سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
فاتحة
الشوارد
الخاتمة
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
فاتحة
الشوارد
الخاتمة
الشوارد
الشوارد
ناپیژندل شوی مخ
تأليف
عبد الوهاب عزام
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
وبعد فقد باعدت الأسفار بيني وبين خزانة كتبي والخزائن التي كنت أستعين بها على التأليف في القاهرة، فلم يتيسر التأليف والنشر اللذان تعودتهما؛ فرأيت أن أثبت ما يخطر من خاطرات، وما يسنح من سانحات، وأن أسجل سلائل الفكر والوجدان، وأجمع حصائد العلم والتجارب، أصيد منها الشوارد، وأقيد الأوابد. وقلت: رب خطرة فتحت أبوابا، ورب فكرة سيرت الأقلام أحقابا.
وهذه الخطرات والفكر خلاصة أحداث الزمان، وتجارب الإنسان.
واقترحت على نفسي أن أقيد كل يوم فكرة عابرة، أو خطرة طائرة، وأن أمضي على هذا النحو حولا كاملا.
شرعت يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين خلت من جمادى الآخرة سنة 1369 من الهجرة/الحادي عشر من نيسان 1950م في مدينة جدة من الحجاز. ودمت على هذا في تنقلي إلى مكة المشرفة والمدينة المنورة، وبلدان أخرى في الحجاز ونجد ثم في مصر والباكستان حتى انتهى العام الشمسي.
فالسانحات من أول يوم إلى يوم الأحد 22 شوال/6 آب كتبت في الجزيرة العربية، ومن اليوم التالي - يوم سفري إلى مصر - إلى أن ركبت الباخرة إلى الإسكندرية قاصدا باكستان يوم الجمعة 15 المحرم سنة 1370 كتبت في مصر.
ومخرت الباخرة عشرة أيام كتبت فيها سانحاتها بين البحر الأبيض وقناة السويس والبحر الأحمر وبحر العرب.
وبلغت كراچي يوم الإثنين 25 المحرم/6 تشرين الثاني، فما كتبت من هذا اليوم إلى العاشر من نيسان آخر العام فهو من خاطرات كراچي.
ناپیژندل شوی مخ
وقدرت لكل خاطرة صفحة من دفتر اتخذته، ولكن اختلفت السطور طولا وعددا باختلاف الخطرات فلم تتساو الصفحات.
وكتبت كل يوم صفحة، إلا أياما صرفت فيها عن الكتابة فقيدت الفكرة في رأس الصفحة حتى يتيسر بيانها.
وأياما قليلة فاتتني كتابة الصفحة وتسجيل الفكرة فتداركت ما فات بعد قليل. •••
اجتمع لي عدد أيام السنة الشمسية خاطرات سميتها «الشوارد» وحرصت على المسارعة إلى نشرها، ولكن عدا الزمان ، وكرت الأيام، فإذا عام يمضي قبل الطبع، ولو قيدت سانحاته لائتلف كتاب آخر.
فأخذت للنشر أهبته وسارعت إلى طبع الشوارد في مطبعة العرب من مدينة كراچي تعجيلا لإخراج الكتاب وإيثارا لإشرافي على طبعه تحرزا مما يلحق بالكتب حين تطبع في غيبة أصحابها.
وها أنذا أزف إلى قراء العربية بنات الأفكار، وربائب الليل والنهار، أجلو هذه السانحات، وأعرض هذه الخاطرات؛ آملا أن تجد من العناية كفاء الصدق الذي أملاها والإخلاص الذي ألحمها وأسداها.
وحسبي الله وكفى.
عبد الوهاب عزام
كراچي رابع رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة
29 أيار 1952م
ناپیژندل شوی مخ
فاتحة
يدور الفلك وتمر السنون، وتعدو بنا الأيام، والإنسان مشدوه بعدوها، يكاد يغلب على عدها، وهو كراكب السفينة الباخرة السريعة، ينظر وراءها فإذا البحر مزبد والماء مسرع وإذا صفحة من اللج بعد صفحة، ولجة من البحر بعد لجة، لا يستطيع توقفا ولا تريثا، ورحم الله الشاعر أسد الله غالبا يقول:
1
أسوم جواد العمر ريثا وما له
ركاب برجلي أو عنان بأنملي
ومن مات كمن سقط على اللج، تجوزه السفينة، ويبعد عنه الراكب، وينأى عن البصر ثم عن الذكر.
وليس يثبت في هذا الجريان إلا عمل صالح يبقى سنة في الحياة، وإلا قول طيب يبقى هدى للأحياء.
فمن شاء ألا تمضي به الأيام سدى فليجتهد أن يباري الأيام ويسابق الزمان؛ مسارعة إلى الخيرات، وبدارا إلى الحسنات، بكلمة طيبة أو عمل صالح أو علم ينفع الناس أو فكر يضيء في أرجاء هذه الأرض.
إن الإنسان ليغفل فيعطل فكره أو يده؛ ولكن الأيام لا تقف والفلك لا يغفل، فاجهد ما استطعت أن يدأب فكرك ويدك نصرة للحق وفعلا للخير.
الثلاثاء 23 جمادى الآخر/11 أبريل
ناپیژندل شوی مخ
الشوارد
كل يقول: لي، وليس من يقول: علي!
تملأ الأرض صيحات المطالب، كل واحد يقول: حقي فأعطوني! وكل طائفة تقول: غبنت فزيدوني! وكل أمة تنادي: أنا أريد مالي فلا تلوموني!
ولا تسمع من يقول: هذا ليس لي وهذا حق غيري، ولا تجد من يقول: أخذت حقي فلا أستزيد، وفلان مغبون فهو أولى بالمزيد.
ذلكم بما تسلطت الشهوات وغلبت الجثمانيات، وانقلب الإنسان حيوانا لا يعف ولا يعدل، كل من اشتهى شيئا سعى إليه، وكل من رغب في أمر طمع فيه، والجسم لا يعترف إلا بلذاته، والهوى لا يبالي بغير نزواته.
فأيقظوا الأرواح وعلموها العدل والإباء والكرامة، وأن في الحياة أمرا وراء البدن، وأن في اللذات لذة غير جثمانية، وأن للناس مطالب روحانية. بصروا الناس بالحياة الكريمة لتسمعوا من يقول: هذا أستطيعه ولا أفعله، وهذا أعطاه ولا أقبله، وهذا ينفعني ولكن أنفر منه.
حينئذ يقول الإنسان: واجبي، قبل أن يقول: حقي. ويقول: حقي وحق غيري، ويقول: هذا لغيري، كما يقول: هذا لي. ويومئذ يجمع الناس الحق بعد أن باعد بينهم الباطل، ويؤلفهم العدل بعد أن فرقتهم الأهواء، وتلفهم المحبة بعد أن نفرتهم البغضاء.
الأربعاء 24 جمادى الآخر/12 أبريل
الحق يجمع والهوى يفرق
الحق في كل أمر محدود، والباطل كثرة لا تحد. والعدل في كل قضية واحد، والهوى نزعات لا تعد.
ناپیژندل شوی مخ
فإذا أخذ الناس بالحق اجتمعوا وإذا آثروا الباطل تفرقوا، وإذا قضوا بالعدل ائتلفوا، وإذا مالوا إلى الهوى تباغضوا.
وإن ما تسمع وترى من خصام وافتراق، وبغض وشقاق، وجدال ومراء، وتنافر وعداء، كل أولئك مما آثر الناس الباطل، ومالوا مع الهوى.
ودواء هذا الداء أن يعرف الناس الحق ويبصروا به ويرغبوا فيه حتى يحبوه فيؤثروه، وأن يعلموا العدل ويمرنوا عليه حتى يطيعوه، وأن يكشف لهم الباطل في شناعاته والجور في سيئاته، ويبين لهم كيف شقي بهما الناس وخرب بهما العمران.
فسروا للناس هاتين الآيتين بالقول والعمل:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله .
الخميس 25 جمادى الآخر/13 أبريل
شقاء المرأة في هذه المدنية
يحسب بعض الناس أن المرأة سعدت بهذه الحضارة التي تعيش فيها، وحليت بهذه الزينات التي تحملها. ولا أنكر أنها نالت أشياء من الحرية والمرح واللهو ، وأنها خلصت من كثير من العادات السيئة والمظالم البينة؛ ولكني أرى أنها نعمت بهذه الحضارة من وجه وشقيت من وجوه كثيرة، وحسبي في هذه الكلمة أن أعرض لوجه واحد:
كانت المرأة تملك الرجال بتصونها وحيائها، وكانت لا تكشف إلا عن وجهها، ولا يكون هذا إلا في مجامع ضيقة، وكان لها زينة يسيرة هي أن تقرب وجهها من الجمال الطبيعي بصنعة يخيل إلى الرائي أنها طبيعية.
ناپیژندل شوی مخ
فسفرت المرأة عن وجهها وغير وجهها، وغشيت المجامع كلها، وتزينت على وجوه من الزينة لا يحصيها العد ولا تحدها محاكاة الفطرة الجميلة، فصارت في معرض ينظر فيه إلى جسمها كله، وألزمت أن تنافس في ضروب من الزينة يضيق عنها الوقت والمال، فهي في شغل دائم بالتزين في المجلس والطريق، وهي بعد العناء في جمع المال وإنفاقه في الزينة وإضاعة الوقت فيها، والإشفاق من أن تبور في المعارض الدائمة التي تغشاها في الدور والمجامع والملاهي والطرق، هي بعد هذا كله تطلب السعادة فلا تجدها، وتبعد عن الفطرة ولا تقرب منها، وتتبذل فلا تسيطر على الرجال سيطرتها الأولى، وتفقد كرامتها من حيث تحسب أنها تحفظها.
ثم إذا كبرت المرأة لم تنفعها الزينات ولم تظفر بوقار الكبر، فهي في قبحين من الكبر والصناعة، وفي غمين من التزين والبوار.
إن هذا لمسخ في العقول يتجلى في مسخ الأبدان والأزياء.
الجمعة 26 جمادى الآخرة/14 أبريل
الناس عبيد الواقع
أقطع حجة عند الناس الواقع، إن تجادلوا في أمر أجائز أم غير جائز، أو نافع أم ضار، أو جميل أم قبيح، فقيل: إن جماعة فعلته أو واحدا من الكبراء أتاه؛ كان لهذه الحجة في الجدل ما ليس لقضايا العقل وأحكام الوجدان، وعدت من «السوابق».
وقد شاعت سياسة الأمر الواقع في هذا العصر، تعمد إليها حكومات أو طوائف أو آحاد، فيما يشجر بينها وبين غيرها من نزاع، فيقال: قابله بالأمر الواقع أو وضعه أمام الواقع. والحق أن المفكر المعتد بفكره المعتز بنفسه، لا يرى في الواقع حجة؛ فكم من واقع هو زور أو جور أو ضرر . إن جهاد المصلحين في الأمم أكثره لإزالة الباطل والشر؛ أي إزالة الواقع المكروه وإثبات النافع. ولعل أكثر ما يميز أمة من أمة، وإنسانا من آخر هو الخضوع للواقع أو الاستكبار عليه؛ الأمة الجاهلة الضعيفة ترى الواقع أوضح حجة من أن يجادل فيه، وأرسخ أساسا من أن يطمع في هدمه، والأمة العالمة القوية يستوي في رأيها الواقع وغير الواقع، ويلتقي في عزمها ما وقع وينبغي أن يزول، وما لم يقع وينبغي أن يكون، هذا تمحوه وذاك تثبته، وإنما مرد الأمر في القبول والرد أو الاستحسان والاستقباح هو إدراك النفع في الأمر أو الضرر. فلا ينفع ما تكرهه أن يقع ويتكرر وقوعه ويدوم أثر الوقوع أجيالا، ولا يضر ما تقبله أنه لم يقع ولم يألفه الناس فهم يعجبون منه وينفرون، أو يعترضون فيه ويحادون.
هذا عندي قياس الأمم والآحاد في عقولها وعزائمها، لا الذي أدركه أبو الطيب في طباع الناس حين قال:
كل ما لم يكن من الصعب في الأن
فس سهل فيها إذا هو كانا
ناپیژندل شوی مخ
السبت 27 جمادى الآخرة/15 أبريل
بين الحقيقة والخبر
قل أن أرى واقعة، أو أشهد مجمعا ثم أقرأ عنهما في الصحف إلا وجدت زيادة أو نقصا أو تحريفا أو كذبا.
فإذا قست ما لم أشهد على ما شهدت يتبين أن أكثر الأخبار والأوصاف تشتمل على تغيير ظاهر أو خفي، وتحريف على خطأ أو تعمد، وضلال على جهل أو علم، ويجني الناس في العاقبة ما يجره عليهم الكذب أو التضليل أو الخطأ.
فليتق الله المخبرون والراوون، ويتجنبوا التحريف والتبديل، ويحملوا أنفسهم على تحري الحق خالصا، ووصف الواقع بينا، ويتثبتوا قبل أن يقولوا ويتبينوا قبل أن يسجلوا. وليتهم القارئ المخبر أو الراوي، ويحذر تضليله أو تهاونه أو نسيانه أو غفلته، ولا سيما فيما يزيد التهمة فيه عصبية الراوي وتحزبه، أو سيرة له في التحريف والكذب، أو كلف عرف عنه بإثارة الفتنة، أو ولوع بالإغراب والإطراف. فكم أثار خبر فتنة، وأضل راو تاريخا!
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا .
الأحد 28 جمادى الآخرة/16 أبريل
من لم تشغله العظائم شغلته الصغائر
الفكر لا يفتر، واللسان لا يصمت، والجوارح لا تسكن، فإن لم تشغلها بالعظائم شغلتها الصغائر، وإن لم تعملها في الخير عملت هي في الشر.
إن في النفوس ركونا إلى اللذيذ والهين، ونفورا من المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع، ورضها وسسها حتى تألف جلائل الأمور وتطمح إلى معاليها، ثم تنفر من كل دنية وتربأ عن كل صغير. علمها التحليق تكره الإسفاف، وعرفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحتقر اللذات الحسية الحقيرة.
ناپیژندل شوی مخ
في النفوس رفعة وضعة، وفيها عفة وشره، وخير وشر، وفجور وبر، فأيقظوا فيها عواطف الخير، وتعهدوا فيها جوانب البر، ولا تدعوها لنزعاتها فتسف وتخلد إلى الأرض، وترض بالدنية وتسكن إلى الهين اللذيذ، حتى يستعصى داؤها، ويصعب شفاؤها.
الإثنين 29 جمادى الآخرة/17 أبريل
الإنسان صغير بجسمه كبير بروحه
الإنسان ضئيل الجسم، ضعيف القوى، محدود العمر، ولكن آماله لا تحد، وطموحه لا ينتهي. يحاول أن يدرك كل شيء، ويسيطر على كل شيء.
وطعامه وشرابه ولذاته الحسية، وقدرته على العمل لها حدود قريبة؛ فلذة الطعام تنقلب عيفا حين يشبع، والرغبة في العمل تصير نفورا حين يكل، وقدرته على الشيء في حال تحول عجزا في أحوال. ولكن شغفه بالمعرفة ونزوعه إلى الاطلاع، ولذاته الروحية التي يدركها في كل جميل حسي أو معنوي وينالها في الحب على كثرة أشكاله وضروبه، كل أولئك غير محدود؛ لا يحده زمان ولا مكان ولا حال. فالإنسان إذن صغير بجسمه وصورته وما يتصل بالجسم والصورة، غير محدود بروحه ومعناه، وما يتصل بالروح والمعنى.
روح الإنسان موصولة بالله سبحانه، والله هو الأول والآخر والظاهر والباطن المحيط بكل شيء الذي لا يحيط به شيء.
فليدرك الإنسان هذه الصلة ويقدرها، ويجتهد أن يعلو بها على الحدود الحسية والقيود الجسمية، حتى يتصل بالمعاني الجميلة العامة المتلائمة، وينفصل من المعاني القبيحة الجزئية المتنافرة؛ ليطمح إلى غير المحدود ويخلص من سجن الزمان والمكان وقيود الأحوال والأشكال.
الثلاثاء 1 رجب /18 أبريل
النظام والإتقان
أزمعنا سفرا طويلا، وعزمنا على التبكير به. ولم يكن السفر فجاءة، فقد روينا فيه وتأهبنا له، ولكن أخرنا الإهمال والإمهال حتى خرجنا والساعة أربع نهارا (قبل الظهر بأقل من ساعتين)! وإنما أخرنا التهاون والاستخفاف بالمواقيت، بل إعواز النظام، والنظام قوام الأعمال كلها.
ناپیژندل شوی مخ
هو في الزمان إحكام المواعيد والمحافظة عليه وتأدية كل عمل في حينه، وحين كل عمل موقوت بأسبابه ودواعيه. وتأخير العمل عن حينه تضييع للفرصة، وإخلال بالعدة ووضع للأمر في غير موضعه، وأن تضيع وقته لتزحم به وقتا أعد لغيره ولم يهيأ له.
والنظام في المكان وضع كل شيء في موضعه، وإحلاله محله المهيأ له والذي ييسر وجدانه والانتفاع به.
والنظام في الفكر أن تتسلسل المقدمات على ترتيب حتى تفضي إلى نتائجها.
والنظام في النفس أن تسير على قوانين لا تحار ولا تتردد.
والنظام في الجماعة ائتلاف أفرادها على قانون جامع، وتعاونهم على أمر مقدور؛ لتعمل متعاونة غير متخاذلة ومتآلفة غير متصادمة.
وكذلك النظام في الخليقة كلها. أحسب النظام - وإن شئت فسمه الوئام والوفاق والحب والسلام - قوام كل الأمر في الخليقة وفي نفس الوحدان والجماعات والأمم، وفي أقوالها وأفعالها وسياساتها.
تأمل تجد الأدلة قائمة والحوادث في الأنفس والآفاق شاهدة.
الأربعاء 2 رجب/19 أبريل
بركة الحاج
أجلس الآن على حافة بركة الحاج في الطريق إلى مهد الذهب؛ وهو إلى الجنوب والشرق من المدينة على مسيرة 270 كيلا، وهنا مفترق طرق ذاهبة إلى المدينة ومكة والطائف ونجد والعراق. أفكر كم ورد هذه البركة من حجاج الأوطان والأزمان، وكم عكس الماء من صور وأروى من غلة ورحض من دنس! ثم ذهبت الأشباح والظلال، ورحلت القوافل ثم تفرقت، ثم مضى بركبها الزمان المتدفق في مجراه من أزل الله إلى أبده.
ناپیژندل شوی مخ
وأكرهت نفسي أن تعدل عن حديث التاريخ والذكر والعيش والموت والفناء والبقاء إلى هذا المرأى الحي النضير؛ في هذه الصحراء ماء جار بجانب حرة يتوغل في أصول الشجر حتى يكل عنه البصر. شغلني هذا الجمال حينا ثم عدت أفكر، قلت: إن هذا الماء الذاهب سدى في هذه الأرض، لا يجد من يعنى به وينظر كيف ينتفع به، ولو وجد من يفكر ويعمل لكان له منافع، أيسرها أن يبنى له حوض كبير غير هذه البركة العتيقة ليسقى به زرع وشجر، ثم يروق بعضه ليستقي منه من يمر من الحجاج في الموسم، وكل من يمر به طول السنة. وليس محالا أن يبنى هناك فندق أو منزل يأوي إليه المسافر لينعم بالماء والظل والراحة والسكون، بعد العطش والضحا والتعب والجهد.
إنه أمر يسير ولكنا لا نفعل كل يسير. إن الأمريكان مهدوا الطريق الذي أدى بنا من جدة إلى هذه البركة؛ لأن لهم شركة تستخرج الذهب من مهد الذهب، وهذه البركة في طريقنا إلى المهد. ولكنا لم نمهد الطريق إلى المدينة وهو طريق الحاج من أقطار شتى، والمدينة أعز عندنا من ألف شركة. فليت شعري متى ندرك فنعزم فنعمل فنبلغ ما نريد! (انظر وصف البركة في الرحلات الثانية في الفصل من جدة إلى المدينة.)
الخميس 3 رجب/20 أبريل
مهد الذهب
قدمنا المهد؛ مهد الذهب البارحة فرأينا دورا مهندسة وطرقا معبدة قليلة بأعدادها كثيرة بحقائقها، صغيرة بأشكالها كبيرة بمعانيها. قرية صغيرة نشأت على سفح جبل من جبال الحجاز القاحلة، وأمدها العلم والعمل من النور والماء ووسائل الترويح والتدفئة والتبريد بما يكفل النعيم لسكانها.
ثم رأينا معدن الذهب وشاهدنا كيف تخرج الحجارة فتكسر فتسحق فتخلط بمواد تخلص الذهب من غيره. وأبصرنا كيف تتقلب المادة بين السيلان والجمود حتى تنتهي إلى طينة مسودة ربعها من الذهب وفيها من الفضة والنحاس والزنك. وعرفنا كيف تعمل الآلات في هذا عمل الفكر واليد.
ورأينا الآلات المكهربة الضخمة وآلات الترويح التي ترسل الهواء إلى طبقات المعدن. وهبطنا أربعمائة وخمسين قدما إلى طبقة من المعدن سرنا في سراديبها نرى عروق الذهب يتتبعها العمال فينحتونها ... وهلم جرا.
رأيت هذه الدور وهذه الآلات والعدد، فقلت: إنه العلم والخلق؛ العلم يكشف للإنسان المقصد والسبيل، والنظام يجمع العقول والأيدي على العمل، والعمل يمضي بالإنسان في سبيله، والعزم يثبته عليها . فإن جهل الإنسان فلم يعلم، أو علم ولم يعمل، أو عمل ولم يدأب، أو ثابر فلم يتعاون هو وغيره؛ انقطعت به السبل ولم يبلغ من العيش ما يشتهي.
الجمعة 4 رجب/21 أبريل
الشيوعية
ناپیژندل شوی مخ
ليست الشيوعية فيما أرى إلا النزول بالإنسان إلى مستوى الأنعام، على أن يوعد الطعام والشراب. فهي سلب للإرادة وقسر للناس على آراء وأفعال لا تدع للحرية مجالا، ونصب أصنام من البشر تعبد قسرا، بعد الكفر بالله.
وهي حرمان الإنسان من كل عاطفة كريمة من العواطف التي تنشأ في الأسرة وتنشئ الإنسان على الحب والود والرحمة والإيثار، وفي هذا تقريب من البهيمية كذلك.
وهي إهدار للأخلاق التي جاهد البشر أجيالا بعد أجيال ليمكنوها في الأنفس والجماعات. وهي حرب على الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالله منبع كل خير في هذا العالم.
ولو رجعت الشيوعية إلى أصول في عقل الإنسان وقلبه ما احتاجت إلى الجبروت يحرسها، والقسر يسوق الناس إليها، والكذب يروجها، والشهوات تغري بها. ألا إن الخير كل الخير أن يفعل الناس الخير باختيارهم محبة ومواساة وإيثارا، وأن يسيطر القانون فيأخذ ممن وجد لمن لم يجد، وممن قدر لمن عجز، على شريعة من الأخوة والحب والاختيار لا من البغض والعداوة والإكراه.
السبت 5 رجب/22 أبريل
الشيوعية أيضا
أمر في الدعوة الشيوعية عجيب؛ هو ولوع اليهود بها، وسعيهم لها، واليهود عباد المال وعبيد الذهب! لما دعاهم السامري إلى الوثنية صنع لهم عجلا من الذهب فعبدوه، وهم أصحاب الأموال في العالم اليوم، والكانزون لها، والمتجرون فيها، والمرابون بها، فكيف يجمعون بين عبادة المال وكراهته، وبين جمعه وتحريمه؟!
إن اليهود إنما يريدون بالدعوة الشيوعية في العالم، وفي بلادنا خاصة، أن يزلزلوا نظامها ويمحوا سننها، ويشيعوا البغض بين جماعاتها، وينشروا الفوضى فيها، ولهم في هذا كله مآرب، كما نشروا الشيوعية في أول أمرها ليزلزلوا الأمم التي اضطهدتهم، ويبلغوا في فوضى الشيوعية وفتنتها مآربهم. فليحذر الأغرار مآرب اليهود فلا يخدعوا عن دينهم وسنتهم ونظمهم باسم الحرية والمساواة والمواساة، فإنما هي أيد يهودية مدمرة وعقول يهودية ماكرة ، وما يريد اليهود إلا خير أنفسهم وإن أفسدوا العالم كله لمآربهم.
ألم ينشط للدعوة الشيوعية في مصر أناسي من اليهود الأغنياء كل أملهم وهمهم في الحياة كنز الأموال؟! وأمر آخر، هو ألا تجد طائفة شيوعية إلا فيها نساء جميلات يستهوي الدعاة بهن الشبان، ويرونهم الشيوعية عيانا في المرأة ليؤمنوا بها اعتقادا في المال. ولو رجعت إلى أصل في عقل الإنسان ووجدانه، ما احتاجت إلى الإغراء بالمال والنساء، والتضليل والاستهواء، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
الأحد 6 رجب/23 أبريل
ناپیژندل شوی مخ
الكلمة الطيبة والعمل الصالح
دار حديث في تبدل الأحوال وسرعة تغيرها: العالم في تغير مستمر، والأمم في تحول مضطرد، والإنسان لا يلبث على حال، ليس لشيء ثبات ولا لأمر بقاء.
منع البقاء تقلب الشمس
وطلوعها من حيث لا تمسي
قلت: أجل! ولكن أمرا واحدا لا يحول ولا يزول، هو الحق؛ الحق الذي يسير قوانين هذا العالم المتغير، ويفنى في بقائه كل شيء، وتحول على ثباته كل حال، فلا تخدعنكم الصور الحائلة الزائلة، فإن وراءها حقائق دائمة عمادها الحق الباقي الذي لا يزول.
ومن هذا الحق الكلمة الطيبة تتداولها الأجيال بعد الأجيال، مزهرة مثمرة مظلة، والعمل الصالح تسير على سنته القرون بعد القرون، وهو طريق بين لاحب مضيء يهتدي عليه الناس ويأنسون به، ويركنون إليه، ويبلغون به المقاصد.
الإثنين 7 رجب/24 أبريل
آدابنا
الطرق والمجامع مظهر أخلاق الناس وآدابهم، فيها يتعلم الناشئة، ومنها يشيع الصلاح والفساد، وبها يعرف ما في أمة من نظام وفوضى، ومعرفة وجهالة، وألفة وفرقة، وتعاون وتخاذل، ومحبة وبغضاء.
وإن طرقنا ومجامعنا لا تبشر بالخير، وهي حرية أن تنال عناية المفكرين، واهتمام المسيطرين، وتفكير المربين.
ناپیژندل شوی مخ
ترى في الطريق والمراكب العامة والمجامع؛ مجامع اللهو أو العلم، وقاحة في وجوه لا حياء فيها، وتسمع بذاءة في ألسن لا آداب لها، وترى من هيئات الجلوس والقيام والمشي ما لا يوقر فيه صغير كبيرا ولا يرحم كبير صغيرا.
ربما ترى أستاذا جليلا جلس إلى جانبه في مركبة عامة تلاميذ صغار لا يرعونه في حركة ولا كلمة، وترى شبانا يدخل عليهم الشيوخ فلا يوسعون لهم في المجلس، بله أن يقوموا لهم.
كل أدب يعلمه البيت أو المدرسة ضائع في طرقنا ومجامعنا، ولا صلاح ما لم يعن بالآداب العامة، ويؤخذ المخلون بها بالحزم والبطش.
لا بد لنا من محتسب مسلط يردع السفهاء، ويحمي العقلاء، وتربية تملأ الأنفس بالأدب والحياء فإننا نسير سيرة يعرف العاقل غايتها ويخشى الحكيم نهايتها.
الثلاثاء 8 رجب/25 أبريل
مغارس الجرائم
تمر أحيانا على قهوة في حي من مدينة، فترى شبانا جالسين يضحكون ويصيحون ويتبعون المارة أنظارهم. تراهم أحيانا يلعبون بالأوراق مقامرين سرا وعلانية، وتجدهم ساهرين الليل يشربون المسكرات، أو تجدهم متنازعين متخاصمين، متضاربين، تعرف في وجههم المنكر، والاستهانة بالناس وقلة المبالاة بالآداب، وترى شعرا طويلا أشعث، ووجها كالحا أغبر، وعينا أمرضها السكر والسهر. وكثيرا ما ترى هؤلاء سائرين في الطريق حربا على الأخلاق، وجناية على الآداب.
هؤلاء فيما أرى لا يجلسون مجالسهم هذه ليلا ونهارا إلا دبروا لجريمة يرتكبونها، أو ثارت في أنفسهم جريمة يصيب بها بعضهم بعضا، أو أوحوا إلى الأنفس الإجرام والإفساد. كلما رأيت هؤلاء أو تخيلتهم رأيت بؤرة من بؤر الشر، ومنبعا من منابع الفساد، وسميت مجامعهم هذه «مشاتل الجرائم». والحكومة تستهين بأمرهم ولا تعنى بهم، والناس عنهم غافلون، ولكنهم يحصدون كل حين ما يزرعون.
الأربعاء 9 رجب/26 أبريل
دهان على وبر
ناپیژندل شوی مخ
يقال في المثل للدواء الذي لا ينجع؛ لأنه لا يصيب موضعه، ولا يتجاوز الظاهر إلى الباطن: إنه دهان على وبر؛ والمعنى أنه كطلي الجمل الأجرب على وبره، والدهان لا ينجع ما لم يقع على جلد الحيوان.
وأنت تقرأ كل يوم عن جرائم كثيرة، ومخاز شتى تدل على مرض في النفوس أو في الجماعة أو خلل في نظامها. وترى كيف يتتبع الشرطة الجناة حتى يأخذوهم، وكيف يمسكهم القانون حتى يعاقبهم، ولكن سيل الجرائم لا يكف، وسلسلة المخازي لا تنقطع.
إن الشرطة والقضاء يخيفان ولا يصلحان، ويعاقبان ولا يربيان، ويأخذان المجرم بما اجترح إن ظفرا به، ولا يداويان المرض الذي ينشئ الجرائم.
الشرطة والقضاء يعددان الحادثات ، ويعاقبان عليها، ولكن الأمة لا تعنى بالتأمل في أسبابها، ولا تعمل للقضاء عليها، وكفاية الناس شرها. وإنما يكفى الناس شرها بالمداواة لا بالمجازاة.
ستزداد الجرائم على رغم الشرطة والقضاء إن لم تعالج مصادرها في النفس وفي سنن الجماعة، ستزداد إن لم يتصل الدواء بالجسم باطنه وظاهره؛ إن اكتفينا بهذه الوسائل التي هي دهان على وبر.
الخميس 10 رجب/27 أبريل
المعبد الأكبر
في الناس من يعتزل مشاغل العيش ويأوي إلى داره معتكفا متعبدا بعيدا من الشر والإثم. وليس شيئا أن يعتزل الإنسان الناس فيتعبد، إنما العبادة الحقة أن تدفع في مضايق الحياة ومعاركها، وتمارس فتنها ومطامعها، ثم لا يقطعك شيء من عبادة الله آخذا بالحق قائما بالقسط.
إن العالم هو المعبد الأكبر، فما أثرت فيه من عمل صالح، وما قلت فيه من كلمة طيبة فهو عبادة، وكل ما تسن للناس من سنة حسنة، وكل ما تهديهم إليه من رأي سديد عبادة يحبها الله ويدعو إليها الدين. فاتخذ هذا العالم معبدا، واسع فيه إلى الخير أبدا، وأصلح ما استطعت. فإن تفعل؛ فأنت في عبادة دائمة، ليلك ونهارك، وأنت في ذكر لا تفتر سرك وجهرك، وصلاة لا تنقطع يجزي الله بها عباده الحسنى وزيادة.
الجمعة 11 رجب/28 أبريل
ناپیژندل شوی مخ
السفر
قطعنا منذ أيام المسافة بين جدة والمدينة من طريق مهد الذهب، وهي ستمائة وخمسين ميلا في ثلاثة أيام. وبتنا في الطريق ثلاث ليال، ورأينا كثيرا من الناس والحيوان والشجر والجبال، واجتزنا حزونا وسهولا، وعبرنا سيولا ووطئنا أرضا ممطورة تتخللها غدر صغيرة.
واليوم خرجنا من المدينة نؤم جدة من الطريق الغربية؛ طريق رابغ، ولم يخل السير في هذه الطريق من استفادة على كثرة ما قطعت هذه الطريق قبل جيئة وذهوبا.
ولو سافرنا إلى المدينة وعدنا منها بالطائرة ما رأينا على الأرض إلا جبالا وأسودة لا ندري ما هي. ولو سرنا هذه الطريق على الإبل مرة واحدة لعرفنا من الأرض والماء والشجر والناس أكثر مما عرفنا في الأسفار المتوالية.
لماذا يعجل الناس بالطيران إلى غير ضرورة ، فيحرموا أنفسهم علما وتجربة ومتاعا ورياضة؟
إن في السفر بالطائرة بلوغ مقصد، وفوت مقاصد، وإن التمس المسافر الراحة فحسب، فالإقامة في الديار وترك الأسفار هي الراحة الكبرى لا محالة. إن الطائرة مركب الضرورة، فمن أعجلته الضرورة فليتوسل بها وإلا فخير أن نسير على الأرض أو البحر فنستفيد فوائد الأسفار.
السبت 12 رجب/29 أبريل
بعد الحضر عن الطبيعة
خرجنا من المدينة المنورة قبيل العصر نؤم جدة فأدركنا موضعا اسمه البستان، وقد مضى من الليل قرابة أربع ساعات فآثرنا المبيت؛ فنزلنا ومهدنا فرشنا تحت السماء الصافية المصحية، نرى النجوم شارقة وغاربة، ومطلة على الجبال وكانسة وراءها، وباتت الكواكب والبروج في جمالها وجلالها تسامرنا، وذهب التأمل مذاهبه في صورها ومعانيها.
ونمنا على نية المسير بغلس، وقمت قبل الفجر فإذا أحد الرفاق يوقظ الركب صائحا: قوموا لقد غاب القمر، وأوشكت الشمس أن تطلع! وجعل يكرر هذا القول ويؤكده حسبانا أن غروب القمر يعقبه طلوع الشمس، فضحكت وقلت: ياهذا إن القمر يغرب بالليل والنهار، ويغيب قبل طلوع الشمس وبعد طلوعها. ثم قلت لنفسي: لقد قطع الحضر الناس عن الطبيعة وحجبهم عن السماء، فقل من يعرف من أهل المدن أسماء النجوم والبروج وسيرها في أفلاكها واختلاف مواضعها باختلاف أيام السنة وساعات الليل، ولكن البادية يعرفون هذا كله ويهتدون به سائرين، ويوقتون به مقيمين.
ناپیژندل شوی مخ
سألت بدويا في الحجاز عن نجم فقال: هو الجوزاء، وأشار إلى آخر قريب منه وقال: هذا المرزم، ثم أشار إلى الأفق الجنوبي وقال: وهذا سهيل، وأخذ يحدث عن سهيل وأوقات طلوعه وصلته بالجو وأثره في الإبل.
ينبغي ألا تقطع الحضارة الناس عن الطبيعة في سمائها وأرضها، وعن الطبيعة في أجسادهم وأنفسهم، ففي البعد عنها ضعف الأنفس والأجسام وضيق الأخيلة والأفهام.
الأحد 13 رجب/30 أبريل
من المهد إلى اللحد «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.» إن لم يكن من أحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم
لفظا فهو من أحاديثه معنى؛ هو يلائم مقاصد الإسلام وأوامره وسننه وتاريخه. طلب العلم عند المسلمين عبادة، طلب العلم كله؛ ما تستقيم به الدنيا وما يستقيم به الدين. كذلك كانت مساجد المسلمين مدارسهم، ولم تكن مدارس للفقه والتفسير فحسب، ولكن كانت مدارس لكل ما وعى المسلمون من العلوم الشرعية والعربية والعلوم العقلية من الطب والرياضة والفلك وهلم جرا.
وقد سار المسلمون في تقديس العلم سيرتهم، وأمضوا في طلبه أعمارهم، ودعوا إلى طلبه من المهد إلى اللحد.
سئل شبيب بن شيبة: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟ فقال: ما دام يحسن به أن يعيش يحسن به أن يتعلم.
وقال علي بن عيسى الولوالجي: دخلت على أبي الريحان البيروني وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه وضاق به صدره، فقال لي: كيف قلت يوما حساب الجدات الفاسدات (يعني ميراث الجدات لأم)؟ قلت: أفي هذه الحالة؟ قال: يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أخليها وأنا جاهل بها؟
هكذا نحن معشر المسلمين دعاة إلى العلم، عباد بالتعلم والتعليم، حراص على المعرفة دائبون في طلبها، شعارنا الآية الكريمة:
ناپیژندل شوی مخ
وقل رب زدني علما ، والآية الأخرى:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والقول المأثور الذي نجعل له قداسة الحديث: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.
الإثنين 14 رجب/1 مايو
سير الزمن
كثيرا ما آخذ القلم لأكتب كلمة اليوم - بعد أن أخذت نفسي بكتابة هذه الصفحات على الأيام - فأجد صفحات بيضاء لأيام ماضية فأتذكر ما قلت قبلا:
يقلب الزمان من أيامه
أسرع من تقليبنا أوراقنا
وأقول لنفسي: كلمة لا تشغلني إلا دقائق قليلة، وأنا أحرص عليها ولا أستطيع أن أسجلها في أربع وعشرين ساعة ولا أقوى على مسابقة الزمان فيها، ما أصعب تأدية العمل في حينه والمثابرة عليه! ما أصعب هذا على من استسلم للشواغل وسار مع التيار! وما أيسره لمن عزم عليه ومرن فيه!
ما أعظم هذا أثرا في حياة الإنسان وعمله، وما أدله على إنجاحه وإخفاقه! لعل أكبر فارق بين أمة وأخرى، وإنسان وإنسان، تقسيم الأعمال على الأوقات، وإنجاز كل عمل في وقته.
كم يضيع من أعمارنا - أممنا وآحادنا - في عمل يؤخر ثم يركم بعضه على بعض فيهمل، أو يدرك بعد وقته، وبعد أن يكلفنا من الانتظار والبحث والقلق والنصب ما لا يكلف عشره أو عشر عشره لو أنجز في وقته! لا تؤخر عمل يومك إلى غدك، ولا عمل صباحك إلى مسائك ولا عمل ساعة إلى ساعة، لا تبطئ والزمان عجلان، ولا تنم والدهر يقظان.
ناپیژندل شوی مخ
الثلاثاء 15 رجب/2 مايو
الاستسلام للتيار
الناس مولعون بالمحاكاة، كلفون بمسايرة من هو أعظم منهم، مستكينون إلى الواقع، وقليل من الناس يستطيعون الخلاص من سلطان المحاكاة، وحكم العرف وسيطرة ما وقع.
هؤلاء هم المصلحون الذين تنجبهم الأمم بين الحين والحين، لتقويم المعوج وإصلاح الفاسد والخروج على سلطان الواقع والثبات في مجرى الحادثات. وكثير من الناس يحسبون أنهم أحرار وهم في الواقع مستعبدون، يخرجون على مذهب أو عرف؛ لأنهم قد استعبدهم مذهب أو عرف آخر. ومن هؤلاء بعض المعاصرين في أمتنا، يخرجون على أمتهم في رأي أو عادة ويصيحون أنهم أحرار مفكرون، وهم في الحق عبيد بهرتهم مدنية أوروبا وزينتها وفتنتها؛ ولهذا لا تجدهم يدعون إلى أمر مبتكر أو طريقة مبتدعة - بل إلى ما أخذوا من سنن أوروبا، ولو صدقوا في دعوى الحرية لأخذوا من أممهم وردوا، وقبلوا من أوروبا ورفضوا، واخترعوا أحيانا من عند أنفسهم ما يخالف هؤلاء وهؤلاء.
لقد خبرت كثيرا ممن يخالفون أمتنا في كل شيء، فإذا هم مستسلمون لأوروبا في كل شيء. ومن كبار كتابنا من دعا إلى مسايرة الزمان، ومن كبار رجالنا من قال لي وأنا أحاوره في الحسن والقبيح: إن الأحسن هو الواقع.
والخلاصة أن دعوة هؤلاء الأحرار هي استسلام للتيار، ونحن نقول: إنما يذهب التيار بالأشياء الجامدة والأجسام الهامدة.
الأربعاء 16 رجب/3 مايو
النساء المسلمات في قبرص
أذيع اليوم أنه قد حرم تعدد الزوجات بين مسلمي قبرص، وحرم زواج الأحداث، ومنحت المرأة حق التطليق.
وكثير ممن سمعوا هذا الخبر يحسبونه ثورة على الشريعة الإسلامية وتكريما للمرأة وتحريرا لم تظفر بهما من قبل.
ناپیژندل شوی مخ
فأما تكريم المرأة وتحريرها فقد سبق إليهما الإسلام سائر الأديان والشرائع . وأما تحريم تعدد الزوجات فهو ملائم لمقاصد الإسلام ما لم تدع إليه ضرورة، أو مصلحة للأمة. وأما منع زواج الأحداث فقد سبقت إليه مصر في غير خروج على الدين ولا مخالفة للشرع، وقد حرمه من قبل ملوك المسلمين في الهند حتى على غير المسلمين. وكذلك حق المرأة في الطلاق أقرته مصر مستمدة من الفقه الإسلامي لا من غيره، فللمرأة المسلمة في مصر أن ترفع أمرها إلى القاضي وتطلب التطليق وتبين مسوغاته، وللقاضي أن يطلق بعد النظر في حجة المرأة، وكثيرا ما طلق القضاة في مصر استجابة لطلب النساء. وأجاز الفقهاء أن تشترط المرأة حين العقد أن تطلق متى شاءت، وأجازوا لها بعد هذا الشرط أن تطلق بغير سبب، فليس في هذا كله ثورة على الشريعة أو إنالة المرأة ما لم تنله في الإسلام. ولكن المسلمين لا يعرفون الحق من شرعة الإسلام، وغير المسلمين بالجهل به أحرى، وهم فيه أوضح عذرا.
الخميس 17 رجب/4 مايو
سحر المرأة
نظرت في جريدة الأهرام اليوم إلى صور خمس نساء من نسائنا فنفرت من مرآهن لأول مرة، ثم عدت فسألت نفسي: ما هذا النفور؟ أهن دميمات؟ فتأملت في وجوههن فإذا وجوه مألوفة لا ينفر الرائي منها، وتأملت فإذا نفرتي من منظر ليس منظر نساء؛ ملابس لم تجعل للستر والصون، وشعر مشعث كرءوس الشياطين، ووقاحة في النظر لا يخالطها خفر النساء، وأصباغ ذهبت بجمال الخلقة وبعدت عن الطبيعة ... قلت: يا ويح للمرأة! لقد خدعت عن نفسها، وتزينت بما ليس بزينة، وخلعت حياءها؛ فخلعت جمالها وسحرها.
لو أن هؤلاء النسوة لبسن ملابس النساء وسفرن عن وجوه خفرات، كأنها أكرهت على السفور، يحيط بها ستر المرأة، ويغشى عليها سترها ودلالها، لبلغن من الروعة ومن إعجاب الرائي وتعظيمه ما فاتهن حين حسرن ونظرن غير خفرات ولا متصونات. وكم بذلن في هذا المرأى الذي حسبنه جميلا من عمل ووقت ومال، ثم ما ظفرن إلا بالبعد عن جمال المرأة وكرامتها، والبعد عن الفطرة التي كفلت للمرأة مكانتها وحرمتها، وما جنين إلا سوء الحال ونفور الرجال.
الجمعة 18 رجب/5 مايو
الحضارة الفاسدة
الإنسان في بداوته يصاحب الطبيعة، يتعرض لشمسها وهوائها، ويرد ماءها ويتتبع مراعيها، وينطلق في أرجائها يتخير منها مقامه ومرعاه. وهو كافل نفسه يحميها من حيوان أو لص، شاحذ قواه النفسية والبدنية ومهتد طريقه عارف مكانه وزمانه بالنظر في النجوم ومعالم الأرض.
والحضارة خير للإنسان إن أسكنته الدار، ولم تمنعه الشمس والهواء، وإن يسرت له الطعام والشراب، ولم تحرمه الحركة والنشاط، وإن حمته الوحش واللص، ولم تذهب بشجاعته وقوته واعتداده بنفسه، وإن آوته ولم تقطعه عن الخليقة المحيطة به؛ برها وبحرها وجبلها وسهلها، وكواكبها ونجومها.
لا أرى أضر بالإنسان من الحضارة الفاسدة؛ تنقله من سعة الطبيعة وشمسها وهوائها إلى الدور التي تشبه القبور، أو تقتله بالطعام والشراب والكسل والدعة والترف، أو تضعف حسه وعقله بالبعد عن مرائي الطبيعة ومسارحها في السماء والأرض، أو تذل نفسه وتحبس فكره وتذهب بكرامته بسلطان جائر وقانون فاسد.
ناپیژندل شوی مخ