وأخذنا مذ ذاك نجتمع في مقهى الجامع؛ حيث كان يوجد رجل أديب باهر الذكاء واسع الرواية فصيح اللهجة اسمه السيد طاهر الصباغ، مكي الأصل تونسي الدار، كان وجوده في ذلك المقهى باعث نشوة وسبب سلوة لكل من ينتاب المحل، وكان يروي كثيرا من شعر شوقي وغيره من الشعراء المفلقين، كما أنه كان يقرأ أكثر مقالاتي ويتتبعها، فكان إذا جئت أنا وشوقي ومحمد عبد الوهاب ومن معنا من الأصحاب وجلسنا للمنادمة وسماع الألحان الشجية على نقرات العود يأخذ السيد طاهر الصباغ الطرب ولا يسعه المكان من الفرح، وكان يتحير كيف يصنع ليوفر أسباب راحتنا وسرورنا، ولكنه في آخر الأمر عتب على أخي شوقي لكونه وعده بنسخة من ديوانه وذهب من باريز ولم ينجز وعده هذا، فلما كاشفني بهذه الموجدة أخبرته عن غرائب شوقي في الذهول، وقلت له: لو عرفت أمره في هذا الشأن لعذرته.
وقد توفي الصباغ إلى رحمة ربه قبل وفاة شوقي بقليل، رحمهما الله تعالى. (2) شوقي الناثر
ولم يكن شوقي شاعرا فذا فحسب، بل كان ناثرا بليغا مترسلا ضليعا متين العبارة سلسها، يقل في الكتاب والمترسلين من يصوغ صياغته إلا أن شعره قتل نثره؛ فبينما هو في الشعر الفذ الذي يجري ولا يجرى معه إذا هو في النثر أحد جماعة يجري معه الناس مثنى وثلاث ورباع، ولا شك أن كفة نظمه رجحت بكفة نثره رجحانا بينا حمل الناس على الظن بضعف منته في صنعة الكتابة، وليس الأمر كذلك، بل كان له نثر رائق وترسل مؤنق وفصول شائقة كانت تخلد في عالم الأدب لو لم تفتك بها قصائده. (3) كلمة المنفلوطي في شوقي والمؤلف
وقد كان السيد المنفلوطي - رحمه الله - يوم ترجم شعراء العصر وكتابه المعدودين، حكم لشوقي بالسبق في ميدان الشعر وجعل لكل واحد من هؤلاء تعريفا كان آية في الإيجاز، ولما وصل إلى كاتب هذه السطور قال: لو لم يكن أكتب كاتب لكان أشعر شاعر، ولكنهما كفتان كلما رجحت الواحدة أشالت الأخرى. ويظهر أنه راجع نفسه فيما بعد أو أن بعض الناس اعترضوا عليه في قوله عن هذا العاجز: لو لم يكن أكتب كاتب لكان أشعر شاعر، فعاد إلى نفس العبارة وأنزلها إلى قوله: لو لم يكن كاتبا فريدا لكان شاعرا مجيدا، فهما كفتان كلما رجحت الواحدة أشالت الأخرى.
ولست أقصد بهذا النقل شيئا من الاعتراض عليه، ولا أنا ممن يسوقه الغرور إلى أن يظن في نفسه أنه أشعر شاعر أو أكتب كاتب، ولا أنه كاتب فريد وشاعر مجيد، وما حفلت في حياتي بشيء من هذه الألقاب، ولا احلولى في صدري ما ينحلني الناس إياه منها؛ كأمير البيان، وما أشبه ذلك، والجواد عينه فراره، والشاعر لقبه شعره، والكاتب سمته بيانه، والإنسان حليته عمله، ولكني ذكرت عبارة المنفلوطي في عرض الكلام عن كفتي النظم والنثر اللتين إن غلبت إحداهما على الأخرى سحقتها في أعين الناس كما جرى لشوقي. (4) مثال من نثر شوقي
ومن أحسن ما رأيت لشوقي في باب النثر مقدمته لشوقياته، الطبعة الأولى، ولا أعلم لماذا حذفوا له تلك المقدمة في الطبعة الثانية، وهو قد برع فيها على الكتاب فضلا عما برع في ديوانه على الشعراء، ولعل الذي علا فيه ذلك اليوم ذلك العلو هو كونه عالج موضوعا كان أدرى به من غيره، وهو موضوع الشعر الذي كانت مهجته مصوغة منه ومحبوكة به، فجاء كلامه في هذا المقام بدعا لا ينظر وفرى فريا يخلد ولا يقلد، انظر إلى قوله:
وكان أبو العلاء يصوغ الحقائق في شعره ويوعي تجارب الحياة في منظومه، ويشرح حالات النفس، ويكاد ينال سريرتها، ومن تأمل قوله من قصيدة:
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وقابل بين هذا البيت وبين قول أبي فراس:
ناپیژندل شوی مخ