جمها عن القلب اللسان
والله ما كذب الفؤا
د ولا أشط الترجمان
فعندما قرأت هذه القصيدة وجدتها من النوع المرقص الذي لا يقع نظر أديب عليه إلا اهتز طربا وراح نشوان، وكما قال هو عن نفسه كانت أبياته هذه من السهل الممتنع؛ أشبه بشعر البهاء زهير لو اندمجت في ديوانه، ولم يقل أحد لقارئ الديوان إنها من نظم شوقي لكانت حقيقة بشعر البهاء زهير لا تقل عنه شيئا، ولو سمعها الحسن بن هانئ لارتضاها لنفسه ولم يتكبر عليها. أما ابن هانئ الأندلسي الذي قال فيه المعري إن شعره أشبه برحى تطحن قرونا فإنه بعيد عن هذا الأسلوب بعد الشرق عن الغرب.
ومذ ذاك الوقت صرنا نترقب قصائد شوقي رقبة الصائم هلال العيد، ونعلم أنه سيكون الشاعر الذي يجري ولا يجرى معه، نعم كنت إلى ذلك الحين أرجح عليه محمود سامي البارودي ولا أرى أحدا يعلو علوه في المتأخرين، وقد يلز في قرن واحد مع أفصح المتقدمين.
اجتماعنا الأول في باريس
وبقيت لا أعرف شوقي معرفة شخصية إلى سنة 1892؛ إذ ذهبت من الآستانة إلى فرنسا قاصدا السياحة ومستشفيا من مرض طرأ علي، وكان أحمد شوقي يدرس علم الحقوق في مونبلييه وفي أثناء العطلة المدرسية جاء إلى باريس ومعه رفيق اسمه دلاور، فبينما نحن في الحي اللاتيني بحسب قولهم؛ إذ جمعتنا الأقدار وما عدت أتذكر كيفية اجتماعنا وتعارف بعضنا مع بعض، ولكن لم نجتمع حتى صرنا كأخوين، وغدونا نجتمع كل يوم مرة بل مرتين، وأكثر تلاقينا كان في مقهى يقال له مقهى داركور
Dharcourt .
ومن غريب الاتفاقات أننا في سنة 1926 تلاقينا أنا وشوقي - رحمه الله - في باريس، جاء فسلم علي في فندق ماجستيك؛ فذهبت أرد له السلام في فندق كان نازلا به في الحي اللاتيني، فسألت عنه فقيل إنه خرج إلى النزهة وإذا بهذا الأوتيل على مسافة مائة متر من مقهى داركور، وإذا بشوقي جالس هناك ومعه مطربه محمد عبد الوهاب، فجلست إليهما وأخذت أتأمل في دوران الدهر ورد العجز على الصدر؛ فقد كنت أول مرة عرفت فيها شوقي أجلس وإياه في هذا المقهى نفسه، ومضى على ذلك ستة وثلاثون حولا ولم نجتمع في باريس، فلما اجتمعنا إذ بنا من دون تعمد في هذا المقهى أيضا، فقلت لشوقي: أتدري كم سنة مضت على اجتماعنا في هذا المقهى؟ هذه ست وثلاثون سنة، وكان رحمه الله لا يرتاح إلى الأحاديث التي تذكره بالشيخوخة، فقال لي: تمسكك بهذه التواريخ لا أدري لم؟ فضحكت وعرفت أنه ضاق صدره من هذه الذكرى، وأنا قصدت أن أتذكر نعمة بقائنا طول هذه المدة ولقائنا من بعدها؛ هذا إذا كان طول العيش معدودا من النعم.
وفي أثناء لقائنا الأول كنا نتذاكر حول أمور كثيرة، ولكن أهم حديث كنا نخوض فيه هو الشعر، وكان مع شوقي ديوان المتنبي وكان يحفظ منه ولا شك أنه انطبع عليه وسيأتيك في هذا الكتاب فصل تعلم منه أنني شبهت شوقي بالمتنبي في دقة معانيه وكثرة أبياته الجارية مجرى الأمثال، وشبهت البارودي بأبي تمام في علو نفسه وفحولة نظمه، وشبهت حافظ إبراهيم بأبي عبادة البحتري في طلاوته وانسجامه. هذا وبقيت أنا وشوقي نتساقى كئوس الصفا ونتبادل عواطف الإخاء مدة شهر من الزمن إلى أن حان إيابي إلى الشرق فودعته وداع الأخ لأخيه وفارقته فراق الصفي لمن يصافيه. وقد علمت منه أننا في عمر واحد؛ فقد كنت سنة 1892 في الثالثة والعشرين من عمري وظهر لي فيما بعد من مقدمة ديوانه الجزء الأول أنه في سنة 1898 كان شوقي في سن الثلاثين، والحال أنني في تلك السنة كنت في التاسعة والعشرين؛ وعليه يكون شوقي أكبر مني بسنة أو بعدة أشهر. وأنا الذي أشار عليه بأن يجمع قصائده ويجعل منها ديوانا يسير في الأقطار، فسألني: وأي اسم أعطيه؟ فقلت له: سمه بالشوقيات؛ فنسبة هذا الشعر إليك هي عندي كافية. فلما جمع ديوانه أطلق عليه اسم «الشوقيات» كما أشرت عليه به، وقد ذكر - روح الله روحه - هذه القصة في ديوانه الطبعة الأولى سنة 1898، فقال:
ناپیژندل شوی مخ