صارخة حافلة بالأغاني؛ لأن كل ما في هذا الجبل يغني، العامل يشتغل ويغني، والحارث يغني خلف فدانه، والمكاري يغني وراء بغله وحماره، والراعي يغني ويترنم وينفخ في مزماره وشبابته، فيفرح قطيعه وسامعيه. ولا عرس ولا عيد ولا مولد بدون غناء وشعر، حتى يصح أن نسمي لبنان: جبل الزجل، فقلما عجز عن قول الشعر العامي أحد. وهذا الشعر يتناول جميع أغراض الشعر من غزل، ومدح، ورثاء، وحكمة، وحماسة، ومسرحيات، وملاحم، وفكاهة، وهجاء، ولعلهم يمتازون بالارتجال كما سيأتيك الخبر. •••
ليس للقرية مسارح ومقاه، فمسرح القرية ومقهاها بيت وجيه الضيعة، ولذلك قال مثلها: «الذي يعمل جمالا يعلي باب بيته»، ففي ليالي الشتاء السوداء، يلتفون حلقات حول نيران موقده، ويشربون القهوة ويأكلون النقل البلدي، من تين مجفف، وجوز، ولوز، وزبيب، وغير ذلك من الفواكه المحفوظة، ويغنيهم صاحب الصوت الرخيم منهم العتابا والميجانا والمواليا وغيرها، وقد تشارك المرأة في هذه الأغاني رجال الضيعة وشبابها، كما تشاركهم في تلك الأهازيج المحلية اللون.
ويطيب للقرويين أن يسمعوا أغاني الفروسية وأقاصيصها، فيصرفون قسما من السهرة في سماع إنشاد قصة «الزير أبو ليلى المهلهل»، فتعجبهم أخباره وحوادث فروسيته، ويطربون لأفعاله العجيبة، وعندما يترنم المنشد هاتفا بقوله:
وأول قولنا: نستغفر الله
إله العرش لا رب سواه
تطرب النفوس وتخشع لذكر الله حتى في مجال الهزل.
وتمشي القصة حتى تبلغ قتل الزير للسبع:
فرد السبع نحوي يا ابن خيي
فتح تمه ومد لي يداه
فضربته بسكيني قتلته
وقع مطروح من فوق الوطاه
فتتعالى الأصوات، وقد أعجبتها هذه البطولة الرائعة، ثم يمرون بالحكمة المنثورة في ديوان الزير، فيعجبهم قول المهلهل:
جبال الكحل تفنيها المراود
وكثر المال تفنيه العداه
وأما الكذب هو راس المعاصي
والكذاب لا تقعد حداه
وفي بيت وجيه آخر ينشد المغني شيئا من قصة عنترة، وفي ليلة أخرى يسمعون فصلا أو فصولا من تغريبة بني هلال، فيتمثلون الزناتي خليفة، ودياب ابن غانم، وأبو زيد الهلالي، وهكذا دواليك.
وتتعالى الأصوات بالهتاف حين يقول أبو سعدى:
يا سعدى أنا أكره دياب وذكره
كما تكره الخالة ولاد رجالها
وإذا كان هناك من تزوج أبوه غير أمه، كان الرمز والإيماء. وقد تنتهي السهرة إلى شجار، ولكن خارج بيت الوجيه أو الزعيم؛ لأن لبيته حرمة لا تنتهك.
وفي ليال أخر، قد يتسلون بحكايات أحبها إلى نفوسهم ما كانت حافلة بالغريب العجيب، كحكايات ألف ليلة وليلة. والحكواتي يمثل لهم الحكاية وحده، فهو يتقمص كل شخص ويحاكيه. وقد ينتقلون إلى الحزازير؛ وهي ألغاز وأحاج يعملون أفكارهم في حلها.
وقد يقومون بألعاب مضحكة مثل «زي عروستي»، و«اجعل مخزنك عبك»، وغيرها من المضحكات الساذجة المسلية حقا.
هذا في السهرات العادية، أما سهرات المناسبات الكبرى كالولادة والأعراس، فتعد من ليالي العمر. فإذا ولد لرجل مولود، حملوا إليه الهدايا من سكر، ورز، وبن وصابون، ودجاج. وأبو المولود يقوم بواجبهم، فيقدم لهم الخمور الجيدة، والعرق اللبناني المشهور، ثم يعد المآدب فيأكلون، ويشربون، ويسمرون، ويغنون داعين للمحروس بطول العمر.
أما في الأعراس فتظل الاجتماعات تعقد في بيت العريس أسبوعا بل أكثر، إذا كان الذي تزوج من أصحاب اليسار.
في تلك الساعة يشرب الناس ويغنون العتابا، والميجانا، والمعنى، والقرادي، والأغاني المختلفة. ويرقصون رجالا ونساء رقصة الدبكة على نقر الدفوف، وعزف المزمار، وقد ينتهي بهم السكر إلى المشاجرة، بل إلى سفك الدماء والقتل.
وللأعياد عندهم أهمية كبرى، فهي سوق مفاخر، وخصوصا عيد قديس الضيعة، حيث تستحيل القرية إلى مطعم عام، فكل واحد من القرويين يستعد لذلك اليوم، ويدخر له خير محصولاته ليقدمها إلى ضيوفه. فاللبناني القروي كريم مضياف، والقرية لا مطاعم ولا مقاهي فيها؛ ولذلك ترى القروي مستعدا دائما لاستقبال الضيف الطارق، وخصوصا يوم عيد القرية. ويرى كل واحد أنه من الغبن أن يقصر عن جاره، فتراهم يتنافسون في هذا، ثم يتفاخرون بعد ذلك بكثرة ضيوفهم، فمن كان أكثر ضيوفا يكبر في عين القرية. وعيد قديس الضيعة سوق عكاظ، بل يفوق سوق عكاظ بالشعر المرتجل الذي يتبارى فيه الشعراء المقبلون من كل ناحية لإحياء هذه الليلة، فيبنون شعرهم على وزن واحد وقافية واحدة، ويكون خطاب وجواب، يبدءون عادة بمجادلة بعضهم، وينتهون أخيرا إلى التهاجي الذي يسميه شعراء القرية قول جفا، وفي مثل هذا الموقف كثيرا ما تجري أقوالهم على أفواه الناس مجرى الأمثال، كقول أحدهم لمناظره:
لا البطيخ بيكسر سيخ
ولا الملفوف بيلوي سيوف
وقد تطول الجلسة ويضيق الحرف، أي القافية، فيلجئون إلى قافية جديدة.
والقرية، كما تغني وترقص في مواسم الأفراح، كذلك تفعل في المآتم والمناحات. وقد يستحيل المأتم إلى عرس صارخ حافل بالغناء المحزن إذا كان الميت شابا أو زعيما كبيرا أو أميرا، فتأتي كل قرية حاملة بيرقا ولكل قرية بيرق خاص، وتسرج الخيول، ويتبارى شعراء القرية في تعداد مآثر الميت وتمجيد أعماله، ولو كان غير مستحق، وتطلق العيارات النارية، فتخالك في فتنة صارخة أو في ساحة حرب. وكثيرا ما يثقل الدين البيت إذا ما مات منه أحد؛ لأن المبالغة في أبهة المناحة كثيرة التكاليف.
إن الغناء هو الهيكل العظمي في جسم القرية، وقلما يخلو مجتمع منه، ففي كل مناسبة يرفع القروي عقيرته مترنما. طبعا إن أغاني الفرح هي غير أغاني الترح، وكي نعرف القارئ بها سننقل نموذجا من هذا الشعر الشجي الباكي.
إن أغاني المآتم نوعان: نوع تقوم به الرجال - وهو ضرب من الحداء بلحن كئيب - ونوع تقوم به النوائح؛ أي النساء النادبات، وله إيقاع غير ندب الرجال.
فمن ندب الرجال قولهم في وجيه، عالم بالشريعة؛ أي محام:
انهزت أقطار العوالي
وانكسف قطب الشمالي •••
يا جبل عالي وراسي
يا مطفطف عالكراسي
كيف حالو بعد منك
رسم قانون الأساسي •••
خزقوا روب المحامي
وسكروا باب الشريعه
أما نواح النساء فمن نوع آخر ولحن آخر، وهذا نموذج منه:
بو شاهين يا بعدي
ويا بو شارب الجعدي
وعدت شاهين بالرجعه
ورحت وطابت القعدي
والقرية لا تخلو من المهازل أيضا، فهم يلجئون إليها في أيام خاصة، نذكر منها مثلا: «إثنين الراهب» وهو أول يوم من الصيام، فتخرج القرية بعد الظهر لاستقبال الراهب. كانوا فيما مضى يخرجون إكبارا له وإجلالا، وصاروا اليوم يمثلونه مهزلة، فيركبون شخصا مرتديا ثوب الرهبان، وله لحية عارمة على الدابة بالمقلوب؛ أي وجهه لجهة ذنبها، فيقودها أحدهم والجماهير تتبعه، فيطوفون به في الأزقة والدروب هازئين ساخرين.
وهناك أيضا يوم البربارة، فهو أشبه سخرية بيوم إثنين الراهب، ولا بد في الحفلتين، بل في كل حفلة قروية من الغناء. وهكذا يغنون في يوم البربارة طائفين على أبواب الأجاويد ، فمن أعطتهم وجادت، غنمت المدح، ومن بخلت كان حظها الشتم.
هيلجي برباره
والقمح بالكواره
هيلجي هيلجينا
أيش ما كان عندك اعطينا •••
شيحه فوق شيحه
صاحبة البيت مليحه •••
خليه فوق خليه
صاحبة البيت نوريه
وقد لا تنتهي هذه المواسم على خير.
أما المرفع فهو موسم سكر وأكل لحم، وزواج. يعلف القروي كبشا، أو قرقورا، أو جديا، أو تيسا، يسمونه مرفعية، ويأكلونه خلال أسبوع تنتهي مدته ببدء الصوم. وإذا فضل عنهم شيء قددوه وحفظوه ليوم عيد الفصح وما بعده. إن هذه العادة قد أذنت بالزوال، وأراحت القرية من حوادثها الدامية.
أما الأعراس فتكثر في هذه الفترة، لأن الكنائس الشرقية لا ترخص بالزواج زمن الصوم.
وأخيرا، إن عادات القرية وتقاليدها وثقافتها التي تعرب عنها أمثالها وأغانيها، تضيق عنها المجلدات، وما دامت القرية الواحدة تعرف ما لا يقل عن خمسة آلاف مثل، والألوف المؤلفة من الأغاني، فكيف يمكن أن توصف في كتاب واحد؟
فسبحان من عدد مظاهر الثقافة، وشكرا له!
اللهجة العامية اللبنانية
كنت - ولا أزال، وسأظل - عدو الاثنين: الداعي إلى إحلال اللهجة العامية محل اللغة الفصحى، والقائل بكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية.
كلا الأخوين أضر من أخيه، أيجهل هؤلاء الدعاة أن لكل جيل من الناس لغتين؟ لغة يجري بها القلم، وهي مادة الكتاب، والكتاب سجل المدنية الخالد، ولغة تدور على الألسنة، وبها تتفاهم الأمة المختلفة الأقاليم؟ أذكر ولا أنسى أبدا أن واحدا من بني عمي تزوج أميركية وجاء بها إلينا، فحاول أحد طلاب المدارس أن يحدثها باللسان الإنكليزي، فلم يفهم عنها ولا فهمت عنه، إلا: «يس وأوريت، وغود مورني.»
وزارني، منذ أعوام، مراكشيان فما تفاهمنا إلا بالفصحى، وأذكر مرة أخرى أن أحد المهوسين باللهجة، قرأ لي محاضرة كتبها بلهجتنا العامية، متوقعا مني ثناء طويلا عريضا، فقلت له هذه الكلمة: خطابك جميل، إلا أنه يحتاج إلى ترجمة، فاحمر وجهه.
وبعد، فقد تكون لهجة لبنان العامية أنقى اللهجات، وأقربها إلى الفصحى لانكماش اللبنانيين وتقلصهم في جبالهم الوعرة، غير المرغوب باستيطانها. هذا ما كان، أما ما سيكون فمن يدري؟ إن سهولة المواصلات، ومطامع الشركات، والمهاجرة من ... وإلى، قد تؤدي إلى إفساد لهجتنا، والله أعلم.
إذا سمعت لبنانيا يقول للخادم خذمتشي، فاحكم حالا أنه غير جبلي، فعلى ألسنة اللبنانيين تدور تعابير قرشية النسب لا تحصى، وإليك بعض ما يحضرني منها: «قطعنا له ثيابا»، «من كل فج عميق»، «أساور من ذهب» ... «لولا كلمة سبقت»، «اسم الله عليه»، «لا تقع السماء على الأرض»، «ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم»، «سبق عليه القول.»
إن هذه التعابير من كلامه تعالى، ولساننا يجري بها حتى الساعة. فاللبناني لا يعرف مضغ الكلام، وقلما رأى في ضيعته الأعاجم، وإن مر بها واحد فكمر السحاب. اجتمعت في أخريات هذا الصيف بمحمد الأمير، أمير بني ربيعة، فقال لي: إن لهجة لبنانكم أقرب اللهجات إلى لهجتنا، وإننا نفهم عنكم أكثر مما نفهم عن سواكم.
نعم، إن ابتعاد اللبناني وانفراده، حملاه على أخذ مسمياته من أفعالها، فقال: فلاح، وفاعل، وأطلق على القد - الذي تشد به الحلقة إلى النير - اسم «الشرع»، تأمل ما أجمل وأدل هذا الاسم على ما يعدل به الفلاح بين ثوريه، فلا يحمل واحدا منهما فوق طاقته! وهو يسمي الأداة التي ينكز بها الفدان «مساس» لأنه يمس بها مسا، ففي رأس المساس نصل كنصل الرمح، والمساس رمح الفلاح، وساحة طعانه حقله. أما الآلة التي يضرب بها ضربا فيسميها «صاموطة»، وكأنه اشتقها من السمت، ومعناه الخط الذي يريد أن يرسمه.
لم يدع قدماؤنا - حتى المتأخرون منهم - هذا النهج في مسمياتهم، فقالوا: «أبو الركب» في حمى الضنك. أما اليوم، فأخذ بعضنا يقول: كورب، ومكورب، من كلمة كريب؛ أي مصاب بالرشح. كان القدماء، إذا تعذرت عليهم التسمية، لجئوا إلى المجاز، طابعين على غرار جدودهم، يسمون الشيء باسم جزء منه، فقالوا: «لستيك» لنوع من الأحذية.
ومن هذا الطراز قولهم لمن رأوه في بحران وسهو: «مسطول»، و«قاعد مثل السطل» «لا يهش ولا ينش.» ويقولون للخفيف الرأس: «مشتول»، وعلى هذا الغرار قالوا للقصبتين المضمومتين: «عنيق»؛ لأن عنقهم ينتفخ عند النفخ للغناء بهما، أو يسمونهما «قصب» باسم جنسهما، كما يقولون للمريض: «ساخن» من السخونة. ومن تسميتهم الحسنة قولهم: «كف ورق»، لخمس طلاح ويلفظونها «طراحي». ويقولون: «حص توم» وفي الحص لغويا معنى الكثرة. ويسمون أحد أجزائه «سن توم» لما بينه وبين السن من تشابه. ويعجبني منهم نهجهم في الأسماء والألقاب والكنى نهج العرب، فلقبوا واحدا «الصبح» وهو أكمه، وسموا آخر «العيوق» وهو يكاد يكون مسخا، وكنوا رجلا «أعشى» ب «أبو ضو» كما قال العرب: «أبو بصير». وأرى أيضا في تسمياتهم ذوقا مرهفا حين يسمون النونة والفحصة «غمازة»؛ وهي نقرة تبدو في الخدين عند الابتسام وكأنها تغمز. ويعجبني أكثر من ذلك هربهم من الحروف الثقيلة كالذال، مثلا، فإما أن يلفظوها دالا أو يحذفوها بالكلية، فيقولون للماهر في مهنته: «أصطا» بدلا من أستاذ، وللساذج: «سادا» رادين هذين الحرفين إلى أصلهما الفارسي.
قال أحد المتمشرقين: إن أهل لبنان يلفظون الذال دالا، فصدق، ولكنه مثل على ذلك بإذا، فضل كعادة زملائه، فليس هناك لبناني يقول: إدا.
إن العوام، وخصوصا اللبنانيين، أعداء كل حرف ثقيل، فأكثرهم يلفظ القاف همزة، كقولهم: «اسكت بأى» وهم يحذفون الهمزة حذفا كاد أن يكون إجماليا فيقولون: «جا، وجايي، وجينا»، وإذا سمعت لبنانيا يعكس همزة جاء ويقول: «إجا»، فاعلم أنه غير جبلي أصيل.
ومن خصائص اللهجة اللبنانية النحت والقلب والإبدال، ولنقل: الاختزال واللز إن صح التعبير. فيقولون: «أيوه»، في أي والله، و«إسا ولسا»، في الساعة وللساعة، و«هلق» في هذا الوقت، و«بدي»، بدلا من بودي، و«أيشو»، في أي شيء هو. وفي الشوف يقولون: «شو» بدلا من أيش. أما من يقول: «شونو» فمتحذلق. إن اللهجات في لبنان تختلف باختلاف الأقاليم اختلافا جزئيا، ومن اختلاف اللهجات نعرف الأقاليم، ومن اختزالهم قولهم: «تعاتا ناكول»؛ أي تعال حتى نأكل. و«هو» بدلا من هؤلاء، كقول الخادمة: «بدي كنس هو»؛ أي بودي أن أكنس هؤلاء. وكقولهم: «أينو»، في أين هو، و«هيك» في هكذا، و«ليك» في إليك، ويلحقون بها الهاء فيقولون: «ليكو »؛ أي إليكه، و«ليكا»؛ أي إليكها، و«ليكن»؛ أي إليكم وإليكهن، وعلى نسقها تجري «معليك»؛ أي لا عليك.
أما الضم المشبع في عين المضارع وغيرها فمرده إلى اللغة السريانية التي طلقوها منذ قرنين أو أقل، وهذا الضم أشيع ما يكون في شمالي لبنان. وها نحن نصفي حساب السريانية دفعة واحدة. يقول لك اللبناني الشمالي، وسيان في ذلك المسلم الطرابلسي، والمسيحي الأهدني: طرابلس، صابون، ويقول: نحنا. أي نحن، فكأنهم يردونها إلى أصلها السرياني إحنا، مستبدلين النون بالهمزة عدوتهم، وبعضهم يلفظها على حقها السرياني: إحنو. ويقولون: هيدي؛ أي هذي هي، فكأنها من هودي السريانية، وعندما يقولون: هيد فهي ترخيم هودي السريانية. ويقولون: هاي؛ أي تلك، فكأنها هي السريانية. ويناديك أحدهم: هو، بدلا من ها العربية، فكأنه يردها إلى هو السريانية. وتحويل الذال دالا هو من نوع رد الألفاظ إلى سريانيتها، فيقولون: حدا في حذاء، وحدوة في حذوة، ويحولون أيضا الضاد دالا فيقولون: ركد في ركض، وأحيانا يلطفون فليفظون الصنارة: سنارة. وبعكس ذلك يقولون: قصمة في قسمة. أما الابتداء بالسكون في كسروان والشمال، فأثر سرياني، يقولون: حديد، حليب، سليم. وقولهم: إيدين في يدين، وإيد في يد، سرياني أيضا. وكذلك قالوا: أبهاتنا في آبائنا، وبسببها تندروا على الكهنة فسموهم أب هات. وكذلك يلفظون الكرسي: كورسي بالضم العنيف؛ لأن سريانيها كورسيو. وكثرة النون في اللهجة اللبنانية مصدرها سرياني، فقالوا: هني بدلا من هم. ويقولون: ضربتن قتلتن، وكيفن أهل البيت، بدلا من كيف هم، فميم الجمع العربي نون في السريانية.
يقول لك الشمالي: إلو بدلا من إلا، وهي آلو السريانية، ويقول بعضهم: أيمات، وأيمتان، وأيمتى، وهي بلا شك من آمات السريانية بمعنى متى الاستفهامية. وأظن، لا بل أجزم، مخالفا الباحثين جميعا، أن لفظة «كمان» العامية بمعنى أيضا هي أكمن السريانية، حذفت منها الهمزة، وقول المكاري اللبناني لدابته: هش، هو من هوشو السريانية، وهي بمعنى الآن، وكذلك قولنا: برا وجوا فهما لفظتان سريانيتان.
ولا يزال الشمالي حتى اليوم يلفظ: لا، بالضم كما هي في السريانية. وكذلك يلفظون : يه، بمعنى إيه. ويلفظون: ما بينام بضم النون. ويقول لك: مروق أي مر، ونطمور؛ أي نطمر، وهما سريانيتان.
أما وقد شبعنا من هؤلاء، فلنعد إلى الهمزة؛ إن عداوتها حملت اللبناني على استعمال الصيغة السريانية فقال: بلاع وزراع في ابلع وازرع، وهما سريانيتان، وقاسوا عليهما الأفعال العربية فقالوا: دفاع وقطاع، في ادفع واقطع. ويقولون: منعطوف عليه، وهو مضارع سرياني بلفظه ومعناه. ومن نوع هذا الضم المشبع قولهم: ضروب، في اضرب، وكذلك يلفظون: ناطور بضم النون؛ لأن أصلها السرياني ناطورو. وتقابل عداوتهم للهمزة صداقتهم للنون فيقولون: مرين في مريم، وانتلا بدلا من امتلا، وعلى قاعدة العرب يلفظون النون ميما إذا تقدمت الباء الساكنة فيقولون: شو هو ذمبي؛ أي ذنبي، وإذا تحركت هذه النون لا تلفظ ميما.
إن هدف العامة هو الخفة، فألين الحروف أحبها إليهم. وقد أدرك العرب ذلك فجعلوا النون الناعمة لجمع الجنس اللطيف، أما احتجاج سيداتنا وطلبهن، أن يخاطبن بالميم، ففي غير محله، فليدعن الميم لأصحابها وحسبهن النون.
وقد أدت عداوة العوام للهمزة إلى استعمال الباء بدلا منها فقالوا: بدرس، بنام، بلعب. أما قولهم: عمبنام فهي اختزال عمال بنام. ويقولون: منضرب عند التقاء الباء والنون. وهم يستعملون الميم أحيانا بدلا من «ال» فيقولون مبارح، ومبارحا في البارح والبارحة. وبعضهم يقول: منيح في مليح. وفي بعض نواحي لبنان يفكون إدغام منا فيقولون: مننا.
وكما يختلف معنى اللفظة الواحدة عند قبيلتين عربيتين كذلك حصل عندنا، فمعنى عيط في فلسطين بكى وانتحب، أما عندنا فمعناها صاح وعربد. وكذلك بسط فإن معناها في العراق يختلف عن معناها عندنا.
والهاء عدوة العوام الثانية فيقولون: عطيتو بدلا من أعطيته. وكذلك الميم في مواضع، فيقولون: أنتو بدلا من أنتم. وقد يقلبون الهمزة ياء ليخزوا عجرفتها وتصدرها الأبجدية فيقولون نكاية لها: خد هدا يما هدا. ويقولون: لمن بتجي، حبا بنونهم الموروثة. وحبا بالضم الموروث أيضا يقولون: هون وهونيك في هنا وهناك. ويقولون: لهو فلان؛ أي لهجة فلان، وأظنهم اشتقوها من اللهاة هربا من ضخامة الجيم. ولفظ الثاء تاء كثير عند عامتنا، يقول لك المعاز: عندي تنيه، وتنيان ويوم التنين، في ثنية وثنيان والإثنين. ويلفظون الظاء ضادا، فيقولون: ضل على رأيك؛ أي ظل، ولكن هذا لا يطرد كما يطرد في الذال والثاء. ويفضلون مرق على مر فيقولون: دوبو مرق؛ أي دأبه مر. والبعض يقولون: مهنتس بدلا من مهندس. وهم يحذفون ما يستثقلون، فيقولون: زيرة بدلا من جزيرة. وللخفة، يلفظون التاء المربوطة ألفا، فيقولون: صورا، وغندورا. وأحيانا يثقلون فيقولون: ماضام ومضالية، في مدام ومدالية، ويقلبون هذه التاء ياء، فيقولون: شوكي أي شوكة، وحينا يقلبونها ألفا، فيقولون: من أيا جها جيت.
وهناك قلب آخر في مثل قولهم: «جوز، ريلا، إجر» في زوج وليره ورجل. وقد يزيدون حرفا للتكبير فيقولون: رجال، ويصغرون فيقولون: يا خيي ويا خيتي، في يا أخي ويا أخيتيي، ومن تحريفهم قولهم: ضم أو تم أو ضل عندنا؛ أي ابق. ومن اختزالهم للاستفهام عن الثمن قولهم: بقديش؟ أي بقدر أي شيء، ومثلها لاش وماش وبلاش، أي ما شيء ولا شيء وبلا شيء.
وأغرب ما سمعت هذا التحريف: سمس، ظرص زوز؛ أي شمس وجرس وزوج. كما يقولون: يا ريتو بدلا من يا ليته، ويحرفون كلمة فم فتصير تم، ويقولون: سد تمك أو بوزك، وبوز سريانية مستعربة. وكذلك يقولون: مهبول ومبهول وبهله. ومن تليينهم قولهم: بدي يحكي؛ أي بدأ يحكي. ومن إدغامهم ولزهم وصرهم ما يفعلونه باسم الموصول فيقولون: إلي ضرب، ثم تصير ال فيقولون: مين إلضرب، وهذه المين والمان سريانية. وهم يكتفون أحيانا بالهاء فقط عن هذا فيقولون: بتروح تقول لفلان يجي لعندي، ويتركون الباء فتصبح الجملة دعائية كقولنا: الله يحفظك، وتذكر الباء فتصير خبرية كقولنا: الله بيحفظك.
ويستعمل عوامنا كالعرب كلمات لا معنى لها فيقولون: كان بان، أو كان مان، وخبز مبز، كما قال العرب: حسن بسن، وحياك الله وبياك.
وهناك من ينقل حركة الحرف الموقوف عليه إلى ما قبله فيقول: كنت عند بكر، وتختلف حركات بعض الكلمات باختلاف الأقاليم والقرى، فمنهم من يفتح، ومنهم من يكسر، ومنهم من يضم، فيقول بعض البيروتيين: فهمت علاي، ويقول غيرهم: فهمت علي.
وقد دخل مؤخرا بعض ألفاظ فرنسية وإنكليزية لا داعي إلى ذكرها كما دخل قديما ألفاظ مثل كندره، وبوط، وسكربينه، أما مشايه فاشتقوها من المشي. ومن شاء أن يتعرف جيدا إلى اللهجة اللبنانية، فليقرأ جرائد الزجل التي تكتب باللهجة اللبنانية الأصيلة مثل مرقد العنزة، وليصغ كل يوم إلى ما يذاع من المحطات المختلفة.
الشعر العامي اللبناني
في هذا الجبل موسيقى داخلية لا تنقطع أبدا، موسيقى بعيدة القرار، عذبة الهينمة. فمن غابة توشوش وتهمهم، إلى واد يترنم، ومن نهر يثرثر، إلى كهوف ناطقة كالببغاء، أنغام أجراس كبيرة وصغيرة، منها ما يتأرجح في القباب، ومنها ما ينوس في الرقاب، رقاب الدواجن على اختلاف أنواعها، رنات تحيا وتموت رويدا رويدا، موسيقى آبدة لها طعمها ولونها، لا تطفر على الذرى حتى تهبط إلى الأودية، فتتغلغل في ثناياها قاطعة طريقها إلى اللانهاية.
اللهم رحماك! لقد استيقظ مارون عبود العتيق، ولكن ما يضر، فلنمض في أسلوب هجرناه وتنكرنا له، إن لكل شيء في لبنان موسيقاه الهائمة في منعطفاته، التائهة في التواءاته، المندسة في الآبار والهوى.
الجماد، والنبات، والحيوان، والإنسان، يتعاونون في لبنان تعاونا لا تشوبه السياسة، فيؤلفون جميعا موسيقى لاهوتية، توقظ الناسوت الكامن وراء اللاشعور.
إذا استيقظت في لجة الليل فلست تظفر بسكوت تام إن كنت ممن يسمعون، لا بد من شيء يناجيك فتشرئب حواسك الهاجعة، وتثور عاطفتك المهومة إذا كنت لشيء آخر في الليل تسهر، أشباح وهمسات تهبط مع الندى، وضبابات تسربل القمم فتعممها، فتهيم وعليها أبهة المحرم وجلاله، ثم ترتفع محتشمة، جارة أذيالها بوقار لتتحول في الأعالي صورا وتماثيل لا عيب فيها غير أنها لا تدوم.
أما الفجر الرمادي فيصب في نفسك ذوب ترانيمه وطيوبه فتسكر ولا تفيق، حتى يقبل القرص الذهبي فتخاله في متناول يدك، لو تطاولت قليلا.
إن الشمس في معظم القرى اللبنانية، وخصوصا في ضيعتنا، قريبة من الناس، فنحن وهي في مناجاة أبدية، لا تبتعد عنا إلا إذا اعتدل ميزان النهار ثم تعود إلى الدنو منا لتودعنا، ولكننا لا نلتقي، فكأننا طفلان يلعبان على رمل الأبدية ولا يدرك أحدهما الآخر.
أما أعراس لبنان فكثيرة؛ هنا راع ينفخ في شبابته أو يرقص أصابعه على حجرات قصبتيه المضمومتين. وهناك مكار يزمجر بالعتابا، ويترنح بالميجانا والمعنى والمواليا والروزانا واليادي اليادي على إيقاع أجراس بغاله وجلاجل مركوبه. وفي هذا المنحنى امرأة تنتجع لأهلها الهندباء والخبيزة والقرصعني والحماضة والكراث وهي تنوح على فقيد عزيز، وإذا قعدت في بيتها تنقي القمح والبرغل من الزوان والشيلم غنت طروبة ولسان حال سامعيها يقول: «خليها تنقي وتغني، ولا تسلق وتنوح!» حتى إذا ما بكى صغيرها هزت له السرير وغنت مموتة صوتها لينام على سرور:
نم لله يا عيني
وعينك عز من عيني
وعينك عز من حبقه
وحبقه جوات جنيني •••
يا لله ينام ويا لله ينام
تدبحلو طير الحمام
يا حمامات لا تصدقوا
عمبضحك عا ابني تاينام •••
الله الله يا دايم
تحفظ عبدك النايم
الله الله يا الله
ابني يحفظه الله
ابني يحفظه يسوع
والعضرا تحفظه يا الله
وهناك فتاة سمراء ترقص حول أهدابها مردة الأنوثة، وتسبح في بركتي عينيها جنيات الهوى، وقد هاجتها الذكرى فرفعت صوتها العذب بأناشيد جبلية، كأنها أغاني الساروفيم حول عرش الراكب على الكاروبيم، صاحب الحول والطول.
وهناك حطاب يوقع أبيات «القرادي» على ضربات فأسه، فتتعاضد الأصوات، وتتحد فتخلق موسيقى الغاب، ويهب الصدى إلى نجدة الاثنين، فيسبح السامع في عالم الأحلام والخيال، وإذا شعر أن هناك من ينصت إليه، انتخى وعرض صوته بلسان شاعر الضيعة، أميل مبارك:
بتسألني: شو في عندك
بالضيعا حتى مهتم؟
عندي أحسن ما عندك
عندي بسط وعندك هم
عندي البيت الرباني
والمعبور وكرم الدرب
وعندي قدحة وصواني
والضبوة وتتنات الفرم
في عندي القعدي بكير
تحت صنوبر ضيعتنا
وترويقة قرة وجرجير
بتسوى الغربي وعيشتنا
عندي خلف البيت جبال
بتفيي عا عريشتنا
ويا ما فيها اصطدنا حجال
ويا ما سرحت عنزتنا
ويا ما عبينا السلي
تين أسود من تينتنا
ويا ما لعبنا عا التلي
نحن وبنات جارتنا
وإذا مررت أمام هيكل سمعت ألحان الكاهن التائهة في حنايا الكنيسة وسراديبها، الشماس يوقع ضربات ناقوسه على ترتيله، والخوري يرن ويعول. وإذا كان القداس يوم أحد أو عيد كبير فهناك صنوج تزعق وتفر أصواتها حتى تملأ الآبار العتيقة فتنتعش وتحيا.
ولا ننس الأصوات الرخيمة التي تنشرها المآذن، إنها تنتقل من سطح إلى سطح، فتجتاز الأبعاد والآماد حتى تلج أعمق أعماق النفوس، فتطرب وتهدي وتحيي عظام النفوس وهي رميم، سبحانك اللهم كم جمعت في لبنان من جمال! لو كان لنفوسنا منه قسم وافر، لكنا خير بقاع الدنيا.
أما قال شوقي في لبنان:
لبنان والخلد اختراع الله لم
يوسم بأبهى منهما ملكوته
أجل إنها موسيقى تصادفها أنى مشيت، فالأوابد من طير وحيوان لا تتوانى قط عن اقتناص الطرب، وهي أيضا، كناس لبنان، فرحة، جذلة، مرحة. فبينا أنت ماش تفكر، إذا برف حجال يتكلم، أو يفر، فترتعد وتبدأ بين حنايا ضلوعك موسيقى قلبك الرعاد، ثم يناجيك حسون معتذرا عن إساءة الحجل وفظاظته.
هذا عالم ما كنت تحلم به لولا إسراع ما في لبنان إلى نجدتك ونقلك إلى دنيا المعاني، لا شيء صامت في الجبل، فمهما حاولت أن تظفر بدقيقة صمت، فإنك لا تجدها أبدا إن كنت من المتأملين والملاحظين، فكل ما في لبنان يوحي الشعر، بل هو كله شعر أزلي، فسبحان الشاعر الأعظم، ناظم هذه القصيدة الخالدة! يكاد أن يكون كل لبناني شاعرا، وما أشبه اللبنانيين بإخوانهم الأندلسيين الذين قالوا الشعر جميعا. إن للمحيط أكبر يد في إيقاظ الشاعرية الكامنة، وإذا كان للأندلسيين الكان ما كان والقوما، والدوبيت، فللبنانيين العتاق: الميجانا «يا ماجانا»، وهلا بالورادا، «أهلا بالواردة»، والعتابا «العتاب»، والمعنى، أي شعر الوجد والهيام، وجميع أنواع الزجل.
لقد حان لنا أن نعير هذا الشعر الطبيعي شيئا من اهتمامنا، فشعراؤه يغنون لنا أبدا، ونحن صامتون لا نقول لهم: عاشت الشباب! إننا معهم ككافور مع أبي الطيب، الشاعر يغني كل حين، وكافور يشرب ولا يدع في الكاس فضلة ...
عشتم يا إخوتي، فأنتم شعراؤنا، إن شعركم منبثق من نفوسنا، من قلوبنا، من أعماق حياتنا، من ظلمات أوديتنا، وثرثرات أنهارنا وجداولنا، من أضوائنا وظلماتنا، من عرازيلنا وخيامنا، من يقظة عجائزنا، وأحلام صبايانا. إنه منسوج من خيوط شمسنا الذهبية، لحمته من رواء البنفسج، وسداه من خيوط القلوب، وحياته الفنية من هواء هذا الجبل المتصوف ومائه. لقد زال تعجبي من تذوق الرواة للشعر الجاهلي، بعدما رأيت إعجاب الناس بهذا الشعر العامي، فإعجاب الأعراب بالشعر القديم متأت عن شعورهم التام بما سمعوا، الشعر الجاهلي منبثق من حياتهم ومن لغتهم التي تصور محيطهم أصدق تصوير، ومن لهجتهم التي ترسم لهم الصورة ناتئة بارزة، وما الألفاظ إلا ألوان وأصوات وأحياء وحركات، عند من يحسها ويدركها. إن الشعور بالحياة وإدراكها الكامل لا يكونان تامين إذا عبرت عنهما بغير اللغة الدائرة على الألسنة، وبهذا يثير شاعرنا العامي النفوس، إثارة يعجز عنها أكبر شعرائنا «الرسميين».
إذا أنشد الشاعر العامي قصيدة في حفلة تهتز المقاعد والكراسي استحسانا، وتموج الرءوس كالأغصان تحت أذيال النسيم الولهان.
إن ما يوحيه إلينا الزجال لا يأتي بشيء من مثله شاعر اليوم، الذي يستوحي الكتب، ويعبر للناس عن الحياة بألفاظ يدركونها ربع إدراك.
إني أرى صورة حية، نابضة، راقصة، ملونة في هذا الشعر، ولهذا أراني أعيره هذا الاهتمام. قد سبقت مني كلمة منذ أعوام حذرت بها الشعراء الفصحاء، وحثثتهم على الدنو من الحياة خوفا عليهم من هذا الشعر النابض. واليوم أرى أن هذا الشعر قد استقام، واستوى، فأمسى أدبا قائما برأسه، صار فنا له تعابيره، وصوره، واستعاراته، ورجاله، وخياله، وتشابيهه وكناياته، وبديعه، واسمحوا لي أن أقول أيضا: ووزنه، وعروضه، وأساليبه، فكيف نعمى عنه إذن، وكيف نتجاهله؟
ألأنه غير معرب؟ ألم يكن الشعر الجاهلي مثله في ذلك الزمان؟ يدهشني ما أراه من تطور سريع في هذا الأدب الشعبي حتى كدت ألمس مدارسه من كلاسيكية، ورومنتيكية، ورمزية، وهذا ما سنتحدث عنه في قابل. فمن يفتش عن تاريخ عروبة لبنان، فليطلبها في هذا القول، فهو ابن عم الشعر الفصيح إن لم يكن أخاه. إنه شاهد عدل على حب هذا الوطن للغة الضاد حتى تعاونت جميع طبقاته على إحيائها والإبداع فيها.
لقد ظفر هذا الشعر بجرائده الخاصة به، بأنديته وعصاباته، وله حفلاته التي تملأ النفوس طربا، وله تناطح شعرائه حول الإمارة، فهو شعر يباري شعرنا الفصيح ويبزه في الإيحاء؛ لأنه منبثق من قلب الحياة والواقع، ويستمد خياله الحلو من محيطنا الذي ألفناه، والمرء على ما يألف، فأشد البنين حبا لوالديه أكثرهم إلفة لهما ... وإلا فلا أبوة ولا أمومة!
إن لهذا الشعر عباراته التي تخرج من أفواهنا لتقع في نفوسنا، وتؤدي لنا المعنى غير منقوص. وقد رأيت آفاقه تتسع، وغايته تذهب إلى المدى الأبعد، تنظم فيه الأقاصيص، ويحاول تصوير الوقائع، حتى قطع أشواطا مديدة في زمن قصير.
قال الجاحظ: «متى سمعت، حفظك الله، بنادرة من كلام الأعراب، فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظا حسنا، أو تجعل لها من فيك مخرجا سريا؛ فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، وتذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها.»
وأنا، إن خفت على هذا الشعر العامي من شيء، فلست أخاف عليه إلا من تفاصحه.
لا يا أصحابي، إياكم ثم إياكم! اسمعوا نصيحتي وافهموا ما يعنيه أبو الأدب، أبو عثمان المليح الذوق والروح. سوف أتحدث إليكم وعنكم، وسوف أتناولكم بالنقد فلا أبخل عليكم بالإطراء حيث يقتضي الحال، إنكم تقولون شعرا حيا، من وحي مدرسة «تحت السنديانة» ونعمت المدرسة هي! وسيظل أشعر الناس منكم ذاك الذي لا يبرح ظلها ليقعد بين أربعة حيطان.
وبعد، فما أنا ببخيل بالثناء كما تظنون، ما حاولت لذع الأدباء والشعراء إلا بقصد الإصلاح وعن حسن نية. ولكن النقد مكروه كيفما دارت به الحال، والإنسان يحب الثناء، ما جرحت أديبا أو شاعرا تشفيا أو حسدا، كما يتهم المؤلفون نقادهم، فأنا لم أبغ إلا استقامة أدبنا العربي وتوجيهه توجيها متينا صحيحا، فلبنان كان، ولا يزال، الخادم الأمين لهذا اللسان، وكذلك يجب أن يظل دائما، فهلموا بنا، يا إخواني، إلى درس أدبكم درسا يحله المنزلة التي أوليناها أدبنا الناطق باللغة الفصحى.
تعود الناس، كلما ذكروا أدبا، أن يؤرخوه، وهذا الأدب العامي أرخه كثيرون، وأحدث هؤلاء كان صديقنا أمين نخلة حين قدم لديوان أبيه، أمير الزجل، المرحوم رشيد بك نخلة. إن تلك المقدمة، على قصرها، كافية وافية، وفيها تحقيق كثير. وأخيرا ظهر كتاب نفيس للعالم النفساني الأستاذ منير وهيبة الخازني الغساني. ضم هذا الكتاب تاريخ الزجل وأدبه وأعلامه قديما وحديثا، وقد أعجب الناس حين ظهر عام أول، فتنادوا إلى تكريم صاحبه، ولقد استحق الأستاذ وهيبة هذا التكريم مرتين: الأولى لأنه مؤلف ملحمة «يأجوج ومأجوج»، التي أخرجت الزجل من نطاقه الضيق، والثانية بمناسبة صدور كتابه «تاريخ الزجل».
إنني أهنئ الأستاذ وهيبة بكتابه، وإن كنت لا أشايعه على كل ما جاء كتأييد العامية تأييدا مطلقا، فأنا عدو هذه العامية بعفشها ونفشها، ولا أحب أن أسمع أن فينا من يدعو إليها في الأدب لأنني أخاف على مجد لبنان الأدبي أن يتزعزع أساسه.
كنا مرة نفحص تلامذة البكالوريا في مدرسة حوض الولاية، ومدرسة حوض الولاية كانوا يقولون: إنها عايبة، فشرع سميي الخوري مارون غصن، داعي دعاة اللغة العامية، في ذلك الحين، يحدثني عن كتابه الذي عنوانه «ما في متلو هالكتاب»، فاحتدم الجدل بيني وبينه. كان رحمه الله كبير الهامة، وقد عملوه منسنيورا جديدا، ولكل جديد بهجة. فكبر الأزرار الحمر، وعرض الزنار البنفسجي، وغل عنقه بسلسلة ذهبية ضخمة، وحمل عصا كالنبوت، فكان يخبط بها الأرض عند كل جملة. ولما خفت أن يغلبني بتهاويله، استعنت بالنكتة فلبتني حالا، كعادتها في الأزمات، قلت له: على مهلك يا محترم، يقولون: إن هذه البناية مزعزعة فكيف تحمل مارونين؟ فشمع أبونا الخيط، وقعدنا نضحك.
إن في استطاعتنا أن نستعمل ألفاظا وتعابير كثيرة دون أن تكتب بالعامية، فهي أداة غير صالحة للنثر الفني، فالروعة الفنية التي تجدها في شعر «جلنار» ميشال طراد لا تجد شيئا منها في مقدمته التي كتبها الشاعر سعيد عقل.
إن لبنان لم يبرز في الشعر ولم تكن له فيه مدرسة إلا في هذا الزمن، أما زجله فتفوق على زجل جميع الأقطار العربية. ولما كان لا بد من كلمة تاريخية، أقول: إنني قرأت في كتاب الزجل للأستاذ وهيبة وغيره أن الناس يسألون: من أين نشأ وكيف؟! فالجواب عندي، بدون قيل وقالوا وزعموا: إنه سرياني اللحن في أول عهده، وعربيه فيما بعد، فالزجل الذي يعرف بالقرادي هو وليد أحد ميامر مار أفرام، الموجود في صلاة ستار الأحد:
شوبحو وهدرو وقولوسو
لا لوهو ايتيو شبيحو
بريخ ابقروخ من اتروخ،
على عطرو هونو ديسمي
نسبعون خفني من طوبيك،
وسنيقه من بوسوميك
وأخيرا نظم السريان البسملة على هذا اللحن فقالوا: «آبو وبرو وروح قودشو.»
وعلى هذا اللحن نظم قدماء اللبنانيين المستعربين قصائد كثيرة، ألهمهم إياها جهلهم الفصحى، وشاعريتهم المتوثبة. أما المعنى فحديث النشأة، وليس معناه - كما زعموا - من الغناء، إنه المعنى؛ أي شعر المحب، بمعنى لفظة المعنى التي عناها الشاعر بقوله:
إن شكوت الهوى فما أنت منا
فاحمل الصد والجفا يا معنى
قلت: إن الزجل كان سرياني الوزن أولا، عربيا ثانيا؛ فالمعنى من البحر الكامل، كقول شاعر مجهول الاسم منا:
بديت عد بيوت في شان الملاح
تشبه غصون النخل بأيام البلح
يا قمر لولاك ما كان الفلك
خالقك مولاك نقمي للرواح
إلى أن يقول:
بدنا تكون مبسوط خلينا نموت
وناكل البلوط من بعد البلح
والنوع الثاني عربي الوزن أيضا، مثل:
نحنا تركنا الجهل وسلينا
يا ضيم قلبي راحت علينا
يا عشير إن طالت الأيام
ترجع تدور ما تلاقينا
يا عشير إن طالت الأيام
عا فراقنا بتصير تتندم
يا مركب اللي لو زمان ما عام
ياو رابطو الريس على المينا
أما صاحبنا القس يوسف الصوراتي، وهو من شعراء بلادي، فراهب خفيف الروح، طبع مرة عند أحدهم علبة «كرت » وأراد دفع الثمن، فتمنع صاحب المطبعة أن يقبض منه، فشكره ارتجالا بقوله له:
ممنونك كتر خيرك
طابعلي اسمي عاكروت
إن أبناء بلادي لم يدعوا لحنا سريانيا إلا نظموا على وزنه زجلا عربيا.
والزجليات التي نظمها الخوري نعمة الله القدوم على عهد القاصد لوديفيكوس، مشهورة جدا، وفيها من الألحان السريانية الكنسية أشكال وألوان كما سيأتيك.
وقد كنت مرة في دير قزحيا وحضرت صلاة الخورس، لأني أحب السريانية وصوفية شعرها، فسمعت الرهبان الشبان يلحنون صلاة «علمانو ندمخ شنتو» على نغم: «عالزينو زينو زينو، أسمر ومكحل عينو»، فضحكت. وسألني رئيس الدير - بعد الصلاة - عن سبب ضحكي، فأخبرته، فابتسم ابتسامة صفراء.
والعتابا التي يتفرد بها لبنان مأخوذة من العتاب. والميجانا منحوتة من: يا ما جانا، كما قلنا. ولا ننس أنهم نظموا أيضا بالعربية جنازا للعب الورق، وجنازا للمهاجر إلى أميركا. وأنا عندما كنت طالبا عملت جنازا للمطبخ في مدرسة مار يوحنا مارون، فغضب الرئيس، وأكلت قتلة مشبعة؛ بحجة أني استهزأت بالطقوس الدينية، أما الحقيقة فهي أني هجوت المطبخ!
إن حديث ذكرياتي المدرسية أطول من حديث الحيات، فلندعه الآن. ومن الزجل شعر كثير مات بموت الرواة، وأنا أعرف من قديمه ما ذكرت بعضه كما مر. وإني أتمنى على الباحثين أن يجمعوا ما بقي منه محفوظا، فليت الأستاذ وهيبة فتش عنه! فنحن أحوج إليه وإلى شعر ما قبل المعاصرين، كشعر الخوري الخازني الطريف في بنته (نسيم)، البشعة الوجه، حينما خطفها أحد شباب العوام في غيابه.
قيل: عاد الخوري إلى البيت فاستقبلته الخورية بالصراخ والولولة، ولما عرف الخبر راح يفتش عن الدف، ولما لم يجده، تناول صينية الكبة ونقر عليها، وصاح:
بحيث إنا نفقت نسيم
ما بقا يكسد حريم
ما في فول بلا مكيول
ولا في قراية بلا شحيم
ألا لا رد الله أيام الحرب الأولى التي ذهبت بالكثيرين من رواة هذا الشعر البلدي، قبل أن أتمكن من تدوين عتيقه.
وبكلمة مختصرة أقول: إن العامية اللبنانية لغة دف ومزمار ودربكة وناي، ولغة عاطفة وحب، وسندرس أطواره ومدارسه إن شاء الله.
أطوار الزجل اللبناني
القوال الأول
ما أكثر الشعر في هذا الجبل الشاعر! كانت أساطيره - والأساطير مراعي الشعراء - خميرة الحضارة الأولى، فطلع عجينها وأمسى خبزا حيا على موائد الآلهة، ثم استحال في دنيا الأحلام عشاء سريا تلذذت الإنسانية الأولى بطعامه المقدس.
أحلام رافخة تراءت للبناني الأول فعبرها بصور شتى، صناعات ونقوش وحروف، دمى وأرجوان وزجاج، أوضح فكرته تارة بالنقش، وطورا بالغناء، وأحيانا بالفتوحات الفنية، فكان خياله العجيب منبع أساطيره الغريبة. ومشى لبنان والزمان في منعرجات التطور، فاستعرب وراح يتذوق آداب لغته الجديدة مذ دارت الضاد على لسانه، وأبى عليه طموحه أن يقعد حسيرا، فضرب فيها بسهم، وطفق يقول الشعر، فلم تنقد له اللغة فكان الزجل.
ليس الزجل الذي نعجب به ونهتز لسماعه ابن أمس، فهو غير صغير السن ولا حديث الميلاد، كما قال الجاحظ حين أرخ الشعر العربي. فالزجل اللبناني عريق، دونه تاريخنا منذ خمسمائة سنة، فمهلهله وامرؤ قيسه أسقف استعرب وتمغرب، نظم زجله أو شعره على عروض خاص، استمد توقيعه من لغته الأولى - السريانية - وخلف للأجيال هذا الوزن، تراثا أو أساسا لشعرنا العامي الذي ارتقى إلى ذروة الفن الأدبي.
المطران جبرايل بن القلاعي اللحفدي، هو القوال الأول، عاش في القرن الخامس عشر وقال أزجاله في مواضيع أكثرها دينية طائفية.
قال فيه الدويهي، في تاريخه الشهير:
ولد جبرائيل بن بطرس اللحفدي في قرية تدعى لحفد من أعمال جبيل، وهي قرية قديمة، طيبة الهواء، كثيرة الديورة والكنائس، ظهر منها كثير من الرجال الفضلاء. وأما جبرائيل فيكنى بابن القلاعي وابن غورية؛ لأنه كان لوالده بيت مبني بين القلاع. ففي مزرعة تدعى غورية من أرض لحفد، ومنذ صباه، سلمه والداه إلى الخوري إبراهيم بن وريع، وهو رجل فاضل؛ ليدرس عليه أصول اللغة السريانية والعربية. فأخذ جبرائيل يجتهد ويجد، وكان رزين العقل مشغوفا بالقول، فنظم الزجليات. ثم خطب له والداه ابنة حسنة من ذوات قرباه، فاعتراه استرخاء في عينيه، فكرهته الخطيبة؛ ولأجل ذلك زهد في العالم وهاجر إلى القدس الشريف. وهناك انخرط في سلك رهبان القدس، وسافر معهم إلى رومية في سنة 1470. ثم عاد منها إلى بيت المقدس سنة 1493 بعدما تخرج فيها واقتبس العلوم. وبعد جهاد ثلث قرن سيم مطرانا سنة 1507.
1
فهذا الشاعر العامي قضى حياته في الغرب بعدما فجع بحبه الأول، وكان من هذا شعر وتصانيف شتى. يقول الدبس في «ملحق تاريخ سوريا»: «ونظم قصائد كثيرة، وإن كانت منحطة لغة، فهي كثيرة الفائدة.»
2
لما رأى هذا الأسقف، البدع رافعة رأسها في وطنه، هب مناضلا مقدم بشري عبد المنعم. وقد بلغت رسائله وقصائده النضالية الخمسمائة، وهي مكتوبة ومنظومة في مواضيع شتى. إن الزجل اللبناني المدون يبدأ مع هذا المطران الذي حفظت لنا التواريخ بعض آثاره. ومنها يستدل أن الزجل - كالرجز - بدأ بسيطا ساذجا، كما يبدو لنا من آثار هذا الحبر العالم، المحفوظة بمكتبة الفاتيكان بين كتبه.
طبعا لم يقل ابن القلاعي - وهو الأسقف الراهب - زجله غزلا ومعنى، بل قاله في مواضيع دينية قومية إصلاحية. نظم في «ميمر» كبير أخبار طائفته ونضالها الروحي، فاستهل «ميمره» منددا براهبين، وخارجا على معتقد طائفتهما، فقال:
إبليس أب كل الطغيان
نظر شعب مارون فرحان
حسده ورماه في أحزان
لأجل تنين كانوا رهبان
كان الواحد من يانوح
والآخر من دار نبوح
كرزوا في السر الموضوح
تكلم بهم روح الشيطان
كتر الشر وصار غرضين
وثار الانشقاق من أجل تنين
في هالسبب بنيو برجين
وقسمو الملك بتلك الآن
سمع بذلك سلطان برقوق
وانفتحلو باب كان مغلوق
أرسل عساكر تحت وفوق
حاصر في جبل لبنان
وما اكتفى الزجال اللبناني الأول بإرسال شعره بسيطا على وتر واحد، فازدوجت قيثارته، فقال في ميمر آخر بالموضوع عينه، وهي قصيدة رثى بها معلمه الراهب يوحنا:
أرادوا يقولو عنا، في سر مخفي عظيم
إنا هراطقة قد كنا، منذ الزمان القديم
جاوب الراهب حنا، عاد كل عالم بكيم
العقل منهم تحير، غاب الصواب والبصر
فمن سماع نموذج من هذا الزجل ندرك أمرين: أولا، إن هذا الزجل، أو الشعر العامي - سمه كما تريد - قديم العهد جدا في لبنان . وإنه وإن خلا من الصور الشعرية، فهو يدل على شاعرية ابن الجبل الملهم، ومن هذا الزجل القديم تولد شعر باللغة الفصحى، أرقى من الزجل قليلا. وظل يتمشى في التاريخ رويدا رويدا، حتى استقامت لغته للمطران فرحات ولكهنة ورهبان آخرين، ثم خطا مع نقولا الترك وبطرس كرامة شاعري المير، وظل يتطور حتى أوشك أن يبلغ قمة الشعر العربي بصوره الرائعة وموسيقاه الساحرة.
أما الزجل فما قصر، ولا توانى في الطريق، ارتقى بعد ثلاثة عصور مع القس حنانيا المنير، فنحا منحى الشعر في خياله وصوره، كما نرى من قصيدة «البرغوث» الرائعة. فهذا الراهب الشاعر قاسى من قرص البراغيث ما قاسى يوم لم يكن «د.د.ت» لمكافحتها، فقال يصف إحدى المعارك الليلية مع البرغوث بحوار طريف ظريف، فخلد زجله ومات شعره، قال:
بعد بيوت مع قصدان
تا خبركم بللي كان
طول الليل وأنا سهران
وصبح جلدي كالجربان
جاني البرغوت وأنا نايم
وصار على صدري حايم
وقلي: من شهرين صايم
بحسابي خلص رمضان
قلتلو: لا تجدبني
علامك إنت مكاربني؟
بالله عليك لا تتعبني
كل النهار وأنا تعبان
وقلي: ما أنا بهمك
إن سرك أو كان غمك
عشايي الليلي من دمك
وبكرا بيفرجها الرحمان
قلي: ما هو عاكيفك
هلليلي أنا ضيفك
عيب عليك ويا حيفك
بكون عندك وبنام جيعان
ويجر الجدال الشاعر وبرغوته إلى المشاحنة، فيقول الراهب:
قلتلو: ويلك يا عقوق
لاه يا أسود، يا ممحوق
بتخدعني وما عندك ذوق
وعجزك عن قريب يبان
قال: أنا بالعين زغير
وبالليل فعلي فعل كبير
أنا ما بفزع من وزير
ولا من حاكم ولا سلطان
بتعيرني بسوادي
وأنا اليوم لك معادي
لاجيك أنا وولادي
وبعلمك فعل السودان
قلتلو: ماني بهمك
لا ولادك ولا ولاد عمك
لاحرق أبوك مع أمك
وبناتك مع الصبيان
قال: بخليك حتى تنام
بجيك أنا وولادي قوام
لما تلبس ثوب الخام
وعن مسكي تبقى عجزان
وأنت ما فيك تربطني
وأنا ربي مسلطني
ولمن بدك تلقطني
بصير بقفز قفز الغزلان
قلت: الرهبان لا تقربهم
والشرير محاربهم
روح عنهم لا تعدبهم
يكفيهن شر الشيطان
قال: الراهب هو ملزوم
بالسهر والصلا والصوم
ليلا يتمادى بالنوم
ما هو مليح يكون كسلان
وأنا من يومي بحبو
بحبو وبدخل بعبو
حتى يقوم يعبد ربو
ويطلب للعالم غفران
وبالنهار إن صار فرصة
بقرصلي شي كم قرصة
ولكن خوفي من الجرصة
ببقى مرتاح غير تعبان
أما بأول الليل
بتصيد قوتي مع حيل
وبصير بجمز مثل الخيل
وعاصدرك بعمل ميدان
ولا يفوت القس حنانيا أن يبدع في زجليته هذه، فيدمج في زجله سياسة عصره قائلا بلسان برغوثه:
قلي كلامك كلو فشار
قرايبي وولادي كتار
وتربو عند الجزار
وتسلطوا على البلدان
ويعجز أخيرا القس، فيتهدد خصمه بالشكوى فيجيبه:
حكم القاضي أنا عاصيه
ومن يومي أنا معاديه
وفرمانو ما بعمل فيه
وعليي مالو سلطان
قلت: يا برغوث قلي كارك
واهديني لباب دارك
قصدي أقطع جدارك
واحرق نسلك بالنيران
قلي: لعشيه بقلك
وعلى باب داري بدلك
لما بدخل بظلك
وبرقصك مثل السعدان
وأخيرا يرمي الراهب سلاحه فيقول:
يا برغوث صدقة عنك
عرفني طريقة فنك
وكيف بقدر بخلص منك
صرت في أمري حيران
فيفيض البرغوث في إرشاداته الكفاحية:
كنس بيتك بطيون
ورشو بزوم الزيتون
وخليه أنضف من ماعون
وطينو بتراب ولفان
وثيابك قبل ان تلبسها
برغتها أو شمسها
وأرض بيتك كنسها
وكذلك اعمل بالدكان
هذه صورة عن الزجل الأول، أما مدرسة الزجل الكلاسيكية النابتة فروعها على هذا الجذع فهاك حديثها.
الطور الكلاسيكي
رافقت هذه المدرسة طفلا، فعلى أنغام هذا الشعر وأصدائه، استيقظت نفسي، فهو نشيدة مهدي وترنيمة سريري؛ ولهذا انطبع في ذهني، وهيهات أن يمحو الزمن ذكريات الصبا. إن هذا الشعر منبثق من أعماق نفوس اللبنانيين وقلوبهم، من ظلمات أوديتهم وثرثرات أنهارهم وجداولهم، من أضوائهم وظلماتهم، من عرازيلهم وخيامهم، من قلق العجائز وأحلام الصبايا. إنه منسوج من خيوط شمسنا الذهبية، لحمته من وراء البنفسج وسداه من خيوط القلوب؛ ولهذا أسموه المعنى والعتابا. أما حياته الفنية فمستمدة من هواء هذا الجبل المتصوف ومائه.
لقد رافقت هذا الشعر رفقة عمر لا رفقة طريق. استهواني فعشقته، ورأيت فيه أصدق صور المحيط الذي أمدني بما نسميه حياة. قرأت عن هذا الشعر في الكتب، فعرفت كيف نشأ الزجل الأول من ابن القلاعي اللحفدي، فكان حافلا بالمعاني، وكاد يكون خاليا من الصور والألوان. ثم نظرت إليه فرأيت كيف تطور مع القس حنانيا المنير الذوقي، ثم أخرج من دائرة الكتب إلى ألسن الرواة، وما رواته إلا أبي وعمي وخالي وجيراني، فصرت أطير فرحا كلما سمعت بعرس جديد، أنتظره لأسمع المعنى والقرادي من ابن عمتي سركيس، ومن ابن عمي طنوس عبود، ومن طنوس المير، والزغنا، على نقر الدف. ثم نسمع العمين أنطون وأرسانيوس يتباريان بقصيدة زجلية موضوعها مفاخرة بين «البيضا والسمرا» فتتطاول الأعناق وتتلاقى النظرات، وتنقسم العرب عربين.
هؤلاء كانوا رواة الشعر اللبناني في ضيعتنا، ومثلهم كثير في كل قرية، فهم الذين غذوا مخيلتي بهذا الشعر الرائع الذي لا يزال يهز نفسي اليوم كما كان يهزها يوم كنت ابن أربعة عشر؛ ولهذا أراني، بعدما سمعت من هذا الشعر ورويت وحفظت، أستطيع تقسيمه إلى مدارس كالشعر الفصيح.
فالشعراء الأولون هم ابن القلاعي والمنير وغيرهما كثيرون. أما الكلاسيكيون فهم شعراء القرن التاسع عشر، وكان رواتهم عندنا من ذكرتهم لك. إن أكثر أسماء هؤلاء الشعراء مجهولة، وحالهم حال الشاعر العربي الفصيح المجهول، فيقولون عند رواية شعر له: قال الشاعر وكفى. لقد تأسفت أشد الأسف؛ لأني لم أدون قصائد غراء من هذا الشعر، فقد كان يؤلف صورة صادقة عن الحياة والمحيط لو حفظ، ولكن الحرب العظمى الأولى ذهبت بكثير من رواته ولم تترك في نفوسنا إلا اللوعة والحسرة عليه.
إن ذلك الشعر الذي سميته بالكلاسيكي مجهولة نسبته، وقد أريتك نماذج منه كما سمعته من الرواة، وأنت ترى وتعرف أن لشعرائه جولات حسانا في مجالات شتى، أما أكثر أغراض هذا الشعر فحنين وعتاب ومساجلات.
وينقضي دور الرواة، ويجيء دور التدوين بالطبع، فأقرأ أول ديوان للياس الفران، أشهر قوالة زمانه، ويقال: إن الأستاذ إبراهيم الحوراني جاءه مرة، فرآه معتكفا يحوك على النول فقال له:
شفت الدب حرير يكب
عمبيحيك ألاجا
فأجاب الفران فورا:
ديات بي الدهر الدب
العمل منك خواجا
ثم تعارفا، ولا تعجب أن تسمع الحوراني يقول؛ فأكثر كبار شعرائنا قالوا الزجل. أما ما أذكره من قول الفران فهذه الردة، وقد قالها في سيدة كانت ملكة جمال عصرها طول عمرها:
يا من فيك الحسن التم
وعندك حطت رحالو
إن شاهد حسنك بدر التم
بيروح بيخفي حالو
أرأيت هذا الجناس؟ إن الجناس قوام نوع آخر من هذا الشعر يعرف بالعتابا، وهو يستحق درسا على حدة. ثم يظهر ديوان شاعر اسمه نعمان فارس من إدة البترون، افتخر نعمان هذا في ديوانه فقال موريا في ختام إحدى قصائده:
نعمان فارس والجميع بيشهدوا
فرد عليه شاعر آخر كان يقف له دائما بالمرصاد فقال له:
تسماية بيك فارس كانت صدفة
وخوري اللي عمد بيك فاقع خرفه
وظهرت دواوين أخرى أشهرها ديوان خليل سمعان، وديوان شاهين الغريب، فطفر الشعر العامي طفرة رائعة. ونشرت قصة الدست والكيس لحنا إلياس، فكان القول القصصي. وسمع صوت حلو هو صوت المرحوم رشيد نخلة الذي انصرف عن الشعر الفصيح إلى قول الزجل، فكان أميره بحق، وعلى ألسنة اللبنانيين تدور له أبيات عائرة ومقطعات رائعة. أما أتباع مدرسته الكلاسيكية فمشهورون يعرفهم القارئ، وله أولى الملاحم في القول، وهي محسن الهزان.
وتطور هذا الشعر تطور الشعر الفصيح فظهرت مدرسة جديدة مع ميشال طراد، ثم أسعد سابا. وهكذا نحا شعرنا العامي نحو الشعر الفصيح وظهرت له جرائد ومجلات، وطبعت دواوين، وعنيت به الصحف في الوطن والمهجر. وقد أهدي إلي من هذا الشعر المحبوب ديوان للشاعر أسعد السبعلي واسمه «عطور من لبنان».
أهداه إلي منذ سنوات المرحوم شكري الخوري صاحب جريدة «أبو الهول» البرازيلية، فرأيت فيه صورة أولئك الشعراء الذين سمعت شعرهم من ألسن الرواة؛ رأيت السبعلي طافح القلب بالحنين إلى وطنه، فيصوره لك حتى تكاد تراه، وكل ذلك بزجل كلاسيكي، أما في ديوانه الذي صدر بعدئذ، فرأيته متأثرا بالمدرسة الجديدة، ولكن بمقدار لا يخرجه من المنطقة الكلاسيكية، وإن كثرت فيه الألوان؛ ففي هذا الديوان تصاوير محلية ذات ألوان كأنها الواقع المغذى بمخيلة الشاعر الملهم، كقوله في مطلع ديوانه يناجي الضيعة في قصيدة عنوانها «عطور من لبنان»:
وضيعة بجبل لبنان قلبي ودها
نيسان عمتضحك زهورو بخدها
من جبالها هالسمر إيدك مدها
بصدر السما بتلعب مثل ما بدها
وما قدرت عنها روح شعري ردها
هي ضيعتي هي عرس نيسان النضير
تموج بالألوان ترهج بالحلا •••
ونغمات حلوة تهز أوتار الحنان
لمين يا طيور الفلا ها لمهرجان؟
والهدهد تغاوى بتاج وصولجان
وبالقلوب تغل فوحة بوزلان
متل غلات النسيم بالبيلسان
والبلبل مهودس بسفرة هالغدير
وقبل شق الفجر ولف عالصلا •••
فراشات بيض وحمر غنجات ودلال
بترف عالأزهار رفات الخيال
وحقله قطع سجاد تضحك للجمال
وجوازات خضر مكبشي بصدر الجبال
بتبعت هواها عاليمين وعالشمال
وراعي يغني بو الزلف عن كتف شير
والراعية السمرا تقلو: يا هلا ...
لا أستطيع نقل الكثير لضيق المجال، ولكن خيال السبعلي يوقفني أين سرت في ديوانه. لقد أعجبني جدا تصويره حياة الشاعر القروي بقوله:
وشاعر وحيد يشكي تباريح الهوى
كتابو بأول مرحلة حب انطوى
ومن غدير العاطفة قلبو ارتوى
وهيهات بعد الدهر يجمعنا سوى
بعرزال طري عم يحصد غمار الهوى
مضبضب على مراجيح عم تهدر هدير
ومفرعا عا سطيحتو شمس الفلا
حلوة هذه الشمس «المفرعة» التي نضت ثيابها، كفاطمة امرئ القيس. وأجمل من هذا وصفه أودية لبنان الرهيبة، قال:
ووهرة الوديان عجقة عرس جان
ودوار هادي، مفرعة فيه الحسان
وهالحفافي ملوحة بالأرجوان
وشربين عن الأيام عميلقي بيان
ويعطي متيلي عن خلود السنديان
ومن دير«رشتعمود» بتشم العبير
بيرد عنك لمس حيطانو البلا
الشعر جميل وطبيعي جدا، ولكن السبعلي يتجه نحو الألفاظ الفصحى، فأسأله أن يقل منها؛ لأن التفاصح يفسد جو الشعر العامي، فجمال هذا الشعر بغرقه في العامية إلى أذنيه، ويقول السبعلي من الوزن المعروف بالقرادي يصف مغارة:
بتمشى بنهر على شمالك
صفافي تهدي بديها
بتشوف مغارة قبالك
ضوي شمعا وفوت ليها •••
بتدخل ليها بتسمع حس
وصرخة نهر تقلك: هس
وبأشباح الليل تحس
وبتقول بها المغارة
غافي الدهر بعينيها •••
صخرة معقودة بصخرة
ملتمها الدهر بوهرة
بوجه الحيطان السمرة
قبالك بتشوف الأجيال
ومطرح نقلات جريها •••
وتا تحل رموز الأيام
وتقرا تاريخ الأعوام
قدملك نتفة لقدام
بتشوف صورة جنية
وكتب السحر حواليها •••
وكرسي سودا كبيرة كتير
ورسم سراج وحق صغير
وصخرة مقطوعة من شير
بخمرة سبعل باخوس كان
يسكر فينس عليها
ولا أخالك تجهل صيت خمرة سبعل التي يقول فيها أحد الشعراء:
كل النبيذ محرم
إلا النبيذ السبعلي
أما روح السبعلي الوطنية فظاهرة كالصخور التي يصفها في ديوانه، واسمع هذين البيتين لتقدر تعلقه بوطنه:
دير مار يوسف تحت الشير
عليه الوديان بتومي
مهيوب وأفخم بكتير
من الفاتيكان برومي
ومن مميزات شاعرنا إجادته الحوار، وله في ديوانيه روائع فاقرأهما إذا شئت، ففيهما عطور لبنانية حقا.
هذا هو الزجل الكلاسيكي، منذ نشأته حتى الآن، أما المدرسة الجديدة فحديثها يأتيك حين نتكلم عن «جلنار» طراد، و«من قلبي» لأسعد سابا، وفي هذين الديوانين تتمثل المدرسة الرمزية في الشعر العامي، ولعلها وفقت أكثر من أختها في شعرنا الفصيح، وسنرى.
الشعر العامي
عود على بدء
يريد الدكتور نقولا زيادة، وهو بحاثة طريف الأسلوب، أن نبحث العلاقة بين الزجل اللبناني والغناء السرياني الديني. فلدكتورنا العلامة أقول: إن الزجالين اللبنانين الأولين موارنة مستعربون، لم يتمكنوا بادئ ذي بدء، من العربية وقريضها. تعود هؤلاء سماع ميامر مار أفرام ومار يعقوب في كنائسهم، فأخذوا ينظمون الشعر عربيا عاميا، على تلك الأوزان السريانية التي عرفوها وفهموها وترنحوا بها صباحا ومساء وليلا في كنائسهم، فانطبعوا عليها، ومن هنا جاءت العلاقة بن الشعرين، من حيث اللحن والنغم، ومن حيث المعاني والأفكار والصور.
وإذا أردنا التعمق أكثر، وعدنا إلى الزجل المروي عن الخوري نعمة الله القدوم الكفري الجبيلي، رأينا في زجلياته التي يتناقلها الرواة عندنا حتى اليوم ثقافة دينية إنجيلية توراتية، عميقة الصورة، حافلة بالرموز والتلميحات. شكا - رحمه الله - في هذه الزجليات، من سياسة الإكليروس في زمانه، وخصوصا الرهبان الموارنة الذين خاضوها ثورة محلية طائفية، فألقوا عنهم نير بطركهم، فانتدبت رومية القاصد الرسولي لوديفيكوس لينظم شئونهم، فانفتح باب مغلق لشاعرية ذاك الكاهن الماروني العتيق، فنظم زجليته الشهيرة يصف فيها تلك «الحركة».
قال يخاطب القاصد، واللحن سرياني:
لوديفيكوس يا قاصد الفاتيكان
أرسلوك للشرق حتى تدبر الرهبان
ثم مضى يصف زعماء الرهبانية المتآمرين واحدا واحدا، وهذا نموذج قاله يلوم أحدهم ويبكته، والأبيات من وزن ولحن سريانيين أنقلهما كما وردت تماما:
غناطيوس عاكتفك حملت النير
تكلمو بحقك وحكيو فيك ناس كتير
من يمك ما هان عليي
كيف رضيت بيهلعمليه؟
حيف عليك يا ابن معاد
تقدم فحم للحداد
وإذا رجعنا قرنين إلى الوراء - قبل المطران جرمانوس فرحات - رأينا الصلوات البيعية السريانية من خدمة قداس وصلوات وزياحات وجنازات قد عربت أزجالا ذات ألحان سريانية، فالميامر التي تعرف عندهم حتى الآن بالأفراميات - نسبة إلى القديس أفرام - لا تزال حتى الساعة تحمل أثرا واضحا من تلك الرطانة، رغم تنقيح المطرانين الشمالي والدبس. وها نموذج عتيق جدا من قولهم في وصف الهالكين الذين يعذبون في جهنم، وقاني الله والدكتور العزيز شر نارها الدائمة:
والنار تشغر من الفوقاني للتحتاني
وهم مشقوعين مثل الحجارة علحيطاني
وفي «فرامية» أخرى يصفون وصول قديسهم مار مارون إلى السماء:
والأب مارون، ملا قديس،
وإيش بتقول فيه؟
حمل عصاتو وقام التتقيس
ما شلله عليه
طلع عالسما، وجات
الملايكي كلا تلاقيه
أرأيت هذه الصور الشعرية الساذجة؟
هذا ما كان في طور استعراب الموارنة الأولين. وقد يستغرب القارئ إن ذكرت له كل شيء من أناشيدهم - وهذا لا يستطاع - ولهذا أكتفي بالقليل القليل، قالوا في أحد أناشيد خدمة القداس:
فلنقف كلنا بسويه
ونسبح رب البريه
تا يغفر لنا الخطيه
ثم صارت في تعريب المطران فرحات والشمالي هكذا:
فلنقف كلنا أمام الإله
الذي كلمنا من علاه
ونستعطف وجوده ورضاه
بأصوات التسبيح والصلاه
ربنا أشفق على شعبك
وارحم أولاد رعيتك ... إلخ
وإذا رجعت إلى مخطوطة كرشونية في مكتبتي كلها أناشيد دينية من «السواغيث»؛ أي الأناشيد، وهي معربة عن السريانية باللحن والوزن، رأيت فيها من هذا الطراز أشياء لا تحصى. وها أنا أنقل للقارئ ما يلي ليقابله بما سبق ذكره، قالوا في أنشودة «سوغيث» عشية عيد الأنبا مارون:
لنمدح الآن أبانا مارون
المتوشح عزا ونصرا
إلى أن يقول:
أنفق البار حياته كلها
بكوخ يعاني بردا وحرا
أرضى ربه بحسن سيرته
وأتقن كمالا يعلو قدرا
اسمع ربنا ابتهالاتنا
وهبنا معه بفيضك أجرا
نعطى معه ربنا حظا
في عرش ملكك ونوهب فخرا
وأظن أن هذه الزجليات وما فيها من ركاكة هي التي دفعت أحمد فارس الشدياق، الماروني المسلم، إلى تعيير رجال الدين الشرقيين بالركاكة، يقرأ ذلك كل من يحب الطبخ الدسم ... حين يطالع كتابه الفارياق. أما إذا كان من محبي الصندوش، فعليه أن يطالع كتابي «صقر لبنان».
ولا نزال نسمع الموارنة حتى اليوم ينشدون في قداس عيد مار مارون:
لك شرف مفرد كبدر الضيا
ولك اسم يزهو كالثريا
لك اسم في الشرق مسميا
مار مارون فخر سوريا
وبعد، فأظن أن صديقي الدكتور زيادة قد اقتنع بأن هناك علاقة وثيقة بين الزجل والسريانية، ولعل هذا هو أحد الأسباب التي جعلت للزجل هذا الوقع في قلوب اللبنانيين القدامى؛ لأنهم ألفوه جدا في بيعهم، ونشئوا وشبوا وشاخوا عليه، ثم لحق بهم إلى القبر وإلى ما بعد القبر.
ويطيب لي في هذا المجال أن أدون «قرادية»، يظهر فيها الأثر الديني كل الظهور، وهي لشاعر مجهول من بلادي يستدل على ذلك من لهجتها، ومن صورها ومن أفكارها ومعانيها، وأخيرا من التسكين، قال ذاك الشاعر المجهول يعاتب محبوبته:
يا ام الوربي عباسي
تايه عن اسمك ناسي
هواك دب براسي
وعطل شغالي عليي
عطل شغالي وعمالي
وفيكي تاهت أفكاري
حلوي لمن تنداري
تزيدي الجروحات كيي
قامي رفيعا وخصر رقيق
بيطوي طيي عاطيي •••
جرحك بالهوى ما يطيب
دايم ينضح داميه
دايم ينضح ومعذر
يا أم السنجق والزنار
لاعمل في بيتك مزار
وصوم وصلي الفرضية
يا وصوم وصلي صلاتي
وبركع وبفتح باطي
وإن كان المعبد واطي
منوطي الدرجة شويي
منوطيها وبتوطا
يا ام الوربي والفوطا
بس تضلي مبسوطة
منعمل زياح ورديي
منعمل زياح وقداس
وإن كان موجود عندك ناس
منوقف عالباب حراس
يحرسوا طريق العليي
يحرسوا طريق السرايا
وكلامك كلو مرايا
وبتقري العشر وصايا
يا بنت المغنيي
فكأنني أسمع دق الصنوج وقرع النواقيس في زياح هذا الشاعر، بل أخالني أراه راكعا ساجدا ملبيا كأبي نواس.
ثم جاراهم في هذا المضمار غيرهم فاتجه الزجل اتجاهات لا تحصى حتى بلغ ما وصل إليه الآن، وتسنم مع رشيد نخلة القمة الفنية العليا، فكان ميسترال لبنان حقا، فهو رافع العامية إلى مرتبة الفصحى البليغة، وقد ضاهى الموشحات في تنويع هذا الشعر.
إن رشيد نخلة شاعر فصيح أولا، وقد قال الشعر في تعبير صحيح، ولكنه عمل بقول المثل المشهور: الأول في ضيعتي ولا الثاني في رومية، وهكذا كان.
كثيرا ما أسمع الناس يعزون إلى الرشيد هذين البيتين:
قلبي وعيني ضعاف من غير شي
وبكل يوم بيفتحوا ورشي
العين تهوى كلما شافت
والقلب لاحقها على الطحشي
قد كنت ظننت أن الرشيد أخذهما من قول المرحوم دعبل، وأخرجهما بأسلوبه العامر باللون والتعبير المحليين، فزادهما حبا، كما يظهر للمتأمل حين يعارضهما بقول الخزاعي:
لا تأخذا بظلامتي أحدا
قلبي وطرفي في دمي اشتركا
بيد أنني رجعت إلى كتاب «معنى رشيد نخلة» مفتشا عنهما فلم أجدهما.
إن الرشيد خير من حفل زجله بالصور والمعاني والألوان، وقد تجد كثيرا من هذه الصور في الشعر الفصيح؛ لأن أبا أمين شاعر فصيح واسع الاطلاع، وقف حياته على السياسة والشعر، وإني أكتفي هنا ببيتين أؤيد بهما ما أقول، قال رحمه الله:
لما الشمس عتقت في سماها
شاف ربي الدني بتظلم بلاها
خلق محبوبتي تتنوب عنها
وهبها مثل ما بدا وعطاها
ففي الشطر الأخير يلتقي الرشيد بالمطران جرمانوس فرحات القائل في العذراء مريم:
خلقت درة لا عيب فيها
كأنك مثلما شئت خلقت
ولست أدري أي شاعر زجلي قال هذا الشطر اللذيذ موجها الكلام إلى حبيبته:
طلي قبال القمر
تا نحرنقو شويه
وفي كل حال يظل رشيد نخلة إمام الزجالين المتبوع، فمنهم من اتبعه من بعيد، ومنهم من اتبعه من قريب كخليفته شحرور الوادي ووليم صعب. وسيبدو للقارئ في فصل آت وهو الأخير.
الطور الرومانطيقي الرمزي
أحسب أن هذا الشعر العامي قد أصبح محسوبا على تاريخ الأدب، وإذا لم يحتل الصدر في ديوان العرب فهو قد احتل زاوية من زواياه، ولفت إليه الأنظار حتى تمنى شعراء الفصحى أن يكون لهم مثل عاطفته وصوره، وموسيقاه المنسجمة، وألفاظه الناعمة التي صقلها الاستعمال، فالشاعر من هؤلاء هو ابن الزمان والمكان، وهذا ما طلبه ويطلبه النقاد من الشاعر والكاتب.
سأل الفرزدق أحد الرواة، ولعله شيخهم عمرو بن العلاء: من أشعر أنا أم ذلك الكلب جرير؟
فأجابه: أنت عند العلماء، وهو عند العوام، فارتاح الفرزدق لحكمه، ولما بلغ هذا القول جريرا ضرب فخذيه بكفيه، وصاح: غلبته والله، فليس في الألف من الناس عالم واحد.
وقال الأخطل في هذا المعنى: قلت بيتا لم يقل مثله شاعر قبلي، فما دار على لسان أحد، ونقضه جرير فلم تبق سقاة إلا روت ما قال.
أظن أن هذا السبب هو الذي يقدم اليوم الشعر العامي على الشعر الفصيح عند الجمهور. حضرت مأتم شاعر ليس فينا من هو أشد منه إخلاصا للغتنا العربية، فرثوه بنثر بليغ وشعر يستحق أن نسمعه، فما تحركت الجماهير ولا ماجت الرءوس كالحصاد إلا حين وقف شعراء العوام، وكلموهم بالألفاظ الدائرة على ألسنتهم. ليس هذا فقط هو سبب الاستحسان، بل هناك صور قلما نجدها في شعرنا الفصيح، وإذا وجدت فهي لا تظفر بالكلمات التي تبرزها وتلونها؛ لأن أكثر شعرائنا ليسوا من فقهاء اللغة، وهب أنهم كانوا، فماذا ينفع الفقه من لا يدرك ما تقوله له؟
وإني لأظن أن هذه الحالة هي التي نشرت بيننا هذه البدع الحديثة: بدعة الحرف اللاتيني، وبدعة الخروج على أصول اللغة، وبدعة اللغة العامية، واللغة العامية التي يدعون إليها أي غرض تؤدي في ميادين الفكر؟ إنها لا تصلح إلا لهذا الزجل، ومتى تخطت تخومه بدت هزيلة ضعيفة.
لا أصدر هذا الحكم عليها بدون فذلكة ولا حيثيات، فحسبك أن تقرأ مقدمتي ديواني: «جلنار» لميشال طراد، و«من قلبي» لأسعد سابا، لتذعن لحكمي فلا تعترض ولا تستأنف ... كلتا المقدمتين للشاعر سعيد عقل، ومن شاء أن يعرف تفاهتهما فما عليه إلا أن يقرأ مقدمتي قصيدته «المجدلية»، ومسرحيته «قدموس».
إن سعيد عقل شاعر من الطراز الأول، ولكنه يريد أن يكون زجالا وشاعرا فرنسيا، وأنا خائف عليه من هاتين النكبتين.
قال سعيد في ختام مقدمته لديوان أسعد سابا: «هني - أي شعراء الزجل - اليوم شعرا الشرق»، ولعل سعيدا لا يكفيه أن يكون من هو، فحاول أن يكون من شعراء الشرق فانبرى لمجاراتهم في ميدانهم!
إني أنصحه، لوجه الله، ألا يقدم على هذا العمل، فإنه دون شك يقصر عنهم. أما بان هزاله في مقدمتيه؟ إن ميشال طراد وأسعد سابا لا تطل عليهما اللفظة الفصيحة، وسعيد عقل لا تأتيه الكلمة العامية إلا بعد اصطدامها بأختها الفصيحة، وهذا سر الزجل اللبناني الذي هو بضاعة للاستهلاك لا للتصدير.
عجيب أمرنا كيف نتحدث عن «الإشعاع» ولا نعمل له، إن الإشعاع الفكري يتطلب زيتا يصب دائما في السراج، وليس هو راديوم مدام كوري، فإذا ترك الفانوس انطفأ. كنا نمتن على غيرنا يوم كانوا يشكون خنجرا ونشك نحن دواة وقلما، كان ذلك يوم كان تيوفيل الرهاوي وغيره قابضين على ناصية العلم. وبكلمة مختصرة: إن لبنان الفينيقي والسرياني كان لبنان إشعاع، فالفينيقيون كانوا صناعا وتجارا مهاجرين، والمهاجرة مدرسة كبرى، والسريان كانوا يحذقون لغة غير لغتهم الأم فنقلوا وعربوا وألفوا، وظهرت هذه الخاصة في بقاياهم فعملوا مثلهم. أما اليوم، فضوء سراجنا ينوس، كم أتألم حين أسمع كلمة «إشعاع» وألتفت حولي فلا أرى إلا من يحاولون جرنا إلى الوراء، طالبين منا أن نتخلى عن ميراثنا وتركتنا الضخمة في لغة العرب، لتنحصر في لغة عامية لا تفهم على حقها إلا في بلد معين.
ودعاة الحرف اللاتيني ماذا نقول فيهم؟ إنهم يطلبون التسهيل ليقعوا في أشد الصعوبات، فمن منا ومنهم يحسن ضبط الكلمات حتى يكتبها بالحرف اللاتيني، ومخارج الحروف ماذا نفعل بها؟ إن للحروف الساكنة موسيقى يعتد بها، فاللغات الغربية تعتمد في موسيقاها الشعرية على الحروف الصوتية، أما نحن - لو تنبه شعراؤنا- فعندنا حروف شتى من مخرج واحد، فكأنها وضعت لينتقي منها الشاعر ما يلائم موضوعه ومقامه.
قد يقول قائل: إذا كنت تغار على الفصحى - كما تقول - فلماذا هذا الاهتمام بالشعر اللبناني العامي؟
الجواب يا سيدي أن في كل فترات تاريخ الأدب كان يظهر مثل هذا الشعر ويستحلى ويستملح، كما أن بين الشعر الأول الفصيح والزجل أقرب النسب، فلم يكن امرؤ القيس أعلم من طراد، ولا النابغة أوسع ثقافة من أسعد سابا. كان يقال ذلك الشعر قبل علم العروض، كما يقال هذا الشعر اليوم، وميزانه الأذن والذوق، كما تطور ذلك تطور هذا حتى صار إلى ما صار إليه اليوم. وإذا أعطينا الزجل حقه فلا يعني أننا نريد أن نجعل من اللهجة اللبنانية لغة قائمة برأسها، يكفينا من الزجل أن يكون لونا محليا نباهي به كما نباهي بالتفاح مثلا، فهو ثمرة فكرية لذيذة جدا. وإذا كنت أنا المتضلع من عامية لبنان تعصى علي بعض كلمات، فما عسى العراقي والحجازي والمصري وال... وال... أن يفهم منه؟
إننا نحن اللبنانيين، وخصوصا الجبليين، نتذوق هذا الشعر تذوقا كاملا، ونطرب له كما يطرب البدوي - أمس واليوم - للشعر الجاهلي؛ لأنه يحسه أكثر منا؛ ولأنه يصور له أشياء لا تزال تقع عليها عينه. وبعد، فإني أرى شعرنا العامي يمشي عند بعض شعرائنا نحو الفصحى وهذا قتل له، فخير للشاعر العامي أن يلم ألفاظه من الشارع لا من الكتب، عملا بالكلمة المأثورة: لكل مقام مقال. وأنا لم أختر هذين الشاعرين: ميشال طراد وأسعد سابا؛ إلا لأنهما غارقان إلى آذانهما في اللهجة العامية؛ ولأن شعرهما يمثلهما أصدق تمثيل؛ ولأنهما مدرسة جديدة.
من قلبي
لأسعد سابا
إن زجل أسعد سابا ابن عم الشعر لحا، وقد يكون ما يقوله هو الشعر العالي لا ما ينظمه الوزانون. فزجل أسعد سابا طافح بالألوان، يتأجج عاطفة، وهو في صوره أقرب إلى الشعراء الكبار منه إلى الزجالين. وفي استطاعتنا أن نقول: إن زجل أسعد سابا مدرسة شعرية جديدة، وهو توءم زجلي يناوح توءما آخر، هو شعر الشباب الحديث الذي يسمونه رمزيا.
إذا قرأت هذا الديوان رأيت أن شعر أسعد ليس من قلبه فقط، بل هو من قلبه وكبده المقروحة، صور ساذجة طريفة، وألوان زاهية، وألفاظ كالشحنات الكهربائية تولد نورا ونارا، فمدرسة طراد وسابا تسير مع مدرسة الشعر الحديث جنبا لجنب، فكأنها تقول لها: شدي حيلك لنرى من يسبق إلى ما يسمونه اليوم رمزا.
ولا أحسبني أسيء إلى شاعرنا سعيد عقل إذا قلت: إن في ديوانه «رندلى» لفتات كريمة إلى ديوان طراد، وإذا اتقينا غضبه قلنا: إن في ديوانيهما ملامح كثيرة من رندلى سعيد، وهذا ما يثبته من يعنيهم التحقيق فيما بعد.
إن زجل هذين الشاعرين ينحت نحتا ويسبك سبكا، وكان العهد بالزجل أن يرتجل ارتجالا، ولهذا أقول: إن «القول» بدأ مع رشيد نخلة أن يكون فنا كالشعر الفصيح، ومن مدرسة أبي أمين اشتقت هذه المدرسة الزاهرة فحفلت بألوان لم يكن للزجل عهد بها.
إن ديوان أسعد سابا مقسم بين لبنان وحلوات لبنان. فأسعد كرج تحت سنديانة غوسطا، وتفتحت عيناه على تلك الظلال والألوان، فانطبعت صورها فيهما، وهناك بين شماريخ تلك الجبال العاصية التي تقول للبحر: إن كنت بطاشا - كما قالوا عنك - تفضل شرف.
وأبو العين الزرقاء يحتد ويشتد، وهكذا ترتسم الصور الشعرية في مخ أسعد سابا، فيقول في قصيدته الأولى «بلادي وأهلي وأنا».
هالصخرة اللي متنحري حد الفضا
ولفتاتها ع مد عينك والنظر
للعواصف والبحور معرضا
بتقول أنا للورد بالو اللي خطر
وإذا قرأت قصيدته التي عنوانها «بيتي» اتضح لك تمسك اللبناني ببيته وضيعته وحنينه إليهما:
بيتي السكران القمر حدو
مشتاق ارجع ليه
ونفض غبار العتم عن عينيه
ولو نهد عمر الدهر ما بهدو
بيتي الدني وحدو
ربي يرد العز تا ردو
وفي قصيدة ثالثة من لبنانياته يصف سماء الضيعة فيقول:
عنا سما نجمات مزروعا
وكل هالي معلقا بهالي
بقلا: تخبي، بتطلع قبالي
بتنزت عا أرزاتنا العالي
وبتغل بضلوعا
ومن قصيدة «أول حرف» يقول:
من هون، من لبنان حاكينا السما
قبل كل الأنبيا وكل العصور
ندهنا الشمس ردت علينا بالوما
فرشنا الدني من وهجها تريات نور
ويتخطى الشاعر إلى وصف يسوع ومريم العدرا، وإن لم تعجبني كتابتها بالدال بدل الضاد كما نلفظها في كسروان منطقة الشاعر.
ويخص الشاعر بعض كتابنا وشعرائنا بقصائد، ولكنها لا تنزل أبدا إلى دركة المدح المبتذل ... ويجيء دور «الحب» فيذوب أسعد سابا، ويصبح شعره إكسيرا يعل القلوب، ويذكرنا بعهود نسيناها.
شعر أنعم من غزل البنات، فيه من الالتفاتات المدهشة ما يثبت النظرية القائلة: إن الشعر لا يحتاج إلى منطق وفلسفة، كما قال البحتري في ذلك الزمان.
ومن يقرأ قصيدة «طقمي» في هذا الديوان يدرك أن في هذا الشعر العامي خاصة قوية بارزة، هي خاصة التجسيد، فإعجابي بهذه القصيدة لا يقل عن إعجابي بقصيدة ابن الرومي في وصف طيلسان ابن حرب ذلك الوصف البارع.
وأما وصف هؤلاء الشعراء، فعذب طريف، كما تقرأ:
حد البحر شفتك عارملو مشلقحا
بتحلمي أحلام بيضا مفرفحا
والليل عمبيشلحك فسطان نور
ويقول: وين الكون؟ والكون انمحا
وعندما يسأل الشاعر شباك المحبوبة الأخضر، نتذكر قصيدة عمرو عندما جاء يسأل المنزل هل فيه خبر:
لوين يا شباكها الأخضر
راحت لوين بتقدر تقلي؟
هالتاركي فسطانها الأحمر
منشور وحدو بالهوا مدردر
مدهده وباصر شي بمنامو
لمين عمبيلولحو كمامو
لمين يا شباكها الأخضر؟
قولك: بترجع بعد؟
بتطل ع مهلا؟
وعيني بعينا تغيب، تندهلا
وتفيقا ع العهد
وتاخذ منا شي وعد
شو قولتك بعدا بتتذكر
شي بعد، ياشباكها الأخضر؟
وبعد، فأرى أن الشاعر العامي يوسع على نفسه ولا يضيق، فهو يقول: شباكها وفسطانها بدلا من شباكا وفسطانا، هو بالسليقة يقول هذا ولا يحس؛ لأن فريقا من العوام يقولون ذلك.
جلنار
لميشال طراد
عام مات جبران خليل جبران، كان ميشال طراد من تلاميذي في الجامعة الوطنية، وأقام طلاب مدرستنا حفلة تأبينية لجبران، فأجاد ميشال الرثاء، وفي بحر السنة كان قد قرأ على رفاقه قصيدته «ليلة العرزال »،
1
فلم يصدقوا أنها من قوله. أما أنا فلم أستغرب ذلك، ودفعته إلى الأمام فقال غيرها، وعندما طلق ميشال المدرسة أرسل قطعة من شعره إلى «عاصفة» الأستاذ كرم ملحم كرم، فأعجب كرما قول ميشال، فنشره تحت عنوان: ابن عم الشعر. ولمع نجم ميشال، وأعجب به المثقفون، فاحتل هذا المقام المرموق، فكان منه هذا الشاعر الفذ. وأخيرا ظهر ديوانه «جلنار»، وهو «جلنار» حقا، نور يرسله كلاما يخلب الألباب ويبهر العيون، شعر فيه زبرج وبهرج ريش الطواويس، وكرات الكناري، وزقزقة الحساسين، صور ألوان طاغورية، وإن لم تعرف الصوفية، وحكايات عمرية لا تبذل فيها، قصائد يخرجها الشاعر في ثياب القصة، فتأتي مفصلة على القد، تحب قراءتها وسماعها؛ لأنها تكلمنا بلهجتنا.
إن ديوان «جلنار» مطبوع أجمل طبع، ومصدر كديوان أسعد سابا بمقدمة كتبها زعيم الرمزية الشاعر سعيد عقل، فأثبت لنا أن لغتنا العامية، إذا كانت تصلح أداة للشعر العامي، فهي عاجزة كل العجز عن تأدية الفكر، وهي إن أدته فإنما تؤديه بما يضحك الثكلى فوق نعش وحيدها.
اسمع ما يقول: «... كان كل شي بالطبيعا عميوعد بنجمي جديدي، ما بعرف، ما بعرف أنا كنت متأكد انو راح يخلق ميشال طراد، التصوير كان من خمسين سني بلش لعبتو. داوود القرم مش شي عادي، والفلسفي ما كان بقا إلا تطل، ومتل ما اليوم نحنا بلهفي وعينين مجروحا - سلامتها يا حبيبي - ناطرين تبليشة العلم، مأكد واحد مثل فؤاد البستاني عندو لفتي شاملي ع تاريخ الفكر، ولأنو ع قد هالمعرفي بيقدر يحب ما كان مستغرب إنو يحسب للنجوم الطالعا.»
ألا تقول معي حين تقرأ ديوان «جلنار» ومقدمته: إننا حين ننتقل من مقدمة سعيد عقل العامية إلى زجل ميشال طراد نكون كمن ينتقل من قطعة حرش فيها السنديان والبطم والقندول والعليق والطيون، إلى حديقة حديثة أحكم ترتيبها وتنظيمها، وهي حافلة بالخضرة الدائمة والعطر الأبدي؟
فصاحبنا سعيد، بدلا من أن يقدم ميشال طراد قدم سعيد عقل وحلمه بمارتوما جديد ... وجعل من الأستاذ فؤاد أفرام البستاني، أبا معشر الفلكي الذي «يحسب للنجوم الطالعا .»
إن النجوم متى طلعت لا تحتاج إلى من يحسب لطلوعها، أما قلت لك: إن اللغة العامية لا تؤدي الفكرة تأدية أنيقة؟ قلت وأكرر القول: أنا خائف جدا على سعيد عقل الشاعر، من سعيد عقل المتفلسف، وسعيد عقل الزجال، وسعيد عقل الشاعر الفرنسي.
إنها ثلاث بطيخات لا بطيختان، اللهم نج سعيد عقل من سعيد عقل!
أما تلميذي ميشال طراد فشاعر فنان، والفن عادة يكون ظاهر التكلف، ولكن طبيعة ميشال طراد، وتأنقه يمحوان آثار تكلفه، فتخال أن ما يقوله قد جاءه عفو الطبع، مع أنه يفتش عن الكلمة شهرا وشهرين، ويظل يركض مشمرا خلفها.
وبعد، فماذا في ديوان «جلنار» من عصارة قلب ميشال طراد وخلاصة شبابه؟
الجواب: كل شيء! ولا عيب في شعره إلا أنه لا يستطيع قراءته على حقها كل من يحسن القراءة، فهناك أبيات «قولبتها» مرارا في حنكي حتى استقامت، ولكني أعييت عن بعضها فتركتها وما «كسرت كعوبها أو تستقيما»، كما قال الشاعر.
هذا هو الإجمال، أما التفصيل فإليك به: في مطلع الديوان يعتذر الشاعر إلى ربه بأسلوب «أفرامي»؛ لأن اسم «جلنار» يسبق إلى فم ميشال قبل اسم الله، ولا شك في أن الله الغفور الرحيم سيغفر لميشال كما غفر لمار أفرام.
وشاعرنا يعتقد - كبعض أصحابنا - أن بين الزهرة والنحلة والفراشة حبا جما، وفي ذلك قال قصيدة رائعة جدا بعنوان «نغمشي» يزينها هذا الحوار البديع:
قديش هالوردي عمتكتر حكي
وبتضل هيي وهالكنار بوشوشي!
مبارح غمش عنقا بضفرو الليلكي
واليوم بقح صدرها من الغرمشي
شو باك، يعني شو؟ وإنتي شو بكي
حسيت دخلك هيك متلي بنغمشي؟
وعند ميشال ظرف يكاد لا يدرك، تلمسه في مطلع قصيدة «تشكيلة الفسطان»، حيث يقول بلسان صاحبه:
الله! بعدو الورد عنا زغير
ما بينقطف منو
وأهلي بقولولي: بعد بكير
ورداتنا بيظهر بيتأنو
بلكي بتقطفلي من البستان
الله، كف منكان!
من عندكن من عند هالجيران
أربع خمس وردات
يا سود خمريات
يا حمر جوريات
تشكل الفسطان
وفي قصيدة «بنت جارتنا» وصف حال دقيق جدا، وفي قصيدة «صبيع » تصوير جميل، وميشال كغيره من شعراء الرمزية يحب العيون الخضر. أما أنا فلا أفهم هذه العيون الحربائية التي يهيم فيها شعراء اليوم، يظهر أن الحسن «موضة»، ولهذا لم نفكر نحن قط بعيون خضر.
وننتقل من غرام النحل والزهر إلى غرام الزنبق، فعشق الورد والبلبل، وهذه مناجاتهما:
إجريك يا بلبل مبللها الندي
ضايقتني ما تغط عا غصوني
بتضلك تفرفر م حلك تهتدي!
فيقتني من الحلم يا عيوني
وعلى ذكر «فيقتني» تذكرت حكاية تروى عندنا عن بنت حلال كسدت بضاعتها، كان اسمها وردية على ذكر الورد. وكان شاب اسمه يوسف يقول لها وهو ماش كلما مر بباب بيتها: بتاخديني يا وردية!
فتشهق وردية وتجيبه: «لا تفيقني يا يوسف!»
حقا إن أحلام هؤلاء الشعراء، فاقت أحلام الرومنطيقيين، وتصوراتهم، فاقت تصورات الأديبة مي في آخر أيامها.
وهكذا يمضي ميشال في قصصه الزجلي البديع، ومناجاته الرائعة وتصوراته المستطابة كقوله في وصف حلوة الحلوين:
بلا سألا بلا سألا
يا تلج صنين
يا زنبق بعرض الفلا
يا فل يا ياسمين
يا حب عنقود نتلا
وتألمز بتشرين
يا سنبلي بسنت الغلا
عليت ويا رياحين
يا عيون يا الكلا صلا
وعياد وشعانين
لمين رح يبقا الحلا
من بعدها لمين؟
رد ووما الزنبق إلا
وصار يغمز النسرين
قولك صحيح؟ قلو: مبلا
هي حلوة الحلوين
وقصيدة «رح حلفك بالغصن يا عصفور»، تعد في مقدمة الشعر الوجداني المعاصر حكاية وسياقا، وحلاوة تعبير، وإني لأخال ميشال من أقطاب الصوفيين المعتقدين بوحدة الوجود، حين أقرأ قوله يخاطب الحبيبة:
وبنده لنجمة صبح مشلوحا
من طاقة الجني
تنصبلك من النور مرجوحا
طيري فيها وغني
والقمر هادا الخلف صنين
متشاوف بحالو
بدلو عليكي بسألو تخمين
عمتطلعي ببالو
ونسير في دنيا ميشال طراد حتى نقف عند قصيدة «قنديل أحمر»، لم يعجبني هذا العنوان؛ لأن فحوى القصيدة يدلنا على أن صاحبته لا تستأهله ... وزاد استيائي أن اللازمة لم يستقم لي علكها بعد ستة أشهر، وها أنا أعرضها على ميشال:
وحاج تحرنقيني
وحاج تتحرنقي
إن الاختيار من ديوان كهذا صعب جدا؛ لأن هؤلاء الشعراء حريصون على تنقية شعرهم من الزوان والشيلم، وليسوا كشعراء الفصحى الذين يجمعون دواوينهم بعفشها ونفشها. ومن أجمل روائعه قصيدة «مش فايقا»، ولعل القارئ يخاطر بثمن نسخة فيقرأها وهو رابح، وهناك قصيدة عنوانها «يمكن وقع دملج» لم أقرأ قصيدة مثلها نعومة، وأما نحلات مار عبدا فلا أتعجب إذا هاجموها!
وهكذا يظل القارئ ينتقل في الديوان من حسن إلى أحسن حتى كدت أقول: إن ديوان «جلنار» كعرس قانا الجليل، الذي قدمت في آخره أجود الخمر. ولكن هذا لا يعفي تلميذنا الطاهر من النقد، وإن لم يكن لاذعا مثل نحلات مار عبدا المشمر.
إذا سمح لي تلميذي أن أبدي رأيي في الزجل قلت: إنه حين خاطب العصفور الذي حلفه بالغصن، قال:
وخلا الدني بلادك
وطرز ع منقادك
أليس الأقرب إلى العامية أن يقول:
وخلا الدني دارك
وطرز عا منقارك
العوام يقولون: منقار، لا منقاد.
ثم قوله في قصيدة:
هالقلب ع الشاطئ الأخضر
أنسي ميشال أن اللغة العامية عدوة الهمزة؟ وهناك هنات أخرى مثل نظراته إلى الشعراء الذين تعلم شعرهم فقال في بيت:
ودعت قلبي يوم قلبي ودعك
وقوله في قصيدة أخرى:
متل شي زورق محمل أرجوان
يذكرني بزورق ابن المعتز:
قد أثقلته حمولة من عنبر
ثم لماذا قال: زورق، ولم يقل: قارب؟ وكقوله حين أراد أن يختصر: الدني بعمر السوسني وكاس ومجوز وضحكة مرا ... فكانت أربعته من طراز غير أربعة أبي نواس.
أما تصرفه في بعض اللفظات ليستقيم الوزن كقوله: «سسان» في سوسان، وغيرها مثل: الضيعين والمجنين والدللين وصبيع، فهذا يفقد القول بعض روعته، إن الكلمة تفقد هكذا كثيرا من خواصها، ويجب أن تأخذ راحتها وتمد رجليها.
وأخيرا، ليت شاعرنا ختم ديوانه الضاحك المتهلل بقصيدة «الحب زوادي» لا بقصيدة «حزن»!
حاشية: إني أرى قرابة كبيرة بين «جلنار» و«رندلي»، قرابة لا يحللها بطريرك؛ بل يقتضي لها بابا؛ لأنها أكثر من درجة رابعة ... فالشال والقمر والأشياء الأخرى، وأنت وأنا وحبقه وشي سلة قناني، صوت صارخ يؤيد ما أقول.
لا يعنيني أن أصفي هذا الحساب، ولعل أبا معشر الفلكي الذي قال عنه سعيد في المقدمة: «إنه يحسب للنجوم الطالعا» يعرف أية نجمة طلعت قبل.
ياجوج وماجوج
لمنير وهيبة
خطا الزجل خطوات واسعة، فها هي مجموعاته، وصحفه تصدر في كل فترة تقريبا. كانت أغراض الزجل محصورة فيما مضى ببعض مقاطع عاطفية، يدور أكثرها على الحب، وبطلتها أم العيون السود، والخدود الحمر، والشفاه السمر. أما مع «ياجوج وماجوج» فتطاول الزجل كليل النابغة حتى مد يده إلى المواضيع الكبرى، بل أكاد أقول: إلى الملاحم.
فهذه المجموعة التي نظمها الأستاذ منير وهيبة، المجاز في علم النفس تكاد تكون ملحمة، تناول ناظمها بالدرس أشهر حوادث الخليقة، وبعد أن فرغ الشاعر من معظمها، عاد يعالج بعض الأمراض الأخلاقية والاجتماعية، فأجاد وأبدع في كل مواضيعه درسا وتحليلا ووصفا وجمالا فنيا رائعا، فحسب الأستاذ وهيبة إبداعا أنه نقل الزجل من محيط حبسه فيه الزجالون حبسا مؤبدا إلى محيط واسع الآفاق، فليت الشعراء الفصحاء يعالجون ما عالج من مواضيع جليلة، ويتركون ألفاظا وتعابير بعينها لا يخرجون من دائرتها زاعمين أنها كل الشعر.
ناپیژندل شوی مخ