ولما رجعت إلى مصر بعد قضاء سبعة أشهر في موطن الجهاد كان قد نفد كل ما معي من النقود، فلم أراجع الجناب الخديوي حسبما وعدته بل أرسلت إلى أهلي بأن يبعثوا لي ما يقوم بأودي؛ لأنني كنت ذاهبا إلى الآستانة لمذاكرة الدولة في قضية طرابلس، وكيف يجب ألا تقطع إمدادها لها بالطرق الممكنة حتى بعد عقد الصلح مع إيطاليا. (4) استطراد آخر
ليس هذا من موضوع شوقي في شيء، ولكنه جاء استطرادا بسبب يعذرني الناس فيه، وهو أن كثيرا من الحساد لا يزالون يتشدقون بأني بقيت في سويسرة عدة سنوات أقبض ثلاثين جنيها في الشهر من الخديوي السابق، ويجعلون هذه القضية مطعنا يحاولون به شفاء إحنة صدورهم. والحال أن الخديوي السابق نفسه يعترف بأنه هو الذي أرادني على قبول هذا المرتب الذي كان يراه ضئيلا بالنسبة إلى نفقاتي في القضية العربية الإسلامية عامة، وأنني أنا مع ذلك اعتذرت له بادئ ذي بدء عن قبول هذا الراتب، وما وطنت النفس على قبوله إلا بما شاهدت من إلحاحه ومن إلحاح صديقي سليمان بك كنعان اللبناني الذي كان يسفر بيني وبين سمو الخديوي السابق، ويبين لي أنه ليس من الطمع في شيء أن يرضى مثلي بمكانه من قضايا عامة معلومة عند كل أحد، وفي هذه الغربة المتمطية بصلبها بقبول مساعدة أمير كبير ذي ثروة طائلة جلس على كرسي إمارة مصر 23 سنة.
وكذلك لا ينسى الخديوي السابق أني لما ودعته في سراي القبة قاصدا موطن الجهاد في برقة اعتذرت عن قبول أي رفد منه رغم ما راودنيه على القبول، ومع معرفتي أنه لا يعيب مجاهدا ذاهبا يقاتل عن قطر متصل بمصر أن يقبل مساعدة من عزيز مصر.
وليس هذا الحديث بذي صلة مع ما نحن بسبيله لولا ما لا يزال الحساد يثرثرون به في هذا الموضوع بكرة وأصيلا، وما يزالون يذيعونه لدى من لا يعرفني في بلادي من أني لا أملك شيئا ولا أقدر أن أعيش أنا وعائلتي من وارداتي الخاصة. وهذا هو أيضا بهتان صريح مخالف للمحسوس يعلمه جميع أهل وطني، فلست أدعي كوني من ذوي الثروة المعدودة، ولكن ليس بصحيح أني لا أقدر أن أعيش أنا وعائلتي من ريع عقاراتي وأملاكي. إنه لمستهجن جدا الخوض في أحاديث كهذه، ولكن تحامل الحساد وتتبعهم العورات يحملان المرء أحيانا على تعقب أكاذيبهم ولو على كره منه، وأعود إلى شوقي فأقول ...
جفوة لا سبب لها
مضت عدة أسابيع على مقامي بمصر قبل أن ذهبت إلى برقة ولم أشاهد شوقي، وقد كنا أخوين ونحن على البعد، وكنت «جلادا لأعداء شوقي»، وكنت أسترخص كل غال - ومن جملة هذا الغالي صداقة مثل اليازجي - في سبيل مرضاته، فما عدا مما بدا؟
الجواب أني لا أعرف سبب تلك الجفوة، ولا موجب تلك النبوة إلى هذه الساعة، أغص شوقي بمكاني من الجناب الخديوي وكثرة ما رأى من احتفال سيده بي؟ أم جاء من ألقى في أذنه أني سأزاحمه في محله من القرب للجناب العالي؟ أم هو رجل له بدوات وغفلات بينما هو حفي بخلانه وفي مع إخوانه إذا هو معرض عنهم متهاون بحقوق المودة التي بينه وبينهم؟ أم هو شاعر لا يتقيد بشيء ولا يريد أن يكون خاضعا لتكاليف الحياة حتى مع أعز أصحابه؟ أم هناك عذر آخر لا أعرفه ولا يهمني أن أعرفه؟
كنت نازلا ضيفا على صديقي المرحوم أحمد بك العريس من أعيان بيروت ومن مأموري المعية الخديوية، وكان منزله في العباسية، فلما وصلت إلى القاهرة جاء إلى الأوتيل الذي نزلت به، وأبى أن يتركني فيه ليلة واحدة وسار بي إلى منزله وأبقيت الرفاق الذين كانوا معي في أحد الفنادق. وكنت أختلف كل يوم إلى إدارة المؤيد فأكتب مقالة افتتاحية، وهكذا كان دأبي مدة الأربعين يوما التي سبقت سفري إلى برقة. وقال لي أحمد بك العريس ذات يوم: إنني قابلت شوقي وقلت له: أفلا تدري أن أخانا الأمير هو هنا؟ قال: نعم. قال العريس: فهل اجتمعت به؟ قال شوقي: كلا لم أشاهده حتى الآن، ومرادي أن أقوم له بحفلة تكريم في منزلي، ولما كان ناظر المعارف غائبا هذه الأيام فقد أرجأت هذه الحفلة إلى ما بعد رجوعه. فقال له العريس: الرجل لا ينتظر منك حفلة تكريم، وليس ما بينكما من الإخاء مما يوجب هذه المواسم، ولكن الأشبه بك والأليق بوفائك أن تذهب وتسلم عليه. فقال له شوقي: سأفعل. إلا أنه مضت عدة أيام ولم يأت لزيارتي.
فأخذت القلم في أحد الأيام وكتبت إلى شوقي:
أحن إلى شوقي وأهوى لقاءه
ناپیژندل شوی مخ